نحو نظام إقليمي جديد: تصوّر إماراتي طموح لمعالجة «الإخفاقات البنيوية» في المنطقة وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية

  • قدَّمت دولة الإمارات تصوراً طموحاً يهدف لمعالجة “الإخفاقات البنيوية” في المنطقة، يقوم على: تأسيس منظومة أمن إقليمي تضمّ الدول العربية وإسرائيل وإيران؛ وإطلاق خطة تكامل اقتصادي واستثماري في الإقليم؛ ووضع خطط لدعم استقرار سورية ولبنان واليمن والعراق؛ وتسوية نهائية للخلافات الحدودية العالقة؛ وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
  • سيناريو فشل المفاوضات بين إيران وإدارة ترمب قد يدفع الدول العربية نحو مواصلة التعاون مع إيران بهدف خفض التصعيد، ولكنه سيترك إسرائيل وإيران في حالة صراع مستمر، وهذا ليس مُبشراً للاستقرار الإقليمي، ولمستقبل الرؤية الإبراهيمية.
  • من المهم أن تُمنَح المسألة الفلسطينية دوراً مهماً في توسيع الاتفاقات الإبراهيمية بتنسيق إماراتي وعربي وأمريكي، مع مراعاة ألا يترك هذا الهدف رهينة لتقلبات الصراع بين الفصائل الفلسطينية، والحسابات الضيقة للطبقة السياسية الإسرائيلية. 

 

يُرسِل الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، في اللحظة الراهنة، إشارات واضحة عن نيته توسيع الاتفاقات الإبراهيمية. وتوفر هذه النية لدولة الإمارات فرصة لممارسة أدوار متعددة وبناء الجسور بين الأطراف كافة. وقد قدَّمت السفيرة لانا نسيبة، مساعدة وزير الخارجية الإماراتي للشؤون السياسية ومبعوثة وزير الخارجية، في الآونة الأخيرة، تصوراً إماراتياً طموحاً يهدف لمعالجة ما وصفته نسيبة بـ “الإخفاقات البنيوية” في المنطقة. يقوم هذا التصور على خمسة أعمدة أساسية:

 

أولاً، تأسيس منظومة أمن إقليمي تضمّ الدول العربية وإسرائيل وإيران، وتوفر لهم الضمانات والحوافز والحماية التي يبحثون عنها.

ثانياً، إطلاق خطة تكامل اقتصادي واستثماري في الإقليم.

ثالثاً، وضع خطط لدعم استقرار سورية ولبنان واليمن والعراق.

رابعاً، تسوية نهائية للخلافات الحدودية العالقة.

خامساً، إقامة “دولة فلسطينية قابلة للحياة بجانب إسرائيل آمنة”.

 

الآن مع نهاية “حرب الاثني عشر يوماً” بين إيران وإسرائيل، ومع بحث الرئيس ترمب المتواصل عن عقد صفقة سلام جديدة، ومع تغيُّر ديناميات النقاش السياسي داخل إسرائيل باتجاه ضرورة تسوية الأمور في قطاع غزة، تبرز فرصة لدولة الإمارات وفريقها الدبلوماسي كي تحقق رؤيتها الرائدة وطويلة المدى للشرق الأوسط والعالم العربي. وهذا يحصل عبر المساهمة في “تغيير الواقع على الأرض”، من طريق تقديم مجموعة مشاريع وحلول وأفكار أمام الفلسطينيين والإسرائيليين والولايات المتحدة وأطراف أخرى. ولا شك أن الدبلوماسية الإماراتية الفاعلة ستخدم هنا عدة مصالح إماراتية طويلة المدى ومصالح قصيرة المدى تتعلق بتخفيض التوتر والصدام في منطقتنا.

 

قدَّمت السفيرة لانا نسيبة تصوراً إماراتياً طموحاً يهدف لمعالجة “الإخفاقات البنيوية” في المنطقة (فرانس برس)

 

الاتفاقات الإبراهيمية وتداعيات حرب 7 أكتوبر

لم يأت توقيع الاتفاقات الإبراهيمية في سبتمبر 2020 فقط بهدف توفير الأمن للدول الموقعة عليها، كما يعتقد الكثير من الدبلوماسيين والخبراء، بل كانت جزءاً من تفكير أوسع يسعى إلى تخفيض حدة العنف والصراع في المنطقة بشكل مستدام، ويتيح أمام دول الإقليم مجموعة خيارات إيجابية تتعلق بالتكامل الاقتصادي والتنموي لدى صنعها لسياساتها. هذه الرؤية اتبعت جزئياً مجموعة أفكار وتوصيات طرحها المستشار السابق للرئيس ترمب، جاريد كوشنر، في ورشة “من السلام إلى الرخاء” التي عُقِدَت في البحرين في يونيو 2019. ولعل أهم أفكار تلك الورشة هي منح الفرصة لمشاريع التنمية الاقتصادية وأجندة التواصل بين كل الأطراف كي تزدهر وتعم فائدتها، حتى تكون هذه المشاريع والأجندة بمثابة حوافز مربحة، تُمهِّد لتخفيف التوتر السياسي، وتؤدي لتغيير السلوك. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي حزمة الحوافز والمشاريع الجديدة التي تستطيع الأطراف الفاعلة مثل دولة الإمارات وغيرها التفكير بها وتقديمها؛ حتى تساهم في إنعاش الاتفاقات الإبراهيمية وتوسيعها؟

 

تتلاقى رؤية دولة الإمارات مع الولايات المتحدة في دعم هذه الاتفاقات لعدة أسباب، مثل الرغبة المشتركة لاستمرار دور واشنطن كضامن للأمن الإقليمي؛ ولكن وسط نظام شرق أوسطي أكثر استقراراً. ولهذا دعمت إدارة الرئيس السابق جو بايدن جهود توسيع الاتفاقات لتضم المملكة العربية السعودية، ولكن هذه الجهود اصطدمت بحرب غزة. وعلى رغم أن هذه الحرب ألقت بظلال ثقيلة على مستقبل المشروع الإبراهيمي للسلام، فإن عودة الرئيس ترمب للبيت الأبيض، ورغبة أطراف مختلفة بحدوث حراك إيجابي، أعاد الحياة لملف توسيع هذه الاتفاقات. لكن نجاح هذا الحراك الجديد سيعتمد على الإدارة العملية الدقيقة لمشكلات معقدة وعديدة في بلدان وجبهات مختلفة، مع معالجة بعض التحديات التي رافقت الاتفاقات منذ بدايتها، والتعلم من دروس هذه التجربة التي لا تزال تنمو وتنضج.

 

واقع المنطقة وآفاق توسيع الاتفاقات الإبراهيمية

قد يبدو على السطح أنه لا يوجد الآن حافز استراتيجي قوي لبعض الدول العربية للانضمام للمشروع الإبراهيمي، فبعد 21 شهراً من الصور المؤلمة التي تتدفق من قطاع غزة والتي تحمل للشعوب العربية معاناة سكان القطاع، يبدو أن الرأي العام العربي لن يتقبل بسهولة جهود التطبيع مع إسرائيل. وقبل ذلك ما عادت دول الخليج وغيرها تشعر بأن إيران خطر وجودي يهددها؛ في أعقاب الجهود الخليجية الحثيثة في السنوات الأخيرة لتخفيض التوتر مع طهران، وكذلك بعد سقوط نظام بشار الأسد في سورية، وإضعاف حزب الله في لبنان، وضربات إسرائيل المباشرة القوية لإيران. إن تغير موازين القوة في منطقة المشرق العربي ورغبة الرئيس ترمب في إحداث حراك سياسي بعد الحرب، ولَّدا نقاشاً عما إذا كانت سورية ولبنان مرشحين قادمين للانضمام للمشروع الإبراهيمي.

 

وتستطيع الإمارات، بالتنسيق مع شركائها، أن تكون لاعباً فعالاً في تشجيع هذه البلدان وإسرائيل على خفض التصعيد، ومن ثمَّ تقديم الحوافز الاقتصادية والسياسية لها، في إطار إقليمي ودولي، للعمل وفق خطة مفاوضات تدريجية تقودها للانضمام للاتفاقات الإبراهيمية. غير أن هذا بالطبع لن يتم إلا بعد تسوية الخلاف حول الملفات الشائكة، وأهمها وضع هضبة الجولان وانسحاب إسرائيل من النقاط الحدودية مع لبنان أو إيجاد صيغة للحل متفق عليها بين البلدين، مع ترك المساحة للبنان كي ينتج حلّه الوطني التوافقي لمسألة سلاح حزب الله والجماعات المسلحة.

 

والواقع أن دولة الإمارات مؤهلة لأداء هذا الدور. وفي هذا السياق، دعت لانا نسيبة، كما ذكرنا، لتأسيس منظومة أمن إقليمي تضم إيران وإسرائيل وتشمل جميع الأطراف. هذه الدعوة تخفف من زحمة المشاريع الإقليمية المتنافرة في منطقتنا، ومنها، على سبيل المثال، الاقتراح الذي قدمه وزير الخارجية الإيراني السابق، جواد ظريف، بتأسيس “منظمة الحوار بين الدول المسلمة في غرب آسيا”، والذي ضم دول الخليج وتركيا ودولاً أخرى؛ بهدف تسهيل الحوار والتعاون، ولكنه استبعد إسرائيل. ولا شك أن أفضل طريقة لإنهاء التنافس والتنافر بين هذه المشاريع المختلفة تكمن في نجاح المفاوضات في التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران، وهذه رغبة الإمارات، كما هي رغبة الرئيس ترمب أيضاً.

 

كانت الاتفاقات الإبراهيمية جزءاً من تفكير أوسع يسعى إلى تخفيض حدة العنف والصراع في المنطقة بشكل مستدام (فرانس برس)

 

إن سيناريو فشل المفاوضات بين إيران وإدارة ترمب قد يدفع الدول العربية نحو مواصلة التعاون مع إيران بهدف خفض التصعيد، ولكنه سيترك إسرائيل وإيران في حالة صراع مستمر، وهذا ليس مُبشراً للاستقرار الإقليمي، ولمستقبل الرؤية الإبراهيمية.

 

أخيراً، وبالانسجام مع انفتاح دولة الإمارات على الجميع، ينبغي العمل على دعوة تركيا لنقاشات توسيع وإنعاش الاتفاقات الإبراهيمية، وأي نقاشات حول مستقبل الأمن الإقليمي. إنّ إشراك تركيا مهم، بالرغم من توتر علاقتها مع إسرائيل، والذي دفع أنقرة لتجميد صلاتها التجارية مع تل أبيب في مايو 2024. لقد سبق لتركيا مثلها مثل إيران، أن اقترحت تصورها الخاص عن مستقبل المنطقة، ولكن مع التركيز على إطار جيو-اقتصادي يربط آسيا مع أوروبا بواسطة مشروع “طريق التنمية“؛ بهدف خلق ممر تجاري بين ميناء الفاو العراقي وتركيا. وقد قدَّم الأتراك هذا المشروع بوصفه بديلاً جيداً عن مشروع “ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا الاقتصادي” الذي أعلنه الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، في سبتمبر 2023 بمشاركة الإمارات والسعودية ودول أخرى.

 

ومن ناحيتها، ترحب الإمارات بتعدد المشاريع الاقتصادية والتنموية وتدعو لتكاملها، ولهذا يفضل دعوة أنقرة عبر قادتها وخبرائها لطاولة الحوار، وإحاطتها بما يحصل وسيحصل حتى تكون شريكاً وليس مُنافِساً. ويمكن للإمارات، وبالتعاون مع شركائها الخليجيين والعرب، أن تكون وسيطاً فعالاً بين لاعبين مختلفين في المشرق العربي.

 

تحديات إسرائيلية 

إن أي تصور إماراتي طموح من شأنه أن يعالج المشهد الإقليمي المعقد يتطلب أن تُعيد إسرائيل تصورها للاتفاقات الإبراهيمية، بحيث يكون مشروعاً شاملاً. ثمة تصورات إسرائيلية تمثّل عقبة أو تحدياً أمام توسيع الاتفاقات الإبراهيمية وجعلها منصة للتهدئة في المنطقة، ومن هذه التصورات أو الافتراضات:

 

  1. لا يزال جزء كبير من الطبقة السياسية الإسرائيلية يظن أن العلاقة مع الإمارات والخليج تأتي بلا التزامات، وبلا سقف توقعات محددة على الجانب الإسرائيلي، وبالذات حول حقوق الفلسطينيين ومستقبل حل الدولتين. وهذا يستدعي توضيح سوء الفهم من الجانب الإسرائيلي حول رؤية دولة الإمارات للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وللمنطقة عموماً.
  2.  يبدو أن فهم بعض السياسيين الإسرائيليين لرؤية الاتفاق الإبراهيمي، لا تزال ضيقة بعكس رؤية الإمارات التي تنظر للصورة الكبيرة، ولا يزال فهمهم مرتبطاً باللحظة الراهنة ومصالحهم القصيرة المدى، بعكس توجه الإمارات بأن تكون الرؤية الإبراهيمية للمنطقة، مستدامة على المدى الطويل، مع حلول حقيقية للمشكلات والصراعات والملفات العالقة.
  3. تبعث رغبة جزء من أعضاء الحكومة الإسرائيلية بضم الضفة الغربية رسالة تصعيد كبيرة لا رسالة تهدئة وسلام، وقد أرسل وزير المالية بتسلئيل سموتريش، في 2 يوليو الجاري، رسالة إلى بنيامين نتنياهو قبل سفره إلى واشنطن يطالبه بذلك.

 

الدور الإماراتي في رسم مستقبل قطاع غزة

طرحت دولة الإمارات رؤيتها سابقاً لمستقبل قطاع غزة. وأوضحت شروط وظروف مساهمتها، والتي لا تهدف فقط إلى نتائج مؤقتة بل إلى تأسيس سلطة شرعية موحدة، ووضع الفلسطينيين على طريق حقيقي يؤدي لحل الدولتين. ومن الممكن أن تشجع الإمارات الجانبين الأمريكي والإسرائيلي على تداول نسخة معدلة من “الخطة العربية لإعمار قطاع غزة” والتي رفضتها واشنطن وتل أبيب سابقاً.

 

من المهم أن يتم منح المسألة الفلسطينية دوراً مهماً في توسيع الاتفاقات الإبراهيمية، حتى لا يشعر الفلسطينيون بأن الرؤية الإبراهيمية تقف ضد قضيتهم، وبحيث لا يظن بعض صُنَّاع القرار في إسرائيل والغرب أنها أصبحت هامشية. لكن في الوقت نفسه لا ينبغي أن يكون توسيع الاتفاقات الإبراهيمية رهينة لتقلبات الصراع بين الفصائل الفلسطينية، وأيضاً حسابات الطبقة السياسية الإسرائيلية. هنا يصبح التنسيق الإماراتي بشكل مستمر مع الشركاء العرب ومع إدارة ترمب مهماً للغاية، حيث إن الرئيس الأمريكي أكثر تقبلاً لفكرة الضغط على الحكومة الإسرائيلية، وأشد رغبة في ترسيخ إرثه وتلميع اسمه بوصفه صانعاً للسلام والصفقات الكبرى.

 

من المهم أن يتم منح المسألة الفلسطينية وتسويتها دوراً مهماً في توسيع الاتفاقات الإبراهيمية (إنفاتو)

 

استنتاجات

تعد المرونة والحركة السريعة من مزايا الدبلوماسية الإماراتية، كما أن الإمارات تتمتع برصيد كبير من الثقة لدى الجانب الأمريكي والإسرائيلي وأطراف أخرى داخل المنطقة، وكذلك قوى مهمة مثل أوروبا وروسيا والصين والهند. وتتيح هذه المزايا للإمارات فرصة تأدية دور في تحريك عجلة الاتفاقات الإبراهيمية بعد توقفها بسبب اندلاع حرب 7 أكتوبر 2023.

 

وفي ضوء ذلك، من الممكن تطوير هذه الاتفاقات لتكون إطاراً تُدعى إليه دول مختلفة من آسيا وأفريقيا والعالم الإسلامي. ولا شك أن تحقيق الرؤية التي طرحتها السفيرة لانا نسيبة على أرض الواقع في خط زمني معقول، يحمل معه فرصاً كثيرة تستفيد منها جميع دول المنطقة، بحسب حالة كل دولة، فهناك دول تريد أن تتعافى من سنوات طويلة من الحروب الأهلية والثورات وتفتت مجتمعاتها، وهناك دول تنتظرها استحقاقات تنموية ضخمة لتوفير حياة أفضل للملايين من شبابها، وهناك دول الخليج التي تركز على إنجاز رؤاها الاقتصادية للعبور بأمان إلى عالم ما بعد النفط، وهناك دول تبحث عن بيئة إقليمية تمنحها الأمن وشرعية الوجود والقبول الشعبي.

 

إذاً، على الرغم من وجود الكثير من التناقضات المعقدة والصراعات والتحديات وساحات المنافسة في منطقتنا، فإن الحاجة موجودة وملحة لإعادة تشكيل النظام الإقليمي نحو الأفضل، بحيث لا تشعر أي دولة أنها منبوذة أو تحت التهديد. وهذه رؤية طموحة ومتفائلة؛ بحيث يستمر ويتسع مسار “خفض التصعيد” الذي بدأته دول الخليج في السنوات الأخيرة، ويتم تطويره ليصبح حالة مستدامة من السلام، والتنمية الاقتصادية و”أجندة التواصل”، مع معالجة الأسباب التي قد تدفع أي دولة لتهديد أمن الآخرين وإخلال توازن القوة في الإقليم.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M