الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي: الفرص والتحديات في بيئة جيوسياسية مُعقَّدة

  • وضعت القمة الخليجية-الأوروبية الأولى في أكتوبر 2024، إطاراً سياساً للشروع في مفاوضات الشراكة الاستراتيجية، وتنقسم محركات هذه الشراكة إلى محور اقتصادي استثماري، ومحور أمني جيوسياسي. ومن الناحية الزمنية، من المتوقع أن تسلك مسارات التفاوض بين الطرفين ثلاث مراحل في أفق عام 2027. 
  • تبدو دوافع إطلاق مفاوضات الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي محكومةً بإعادة التوجيه الاستراتيجي في نظام عالمي متغير، وبالرؤى المتقاربة بين الطرفين حول الاستقلال الاستراتيجي وتحقيق أمن الطاقة. وتُوفِّر الشراكة للطرفين فرصة لموازنة العلاقة التجارية والأمنية مع الصين والولايات المتحدة. 
  • يواجه تقدُّم المفاوضات بين الطرفين الأوروبي والخليجي عقبات عدة، أهمها عدم التوافق المؤسسي بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، والجمود البيروقراطي من الجانب الأوروبي. ولتحقيق القدر الأكبر من أوجه الشراكة تحتاج دول مجلس التعاون إلى سياسة موحدة لتعزيز التماسك والتنسيق خلال التفاوض.
  • تُمثِّل مناخات الحرب التجارية الراهنة، والتي تحرّضها إدارة الرئيس ترمب، مُحفّزاً للشراكة بين أوروبا والخليج، لكنها متى دخلت طوراً متوحشاً من القومية والحمائية والإجراءات الانتقامية بين الدول، قد تُفضي إلى انهيار قواعد منظمة التجارة العالمية والتجارة الحرة، وبالتالي تصبح عقبة، لاسيما أن سلاسل التجارة والتوريد على قدر من التعقيد يتجاوز مجرد بناء مسار تجاري مباشر بين الخليج وأوروبا.

 

أعلنت المفوضية الأوروبية، في 18 يوليو 2025، عن تلقيها الضوء الأخضر من المجلس الأوروبي، للشروع في مفاوضات مع دول مجلس التعاون الخليجي الست، بهدف إبرام اتفاقيات شراكة استراتيجية ثنائية، والتي تهدف – بحسب المفوضية – إلى توفير إطارٍ طموحٍ وحديث وشامل وفعال للتعاون الثنائي بما يتماشى مع الأولويات والأهداف المشتركة للاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي. ومن المرُجحّ أن تبدأ هذه المفاوضات في أجلٍ قريب. ويأتي هذا القرار في سياقٍ جيوسياسي شديد التوتر في المنطقة، وسياقات داخلية أوروبية تشهد في خلالها القارة تحولات جذرية في النموذج الأمني والدفاعي والصناعي، فضلاً عن مناخ الحروب التجارية والرسوم الجمركية المتبادلة، الذي يخيّم على السوق الأوروبية والعالم، بسبب السياسات الحمائية التي شرعت في تنفيذها الإدارة الأمريكية.

 

تسعى هذه الورقة إلى وضع هذه الخطوة في سياقها العام، لتحليل الإمكانات المستقبلية للشراكة الأوروبية – الخليجية، ومحركاتها القطاعية الأساسية.

 

السياق الجيوسياسي والمؤسسي 

بين اتفاقية التعاون التي وقّعها مجلس التعاون الخليجي نهاية ثمانينيات القرن العشرين مع الجماعة الاقتصادية الأوروبية، قبل أن تصبح اتحاداً، استغرق الأمر أكثر من ثلاثة عقود عاماً للتوجه نحو الشراكة الاستراتيجية. كانت أشكال التعاون الأولية تهتم أساساً بقضايا التجارة والطاقة، وعلى مدى العقود اللاحقة اتسمت العلاقات بحوارات دورية، لكنها افتقرت إلى العمق المؤسسي. وتعثَّرت جهود إبرام اتفاقية التجارة الحرة على مدى سنواتٍ وفشلت في نهاية المطاف عام 2008، ويُعزى ذلك إلى حد كبير إلى الخلافات حول إدراج بنود طبيعة الحكم المحلي وحقوق الإنسان، وتحرير التجارة الزراعية، والتدابير الحمائية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي.

 

لكن السياقات التي عاشها العالم ولاسيما أوروبا، بعد جائحة كوفيد-19 (2020-2022)، ثم الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، غيّرت وعلى نحو جذريّ رؤية الاتحاد الأوروبي للعلاقات الدولية، حيث تراجعت ما تسمى “سياسة المعايير”، التي تهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وربط التنمية بالإصلاح السياسي، في مقابل تزايد التركيز على قضايا السيادة والأمن والدفاع والنفوذ الجيوسياسي. وقد دعت مبادرة “البوابة العالمية” (2021) و”البوصلة الاستراتيجية” (2022)، اللتان أقرهما الاتحاد، إلى تعميق التعاون مع المناطق الغنية بالطاقة والمحورية جيوسياسياً، فقد أدت صدمة الغاز في إثر الغزو الروسي لأوكرانيا دوراً أساسياً في هذا التحول الأوروبي.

 

وفي الوقت نفسه، دفع الصعود الجيوسياسي لدول الخليج بعد الثورات العربية، لاسيما الإمارات والسعودية، حكوماتها إلى إعادة ضبط سياساتها الخارجية من طريق التحوط الاستراتيجي، لكي لا تعتمد كلياً على الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تسعى إلى تعزيز الشراكات مع بقية القوى الفاعلة دولياً، مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل وروسيا، مع تأكيد استقلالية أكبر في الشؤون الإقليمية ونزعة سيادية أكبر. وقد هيّأ هذا التحول، إلى جانب أجنداتها للتنويع الاقتصادي والخروج من الاقتصاد الريعي، أرضيةً ملائمة للسعي نحو شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي.

 

وبدايةً من عام 2021، شرع الطرفان في سلسلة من الاجتماعات رفيعة المستوى تغطي جميع جوانب التعاون. وفي فبراير 2022، أقرّ المجلس المشترك بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، الذي عقد في بروكسل، برنامج تعاون مشترك للفترة 2022-2027 في مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك التجارة والاستثمار وتغير المناخ والطاقة والتحول الأخضر ومكافحة الإرهاب والمساعدات الإنسانية. وفي 18 مايو من العام نفسه، اعتمدت المفوضية، إعلاناً بشأن الشراكة الاستراتيجية مع الخليج، مقترحةً شراكة شاملة ومتينة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي. وأقرّ المجلس الأوروبي هذا البيان في 20 يونيو. ولاحقاً، عيّن الممثل الأعلى الأوروبي للشؤون الخارجية، ولأول مرة، لويجي دي مايو، ممثلاً خاصاً للاتحاد الأوروبي لشؤون الخليج.

 

وضعت القمة الخليجية-الأوروبية الأولى في أكتوبر 2024، إطاراً سياساً للشروع في مفاوضات الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين (أ.ف.ب)

 

وفي سبتمبر 2023 رسخّ الطرفان شراكتهما من طريق الانخراط رسمياً في مبادرة “الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”، التي شارك فيها كلٌّ من الإمارات والسعودية إلى جانب الهند والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي. وفي مايو 2024، افتُتحت أول غرفة تجارة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي في الرياض، لتسهيل التواصل بين القطاع الخاص في الجانبين. وقد انتهى هذا المسار التحضيري بعقد القمة الأولى بين زعماء دول الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي في بروكسل في 16 أكتوبر 2024، تحت شعار”الشراكة الاستراتيجية من أجل السلام والازدهار”، والتي تعهَّد المشاركون فيها “بالسعي نحو توقيع اتفاقيات شراكة استراتيجية، من ضمنها اتفاقية تجارة حرة إقليمية بين دول مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي”، وكذلك “مواصلة الحوار بشكل منتظم من طريق عقد قمة كل عامين”، على أن تنعقد القمة المقبلة في المملكة العربية السعودية في عام 2026.

 

في ضوء هذه الخلفية تبدو دوافع إطلاق مفاوضات الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، محكومةً بثلاثة محدداتٍ أساسيةٍ، هي:

 

أولاً، إعادة التوجيه الاستراتيجي في نظام عالمي متغير، فقد أصبح الشريك الأمريكي غير موثوقٍ للطرفين، في ظل صعود التنافس بين القوى الكبرى، وبروز قوى إقليمية في عالم أكثر تفتتاً وتعددية، ما يتطلب شراكات أمنية وسياسية أكثر استدامةً.

 

ثانياً، الرؤى المتقاربة بين الطرفين حول الإصلاح الاقتصادي والاستقلال الاستراتيجي، لتقليص الاعتماد وتنويع الشراكات.

 

ثالثاً، مُتغير صعود الحمائية أو القومية الاقتصادية في ظل حدة التنافس الدولي والحروب التجارية، والذي يهدد النموذج الخليجي كما يهدد النموذج الأوروبي، فمن مصلحة الطرفين المحافظة على أكبر قدرٍ من حرية التجارة والأسواق المفتوحة.

 

محاور الشراكة الأوروبية-الخليجية

من الناحية الزمنية، من المتوقع أن تسلك مسارات التفاوض بين الطرفين حتى الوصول إلى إبرام اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، ثلاث مراحل:

 

الأولى، يوضع فيها الإطار ويُحدَّد النطاق، بما في ذلك المشاورات الفنية، وصياغة المذكرات القطاعية، ومواءمة الأولويات التنظيمية، ومن المرجح أن تنتهي في نهاية العالم الحالي.

 

أما المرحلة الثانية، وهي الأهم، فيمكن أن تتحقق فيها توافقات قطاعية، لاسيما في مجالات الطاقة والتعليم والبنية التحتية، ويمكن في خلالها إدارة الحوار حول المجالات الخلافية مثل الحمائية أو المعايير التنظيمية.

 

والمرحلة الأخيرة هي إضفاء الطابع الرسمي، من طريق إبرام اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، والتصديق عليها من قبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي والهيئات الخليجية، وإنشاء هياكل حوكمة مشتركة، ويمكن أن يكون ذلك في أفق 2027، في حال لم تشهد المفاوضات خلافات أساسية.

 

يسعى الاتحاد الأوروبي إلى الاستفادة من رأس المال الخليجي لتطوير البنية التحتية المشتركة (مجلس التعاون)

 

وبالنسبة لمحاور هذه الشراكة، فقد وضع البيان النهائي المشترك للقمة الأولى لمجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي في 16 أكتوبر 2024، الخطوط العريضة لمحاور الشراكة الاستراتيجية المراد الوصول إليها بين الطرفين، من طريق التأكيد على محوريين: محور يتعلق بالشراكة الاقتصادية والتنمية، ومحور ثانٍ يتعلق بالتوافقات الجيوسياسية الكبرى.

 

أ. المحور الاقتصادي

يُعد الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، حيث يمثل 11.7% من إجمالي تجارة دول مجلس التعاون في السلع مع العالم في عام 2024. وقد بلغت نسبة واردات دول المجلس من الاتحاد 15.8% من إجمالي وارداتها، ما يجعل الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك استيراد لدول المجلس، ورابع أكبر شريك تصدير، حيث بلغت نسبة صادرات المنطقة إليه 8.9%. وقد بلغ إجمالي التجارة في السلع بين الطرفين في عام 2024 نحو 161.7 مليار يورو. وإلى حدود عام 2023، بلغ إجمالي رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر الصادر من الاتحاد في المنطقة 235.9 مليار يورو، في حين بلغ رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد من الخليج إلى منطقة الاتحاد 215.2 مليار يورو.

 

وعلى رغم هذا الحجم الكبير من التبادل، فإن كايا كالاس، الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية الأوروبية، تشير إلى أن “هناك إمكانات هائلة غير مستغلة في علاقة الاتحاد بمنطقة الخليج. ومن المتوقع أن تحقق هذه الاتفاقيات فوائد متبادلة عديدة في مجموعة واسعة من المجالات ذات الأولوية”. فمن شأن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية أن تؤطر بشكل قانوني ومستدام أوجه التعاون التجاري والاستثماري، لاسيما في المصالح المشتركة التي يعمل عليها الطرفان من طريق تكثيف الاستثمار في البنية التحتية والخدمات اللوجستية والابتكار الرقمي، بما يتماشى مع استراتيجية الاتحاد الأوروبي، “البوابة العالمية”، التي تسعى لمواجهة مبادرة “الحزام والطريق” الصينية عبر تمويل مشاريع بنية تحتية عالية الجودة عالمياً، وبما يتماشى مع الرؤى التي أطلقتها دول الخليج في أفق عام 2030 والأعوام التالية لتنويع الاقتصاد والدخول إلى مرحلة ما بعد الوقود الأحفوري.

 

من جانبه يسعى الاتحاد الأوروبي إلى الاستفادة من رأس المال الخليجي لتطوير البنية التحتية المشتركة. ويمكن أن تُشكِّل أطر المشاريع المشتركة في الموانئ والسكك الحديد والاتصالات، العمود الفقري لهذه الشراكة في جانبها التجاري. أما الجانب الثاني لهذا المحور فهو ما ستخلقه الاتفاقية من فرص تعاون في مجال البحث والابتكار، حيث تستثمر دول مجلس التعاون الخليجي بشكل كبير في اقتصادات المعرفة وإصلاح التعليم والتقنيات الذكية. ويُقدِّم الاتحاد الأوروبي نظاماً قوياً للمؤسسات البحثية والبرامج الأكاديمية ومجموعات الابتكار. ويمكن لتوسيع المشاركة في برامج الاتحاد، مثل “أفق أوروبا” و”إيراسموس+” والشراكات الرقمية، تعزيز تنمية رأس المال البشري في الخليج، وزيادة نفوذ الاتحاد في المنطقة. كما أن المراكز البحثية المشتركة وحاضنات التكنولوجيا ومبادرات التدريب المهني تُمثِّل مجالات أخرى لتوسيع هذه الشراكة.

 

ويتمثل الجانب الثالث في تغيُّر المناخ والفرص التي يمكن أن يوفرها التحول الأخضر للطرفين. ففي حين أن دول الخليج لاعبون ناشئون على الساحة الدولية في التعامل مع تغير المناخ، فإن من شأن الشراكة الاستراتيجية مع أوروبا أن توفر مشاركة الخبرات والمعرفة في المجالات ذات الصلة. وفي الوقت نفسه، من شأن تحوُّل دول الخليج إلى مستثمر كبير في الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة في منطقة الشرق الأوسط، أن يوفر شريكاً مُستداماً للاتحاد الأوروبي الذي يبحث عن مصادر الطاقة البديلة، وسيحتاج بشكل متزايد إلى واردات كبيرة من الطاقة المتجددة من مصادر متنوعة من طريق تطوير بيئة مواتية للتجارة والاستثمار في سلع الطاقة الخضراء. لذلك، هناك مصلحة مشتركة رئيسة للطرفين في الانخراط بشكل أكثر استراتيجية، وتسريع التحول الأخضر والانتقال إلى الاقتصادات الدائرية.

 

ب. المحور الجيوسياسي

يتعلق هذا المحور بثلاث خطوط رئيسة:

 

الأول، بناء توافقات سياسية بشأن الصراعات الدولية، ولاسيما الصراعات في المنطقة، سواء كان ذلك ما يتعلق بضرورة قيام الدولة الفلسطينية، والنفوذ الإيراني في المنطقة، والوضع غير المستقر في سوريا، والصراعات التجارية العالمية، وهذه التوافقات أو تقريب وجهات النظر بين الطرفين من شأنها أن تدعم بقية الشراكات الاقتصادية والأمنية، وكذلك تعزز قوة الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون بوصفها قوى تحافظ على التعددية الدولية وتسعى لفضّ النزاعات.

 

والخط الثاني هو الشراكة الأمنية، لاسيما في ظل التحول الجذري لنموذج الدفاعي الأوروبي، وبناء الدفاع الأوروبي الموحد، والذي يمثل فرصة لدول مجلس التعاون الخليجي من الناحية الأمنية لتعزيز الشراكة وتبادل المعرفة والتقنية، وأيضاً من الناحية الاستثمارية لجهة إعادة توجيه الاستثمارات الأوروبية نحو القطاع الصناعي الدفاعي. علاوة على الأمن البحري، حيث ألقت التهديدات الأخيرة في البحر الأحمر ومضيق هرمز وبحر العرب، بظلالها الثقيلة على مسارات التنقل والتجارة. وتُحدد “البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي” لعام 2022 الخليج منطقة رئيسة للأمن البحري. علاوةً على ذلك، من شأن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية أن تؤطر بشكل أوسع التعاون في الأمن السيبراني ومكافحة الإرهاب وإدارة الحدود بوصفها أولويات أمنية جديدة.

 

أما الخط الثالث فهو موازنة العلاقة مع الصين والولايات المتحدة بالنسبة للطرفين. إذ يعاني الأوروبيون اليوم من ضغوط أمريكية عكستها بوضوح الحرب التجارية ونوايا ترمب بالانسحاب الدفاعي، لذلك يُمثِّل الخليج بالنسبة لهم ركيزةً أساسيةً في استراتيجيتهم لتنويع التحالفات، شأنه شأن جنوب شرقي آسيا وأمريكا اللاتينية. أما بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي فتُمثِّل أوروبا موازناً جيوسياسياً للولايات المتحدة والصين، إذ يُعزز هذا التنويع المرونة الجيوسياسية والقدرة على التحرك في بيئة عالمية متقلبة بشكل متزايد.

 

في المسار التفاوضي مع أوروبا، تحتاج دول الخليج إلى سياسة موحدة لتعزيز التماسك والتنسيق بينها (مجلس التعاون)

 

التحديات المؤسسية والجيوسياسية

تواجه مسارات التفاوض حول اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي تحديات تتعلق بالأبعاد المؤسسية والتنفيذية والجيوسياسية.

 

1. البُعد المؤسسي والتنفيذي: يمكن أن يشكل عدم التوافق المؤسسي بين كيان كونفدرالي مثل الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، عقبةً في تقدُّم التفاوض، إذ إن الجهة الأوروبية تملك جهازها التنفيذي الموحد خلافاً للجانب الخليجي الذي مازال محكوماً بالقرار السياسي للحكومات الوطنية، إذ يفتقر المجلس إلى سلطة تنفيذية مُماثلة للمفوضية الأوروبية، ويعتمد على توافق الآراء بين دوله الأعضاء الست التي تتباين أحياناً مصالحها الوطنية. وعدم التماثل المؤسسي هذا يمكن أن يُشكِّل أيضاً عقبة في تنفيذ الاتفاق لاحقاً، بسبب عدم تطابق التشريعات الخليجية.

 

والعقبة الثانية هي المسألة المعيارية، والتي تراجعت كثيراً بالنسبة للجانب الأوروبي، إلا أن التحولات في مستوى السلطة في الحكومات الأوروبية يمكن أن تُعيد فرض شروط معيارية أوروبية تتعلق بالإصلاح السياسي وحقوق الانسان.

 

أما العقبة الثالثة فتكمن في قضايا التنفيذ لاحقاً، حيث يمكن أن يشكل الجمود البيروقراطي -لاسيما من الجانب الأوروبي- عقبة أمام المضي قدماً في الشراكة، فضلاً عن التحولات السياسية. ولتحقيق القدر الأكبر من أوجه الشراكة تحتاج دول مجلس التعاون الخليجي في المسار التفاوضي -الذي لن يكون يسيراً بسبب سوابق تاريخية أوروبية في مسارات مماثلة- إلى سياسة موحدة لتعزيز التماسك والتنسيق بين دول المجلس، حيث سيُشكِّل غياب التماسك الداخلي نقطةَ ضعف أمام المفاوض الأوروبي، ذلك أن التفاوض الموحد أفضل من التفاوض الثنائي لتحقيق مكاسب أوسع. ويتعزز هذا التماسك من طريق تنشيط آليات التكامل في المجلس، وبخاصة في السياسة الخارجية، وسياسة التجارة، وكذلك بتجنُّب نقل التنافسات داخل المجلس إلى مسارات التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، وبخاصة في مسائل الأمن والطاقة، حيث يؤدي التشرذم إلى تقويض الثقة. فوجود منصة أكثر تماسكاً لمجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يقلل من تكاليف التفاوض، ويزيد من القوة التفاوضية للمجلس.

 

2. البُعد الجيوسياسي: تبدو مناخات الحرب التجارية السائدة حالياً، والتي من المتوقع أن تتسع في ظل إدارة الرئيس ترمب، وتصاعد نزعات القومية الاقتصادية والحمائية والرسوم الجمركية الانتقامية، بيئةً صعبة لترسيخ شراكة استراتيجية مرتبطة أساساً بسلاسل توريد عالمية.

 

وبينما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى موازنة علاقاته بالصين والولايات المتحدة، تعمل دول مجلس التعاون الخليجي بنشاط على تعميق علاقاتها مع كليهما من طريق استراتيجية تحوّط إقليمية، تسعى عبرها إلى جني المنافع من شركاء متعددين دون تقديم التزامات أمنية أو أيديولوجية مُلزِمَة. فدول الخليج –لاسيما الإمارات والسعودية- شركاء في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وكذلك في مبادرة “ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا” المدعومة من الولايات المتحدة. وفي هذا الهامش الضيق قد يجد الاتحاد الأوروبي صعوبةً في ترسيخ مكانته شريكاً استراتيجياً دون نفوذ واضح.

 

وعلى عكس السياسات الواضحة للصين والولايات المتحدة، وبدرجة أقل روسيا، يظل الاتحاد الأوروبي طرفاً فاعلاً طموحاً، ولكنَّه غامض استراتيجياً، في الخليج، لأنه يفتقر إلى قدرات القوة الصلبة والرؤية الجيوسياسية الموحدة اللازمة للتنافس مع القوى الكبرى الأخرى على النفوذ في المنطقة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M