تأملات قرآنية من الايات السادسة والسابعة والثامنة من سورة يس

لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8)

التأمل الأول:
عندما نسمع أن العقوبة بحق الغافلين عن الله تعالى هو الذل والهوان الناتج عن جعل الأغلال في أعناق المعاقَبين ثم يكونون مقمحين من دون تناول ما بعد ذلك فنشعر بإشارة تربوية أخلاقية وهي أن على الإنسان المؤمن أن يرفع من قيمة نفسه عنده ويرفع مستوى تفكيره ونظرته للعقوبة ، وأن العقوبة الحقيقية التي ينبغي أن تشغل بالَ المؤمن الواعي الراقي هي الذل والهوان ، أما بعد هذا المشهد المهين فمهما كانت العقوبة شديدة فينبغي أن لا تكون أكثر أهمية واهتماماً من عقوبة الإهانة والمذلة ، بل المفروض أن لا يكون لها وجود يُذكَر مقابل عقوبة المهانة والذل ، خاصة إذا أضفنا الى ذلك أن هذا الذل هو إذلال ومن رب الأرباب العزيز الرحيم ، ولو كان التذلل لله عز وجل بإرادة الإنسان لكان شرفاً للمتذللين ، بل هي العبادة الحقيقية .

التأمل الثاني:
من الضروري معرفة العلاقة بين الغفلة وجعل الأغلال في الأعناق ، فمن كان سبباً للآخَر نهتم به كي لا تحصل النتيجة ، أما الاهتمام بالنتيجة فكمن يعالج الأعراض ويترك الأمراض ، وقد وضع الله تعالى قوانين تحكم الخلق – ومنهم البشر – فمن قام ببعض الأفعال وقعت عليه بعض التبعات ، ومنها من جعل الأغلال في عُنقِه كان من الغافلين ، وبما أن الغفلة موضوع معنوي فالأغلال تكون معنوية أيضاً ، كارتكاب الذنوب والمعاصي وحتى المكروهات .
وعليه من يبدأ بالمعصية فيُعرّض نفسه للغفلة عن ما بعد هذه المعصية ، وكأنه قَبِل أن يدخل عالم الغفلة التي تضم المعصية وما ينتج عنها ، فإن لم يتُب يبقى ذليلاً مُقمَحَاً بأغلاله .

التأمل الثالث:
من الممكن أن تكون الغفلة سبباً لجعل الأغلال في الأعناق ويمكن أن تكون نتيجة له ، نستنتج من ذلك أن من يغفل يتعرض للمعصية فتُجعَل الأغلال في عنقه ، فإن لم يتُب تزداد غفلته ، لأنه عرض نفسه لقانون إلهي يجعل الغفلة إحدى تبعات المعصية ، وبزيادة الغفلة تزداد معصيته ، وبمعصيته تزداد غفلته ، وهكذا حتى يصل الى مستوى معقد من الغفلة والمعصية يصعب عليه التراجع عنه .
لذلك تكون المبادرة الى التوبة وذكر الله عز وجل دواءاً من التورط والوصول الى هذا المستوى من التعقيد ، وكلما استطاع أن يتحصن المؤمن بهذين الدواءين وبشكل مستمر كلما قلّت احتمالية وقوعه في المعصية والغفلة ، فالتوبة وذكر الله جل وعلا هما كالعصا في عجلة المعصية والغفلة .

التأمل الرابع:
قد لا نحتاج الى جهد لإثبات أن الغفلة تتناسب عكسياً مع الإيمان ، أي تزيد مع تناقص الإيمان وتتناقص مع زيادته ، ويمكن أن يكون العكس صحيحاً أيضاً ، ومن ناحية أخرى فإن الأغلال في أعناقنا تتناسب عكسياً أيضاً مع مستوى إيماننا ، وبالتالي فإن الغفلة تتناسب طردياً مع الأغلال ، الزيادة من طرف تقابلها زيادة من الطرف الآخر ، وكذلك الأغلال تتناسب طردياً مع الغفلة .
وأن غفلة المؤمنين تختلف عن غفلة غير المؤمنين ، فإن غفل غير المؤمن عن عبادة الله تعالى وطاعته فالمؤمن يغفل عن المستحبات التي ترضي الله عز وجل ، وغفلة الأولياء تختلف عن غفلة عامة المؤمنين ، فغفلة الأولياء تكون عن ترك الأَولى – كما يعبر العلماء – أي ترك الأهم وتقديم المهم عليه ، رغم أن كلاهما مهمان .

التأمل الخامس:
إن الغفلة هي عبارة عن خمول الروح وكسلها وابتعادها عن مصدر طاقتها ، وبالتالي فإن علاجها هو الذكر والتذكُّر والتذاكُر ، أما الأغلال في الأعناق فيكون التخلص منها عن طريق الاستغفار والتوبة الى الله جل وعلا ، وهذا ما لا يفقهه الذين لا يؤمنون ، لذا يحق القول على أكثرهم .
والاستغفار وطلب التوبة هو ذكر من أهم الأذكار التي يداوم عليها المؤمنون ، وخصوصاً في شهر رجب الأصب ، شهر الاستغفار والتوبة ، إذ ورد استحباب الإكثار من الاستغفار والتوبة في هذا الشهر المكرم ، وبذلك نجمع بين العلاجين ، وقد وردت في كتب الأدعية عدة صيغ للاستغفار يمكن مراجعتها .
وبالنتيجة يمكن أن يكون شهر رجب المرجب مفتاحاً لليقظة من الغفلة وتخليص أعناقنا من الأغلال ، كما في بعض أدعيته المباركة ( ولا تجعلني من الغافلين المبعدين واغفر لي يوم الدين ).

التأمل السادس:
هل من الصحيح والمقبول أن نطيع الغافلين ؟ الجواب الفطري هو ( لا ) ، فلا يقبل أحدٌ أن يَتّبِعَ إنساناً غافلاً لأنه سيؤدي به الى الهلكة ، بدليل أنه لا يوجد أحدٌ يطمئن لسائق غافل فيركب معه في السيارة ، فإذا كانت غفلة الغافلين نتيجة الأغلال التي جعلها الله تعالى في أعناقهم ، وأن الأغلال هي أغلال معنوية ( ذنوب ومعاصي ) ، فهذا يعني أن طاعة العاصين أمرٌ مرفوض فطرياً وإسلامياً وقرآنياً ، ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) ، واتباع الهوى دليل على المعصية والانحراف ، فإن افترضنا جزافاً أنه لا يوجد إنسان غير عاصٍ ، أو معصوم ، فعلى الأقل يجب أن لا نطيع عاصياً بوجود من هو أقل منه معصية ، والأمر يتأكد في الأمور الدينية خصوصاً ، ويقل التشديد كلما كانت الأمور التي تجب الطاعة فيها أقل أهمية .

التأمل السابع:
من أشكال الغفلة التي يغفل عنها حتى غير الغافلين إهمال المناسبات الدينية التي تسهم في إنذار الغافلين وتذكيرهم بدينهم ومستقبلهم الأخروي ، فالغافلون وبسبب الأغلال التي في أعناقهم الناتجة عن انغماسهم في الدنيا ينزعجون من إقامة وإحياء تلك المناسبات لأنها تُذكّرهم بما غفلوا عنه مما يجعلهم أمام أمرين : إما التراجع عن الغفلة أو البقاء فيها ، وللأسف يبقى أكثرهم في الغفلة لأنهم لا يؤمنون .
ومن هذه المناسبات المهملة التي غفل عنها الغافلون من المسلمين هي ذكرى المبعث النبوي الشريف ، الذي يمثّل انطلاقة الإنذار النبوي المحمدي ، وانطلاق مسيرة القضاء على الغفلة وتكسير الأغلال وجعل الأعناق قائمة شامخة ، ولا يعي هذه المناسبة إلا من وعى أهمية الإنذار وخطورة الغفلة .

التأمل الثامن:
من أشكال الغفلة التي نُبتلى بها ونظن أننا غير غافلين هي الغفلة عن الأمور المعنوية ، وذلك بسبب الانشغال بالأمور المادية ، فالغفلة عن القضايا المعنوية مطلوب ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) كما أن الغفلة عن القضايا المادية مطلوب ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) ، ومن لا يعرف أهمية كل من الجانب المعنوي والمادي – وكلٌ بحسبه – يمكن اعتباره لا يؤمن إيماناً حقيقياً ، وإيمانه منقوص ، ويتبيّن ذلك بشكل واضح إذا فهم أحدٌ أن المقصود من الأغلال التي جعلها الله تعالى في أعناق الغافلين هي الأغلال المادية ، مع إننا لا نرى أغلالاً في أعناقهم .
لذا فمن الضروري تقوية البُعد المعنوي والروحي لأن علاقتنا الحقيقية مع الله تعالى هي علاقة معنوية وروحية وليست مادية ، مع الحفاظ على البعد المادي الذي يناسب قوانين الحياة الدنيا كالأكل والنوم وغيرها .

التأمل التاسع:
إن الإنسان إذا كان يفكر بأفق ضيق ونظرة محدودة سوف لن يتمكن من تحقيق مراتب عليا في التكامل ، إذ يتعامل مع الأحداث المباشرة ويغفل عن الأحداث غير المباشرة ، يكون عندها إنساناً متخلفاً ، أما الإنسان الواعي فلا يكتفي بالنظر الى ما تراه عيناه ، بل يحلل ويفصّل ويقرأ ما بين السطور كي يتوصل الى حقائق لا يمكن التوصل إليها بالطرق الاعتيادية المباشرة .
والمؤمن الحقيقي باعتباره من الواعين غير الغافلين فإنه لا يتعامل مع الحياة الدنيا بشكل مباشر ، وإنما يحلل سبب وجوده ووجود هذا الخلق ويبحث عن مصيره ومصير باقي الموجودات ، ويفكّر في الأغلال التي توضع في الأعناق التي تسبب الغفلة عن التفكر في هذا الكون ، أما الذين لا يؤمنون فينشغلون بتلك الأغلال ويقضون أوقاتهم بها وكيفية تطويرها فتزيدهم غفلة عن حياتهم الحقيقية غير المباشرة .

التأمل العاشر:
إن أردنا تكسير الأغلال في أعناقنا كي نتخلص من الغفلة ونكون واعيين متنعمين بذكر الله عز وجل فإن الاستغفار هو أبرز أدوات التكسير ، ولكن هل كل من استغفر أصبح واعياً غير غافلٍ ؟ بالتأكيد لا ، ولكي نميز الاستغفار الواعي من غير الواعي ننظر الى ثمرات هذا الاستغفار ، فإن أدى الى التوبة فهو واعٍ ، وإلا فلا ، فإن تاب المستغفر تاب الله عليه ، عندها لا يجعل سبحانه الأغلال في عُنقه ، بعدها يلجأ الى الله تعالى . أما إن لم يتب فسيبقى على أغلاله ولا يتمكن من التخلص من غفلته لأنه لم يكن جاداً في ذلك ، وهذا لا يعني أن يترك المؤمن الاستغفار ، ولكن عليه أن يستغفر ويسعى للتوبة ويطلب العون من الله جل وعلا ، خاصة وهو يقرأ يومياً عشر مرات ( إياك نعبد وإياك ونستعين ) ، فهذا السعي ربما يكسر قسماً من الأغلال .

التأمل الحادي عشر:
إن أعداء الدين من الطواغيت وأتباعهم من الذين لا يؤمنون يحاولون – من حيث يقصدون أو لا يقصدون – أن يكونوا أرباباً لباقي البشر ويحعلونهم عبيداً لهم ، كما قال فرعون لمن تسلط عليهم : ( أنا ربكم الأعلى ) ، فيجعلون الأغلال في أعناق الناس لينشغلوا بها عن ما أراده الله تعالى لهم كبشر ، من الوعي والعزة ، وأن تكون عبوديتهم خالصة لمن يستحقها فقط وهو الله الذي بيده كل شيء .
ومن المؤسف أن نرى في زمننا الحاضر الكثير من هؤلاء الطواغيت ، إذ يُلهون الناس بالتفاهات والمعاصي ويبتكرون طرقاً للهو وتضييع الوقت والمال لم تكن من قبل ، كالألعاب ومواقع الانحراف الأخلاقي والفكري وغيرها ، بحيث يبقى الناس غافلين عن الغاية من خلقهم وهي معرفة الله سبحانه وعبادته .

التأمل الثاني عشر:
يمكن تحويل الغفلة من سلبية إلى أيجابية، فالغفلة ليست دائماً سلبية ، وبالتالي يكون الذين لا يؤمنون غير غافلين – وبحسب مستوى عدم إيمانهم – ويكون المؤمنون غافلين، فالغفلة تكون سلبية عندما تكون عن الله جل وعلا وعن شرعه وأحكامه، أما الغفلة عن الدنيا وعن ما يُبعدُ المؤمنَ عن دينه فهي إيجابية، وإن لم يتمكن المؤمنُ من الغفلة عن هذه الأمور فليتغافل ، وإن تطلّب الأمر فليجعل في عنقه أغلالاً ليغفل عن ما لا يرضاه الله تعالى ، بشرط أن تكون هذه الأغلال أغلالاً مقبولة شرعاً وعرفاً . فمثلاً يضع لنفسه برنامج حياة معين يشغله عن اللهو بما يسخط اللهَ تعالى أو يهيء الظروف لذلك ، أو يلتزم مع أشخاص أو مؤسسات بالتزامات عمل أو عقد أو تطوع أو تبرع بحيث تُقيّده وتقلل من إحتمالية التفكير – فضلاً عن المباشرة – بكل أمر له عواقب أخروية وخيمة .

التأمل الثالث عشر:
هناك وسائل متعددة لإحياء وظيفة الإنذار ، وبالتالي القضاء على الغفلة ، ومن هذه الوسائل إحياء المناسبات الدينية ، لذا فإن المؤمنين يحيون هذه المناسبات لتحقيق تلك الغاية وهي القضاء على الغفلة ، إضافة الى رفع الأغلال من أعناقهم لتأثرهم بالأجواء الإيمانية التي ترافق تلك المناسبات ، وإن لم تتحقق هذه الغاية – ولو بصورة غير مباشرة – فسيكون هذا الإحياء خاوياً إلا أن يحقق غايات سامية أخرى .
أما الذين لا يؤمنون فيهتمون بإحياء مناسبات تافهة لا فائدة منها ، لذلك نراهم في غفلة مستمرة ، وأعناقهم مُثقَلةٌ بالأغلال والذنوب ، ويا ليتهم اكتفوا بذلك ، بل توجهوا لمحاربة المناسبات الدينية ، رغم أنهم يعلمون ويدركون أن هذه المناسبات الطاهرة توقظهم من غفلتهم وترفع ولو جزءاً يسيراً من الأغلال التي في أعناقهم .

التأمل الرابع عشر:
من الطبيعي أن الأغلال إذا بقت فترة طويلة ستؤثر في الجسد ، ويبقى الأثر أحياناً حتى بعد رفعها إذا ما كانت الأغلال ثقيلة ، هذا على المستوى المادي ، ويبدو أن الأمر متشابه على المستوى المعنوي ، فالأغلال المعنوية إذا بقت لفترة طويلة سيكون أثرها على الروح أكبر مما لو بقت فترة قصيرة ، بعبارة أخرى أن المذنب إذا لم يسارع الى الاستغفار والتوبة – وبحسب مستوى الذنب – فإن أثر هذا الذنب سيؤثر سلباً على علاقته مع الله سبحانه أكبر مما لو سارع الى الاستغفار والتوبة ، وستكون الغفلة عنده أشد مما لو تاب مباشرة ، وهناك ذنوب يبقى أثرها على المذنب حتى بعد الاستغفار والتوبة ، لذلك لا يمكن أن يتساوى من يمنع نفسه من إرتكاب الذنب مع المذنب التائب ، فالأول يكون أقل تعرضاً للغفلة من الثاني .

التأمل الخامس عشر:
ربما يُطرَح تساؤلٌ : هل توجد أغلال في أعناق المعصومين ؟ وما طبيعتها ؟ وما نوع الغفلة التي يعانون منها ؟
في البداية لا بد أن نعرف الغاية من عصمة المعصومين ، ومن الذي عصمهم ، وهل هو تمييز عنصري أو طبقي بين البشر ، ومن غايات العصمة هو تسديد المعصوم لأداء مهامه – ومنها الإنذار – بأفضل ما يمكن لتخليص الأمة من الغفلة والأغلال التي في أعناق أبنائها ، وبالتالي فعصمتهم عصمة للأمة ، وهي ليست تمييزاً عنصرياً أو طبقياً بين البشر ، وليست تشريفاً بقدر ما هي تكليف وتحميل المسؤولية على عاتقهم ، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن العاصم هو الله تعالى الذي لا يمكن أن يكون فعله خطأً .
وسنتعرض في التأمل القادم الى طبيعة الأغلال في أعناق المعصومين ونوع الغفلة التي يعانون منها .

التأمل السادس عشر:
إذا قارنا بين الأغلال التي في أعناق المعصومين والأغلال التي في أعناق عامة الناس فسوف لن تكون هناك نسبة بينهما ، بمعنى أن أغلال المعصومين منعدمة إذا ما قورنت بأغلالنا ، وهي نفس المقارنة بين ذنوب المعصومين وذنوب غيرهم ، أما إذا نظرنا الى أغلال المعصومين بشكل منفصل ستكون هناك أغلال ولكنها خفيفة جداً الى درجة أننا لا نعتبرها أغلالاً أصلاً ، ولكن رقي مستوى المعصومين يجعلهم يتضايقون من هذه الأغلال ، وأن هذه الأغلال تختلف بين نفس المعصومين ، فالمعصوم الأعلى شأناً تكون أغلاله أضعف من أغلال المعصوم الأدنى .
وهكذا الأمر بالنسبة للغفلة ، فغفلة المعصومين إذا ما قورنت بغفلتنا فإنها لا تُذكَر ، إلا أن المعصوم يعتبر نفسه غافلاً لمعرفته بحقيقة الغفلة ، لذلك نرى دعواتهم للتخلص من الأغلال واستغفارهم من الغفلة .

التأمل السابع عشر:
إن الإنسان لو كان مؤهَّلاً لرفع الأغلال من عنقه لرفعها الله تعالى منه بدل أن يجعلها فيه ، ومن وسائل رفع الأغلال من الأعناق هو رفع الأغلال من أعناق الناس وذلك بإنذارهم من الغفلة وتنبيههم وتحذيرهم من مصيرها ونتائجها ، ونقلهم من عدم الإيمان الى الإيمان وإنقاذهم من العذاب .
والأنبياء والأوصياء من أوائل الذين سارعوا لرفع هذه الأغلال من أعناق الناس فرفع الله سبحانه الأغلال من أعناقهم فصاروا معصومين ، فلم يغفلوا كما غفل الذين يرغبون بإنذارهم وهدايتهم ، وبالتالي فإن العصمة مسؤولية لأنها تتطلب تواصلاً غير منقطع عن الله عز وجل .
وكلٌ منا يمكنه رفع بعض الأغلال من عنقه بإنذار الناس ليرفع الأغلال من أعناقهم بشرط أن تكون وفق القواعد الشرعية .

التأمل الثامن عشر:
ربما من أبرز وأوضح أشكال ومصاديق الأغلال في أعناق البشر هي الأغلال الاجتماعية ، باعتبار الانسان اجتماعي بطبعه ، ويتأثر بالضغوط والأعراف الاجتماعية ، الى درجة أنها تقيده وتجبره على سلوك مسلك قد لا يرتضيه ولكنه يضطر لاستجابته ، فبعضٌ يتأثر بالموضة ، وآخر يتأثر بالعادات الاجتماعية السيئة ، وغيرهما يستسلم للسلوك الجمعي الخاطئ المؤدي الى الغفلة عن الله تعالى وتعاليمه ، فأصبح امتلاك جهاز نقال من نوع معين دون غيره فريضة على البعض ، ومشاهدة مسلسل أو فلم واجب ، والاهتمام بنادي رياضي وتشجيعه والتعصب له أمر لا تنازل عنه ، وإتخاذ فنان أو رياضي رمزاً يُتأسى به بدلاً من رسول الله صلى الله عليه وآله من علامات العصرنة ، وغيرها من الأغلال التي جعلت الغفلة سمة واضحة في المجتمع الإسلامي فضلاً عن غير الإسلامي .

التأمل التاسع عشر:
أحياناً تكون بعض الأغلال ليست على شكل معاصي وذنوب ، ولكنها أمور غير نافعة وتؤدي الى الغفلة عن أمور نافعة ، مثل التصفح المفرط لمواقع التواصل وتضييع الوقت فيها ، فهي أغلال في أعناق كثير من الناس بحيث أدت الى الغفلة عن أهمية علاقتهم الاجتماعية مع الآخرين ، والغفلة عن طلب العلم وعن الوقت الذي يفترض أنه أثمن ما نملك ، أو التدخين الذي يُعدُّ من الأغلال التي أذلت كثيراً من البشر – بما فيهم المؤمنون – وجعلتهم غافلين عن صحتهم التي يتفق العقلاء على أهميتها ، وغيرها من الأمثلة الكثيرة .
وهذه الغفلة قد لا تكون في ذاتها غفلة عن الله عز وجل ، وإلا أنها تؤثر على العلاقة معه جل وعلا ، لذا فالإنذار والتنبيه على خطورة هذه الأغلال وإيقاظ الغافلين عن عواقبها أمر ضروري وفيه أجر وثواب إن شاء الله تعالى .

التأمل العشرون:
من الثابت عقائدياً أنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين ، أي أن الله تعالى لا يُجبر أحداً على فعل شيء ولا يعطيه التفويض الكامل ليفعل ما يشاء ، وإنما سنّ قوانين وتشريعات تكوينية فمن قام بمقدمات شيء فقد فعله .
ولنأخذ مثالاً على ذلك ، فالباري عز وجل لم يجعل الأغلال في عنق العبد جبراً ليصبح غافلاً فيرتكب المنكرات فيحق عليه العذاب ، وإنما قام بأمر ( مثلاً غفل عن الله عز وجل ) فارتكب بعض الأمور الخاطئة – قد تكون معاصي أو مكروهات أو أموراً سلبية – فكانت أغلالاً في عنقه ، لأن الغفلة تؤدي الى أمور سيئة وفق السنن التكوينية التي فرضها على خلقه ، وبالتالي فقد كان هذا الشخص مُخيَّراً في أن يغفل أو لا ، وصار الأمر بين أمرين ولم يكن جبراً ولا تفويضاً .

التأمل الحادي والعشرون:
قد ينظر الإنسان السلبي الى الجعل الإلهي للأغلال في أعناق الغافلين نظرة سلبية ، باعتبار أن الناس متفقون على رفضهم لجعل الأغلال في أعناقهم ، بينما الإنسان الإيجابي ينظر إليه نظرة إيجابية ، لأن هذا الجعل يدفع الإنسان الى تجنب هذه الأغلال ليُبعد الغفلة عنه ، سواء كانت الغفلة عن الله سبحانه أو عن أي أمر مفيد ، وبالتالي فهي معلومة مفيدة غفل عنها السلبيون ، لأن صفة السلبية من الأغلال التي تجعل من يتصف بها غافلاً عن ما يحدث في العالم المشرق من الحياة ويقيّد نفسه بأغلال الظلام والتخلف والتقهقهر .
وهذا يدفعنا للنظر الى الحياة بنظرة تفاؤلية ، وتحويل القيود والأغلال الى مشروع أمل ، بحيث نغفل – بإرادتنا – عن سلبيات تلك الأغلال وننظر الى ما يثمر عنها من إيجابيات ، كالصبر وتجنب وضع الأغلال في أعناق الغير بلا حق .

التأمل الثاني والعشرون:
أعطانا يوسف الصِدّيق عليه السلام درساً قرآنياً عملياً أن الأغلال التي يجب أن يُبعدَها الإنسان المؤمن عن عُنقه هي الأغلال الأخلاقية والمعنوية ، حتى لو كان التخلص من هذه الأغلال يوجب التورط في الأغلال المادية كالسجن والسلاسل وما شابه ، أما الذين لا يؤمنون فيهتمون بإبعاد الأغلال المادية عن أنفسهم حتى لو جُعِلَت الأغلال (المعنوية) في أعناقهم .
إن المؤمن لا يفكر مثل غير المؤمن ، فلا يفكر بالعذاب الدنيوي إذا حقّ عليه ما دام العذاب الأخروي قد أَمِن منه ، ولا يفكر بالغفلة عن الأمور الدنيوية إذا سَلِمَ من الغفلة عن الأمور الأخروية ، وهذا المستوى من التفكير قد يكون متحققاً عند أكثرنا على المستوى النظري ، إلا أنه شبه معدوم من الناحية العملية .

التأمل الثالث والعشرون:
مما يميز المؤمنين عن الذين لا يؤمنون الإيمان بالغيب ، فالصنف الأول يؤمن بالغيب بعكس الثاني الذي لا يؤمن بالغيب أو على الأقل يغفل عن الجانب الغيبي في حياته ، ويمكن تقسيم الصنف الأول الى قسمين ، الأول يؤمن إيماناً عملياً بالغيب وهم المؤمنون الخُلَّص ، والثاني الذين يؤمنون بالغيب إيماناً نظرياً ، وهو حال أغلبنا .
ولو تفحصنا عن السبب لوجدناه الأغلال التي جعلناها في أعناقنا جرّاء انشغالنا بالحياة المادية وإعطائها فوق أهميتها ، فمن النادر مثلاً أن يكون علاج المرضى لزيادة فرص المريض للطاعة وذكر الله عز وجل ، إذ أن الكثير منا يغفل عن هذه الغاية ويهتم بعلاج المريض وكأنه غاية وأنه يريد أن ينقذه من الموت .

التأمل الرابع والعشرون:
إن الانشغال بالقضايا المادية من الدنيا يجعل هؤلاء المنشغلين غافلين عن الأمور الغيبية ، لذا نجدهم لا يؤمنون بالغيب ، وخصوصاً الإيمان بيوم القيامة ، بل إن البعض يؤمن بها من الناحية النظرية إلا أنهم لا يؤمنون بها عملياً ، وما يدل على ذلك ارتكابهم للمعاصي ، وكلما كانت المعاصي كبيرة وارتكابها بشكل متكرر ومن دون توبة كلما دلّ ذلك على عدم إيمانهم بالآخرة ، والعكس بالعكس .
لذا يكون من الضروري تطعيم حياتنا بالبرامج المعنوية التي تقوي إيماننا بالغيب ، وها نحن قد وصلنا الى منتصف الأشهر المعنوية ( رجب وشعبان ورمضان ) المليئة بالبرامج الروحية ، ربما أبرزها الدعاء وبعض الأعمال العبادية ، وهي فرصة لإزالة الأغلال من أعناقنا وتحطيم الغفلة في قلوبنا .

التأمل الخامس والعشرون:
يقولون أن للعشق ناراً ، وأن العاشق يتلذذ بنار العشق ، لأن عشق المعشوق يطفئ كل نار ويزيل كل ألم وتعب ، وإذا كان الأمر كذلك فالعاشق يقبل بالأغلال التي يضعها المعشوق في عنقه ، ولا يفكّر بثمرة وضع هذه الأغلال ، ولا يسأل عن سبب وضعها ، لأن العشق يمنع العاشق من التفكير بأي شيء قد يسيء الى المعشوق ، فيخرب عشقه بيده .
ومن كان عاشقاً للمعشوق الحقيقي جل جلاله فسوف لن يشعر بالأغلال التي يجعلها في عنقه ، كالأغلال الشرعية الكفيلة بأن تجعلنا غافلين عن ما يلتهي به الغافلون ، ولا يسأل عن سبب هذه الأغلال ، لأنه يعلم أن هذا المعشوق لا يضع أغلالاً إلا لحكمة ، وهذا ما لا يفقهه الذي لا يؤمنون بهذا العشق .

التأمل السادس والعشرون:
عند مواجهة الأعداء ( من الذين لا يؤمنون ) نحتاج الى العديد من الخطط لهزيمتهم ومنها أننا نجعل الأغلال في أعناقهم ليكونوا غافلين عنا ، بمعنى إشغالهم بهذه الأغلال وإلهائهم بكيفية التخلص منها كي يبتعد خطرهم عنا ، وبعض هذه الأغلال قد كفانا الله تعالى مؤونتها إذ جعلها في أعناقهم فغفلوا عنا ، كاللهو بالخمر والحفلات والجنس وما شابه ، وعلينا أن نذهب الى أغلال أخرى لزيادة انشغالهم ، كضرب اقتصادهم من خلال مقاطعة سلعهم غير المفيدة وجعل استخدام السلع المفيدة للأمور الضرورية جداً فقط ، فإن أقدم مليون مسلم فقط على هذه المقاطعة فسينشغلون بكيفية إرجاع بيع سِلَعِهم عن التعرض للمسلمين ، أما إذا توحّد مليار مسلم على ذلك فسيستلمون بلا نقاش ، وهذا يتطلب طبعاً حركة ثقافية توعوية تُغيّر البنى الفكرية التحتية للفرد المسلم .

التأمل السابع والعشرون:
عندما يكون جسم الإنسان وسخاً فسيعيق تحركه ويشعر بقيود تُقيُّده وأغلال تَغلُّه ، وهكذا يكون القلب أيضاً ، فالغفلة تجعل القلب وسخاً ويحتاج الى تطهير وتنظيف ، وقد ورد في أحد أدعية شهر شعبان ما يشير الى ذلك ( تطهير قلبي من أوساخ الغفلة ) ، وهذه الأوساخ تغلُّ القلب وتقيده من الرقي ، وهي بالتأكيد أوساخ معنوية كالمعاصي والذنوب بل وحتى المكروهات ولكن بدرجة أقل .
ومن وسائل تطهير القلب من أوساخ الغفلة الإنذار ، لأنه يصحي الغافل ويوقظه من غفلته كما يوقظ النائم من نومته ، فإن صحى ووعى انتبه وارتاح من هذه الأوساخ ، ووجد نفسه قادراً على التحرك بطلاقة ، من دون قيود أو أغلال .

التأمل الثامن والعشرون:
من الواضح أن الأغلال تُقيّد الحرية ، وزيادة الأغلال كماً أو نوعاً أو كلاهما يزيد من تقييد الحرية ، ومن يريد الحرية فعليه التخلص من تلك الأغلال ، ومن يرى أن الحرية مضرة في جزء يفرض الأغلال كي لا تكون هناك حرية في ذلك الجزء ، ولا يوجد عاقل يدعي أن الحريةَ المطلقةَ غيرُ مضرة ، بدليل أن دعاة الحرية في العالم يقيدون الحريات في بعض المرافق لأنهم يعتبرون هذه الحرية مضرة ، فمثلاً حرية قتل البشر لا يمكن لأحد أن يُبيحها علناً إلا أن يبرر لها .
والانشغال بهذه الأغلال يسبب الغفلة عن ما قُيّدَ لأجله ، وبالتالي فإن زيادة الحرية في جانب تؤدي الى زيادة الغفلة في الجانب المعاكس ، ومن يريد إطلاق الحرية فهو غافل عن أن هناك أغلال تقيد كل حرية .

التأمل التاسع والعشرون:
هناك نظرتان فكريتان الى الحرية والتخلص من الأغلال ، الأولى تدعو الى رفع الأغلال عن ما يقيد الإنسان لارتكاب الرذائل ( الأخلاقية بالخصوص ) بمختلف أشكالها حتى وصلت الى إباحة المثلية ، ومع الأسف هناك مؤيدون لها ، حتى في المجتمع الإسلامي .
والنظرة الثانية تدعو الى رفع الأغلال المعنوية عن ما يقيد الإنسان من البقاء على إنسانيته وفطرته ، إذ تدعو الى ترك أغلال النفس الأمارة بالسوء التي تقيد صاحبها من اللجوء الى الله تعالى وطاعته .
وهناك معياران قرآنيان لمعرفة أيهما أصح ، الأول هو نتيجة هذه الحرية ، إن كانت الغفلة عن الله سبحانه فهي غير صحيحة ، وإن كانت القربة من الله عز وجل فهي صحيحة ، والثاني هو الدعاة الى هذه النظرة ، فإن كانوا من الذين لا يؤمنون فمرفوضة ، وإن كانت من المؤمنين فهي مقبولة .

التأمل الثلاثون:
إن وضع الأغلال في الأعناق هو تقييد الحريات ، والوحيد الذي لا يختلف عليه أغلب سكان الأرض – باعتبارهم مؤمنين – على أحقيته بتقييد الحريات هو الله سبحانه ، إلا أن الاختلاف حول آلية تنفيذ التقييد الإلهي في الأرض .
فنجيب : ما دُمنا متفقين على أن الله عز وجل أرسل رُسلاً مؤيدين من قبله فهذا يعني أن ما يقيده الرسل من حريات هو تقييد إلهي ، لأنهم لا يتحركون إلا بأمره ، وما دام الرسل يأمرون الناس بإتباع أوصيائهم ، فتقييد أوصيائهم للحريات تقييد إلهي ، وما دام الأوصياء يأمرون الناس بإتباع الفقهاء ويصفونهم بأنهم أمناء الرسل فتقييد الفقهاء تقييد إلهي ، إلا أن الغافلين والذين يصرون على بقائهم في الغفلة لا يقتنعون بأي تقييد للحريات .

التأمل الحادي والثلاثون:
في شهر رمضان المبارك يجعل الله تعالى الأغلال في الأعناق ، الأغلال الفقهية في أعناق المؤمنين كي يوجهوا بوصلتهم تجاه ربهم الكريم ويغفلوا عن سواه ، والأغلال في أعناق الشياطين كي يغفلوا عن عرقلة التكامل الروحي في الشهر الفضيل .
أما الذين لايؤمنون – حتى من المسلمين – فهم غافلون عن بركات هذا الشهر الكريم ، وهذا يدل على أن في أعناقهم أغلالاً تمنعهم من التفاعل والانتفاع من النفحات الرمضانية المباركة ، لذا تكون مجالس الوعظ والإرشاد ضرورية بشكل كبير لإنذار الناس وإيقاظهم من غفلتهم ليصحوا وينتبهوا الى عظمة هذا الشهر المبارك .

* مشاركتها ثواب لنا ولكم

للمزيد من التأملات القرآنية يمكنكم الانضمام الى قناتنا على التلكرام:
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M