التجليات الكونية بعد شهادة الحسين عليه السلام

 

في الزيارة المطلقة للإمام الحسين ع المروية عن الإمام الصادق ع بسند معتبر وذكرها الصدوق وقال أنها اصح الروايات وفيها بلاغ وكفاية ورد نص يصف الحسين ع بانه قتيل الله وحجة الله وثار الله ويبدو من سياقها أنها تركز على مقامات الإمام الإلهية إلى ان يشهد له بان دمه سكن في الخلد واقشعر له أظلة العرش وذكرت الزيارة بكاء جميع الكائنات لأنه ع يقول بكى له جميع الخلائق والسموات السبع والأرضين السبع وما فيهن وما بينهن ومن الواضح الخطاب فيه عمق عقائدي توحيدي يربط بين الروحية العالية لمقام الإمام ع واستنفار الكائنات لهذا الحدث وتبين مستوى المقامات العالية للإمام ع وما نجم عن شهادته في الكون فالنص تربطه علاقات دلالية يجمعها عنوان واحد وهو الشهادة الربانية      ( السلام عليك يا حجة الله وابن حجته، السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله، السلام عليك يا ثأر الله وابن ثاره السلام عليك يا وتر الله الموتور في السماوات والأرض، أشهد أن دمك سكن في الخلد واقشعرت له أظلة العرش وبكى له جميع الخلائق وبكت له السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا وما يرى ومالا يرى أشهد أنك حجة الله وابن حجته وأشهد أنك قتيل الله وابن قتيله وأشهد أنك ثائر الله و ابن ثائره وأشهد أنك وتر الله الموتور في السماوات والأرض وأشهد أنك قد بلغت و نصحت ووفيت وأوفيت وجاهدت في سبيل الله ومضيت للذي كنت عليه شهيدا ومستشهدا وشاهدا ومشهودا أنا عبد الله ومولاك وفي طاعتك …)

التجليات  الكونية

في هذا النص من المقامات العظيمة والمشاهد الكونية الكبيرة التي تدل في عمومها على عظم الحدث ، وتأثيره في الكون، اذ  تجلت بعض الآيات الكونية نتيجة هذا الحدث العظيم ولذلك صارت نسبة هذه التضحية إلى الله تعالى ، حين يصفه الإمام عليه السلام  بقتيل  الله ،وحجة الله،  وأثار الله ، والوتر الموتور وغير ذلك من الأوصاف المنسوبة إلى الله تعالى الدالة على شدة ارتباط المولى  بالحق تعالى وفناءه فيه وتضحيته الخالصه لوجهه تعالى ، وبذل نفسه ودمه وعياله من اجله ومن اجل كلمة الحق ( السلام عليك يا حجة الله وابن حجته، السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله، السلام عليك يا ثأر الله وابن ثاره السلام عليك يا وتر الله الموتور في السماوات والأرض …)   بل إن الله تعالى هو الذي يتبنى هذا الحدث بعد إشارة الإمام إليه في هذا النص المكثف بالدلالة الربانية ، فالعبارات المتعاطفة مع بعضها خلقت نصاً كونيا متماسكاً يشد بعضه بعض ومن ثم تشع منه تجليات كونية قبل أن نبينها لا بد أن نقف عند المراد من  التجليات الكونية . فالتجلي يعني الظهور الشديد أو شدة الظهور وهو على نوعين :

أولا ً : التجلي الذاتي ، أي ظهور الشي بذاته وبشكل طبيعي بحسب قوانين الطبيعة التي وضعها الله تعالى من قبيل حركة الليل والنهار ، كما في قوله تعالى( والنهار إذا تجلى ) أي إذا ظهر بنتيجة طبيعة،بحسب حركة الكواكب وقانون الطبيعة وفعل التجلي لا يراد منه الظهور بعينه بل الظهور الساطع والقوي والمؤثر بل ربما يأتي بمعنى ما تنكشف به الحقيقة وفي الغالب يأتي بعد الغموض او الظلام كما في الاية السابقة .

ثانياً : التجلّي الأمري : ويراد به التجلي بأمر الهي على خلاف القوانين الطبيعية يأتي بها خالق الطبيعة وقوانينها  لغاية معينة يريدها الخالق كما في قوله تعالى :  ( فلما تجلّى ربّه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقا…) الأعراف : 138 وقد ذكر الشيخ الطوسي في تفسيره ( التبيان )  أن التجلي في هذه الآية بمعنى ظهور الآيات عن طريق الأمر الإلهي.

وقد ورد التجلي الإلهي في قول الإمام الصادق عليه السلام يقول فيه: (  إن الله تبارك وتعالى يتجلى لزوار  قبر الحسين ع قبل أهل عرفات ويقضي حوائجهم ويغفر ذنوبهم موجودة) ورد هذا النص   في كامل الزيارات صفحة 309 ومعنى ذلك إن الله ينظر إلى هؤلاء وتبين آياته ورحمته لهؤلاء قبل أن تظهر لأهل عرفات.

وهذه التجليات المتفردة في الكون تأتي لمقامات معينة تحتاجها البشرية والله غني عنها لكنه تعالى يظهرها لامر مهم وخطير يتعدى فيه هذا التجلي إلى مخالفة الأسباب الطبيعية أو ضرب القانون الطبيعي، والانتقال إلى قانون الطوارئ الربانية ، وهذا القانون لا يكون فاعلاً إلا في الحالات التي يتهدد فيها الوجود الأمثل ، وهو الظهور المباشر الأمري لبعض الآيات الربانية إذا استدعت ضرورة الحدث الأرضي ذلك فإن الله تعالى يتدخل عن طريق تحريك السماوات والأرض باتجاه معين لبيان أهمية هذا الفعل أو خطورته على واقع الإنسان ومستقبله  الفكري لذلك لما كان سؤال قوم  موسى عن رؤية الله تجلت الآيات على الجبل وكانت هذه الحادثة المثيرة  التي أدت إلى صعق موسى عليه السلام لأنه سؤال فيه دخول على ساحة القدس الإلهي ،  ومن هنا بين هذا النص المعصومي (الزيارة)  بعض التجليات نكتفي بثلاثة منها وهي :

التجلّي الأول :  بكاء  المخلوقات  

لم يتخيل الإنسان أن السماء يمكن أن يصدر عنها البكاء لانه ليس من شأن السماء والأرض -بحسب المفهوم الأرضي – أن تبكي، وليس ثمة مصاحبة دلالية بين فعل البكاء والسماء او الأرض بحسب السياقات الدلالية الحديثة.  وإذا وجد ما يدل على ذلك ، فالكيفية مجهولة ، وعندما نقرا في هذه الزيارة التي تجلت فيها هذا المشاهد الكونية نجد عبارة (  وبكى له جميع الخلائق وبكت له السماوات السبع ،والأرضون السبع ، وما فيهن ، وما بينهن ، ومن يتقلب في الجنة ،والنار من خلق ربنا، وما يرى، ومالا يرى…) وهو مشهد مخيف حين تتخيل بكاء كل ما في الكون حتى الأشياء غير المرئية عند حدث واحد في وقت واحد  إلا لعظمته ، وفاعليته الكونية ، ولو أننا رسمنا في اذهاننا صورة خيالية لهذا المشهد حتما ستكون صورة صادمة للذهن والنفس والروح ، وإلا  فكيف نتصور انجازية هذا الفعل في فترة شهادة الإمام عليه السلام ؟ وهي فترة معينة ومحددة أي ان البكاء لهذه المخلوقات كان متزامنا  مع بعضه ما يزيد هول الصورة في المخيال البشري . وتزداد التساؤلات عندما ندخل في عالم الطبيعة الصماء ، وهل يمكن أن تنفعل لأحداث معينة ام ان الله تعالى يسبب هذا الفعل لبيان اثر الحدث وعظمته وهل حصل بالتاريخ البشري ما يدل على الوقوع ؟ وهل  ان ما يخبر عنه هو من باب المجاز فحسب ؟ وكيف يبكي من هو في النار ؟ وغير ذلك مما يستوقف الباحث …

أولاً : كتب التفسير

عندما  تابعنا النص القراني نجد ان مضمون الحدث موجود في قوله تعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) الدخان : 29 ، وقد ورد هذا المقطع في سياق الحديث عن عذاب فرعون وقومه . ومن ثم فان نفي الاية  بكاء السموات والأرض على الظالمين يعني إمكانية صيرورة هذا الحدث واقعا للمؤمنين فضلاً عن المعصومين فضلاً عن شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) . وعند مفسري العامة نجد المضمون نفسه يتكرر عند تفسيرهم للآية السابقة ، فالطبري في تفسيره لهذه الآية ينصّ على أن السماء بكت دمًا على الإمام (عليه السلام)، وكذا جاء ذلك في تفسير القرطبي ، وتفسير النيسابوري ، وتفسير البغوي وتفسير الثعالبي ،وتفسير ابن عبد السلام ، وتفسير السيوطي،

ثانيا : الحديث والروايات

ان اهم ما  يدل على وقوع الحدث هو  قول الإمام الصادق عليه السلام : ( بكت السماء على يحيى بن زكريا ، وعلى الحسين بن علي (عليهما السلام) أربعين صباحاً ، ولم تبك إلاعليهماقلت:وما بكاؤها؟ قال: ” كانت تطلع حمراء، وتغيب حمراء). والأحاديث التي تخبر عن هذه الآية السماوية مستفيضة ، منها على سبيل المثال :  ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن عمّار بن أبي عمّار قال : « أمطرت السماء يوم قتل الحسين عليه السلام دماً عبيطاً »

وفي كتب الحديث للعامة نجد الكثير مما ورد اذ  جاء في المصنف لابن أبي شيبة والمعجم الكبير للطبراني. ذكر صاحب الطرائف أن مسلماً في صحيحه بداية الجزء الخامس في فضائل الإمام الحسين (عليه السلام)، ذكر من فضائله في شرح (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)، أن السماء بكت دمًا بعد مقتل الحسين بن علي (رضي الله عنه)، وقد ايدت الروايات ، يقول ابن سيرين: أخبرونا أن حمرة الشفق ما كانت قبل قتل الحسين (رضي الله عنه)، ولعله يريد ازدياد حمرة الشفق، إذ إنّ الحمرة المغربيّة موجودة منذ أول الدهر، فيقول إنّ الحمرة ازدادت بعد شهادة الحسين (عليه السلام) أو قل حصلت الزيادة في فترة إشارةً إلى هول المصيبة.

ثالثاً : كتب التاريخ

لا تقل كتب التاريخ أهمية في سرد الأحداث عن كتب الحديث فالحدث تاريخي وديني اذ ذكرت  ابن سعد ، في الطبقات عن سليم القاص قال : « مُطرنا دماً يوم قتل الحسين » . و» روى ابن عساكر بسند عن خلف بن خليفة ، » عن أبيه  قال : « لمّا قُتل الحسين اسودّت السماء ، وظهرت الكواكب نهاراً حتّى رأيت الجوزاء عند العصر ، وسقط التراب الأحمر ! »

وروى ابن أعثم الكوفي في وصف ساعة مقتل الإمام الحسين عليه السلام وسلبه يقول : « وارتفعت في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة ، فيها ريح أحمر ، لايُرى فيها أثر عين ولاقدم ، حتى ظنّ القوم أنه قد نزل بهم العذاب ، فبقوا كذلك ساعة ، ثمّ انجلت عنهم . » .

وكذلك روى ابن سعد في طبقاته ، عن عليّ بن مدرك ، عن جدّه الأسود بن قيس قال : « إحمرّت آفاق السماء بعد قتل الحسين ستّة أشهر ، يُرى ذلك في آفاق السماء كأنّها الدّم ! قال : فحدّثت بذلك شريكاً ، فقال لي : ما أنت من الأسود ؟ قلت : هو جدّي أبو أمّي . قال : أما واللّه إنّ كان لصدوق الحديث عظيم الأمانة مكرماً للضيف .

ومن ثم يتبين أن ماهية البكاء ليس كما هو متعارف من بكاء البشر فان المظهر مختلف ولا يعني أن قول المعصوم بكاء السموات والأرض أن يتصور وجوب نزول الدموع من العيون بالكيفية البشرية المعروفة فليس لهذه الموجودات أعضاء البكاء ولا آلياته ، بل ان لكل موجود بكاؤه الخاص كما ان لك موجود تسبيحه، ولكن لا تفقهون تسبيحهم . كذلك يمكن القول ان لكل موجود بكاؤه وحزنه في الأسباب التي تهز العرش. ولكن لا ندرك حزنهم ، ومن ثم فان الأدلة تؤكد نزول مطر السماء دما بوقت قريب عن الشهادة الحسينية ، ومن ذلك أن الحوراء (عليها السلام ) احتجت به على أهل الكوفة وذلك بعد شهادة المولى وبداية رحلة السبي، اذ قالت. عليها السلام  :  « أفعجبتم أن تمطر السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون .) وهي لا تسأل عن اصل الحدث- لانه كما يبدو امر مسلماً وواقعاً-  بل هي تسأل عن سبب العجب الذي تراه عليها السلام امراً يتناسب مع الحدث وذلك بحسب فهمها بقوانين السماء وحركة الفضاء وانفعاله .ولكنهم لايدركون فاعلية الكون مع الأحداث الجسام .

وعي الطبيعة

ثمة تساولات تثار عن وعي الطبيعة فهل يمكن أن تعد الطبيعة السماء واعية ام يمكن ان يكون لها وعي في أوقات معينة ام أنها لا وعي لها اساساً ؟ وهل الطبيعة خيرة وحميدة ام لا ؟  يمكن ايجاز الآراء بخصوص ذلك في النقاط الاتية :

  • الطبيعة مجرد توازن ولا تملك وعيا او إدراكا وليست هي حميدة عن قصد كما يعتقد فريق آخر اذ يعبرون عنها إنها قوة حميدة للخير وتتضرر من أفعال البشر وإذا حصل ضغط على هذه التوازنات فان نقطة التوازن تتحرك لإزالة مثل هذا الإجهاد
  • يظن بعضهم الآخر أن الطبيعة بحد ذاتها أشبه بالإله. أي أنها قوة حميدة للخير تحكم العالم، ولكن يمكن أن تتضرر من أفعال البشر، على سبيل المثال من خلال استغلال الموارد الطبيعية وتلويث الكوكب. قد يرى البعض أن هذه القوة لها “وعي أو إدراك.
  • يمكن القول إن للطبيعة بعض المهام بحسب الخلق الرباني فهي وان وجدت لحفظ التوازن كما صرحت بذلك النصوص الدينية ولكنها أيضا صرحت بتضمنها شعورا بالوجود ولكن بحدود معينة وبحسب الأوامر الإلهية أي هو ليس شعورا اليا يتحرك كلما حصل شي .

التجلّي الثاني: حلول  المادي في المجرّد  

وهو ما ذكر في احد  مقاطع  قول الإمام في الزيارة ذاتها قوله : ( اشهد ان دمك سكن في الخلد …) وما بعده من المقاطع التي تحير العقول في إمكانية الجمع بين المادي والمجرد بل تثير عشرات الأسئلة وترسل عشرات الرسائل وتستنهض دفائن العقول لمعرفة ما هو في دائرة المعقول المادي وغير المادي والتساؤلات هي :

كيف للمادي ان يسكن في المجرد إلا ان يتجرد المادي او يتحول المجرد إلى مادي وكلا الأمرين يحتاج إلى دليل يدل عليه فكيف للدم المادي ان يسكن الخلد وهو عالم المعنى ؟وهل ان الخلد في عالم المعنى فعلاً ؟  وهل ثمة فرق بين الخلد والخلود ؟ وإذ كان دم الحسين ع يسكن الخلد فأين يسكن روحه وجسمه ؟ فضلا عن الأسئلة الأخرى المتعلقة بالمقاطع التالية في الزيارة المذكورة ، ولا بد في البداية ان نقف عند دلالات بعض الألفاظ ومنها :

اولاً :  الخلد ، مصدر للفعل  (خَلَدَ)  يعني البقاء والاستمرار وهل ثمة فرق بين مصدر الفعل خلد وهو الخلد واسم المصدر الخلود ؟ يبدو ان الخلد والخلود من اصل واحد الذي يدل على البقاء والاستمرار وان اختلف الاشتقاق لأغراض دلالية لا تخرج عن المضمون نفسه ،  وقد ذكرت الايات هذه المادة بأكثر من مورد منها ( قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ) طه : 125 وهذا المعنى فيه دلالة على البقاء والاستمرار ليس غير اذ يمكن أن يضاف اليه لفظ لفظ الدار ( دار الخلد ) كما في قوله تعالى ( ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا يجحدون )فصلت 28 وعذاب الخلد  وقال تعالى (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) السجدة 14 ، وجنة الخلد ( قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون ) الفرقات 15 ولعل دلالة الخلد في قوله تعالى ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ) والبقاء والاستمرار مقابل الفناء والاندثار لذلك ينفي القران الخلود لأي كائن مهما امتلك قوله تعالى( وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) الهمزة 3 : (أ يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)  .  ولا يختص هذا اللفظ بالجنة بعد أن وجدنا أن لفظ العذاب أضيف اليه أيضاً مع وجود جنة الخلد في نص آخر وسياق ذكر أهل الجنة . وقد ورد لفظ المساكن مضافاً إلى الخلد في دعاء الإمام السجاد ع لأهل الثغور  ( الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين ( ع )، ص ٦٠. (واجْعَلِ الْجَنَّةَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ ، ولَوِّحْ مِنْهَا لأَبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ ومَنَازِلِ الْكَرَامَةِ والْحُورِ الْحِسَانِ والأَنْهَارِ)

 ثانياً الدم : وهذا اللفظ بمعناه الحقيقي البايلوجي واضح ومعروف عند الناس بشكله ولونه وعند الاختصاص بصفاته الفيزيائية والكيميائية. ولكن يمكن أن يستعمل هذا اللفظ في العربية بمعنى رمزي وهو إرادة الثار إذا كانت معه المطالبة او الموت بشكله العام او الخلاف والخصومة التي تصل إلى إرادة القتل والقتال  وهو استعمال معروف في التراث العربي وقد ذكر الشاعر العربي دريد بن الصمة  :

وإن امرأً قد ماتَ لم يثأرْ لهُ.        لذو حسبٍ في قومهِ ضائعُ الدمِ

ومن ثم فان هذا المركب الذي أضيف فيه الدم إلى الخلد في قول المعصوم عليه السلام (   أشهد أن دمك سكن في الخلد…) يمكن أن يتوجه توجيهات عدة منها :

التوجيه الأول : أخذ الثار الحسيني

بعد جملة من عبارات وأدبيات الفكر الإسلامي بضرورة أخذ الثار بل ان قول المعصوم ثار الله وابن ثاره يعد قرينة على ذلك وقتيل الله وابن قتيله كذلك ،  وهكذا ثمة إشارات على أخذ الثار الدالة على الاستعمال الكنائي للفظ الدم ليكون النص اشهد ان أخذ ثارك ساكن في الخلد وثابت فيه ، فقد جاء في الأخبار أنّ الحسين (ع) كان قد طلب من الله تعالى أن يتولّى طلب ثأره، كما روى ابن عساكر بإسناده عن مسلم بن رباح مولى عليّ بن أبي طالب (ع) قال:« كنتُ مع الحسين بن عليّ “عليهما السلام” يومَ قُتِلَ، فَرُمِيَ في وجهِهِ بنشابَةٍ، فقال لي: يا مسلم! أَدْنِ يديكَ من الدَّمِ. فأدنيتهما، فلمّا امتلأتا قال: اسكبهُ في يديَّ، فسكبته في يده، فَنَفَحَ بهما إلى السماء، وقال: { أللّهُمَّ اطْلُبْ بِدَمِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّكَ }. قال مسلم: فما وقع منه إلى الأرض قطرة »[تاريخ ابن عساكر ج14 ص223 ، وكذا كفاية الطالب للكنجيّ الشافعيّ ص284 ،  كما ويشهد له أيضاً نصوص كثير من الزيارات ؛ إذْ جاء فيها الأمر بالسلام على سيّد الشهداء “ع” بهذا الوصف:« السلام عليك يا ثار الله ».

التوجيه الثاني : المقام الملكوتي

بالنظر في بعض النصوص وفهمها فهما موضوعياً يتبين أن هذا المقطع يكشف عن مقام رباني لدم الحسين   ( عليه السلام ) فضلاً  عن مقام الحسين ( عليه السلام ) الذي هو اعلى حتماً . وقد ورد المعنى ذاته واللفظ القريب منه في الزيارة الجامعة اذ يتكلم فيها المعصوم عن مقاماتهم (عليهم السلام)  في قوله : ( وَبِمَقَامِكُمْ مُوقِنِينَ، وَبِفَضْلِكُمْ مُعْتَرِفِينَ، وَبِشَأْنِكُمْ مُتَيَقِّنِينَ. وَإِلَى دَمِكُم فِي الْخُلْدِ نَاظِرِينَ، وَفِي مَقَامِكُم مُتَقَلِّبِينَ، وَفِي دَرَجَاتِكُم رَاغِبِينَ…) وقد تكرر لفظ المقام مرتين في السياق الذي وردت فيه عبارة (دمكم في الخلد)  ما يدل على ان هذا هو احد المقامات الكثيرة المستحقة لشخص الحسين ( عليه السلام) لما بذل وضحى . ومن ثم فإن دمه ينتقل من عالم الدنيا ودار الفناء في دار البقاء وجنة الخلد ، يكشف عن انقلاب الدم الذي هو من عالم الملك بمجاورة روحه إلى عالم الملكوت ، وأنه بلغ من الطيب والطهارة إلى مرتبة قال الله سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فاطر :10 ، وبذلك فلا بد أن نصل إلى الاستنتاج الآتي وهو اما أن يتحول الدم من الوجود الحسي المادي إلى الوجود المجرد حتى يتناسب مع المقام الذي يحل فيه ، او يتحول الخلد إلى وجود حسي يتناسب مع مادية الدم وطبيعته الفيزيائية . ولما كان الثاني مستحيلاً  بقى امكان تحصيل الثاني بحسب بعض الفرضيات،  او النظريات التي برهنت في محله على إمكانية تحول بعض الماديات إلى مجردات من قبيل نظرية الحركة الجوهرية التي جاء بها صدر الدين الشيرازي .

يوجد ارتباط بين الروح والجسد ليس في الخلقة فقط بل في الحركة أيضًا، ففي مدرسة الحكمة المتعالية أقام الفلاسفة براهين على وجود حركة جوهرية يمر بها الإنسان، فكل إنسان يخلقه الله على صورة بشرية لكن حركة روحه التي تدعوه إلى التكامل تشده إلى الله، فكلما اقترب من الله تحرر جسده من السفل فتتسامى صورته النوعية ، وقد يتسافل مع جسده فتنشد روحه إلى السفل فتتسافل صورته النوعية ، وقد ورد في الرواية أن الإنسان (إذا أطاع الله فاق بفضله الملائكة)، وقد يطيع الإنسان الشيطان فيتسافل إلى حالة البهيمة ، يقول الله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) الفرقان : 44 ، وقد ورد في الروايات أن الإنسان يُحشر -بعد حركته الجوهرية، إما حركة علوّ أو تسافل- بما يناسب عمله، فالنمام  يُحشر في صورة القرد، والمنافق يُحشر وله وجهان، في حين أنّ من يطيع الله سبحانه يُحشر في مرتبة تفوق مرتبة الملائكة.

متى ما ارتقى الإنسان بروحه ارتقى معه جسده، وكلما اقترب من عالم الملكوت صار جسده يشابه أجساد الملائكة. والحسين (عليه السلام) إمام معصوم لم يعصِ الله طرفة عين أبدًا، فلا ريب أن روحه تسامت وجسده تسامى أيضًا، وهذا ما تشير إليه الزيارة ، حيث أن جسده ودمه عليه السلام ارتفع إلى الخلد وأما روحه فصارت فوق الخلد.‪

التوجيه الثالث : الخلود الأرضي  

في النص القراني نجد توصيفا خاصاً لبعض الأجساد وهو وصف الوجود المبارك لنبي الله عيسى (عليه السلام)  بقوله تعالى : ( وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) مريم : 31 فإذا كانت البركة تدور مدار الوجود المادي لنبي الله عيسى عليه السلام فمن الأولى أن تكون البركة لنبينا صلى الله عليه واله وسلم لما له من المنزلة عند الله وهذه الخصوصية نفسها ستكون حتما لأهل بيته الكرام عليهم السلام وقد أكدت الروايات خصائص عدة تفرد بها جسد النبي الأكرم ص وأهل بيته الكرام  منها  قول ﷺ:( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) ومن ثم فان الامتيازات الخاصة لهم في حياتهم وبعد مماتهم ومنها أن السباع لا تأكل اجسامهم ومن ثم فان دم الحسين عليه السلام وروحه وجسده بعد هذه الواقعه سيكون لها الكرامات والخلود في عالم الملك ، وعنه (صلى الله عليه وآله) مخاطبًا أمير المؤمنين عليًّا (عليه السلام): (قبرك وقبور وُلدك رياض من رياض الجنة وعرصات من عرصات الجنة) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)

ذهب  بعض علمائنا  أن قبورهم عليهم  قطعة حقيقية من الجنة، لكنّا لا نرى الحقيقة الغيبية والملكوتية لهذه البقاع، فأنت إذا زرتَ قبر الحسين (عليه السلام) وجدتَه بقعةً من هذه الأرض ، لكن لو كُشف لك الغطاء لرأيتَ الملائكة تنزل إليه في كل حين وآن ، فهي أرضٌ وافدة من عالم الملكوت والآخرة ، وعلى ذلك، فدم الحسين (عليه السلام) سكن كربلاء ، كربلاء التي هي من جنة الخلد، فيكون دمه (عليه السلام) قد سكن الخلد.‪

التجلّي الثالث : تاثر العوالم العلوية

ونعني بهذا النوع من التجلي أن دم الحسين عليه السلام وروحه وجسده تتسامى في العوالم العلوية وتتأثر تلك العوالم على ان هذه العوالم هي :

العالم الأول:  عالم العرش،  هو عالم الحقيقة المحمدية، هو مجموعة من الأنوار المعصومية التي خلقها الله «تبارك وتعالى» قبل أن يخلق الكون، ”خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين“.

العالم الثاني : عالم الجبروت، عالم العقول الكلية، وهذا العالم انعكاس للعرش، انعكاس لما في العرش، هذا العالم تعبّر عنه الرواية بأظلة العرش.

العالم الثالث: عالم المثال، كل مخلوق في هذا الكون له مثال قبل أن يخلق، كل هذا الكون له خارطة، كل نوع من أنواع الموجودات له مثال، الإنسان له مثال، الحيوان له مثال، الجماد له مثال، الملك له مثال، عالم الأمثلة تعبّر عنه الرواية الشريفة بأظلة الخلائق، لكل نوع من المخلوقات ظل ومثال يجمعها عالم يسمى أظلة الخلائق، ثم يأتي

العالم الرابع: عالم المادة، عالم الطبيعة الذي نعيش فيه.

واتفق الملا صدّرا وشيخ الأشراق ان كل ما موجود في الإنسان من مراتب هي نموذج للعالم الخارجي فالإنسان العقل والقلب والنفس والخيال والحس فالعقل انموذج عالم الجبروت الخيال عالم المثال المنفصل وما خلق الله شيئا في عالم المعنى والملكوت إلا وله صورة في هذا العالم أي له وجود في عالمنا وله حقيقة في عالم الحق .

الأظلّة جمع ظلال وهو ما أظلّك من سقف أو غيره ، والمراد هنا ما فوق العرش ، أو أطباقه وبطونه؛ فإنّ كلّ طبقة وبطن منه ظلّ لطائفة ، أو أجزاء العرش؛ فإنّ كلّ جزءٍ منه ظلٌّ لِمَن يسكن تحته ،وقد يطلق الظلال على الأشخاص والأجسام اللطيفة وعالم الأرواح ، فيمكن أن يكون المراد بها الأرواح المقدسة والملائكة الساكنين في العرش) ( بحار الانوار ، العلامة المجلسي : 98/ 154) ،  و أظلة العرش هي كناية عن أجسام العالم كلها فإنّها أظلّةٌ للأرواح، والعرش عبارة عن مجموع الخلائق . ( ينظر الوافي ، الفيض الكاشاني : 14/ 1489)

جميع العوالم تفاعلت مع دم الحسين، ”أشهد لقد اقشعرت لدمائكم أظلة العرش“، واقشعرار أظلة العرش انعكاسٌ لاقشعرار العرش نفسه، ”مع أظلة الخلائق“ أي: مع عالم المثال، ومع عالم المادة أيضًا: ”وبكتكم السماء والأرض، وسكان الجنان والبر والبحر“، كما ذكر في الصواعق المحرقة: فما رُفِع حجرٌ ولا مدرٌ إلا ووُجِدَ تحته دمٌ عبيطٌ ومن هنا نجد الانسجام الموضوعي في نص المعصوم في الزيارة محل البحث اذ تبدّا حركة الكون وتجلياته الربانية استجابة للحدث العظيم تبدّا من العوالم العلوية اذ إنّ اهتزازها يعني انتقال هذا الاهتزاز لما هو دونها من العوالم وهكذا لعالم المادة . ومن هنا فان العوالم متطابقة ولكن بينها تفاوت في الشرفية فالادنى ظل الأعلى والأعلى حقيقة الأدنى إلى ان نصل إلى حقيقة الحقائق أي ان كل ما موجود في عالم الدنيا هو أمثلة او قوالب لما في عالم الآخرة وما في عالم الآخرة مثل واشباح للحقائق العقلية

فقد رُوي عنه أنه قال: (وخِيرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لاَقِيه) إلى أن يقول: (لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ لِحْمَتُهُ وَإِنَّهَا لَمَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَضِيرَةِ الْقُدُس، تَقَرُّ بِهَا عَيْنُهُ وَيُنْجزُ بِهَا وَعْدُه)، فهنالك وعد إلهي نبوي باجتماع الأرواح والأجساد على صعيد الجنة

 

وردنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M