أضحى البعد التكنولوجي الرقمي محوراً إستراتيجياً في نفوذ المنظومة الثقافية لدول الشمال العالمي وترسيخ علاقات القوة الثقافية المعاصرة، فمنصات التواصل الاجتماعي مثل (فيسبوك، تويتر، إنستغرام، يوتيوب) تمثل اليوم فضاءات افتراضية تُوظَّف كقنوات ناعمة لنقل النماذج والأنماط الثقافية الغربية بأساليب مبتكرة، مستهدفة فئة الشباب على نحو كبير. فهذه المنصات التي تهيمن عليها شركات تكنولوجية غربية عملاقة تعمل كحوامل أيديولوجية تنقل القيم الاستهلاكية والأنماط السلوكية المرتبطة بالمركزية الثقافية الغربية. وتتجلى هذه الهيمنة بشكل ملموس في هيكل ملكية وتحكم تلك المنصات، إذ يمكن رصد مظاهر هذه الهيمنة الثقافية عبر ما تكشفه البيانات والإحصاءات من تفاوت بين مجتمعات الشمال والجنوب.
تعكس الأرقام والبيانات واقعاً بنيوياً يتجاوز مجرد التفاوت الكمي والنوعي، ليغدو مؤشراً على احتكار وهيمنة إستراتيجية تتيح لدول الشمال القدرة على توجيه دفة التطور التكنولوجي الرقمي العالمي وفق رؤاها ومصالحها. ويترجم ذلك بالضرورة إلى هيمنة ثقافية وقيمية، إذ تتشكّل منظومات القيم والرموز والمعاني وفق المرجعيات الغربية المهيمنة، من خلال مجموعة من مستويات الهيمنة الثقافية في الفضاء الرقمي.
وفي ضوء هذه المعطيات، تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على الأبعاد الخفية وغير المرئية، والجانب السلبي للتكنولوجيا الرقمية الذي غالباً ما يُتجاهل، مع التركيز بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي بوصفها أداة للهيمنة الثقافية في العصر الرقمي. كما تسعى الدراسة، من خلال تحليل نقدي، إلى تفكيك وفهم الآليات التي تستخدمها الشركات متعددة الجنسيات في توظيف هذه المنصات لنشر القيم الاستهلاكية والأنماط السلوكية الغربية، وتأثير ذلك في تشكيل الوعي الجمعي، خاصة لدى فئة الشباب في مجتمعات دول الجنوب.
وتستكشف الدراسة كذلك العلاقة المعقدة بين التطور التكنولوجي والهيمنة الثقافية، وكيف تُسهم هذه العلاقة في إعادة إنتاج علاقات القوة غير المتكافئة بين الشمال والجنوب في الفضاء الرقمي.