مساراتُ نحو الشمولِ الماليّ في العراقِ

في السنوات الأخيرة برز الشمول الماليّ بوصفه ركيزةً أساسيّةً في التوجّه العالميّ نحو التنمية الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة. وفي الدول التي تتّجه نحو التعافي بعد فترات طويلة من الصراعات، والتحوّل الاقتصاديّ، والإصلاحات التنظيميّة، فإنّ المسارات نحو الشمول الماليّ لن تكون مجرّد هدف عابر، بل تمثّل ضرورة أساسيّة للتعافي من آثار الصراعات والحروب. والعراق بتاريخه الغني وبالقدرات البشريّة والإمكانات المادّيّة، يجسّد التحدّيات والفرص المتأصلة في الوقت نفسه ضمن هذا المسار التحولي؛ لذلك يتعمّق هذا الكتاب في المسارات ذات الأبعاد المختلفة والمعقّدة نحو تحقيق الشمول الماليّ في العراق، ويقدّم  استكشافًا شاملاً للاستراتيجيّات والابتكارات والعقبات التي تحدّد هذا المسعى الحاسم.

واقعيّاً، تترسّخ القناعات بشكل أكبر إلى أن بناء نظام ماليّ شامل هو الطريق الأمثل للوصول إلى الفقراء ومحدودي الدخل، إلى جانب ضمان إشراك الفئات الاجتماعيّة المختلفة في النشاط الاقتصاديّ، والشمول الماليّ يمنح قدرة فريدة في تنويع مناطق النمو في البلاد على أسس جغرافيّة، وفقا إلى الاعتبارات التنمويّة للاقتصادات المحلّيّة، ولتحقيق ذلك كان لابدّ من إيجاد قنوات متعددة توصل الخدمات الماليّة المتنوعة إلى الفئات المستبعدة اقتصاديّا واجتماعيّا، وتحويل الأنشطة الاقتصاديّة غير النظاميّة إلى أنشطة اقتصاديّة رسميّة قابلة إلى الإدراج في مساعي تحقيق النمو؛ ممّا يوفّر مظلّة حكوميّة لحماية الأنشطة الاقتصاديّة وديمومتها، وقد سعى العراق منذ سنوات إلى الوصول إلى الشمول الماليّ عبر العديد من المبادرات والخطوات التي قام بها البنك المركزيّ العراقيّ، ووضع عددا من الاستراتيجيّات والطموحات التي لم تكن هدفاً بحدِّ نفسها، بقدر ما توفّر رؤية في الوصول إلى الأهداف والغايات المرجوّة من الشمول الماليّ، تلك الخطوات والاستراتيجيّات ساهمت بشكل كبير في تعزيز الشمول الماليّ وإرساء أسسه، سواء أكان ذلك في جانب الاستخدام أم في جانب الوصول.

في بلد مثل العراق لن يكون من اليسير ضمان وصول الأفراد بغض النظر عن وضعهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ وموقعهم الجغرافيّ في الوصول إلى الخدمات الماليّة الأساسيّة؛ أيّ بمعنى الوصول إلى خدمات حسابات التوفير، والائتمان، والتأمين، وأنظمة الدفع التي تشكل أهمّيّة بالغة للتنمية على مستوى الفرد والتنمية الاقتصاديّة، وهذا ناتج من عوامل عدة، أبرزها أنّ النظام الماليّ في العراق ما زال مشوها بسبب عدم الاستقرار والصراعات، والاضطرابات الاقتصاديّة، إلى جانب تعقديدات المشهد السياسيّ، ولذلك ترتفع مخاطر وتعقيدات تحقيق الشمول الماليّ بشكل خاصّ. ولكن، على الرغم من هذه التحدّيات، فإنّ هناك تفاؤلا متزايدا بالدور الذي يمكن أن يؤدّيه النظام الماليّ القوي والشامل في تعزيز النمو الاقتصاديّ، وتعزيز الاستقرار الاجتماعيّ، وتحسين نوعية الحياة لملايين العراقيّين. لقد تمّ تصميم هذا الكتاب لتوفير رؤية واسعة وشاملة ودقيقة للمسارات المختلفة للشمول الماليّ في العراق. ويهدف إلى كشف تعقيدات المشهد الماليّ من خلال استكشاف العديد من الأبعاد الرئيسة.

إنّ هذا الكتاب يهدف إلى أن يكون بمثابة مرجع شامل لصناع السياسات والمهنيين الماليّين والأكاديميين وأي شخص مهتم بفهم هذا المجال الحيوي والمساهمة فيه. من خلال تسليط الضوء على مسارات الشمول الماليّ والتقدّم المتحقق والتحدّيات التي تنتظرنا، ويقدم هذا الكتاب خارطة طريق لتحقيق نظام ماليّ أكثر شمولاً وعدالة في العراق.

إنّ الرحلة نحو الشمول الماليّ لا تتعلّق فقط بتوسيع نطاق الوصول إلى الخدمات الماليّة، بل تتعلّق أيضا بخلق فرص التمكين الاقتصاديّ والتماسك الاجتماعيّ. وبينما ننطلق في هذا الاستكشاف، نتذكر التأثير العميق الذي يمكن أن يحدثه الشمول الماليّ على الأفراد والمجتمعات والدول. وفي العراق، تحمل هذه الرحلة وعوداً بالتحول والتجديد؛ ممّا يمهد الطريق لمستقبل أفضل عبر توفير بيئة اقتصاديّة تتيح لكل فرد الفرصة للمشاركة والاستفادة من النمو الاقتصاديّ للبلاد.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M