عاشوراء صبر ونصر

 

محاضرة ألقيت بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد السيد حسن نصر الله الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني ، المحاضرة مستقاة من محضرات ألقاها السيد نصر الله في مجلس عاشوراء عام 2016 بحسبة ما نشره موقع شبكة المعارف الإسلامية .

 

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبا القاسم محمد ابن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

 

السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك عليكم مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم. السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.

 

المحور الأول :

دور الصبر في مواجهة التحديات

 

الصبر لغة: تحمل المصاعب والمشقات ، كما تعني حبس النفس عند الجزع، عند التحدي، عند المصيبة، عند الألم، عند المواجهة. والكفّ في الضيق، وقوة التحمّل، والانضباط، وضبط النفس، واستيعاب الضغوط والصعوبات، ومحاولة التغلب عليها نفسياً. هذا الصبر.

 

الحياة الدنيا دار عمل وإمتحان للإنسان

قال الله تعالى ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ فقد خلقنا الله تعالى وأسكننا هذه الأرض وقدّر لنا حياتين، الحياة الدنيا والحياة الآخرة ليبلونا ويبتلينا ليتميز من هو أحسن عملاً .

إن عمل الإنسان يحدد مصيره في الحياة الدنيا والآخرة بعد أن دلّنا على طريق الباطل ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد: 10). أي أنه أضاء لنا الطريق، كلّ الطرق. هذه هي الهداية العامّة. وبعث لنا الأنبياء والرسل وأنزل علينا الكتب السماوية ووضع لنا الشرائع الإلهيّة التي تنظّم كل تفاصيل حياتنا. ودلّنا على العدوّ، عدوّنا الحقيقي والأساسي، إبليس وجنده والنفس الأمّارة بالسوء .

 

موارد الإبتلاء والإمتحان

إنّ الله تعالى يمتحننا ويختبرنا ويبتلينا في مجالات متعددة أهمها ما يلي من عناوين:

1- العنوان الأول: الطاعات، ما أمرنا الله به من طاعات وما نسميه من واجبات أيضاً: الصلاة، الصوم، الحج، الزكاة، الخمس، الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى آخره. هل نؤدي هذه الواجبات؟ هل نلتزم بهذه الطاعات أم لا؟

2- العنوان الثاني: المعاصي والذنوب، مثلاً: الكذب، الغيبة، النميمة، قتل النفس المحترمة، عقوق الوالدين، العدوان، الظلم إلى آخره. هل نجتنب هذه المعاصي والذنوب أم نرتكبها؟

3- العنوان الثالث: المصائب، ما يجري في هذه الأرض وعلى الناس فيها منذ أن هبط آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض إلى قيام الساعة. هذه الدنيا مليئة بالمصائب. والإنسان يُصاب في نفسه، في صحته، في عافيته، في أحواله، في أمواله، في وُلده، في أعزاءه، في أهله.

4- العنوان الرابع: النِعَم. ما أنعم الله تعالى به علينا في هذه الدنيا ـ ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ ـ النعم العامّة والنعم الخاصّة. أنشكر أم نكفر؟

 

وبحسب ما ورد في دعاء كميل فإن الذنوب والمعاصي تؤثر على النِعَم والنِقَم ( أو المصائب ) ، لذا فالصبر على المعاصي وعدم ارتكابها سيساعد في الصبر على المصائب باعتبار أن هذه المصائب ستقل إن لم يرتكب الإنسان ما ينزلها ، أما على مستوى النِعَم فإن الصبر على المعاصي سيعمل على عدم تغيير النِعَم وبالتالي فسيضاف صبرٌ آخر الى الصبر على المعاصي وهو الصبر على شكر النِعَم .

 

هذه المقدمة كلها كي نصل للصبر.

 

إن عمل الإنسان يكتنفه دوما عقبات وصعوبات ، فهذه الدنيا ليست الجنّة التي باستطاعتكم أن تأكلوا منها حيث شئتما رغداً. فكل ما يريده الإنسان لا بد أن يسعى إليه ويجتهد في طلبه .

 

إن إجتياز العقبات وتذليل الصعوبات يحتاج إلى الصبر كأهم الأدوات التي يستعان بها. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 153). وقال تعالى في آية أخرى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة: 45-46).

 

تحمل “الشقاء” لا يدخل في مرادنا من “الصبر” الذي تتحدّث عنه الآيات والروايات وقُدِّم كعونٍ أساسيّ في طريق الحياة، إلى الحياة وإلى الآخرة، ليس بمعنى تحمّل الشقاء والخنوع والذل والظلم، وإلا فالإمام الحسين عليه السلام خرج وصبر وتحمّل المصائب من أجل أن لا يكون في مذلة ، وقد قاله مقولته الشهيرة ( هيهات منا الذلة ).

 

الصبر أساس النجاح في كل الأعمال

إذاً، نبدأ من الأساس، لدينا حديث شريف يقول أن: “الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد”. كذلك: “إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان”. فبدون الصبر لا يمكن القيام بالطاعات وبما ينبغي ولن يصمد أمام الشهوات والمعاصي وسينهار أمام المصائب فيخسر إيمانه ، وحديث آخر: “الصبر في الأمور بمنزلة الرأس من الجسد”؛ الأمور العامة. ونحن هنا لا نتحدّث فقط عن الإيمان. فإذا فارق الرأس الجسد فَسُدَ الجسد. وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور. فبدون الصبر لا تُحلّ الأمور ، وهي أعمّ من الإيمان،؛ في أمورنا العامّة: سياسيّة، عسكريّة، أمنيّة، اجتماعيّة، معيشيّة، اقتصاديّة، حياتيّة… إلى آخره؛ مطلق الأمور. وأساس النجاح فيها هو الصبر.

 

الصبر يمنح الإنسان القوة في مواجهة التحديات وبالتالي يجعله قوياً ، إذ لا فائدة من إمكانيات ضخمة وسياسيين كفوئين وقيادات ذكية من دون صبر ، ولا طاقة تحمّل؛ لا يتحملون التضحيات، وغير جاهزين للبذل والألم ، في هذه الحالة سيخسرون المعركة . بينما إذا قلّت الإمكانيات وقلّ الأتباع وعدم القدرة على قيادتهم وإدارة شؤونهم ولكن توفر الصبر فمن الممكن أن يكون النصر لهم والنجاح حليفهم. والآيات الكريمة تشير إلى ذلك: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ (الأنفال: 65). وهنا المطلوب (عشرون صابرون) وليس (عشرون مقاتلون )، هذا الصبر هو الميزة التي تجعل هؤلاء العشرين يغلبوا المئتين.

وخير مثال على ذلك أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته ، فرغم قلتهم إلا أن صبرهم صنع المعجزات ، فالعباس تُقطع يده لا يتوقف بل يواصل الطريق. تُقطع يده الأخرى يواصل الطريق. طالما هناك طاقة للعمل، وإمكانية للعمل، وفرصة لإيصال الماء، وفرصة لمواجهة العدو والدفاع عن الحسين؛ العبّاس يواصل صابراً محتسباً.

لذا فإن الصبر يمنح الإنسان الطاقة على مواصلة الطريق أيضا و ليس على تحمّل ما مضى

 

الصبر أعون شيء على الدهر يعني أكثر شيء يعيننا على دهرنا، على تحدياتنا، على مصائبنا، على مسؤولياتنا هو هذا الصبر. والصبر كذلك مفتاح الفرج، الصبر مفتاح الظفر مفتاح النجاح و مفتاح الرضا والطمأنينة وبه تُدرك معالي الأمور.

 

في الآخرة يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

 

الصابر يُأجر إذا كان صبره في الله ولله وليس لغاية غير الله جل وعلا

 

أفضل الصبر ما كان أعظم مشقة ، يمكن أن نقول أن الصبر الأفضل هو الصبر على ما فيه مشقّة أعظم ، والأجر على قدر المشقّة. بقدر ما يتحمّل الإنسان من مشقّة ومن صعوبات.

لذلك نقول أن الصبر على ما جرى في كربلاء صبر الحسين (عليه السلام) وأصحاب الحسين وأولاد الحسين، صبر زينب (عليها السلام)، صبر النساء والأطفال في كربلاء، هو أعظم الصبر وأفضل الصبر وأكبر الصبر، بلا جدل وبلا نقاش، لأنّ هذا صبرٌ على مرّ الفجيعة كما في الرواية أفضل الصبر عند مرّ الفجيعة.

 

من يتصبر يُصبّره الله الذي قال لنا :واستعينوا بالصبر والصلاة”، ووعدنا وقال: “إنّ الله مع الصابرين” ويكون معهم، ولا يتركهم، ولا يكلهم إلى أنفسهم ويقوّيهم وينصرهم ويسدّدهم .

كما أن ذكر الله سبحانه وتعالى يعين الإنسان ويمكّنه من أن يصبح صابراً وأن يقوى صبره. على أن يكون الذكر بوعي وبفهم لا لقلقة لسان . ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ (البقرة: 156). ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 157) ، أو من خلال الدعاء كالدعاء القرآني ( ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) هذا يعني أن ذكر الله عزّ وجلّ صلوات ورحمة وهداية للذاكر عند المصيبة ، وهكذا عند الطاعة، وكذلك في المعصية.

هذه المعاني يجمعها حديثٌ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: “الصبر أربع شعب: الشوق، والشفقة، والزهادة، والترقّب فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا (إنّا لله وإنّا إليه راجعون)، استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات”

 

نضيف إلى هذين العاملين الأساسيين، أيضاً من خلال الروايات، أمرين آخرين

  • عدم التعلق بالدنيا يهوّن من المصائب والشدائد
  • اليقين بعدم رد “المقدّر” يبعث على الصبر

ومقابل الصبر يوجد الجزع. هناك حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا المعنى: أنك في حال جزعت فالمقادير ستأتي إليك. سواء جزعنا أم صبرنا هذا لن يغيّر من الواقع شيئاً. يعني لا فائدة دنيوية من الجزع ولا فائدة أخروية من الجزع. أما الصبر ففائدته الأخروية ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وفائدته الدنيوية أنّنا نستطيع به أن نكمل حياتنا على أحسن أوجه .

 

في ظل التطور التقني الذي جعل فرص الطاعة أكثر وأسهل وفي نفس الوقت فرص المعصية أكثر وأسهل ، والمصائب أصبحت بشكل أكثر ، خصوصاً فقدان الأحبة والأعزة من خلال الحروب التي تباد الآلاف بضغطة زر ، أو من خلال نشر الفايروسات والأوبئة ، وحتى الطبيعة أصبح لها نصيب في زيادة أعداد المصائب مقارنة بالماضي ، وبالتالي فنحتاج الى صبر مضاعف على كل المستويات ( الطاعة والمعصية والمصيبة ) .

 

كربلاء هي الصبر الجميل والصبر العزيز

في كل الأحوال، نحن نحتاج في مواجهة حياتنا للصبر، وأعظم درس من كربلاء من المدينة؛ من اللحظة التي قال فيها الحسين (عليه السلام) لوالي المدينة “ومثلي لا يبايع مثله”، بدأت المواجهة من هذه اللحظة. ومن هنا بدأ الصبر والنصر : الصبر على الموقف والنصر في الثبات على الموقف من دون التأثر بتبعات الموقف وتداعيات الموقف في المدينة. من هذه التداعيات أن يجمع عياله وأنصاره وأصحابه وأمواله مباشرة، ويغادر وطنه وبيته وبقية أهله ويخرج من المدينة. والتحدي أيضاً أنه سار على الطريق العام علناً، وكل الناس رأته عند خروجه من المدينة وكان من الممكن خلال الطريق أن يتعرّض للمخاطر: أمنية وعسكرية. ودخل إلى مكّة علناً، والمكان الذي أقام فيه كان معلناً، والتقى مع كل الناس علناً. ولذلك ضاق صدر يزيد به فأرسل له من يقتله في مكة ولو وجدوه معلقاً بأستار الكعبة.

إذاً تداعيات الغربة، الهجرة، ترك الوطن، تحمّل مشاق الطريق، مخاطر الطريق، كل هذا يحتاج إلى صبر من الرجال ومن النساء ومن الولدان.

من مكة إلى الكوفة، وصولاً إلى كربلاء وما جرى في كربلاء من بطولات، وحماسة، وتحديات، ومواجهات دامية، وأيضاً من أحداث مؤلمة ومحزنة ومأساوية، في كل مشهد كربلاء يوجد صبر. وبعد كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى دمشق، إلى الشام، ومن الشام إلى المدينة، كله مشهد صبر، ثبات، تحمّل، تحدّي.

كربلاء هي الصبر الجميل، كربلاء هي الصبر العزيز، كربلاء هي صبر المنتصرين، صبر الشامخين، صبر الأقوياء، صبر المؤمنين الذين حفظوا لنا هذا الإسلام وحفظوا لنا هذه الأمة.

 

———————-

المحور الثاني :

أشكال انتصار الدم على السيف ؟

 

كربلاء نصر مضمخ بالدماء

عاشوراء صبرٌ ونصر. الصبر الذي يؤدّي إلى النصر. قد يستغرب البعض أننا نتكلم عن كربلاء وعن الحسين، عن معركة استُشهد فيها القائد، واستُشهد فيها المقاتلون، وسُبي فيها النساء، وجرى ما جرى، وثم نتحدّث عن النصر.

لنقارب هذا الموضوع بواقعيّة، وليس بشعارات وخطاب حماسي بل بمنطق وحجّة واستدلال ووقائع.

 

للنصر مستويان

أ ــ تعطيل أهداف العدو

هناك مستويان للنصر قد يتكاملان ويجتمعان. المستوى الأول: تعطيل أهداف العدو، العدو من خلال عدوانه وحربه ومعركته له مجموعة أهداف إمّا أن يتم تعطيل كلّ أهدافه أو بالحدّ الأدنى تعطيل أهدافه الأساسية، هنا يمكنك القول بأنك انتصرت.

وسنأخذ مثالاً من صاحب الذكرى السيد الشهيد حسن نصر الله رضوان الله عليه ، مثلاً حرب تموز 2006، نقول بأن العدو كان له أهدافا من عدوانه على لبنان، منها أهداف عسكرية، سياسية، ميدانية، وله أهدافا على المستوى اللبناني وعلى مستوى المنطقة، الشرق الأوسط الكبير، وما شاكل، وله أهدافا جزئية أيضاً. عندما تتمكّن المقاومة من منع العدو من تحقيق أهدافه فتكون قد انتصرت، ولو نتج عن هذا الانتصار شهداء وخراب ودمار ففي النهاية هذه حرب لا بد وأن يحصل ما يحصل فيها .

 

ب ــ تحقيق الأهداف الخاصة

المستوى الثاني ، وهو مستوى أعلى، ليس فقط منع العدوّ من تحقيق أهدافه بل تحقيق أهدافك أيضاً. مثلاً، خلال عام 1982م ما زلنا نتحدّث إلى الآن عن أهداف العدوان الإسرائيلي واحتلاله للبنان، كانت أهدافه عسكرية، وأمنية، وسياسية، وأهداف تتعلق بلبنان والقضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية وسوريا والمنطقة… إلى آخره. ومن أهدافه أيضاً السيطرة على لبنان. المقاومة، منذ عام 1982م، كانت وظيفتها أن تمنع العدوّ من تحقيق أهدافه ووضعت لنفسها أهداف: استنهاض الناس، استنزاف العدوّ وصولاً إلى تحرير الأرض والأسرى بلا قيد أو شرط وبلا منّة وبلا مكافآت للعدوّ. كل هذا على مسار 1985م إلى 2000م قد تحقّق. عام 25 أيار 2000م، نستطيع أن نقول أن المقاومة منعت العدوّ الإسرائيلي من تحقيق أيٍّ من أهداف اجتياح 1982م وحققت أهدافها في استنزاف العدوّ، وفي استنهاض الأمّة، وفي تقديم النموذج، وفي تحرير الأرض والأسرى، واستعادة السيادة بلا قيد وبلا شرط وبلا مكافآت أيضاً. وهذا نصرٌ أيضاً .

 

كربلاء نصر للحسين (عليه السلام) في حسابات الدنيا والآخرة

 

أولا، في حسابات الدنيا:

أ ــ أهداف يزيد

1 ــ تثبيت سلطانه

نبدأ من حساب الدنيا. ما هي أهداف يزيد؟ يريد تثبيت سلطانه، هو يريد أن يبقى في السلطة أطول زمن ممكن وبشكل متمكّن ومرتاح ومسيطر،.

 

2 ــ الحصول على شرعية سلطانه ببيعة من الحسين (عليه السلام)

هو يريد الحصول على الشرعية من الحسين (عليه السلام) لأنه (عليه السلام) هو بقيّة أهل البيت، بقية أصحاب الكساء، ابن بنت نبيّ الله، لا يوجد على وجه الكرة الأرضية ابن بنت نبيّ غيره، ولذلك يعنيه جداً أن يبايعه الحسين (عليه السلام). إذاً يزيد يريد الشرعية، ويريد تقديم نفسه بصورة معينة للأمّة من خلال هذه الشرعية.

 

3ــ تحويل الخلافة إلى ملك يتوارثه آل ابي سفيان

وأيضاً من أهدافه التي لا نقاش فيها أنه يريد أن يثبّت حكماً أموياً سفيانياً أي أن يبقى من بعده الحكم والسلطة والملك العضوض في آل أبي سفيان، في أحفاد أبي سفيان.

 

4ــ إستئصال دين الإسلام من العقول والنفوس

إن شخصية يزيد وعقله ونواياه كانت تتجاوز هذه الأهداف التي ذكرناها. وإنما كانت تستهدف الإسلام كدين، كانت تستهدف دين محمد ابن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإخراج هذا الدين من ثقافة الأمّة، ومن وجدان الأمّة، ومن التزام الأمّة وإعادة الأمّة جاهلية يحكمها مُلكٌ عضوض من البيت السفياني. حيث عمل يزيد وأدائه، أولاً مع الحسين وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثانياً ما فعله في المدينة بالنسبة لصحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والأنصار وأبناءهم وبناتهم، وما فعله بمدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأيضاً بعد ذلك عندما أعطى القرار لمحاصرة مكّة وضربها بالمنجنيق لتستسلم وكان قد تحصّن فيها عبد الله بن الزبير.

 

ب ــ أهداف الإمام الحسين (عليه السلام)

1 ــ الدفاع عن الإسلام

والأرقى في الأهداف هو الحفاظ على الإسلام، بقاء الإسلام، الدفاع عن الإسلام من خلال إسقاط الذي يتآمر على الإسلام وهو يزيد بن معاوية وسلطان يزيد بن معاوية.

 

 

2 ــ منع يزيد من تحقيق أهدافه

أول هدف وضعه الحسين (عليه السلام) وأخلص له حتى اللحظات الأخيرة وهو عدم البيعة ليزيد بن معاوية. يعني عدم إعطاء الشرعية ليزيد بن معاوية. ومن أهدافه عدم تثبيت سلطان يزيد بن معاوية وإسقاط هذا الطاغية الذي يستهدف الإسلام وكرامة الأمّة وبيته أيضاً.

ومن أهداف الحسين (عليه السلام) في هذا السياق، كشف حقيقة يزيد. في ذاك الزمن لم تكن الوسائل الإعلامية موجودة فكان الكثير من الناس يعتقدون ويصدقون بأن يزيد رجل مؤمن، عالم، عابد، زاهد… وهم قد بايعوه على هذا الأساس.

من جملة الأهداف التي أيضاً قيلت، استنهاض الأمّة. أولئك الناس الذين عايشوا خلال عشرين عاماً حكم معاوية أبي سفيان أصبحوا خانعين وخاضعين، وتمّ تزوير الكثير من الحقائق لهم، وفقدوا العزم والإرادة والحماسة، المطلوب إذن من يستنهضهم.

 

ج ــ يزيد يفشل في تحقيق أهدافه

1 ــ المدينة المنورة تخلع بيعة يزيد بسبب فضيحته بقتله لابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

2ــ مات يزيد بن معاوية. ولغاية الآن لا أحد يعرف كيف توفي، بعضهم يقول بأنه قُتل والبعض الآخر يقول حادثة، خاصة أنه لا توجد جثة ليزيد ، وبموته سقط البيت السفياني ولم يتحقق حلمه في دوام ملكه أو ملك أسرته بعد أقل من أربع سنوات على معركة كربلاء.

3 ــ الإسلام الذي أراد يزيد أن يهدم أركانه، من أهل البيت إلى الصحابة، إلى المهاجرين والأنصار، من المدينة إلى مكة؛ هذا الإسلام بقي وامتدّ واتسع كميّاً ونوعياً إلى أن وصلنا اليوم إلى أمّة مسلمة يصل تعدادها الى مليار وخمسمائة مليون مسلم.

4 ــ إن قتل الحسين وسبي نساءه، تُعتبر أكبر فضيحة كشفت زيف يزيد وحقيقته وأسقطت عنه الشرعية. لأن الحسين عليه السلان لم يمنحه الشرعية لتقف الأمة معه، ودفعت الأمّة إلى الثورة عليه وبالتالي بدأت الثورات على امتداد العالم الإسلامي.

وقد أشارت السيدة زينب (عليها السلام) في خطبتها الى فشل الأهداف الثلاثة : وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد ( في إشارة الى فشل هدف تثبيت السلطان )،  وحول فشل هدف محو الإسلام وذكر أهل البيت عليهم السلام قالت: فوالله لن تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا أي الإسلام.

 

إذاً، كل أهداف يزيد لم تتحقق. نعم، نستطيع القول أن أحد الأهداف قد تحقق وهو الثأر، أبكاهم وأفجعهم، قتل أحبتهم، ثأر من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثأر من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن أبناء وبنات المهاجرين، ومن أبناء وبنات الأنصار، ولكن كل هذا كانت له آثار سلبية وعكسية فتخدم أهداف الحسين (عليه السلام) ولا تخدم أهداف يزيد بن معاوية.

 

د ــ دم الحسين إلى اليوم يحمي الإسلام ويستنهض المستضعفين

وبقي الحسين (عليه السلام) إلى اليوم حافظاً للإسلام، دمه يحمي الإسلام، ويحرس الإسلام، ويستنهض الهمم، ويفضح الجاهليين والمتوحشين، وأعداء هذا النبي من الداخل والخارج. ولذلك اليوم أيضاً الحسين (عليه السلام) ما زال يملك قدرة الاستنهاض، وهذا الذي حصل في زمن الثورة الإسلامية في إيران، وفي أكثر من بلد في لبنان؛ في موضوع المقاومة الإسلامية. وما يحصل الآن من مواجهة كل الجماعات التكفيرية من داعش وأمثال داعش. هذا المنطق، هذه الروح، هذه الإرادة، هذا العزم، ما زال قوياً وفاعلاً وحاضراً.

 

 

ثانيا، في حساب الآخرة:

أ ــ الحسين أدى تكليفه الإلهي

في حسابات الآخرة، الأمر أوضح. لكن سنتحدث عنه باختصار لأخذ العبرة والتزوّد. أولاً، الحسين (عليه السلام) في كل معركة كربلاء وحركتها؛ الإمام (عليه السلام) كان يؤدي تكليفه الشرعي، تكليفه الإلهي، يؤدي حق العبودية لله سبحانه وتعالى.

فما كان تكليف الحسين (عليه السلام)؟

إن التكليف الشرعي للحسين (عليه السلام) أن لا يبايع يزيد مهما كلّف الأمر. فبدأ بذلك من المدينة ولا يوجد من يحتمي به، ولا من يقف معه، ولا من ينصره. فأصبح تكليفه الشرعي أن يغادر المدينة إلى مكة، ليشرح للناس و المسلمين الآتين إلى الحج من هو يزيد ومخاطر سلطانه ومشروعه وأهدافه ، وعندما أرسل له أهل الكوفة (أن أقدم يا ابن بنت رسول الله فإن في الكوفة لك جندٌ مجنّدة) أصبح تكليفه الشرعي أن يذهب إلى الكوفة ، وكان متمسكاً برفض البيعة حتى لو أدّى إلى القتال فأصبح تكليفه أن يقاتل دفاعاً عن نفسه وعن عائلته وعن أطفاله وأن يرفض البيعة المذلّة، وانتهى الأمر بالشهادة.

لذا كان الحسين (عليه السلام) مهتماً اهتماماً كبيراً بتأدية تكليفه الإلهي رغم تغير الظروف ، و هذا هو النصر الحقيقي بالمعيار الأخروي، ف الذي ينجّينا يوم القيامة هو أدائنا لتكليفنا الشرعي الإلهي، هو طاعتنا لله سبحانه وتعالى، هو قيامنا بما أمر الله به وبما يرضى الله عنه، وليس النتائج.

ففي الجهاد والمقاومة الواجب مقاتلة الأعداء بغض النظر عن النتائج، والمسؤولية هي أداء التكليف الشرعي في القتال وليس المهم أن يتحقق الهدف أو لا يتحقق الهدف، فهذه نتيجة. ونحن مسؤولون عن الأعمال ولسنا مسؤولين عن النتائج.

ولذلك الحسين (عليه السلام) هو المنتصر في كل هذه الحركة لأنه في كل لحظة من لحظات حياته كان يؤدي تكليفه الإلهي الشرعي. وعلينا أن نفكر دائماً بتكليفنا الشرعي ونسعى لأدائه مهما كلف .

 

ب ــ الفوز بالشهادة. من الممكن أن يقضي الإنسان كل حياته بتأدية تكليفه الشرعي ولا يُختم له بشهادة. هذه مشيئة الله سبحانه وتعالى. الفوز بالشهادة هو نصر، هو غَلَبة، هو فتح في الحسابات الأخروية.

ما السر في أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عاشقاً للشهادة وطالباً للشهادة، وأنه كان يتحدّث عن حبّه الشديد للشهادة وأُنسه بها؟

“لعليّ بن أبي طالب آنَسُ بالموتُ – هذا الموت قتلاً في سبيل الله عزّ وجلّ – من الطفل الرضيع بثدي أمّه”. “لألف ضربة بالسيف أحبُّ إليّ من ميتةٍ على فراش”. ولذلك عندما انقضّ ابن ملجم اللعين على أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد الكوفة وضربه بالسيف على رأسه فالجملة التي قالها عليّ ودوّت في المسجد، بل في الكون، بل في التاريخ، وكُتبت ونقلت إلينا” “فزتُ وربّ الكعبة” .

 

ج ــ .. فالحسين (عليه السلام) فاز فوزا عظيما أما يزيد فهو في أشد العذاب مع آل فرعون، حاله الآن منذ أن انتقل إلى تلك الدار، حال آل فرعون ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا – الآن وليس يوم القيامة من يوم موتهم لأنّ بالقيامة لا يوجد غدو وعشي – وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ (غافر: 45-46). الآن يزيد مع آل فرعون وهو نموذج لآل فرعون.

في الحساب الأخروي المؤمن منتصر على كل حال

إذاً في الحسابات الأخروية، نحن ننتمي إلى الدين الذي يقول لنا: إذا كنا نؤدّي تكليفنا الإلهي ونمضي في طريق الله، ونعمل في سبيل الله، ونجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى، أياً تكن النتائج الدنيوية فما ينتظرنا هو الفوز والحُسنى ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾ (التوبة: 52)- أي الشهادة أو النصر. لا يوجد بالمنطق الإيماني والعقائدي والإسلامي هزيمة، هناك نصر دائم حتى من يستشهد ، على المستوى الشخصي هناك نصر، وهناك نصر إذا تحمّلت الأمّة مسؤولياتها فهي تجني ثمار النصر.

 

كربلاء كانت نصرا للحسين دنيا وآخرة

فإذاً بالحسابات الدنيوية وفي الحسابات الأخروية نحن أمام واقعة، هي واقعة انتصار. نعم، هو انتصار مضمّخ بالدماء. هو انتصار صُنع بالدماء وبالدموع وبالآلام وبالأحزان ويبقى هذا الانتصار مضمّخاً بالدماء تعبق منه رائحة الحسين (عليه السلام) ولذلك سمّاه السيد الخميني (قدّه) «انتصار الدم على السيف»، لأنّ أهداف الدم تحقّقت وأُنجزت، ولأنّ أهداف السيف سقطت؛ كلها سقطت. وما نعيشه اليوم يؤكّد أنّ الدم انتصر على السيف في 61 للهجرة وفي أكثر من مرحلة في التاريخ. وفي هذا العصر أيضاً، نشهد انتصار الدم على السيف، الدم المظلوم، والمحاصر، والمضطهد، والغريب، والمتآمَر عليه دولياً وإقليمياً، وهو يقاتل في الحصار وفي الغربة وفي الشدّة في أكثر من بلد وفي أكثر من ساحة وفي أكثر من ميدان.

 

المقاومة في لبنان لم تنتصر إلا بالصبر

وفي الأحاديث الشريفة يُروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يقول: إنّ النصر مع الصبر. فبدون صبر لا يوجد نصر. هذه المقاومة في لبنان انتصرت بالصبر، صبر الناس، أهالي القرى، أهالي البلدات، أهالي المدن، الذين هُجّروا، والذين قُصفوا، والذين عاشوا عشرات السنين على خطوط التماس، صبر المجاهدين، صبر عوائل الشهداء، صبر الجرحى وعائلاتهم، صبر الأسرى والمعتقلين في السجون وعائلاتهم، صبر الناس على شظف العيش وعلى ترتيب الأولويات. رغم كل الحرب الأمنية والعسكرية والتدميرية والنفسية والترهيبية والتخذيلية، كل هذا كان يُخاض، ولكن لأنّ الناس صبروا، لأنّ المقاومة والمقاومين صبروا، لأنّ بيئة المقاومة صبرت واحتضنت وواصلت الصبر كان هذا الانتصار وكانت هذه الانتصارات.

 

وردنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M