م.م.عـــــذراء محــمــــد جــــابر
جــــامعـــة النهـــريـــن
عُدت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) حدثاً مفصلياً في التاريخ الحديث، إذ مثلت نقطة تحول كبرى في النظام الدولي وأعادت صياغة خرائط النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري على مستوى العالم، اندلعت الحرب لاسباب سياسية واقتصادية سبقت عقد الثلاثينيات، في مقدمتها صعود الأنظمة الفاشية والنازية والتوسعية العسكرية في أوروبا وآسيا، فضلاً عن تراجع فاعلية نظام الأمن الجماعي الذي أُنشئ في إطار عصبة الأمم. أسفرت هذه الحرب عن أكبر خسائر بشرية شهدها التاريخ، إذ تجاوز عدد ضحاياها 70 مليون إنسان إلى جانب الدمار الذي طال البنى التحتية والاقتصادات الوطنية للدول الاطراف فيها.
وفي هذا السياق، شكّلت الصين إحدى الساحات الرئيسة للحرب، إذ واجهت الغزو الياباني منذ عام 1937 فيما عُرف بـ”حرب المقاومة الصينية ضد العدوان الياباني”، وهو ما جعلها من أوائل الدول التي دخلت الصراع قبل اندلاع الحرب رسمياً في أوروبا عام 1939، مارست الصين دوراً محورياً في استنزاف القوات اليابانية على الجبهة الشرقية، الامر الذي اسهم في تخفيف الضغط عن الحلفاء في جبهات أخرى، وبالرغم من الخسائر الجسيمة التي تكبدتها (البشرية والمادية)، الا ان مشاركتها رسخت مكانتها بين القوى المنتصرة، وأسهمت في الاعتراف بها كإحدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن لاحقاً، لذلك لم تكن الحرب بالنسبة للصين مجرد تجربة تاريخية مؤلمة، بل لحظة تأسيسية لهويتها الوطنية الحديثة ولإعادة تموضعها في الساحة الدولية.
الاحتفاء الصيني بالذكرى الـــ80 لأنتهاء الحرب العالمية الثانية:
نظّمت الصين احتفالية واسعة النطاق بمناسبة الذكرى الــ80 لانتهاء الحرب العالمية الثانية واحتفالاً بيوم النصر على اليابان في تشانغان-بكين في 3/9/2025 ، بحضور قادة وزعماء العالم ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون ، الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو، الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، إلى جانب رؤساء كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، وأوزبكستان شوكت ميرضيايف ورئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم وغيرهم، هذه المشاركة الدولية لقادة العالم تعكس إدراكهم المتزايد لأهمية الصين في التوازنات الدولية الراهنة، ان حضور ممثلون من دول آسيوية وأوروبية وأفريقية بما في ذلك حلفاء للصين وشركاء جدد ضمن مبادرة “الحزام والطريق” منحت بعداً إضافياً للمناسبة، وجعلتها بمثابة منصة دبلوماسية هدفها تجديد التحالفات وتوسيع شبكة النفوذ الصيني.
توافد الزعماء للمشاركة في احتفال الصين بالذكرى الــ80 للانتصار… متاح على الرابط: https://share.google/images/eXX7KYEtTXw3xKbsc
ان هذا الاحتفال لا يمثل فقط مناسبة تاريخية فحسب، بل وسيلة لإبراز مكانة الصين في النظام الدولي. اذ ربطت القيادة الصينية بين ذكرى الانتصار وبين شرعية الدور الصيني في مقاومة الاحتلال الياباني، مؤكدة أن الصين كانت فاعلاً رئيساً ساهم في إعادة التوازن الدولي بعد الحرب، كان الاحتفال على درجة عالية من التنظيم الدقيق واستخدام الرسائل الرمزية التي تعكس الطابع البروتوكولي الصيني المعروف بالانضباط، إذ تضمنت عروضاً عسكرية وندوات أكاديمية واستعراضاً لرموز المقاومة الوطنية فضلاً عن عرض اسلحة استراتيجية منها: قاذفات قنابل وطائرات مقاتلة وانظمة فرط صوتية ومعدات متطورة مضادة للطائرات المسيرة وشاركت فيه تشكيلات عدة من القوات البرية وعربات مدرعة واسراب جوية ومعدات تكنلوجية متقدمة فضلا عن حوالي 10 الاف جندي واكثر من 100 طائرة عسكرية وانظمة صاروخية متطورة وروبوتات قتالية. استمر العرض لمدة 70 دقيقة كان هدفه اظهار القدرة القتالية لجيش التحرير الشعبي الصيني في كسب الحروب الحديثة وصون السلام العالمي.
العرض العسكري الضخم في الصين مع الذكرى الــ80 للانتصار في الحرب، متاحة على الرابط: https://share.google/images/iJfgU0ZFSdEfmTEdx
هذه الفعاليات لم تقتصر على الجانب الاحتفالي، بل حملت رسائل عدة أبرزها:
-1 التأكيد على الشرعية التاريخية للصين كقوة منتصرة في الحرب.
-2إبراز قدراتها العسكرية الحديثة عبر العروض التي جمعت بين التكنولوجيا المتطورة والبعد التاريخي.
-3الترويج لفكرة التعددية الدولية من خلال استضافة قادة وزعماء من مختلف القارات.
المواقف الدولية من الاحتفال الصيني بذكرى الحرب العالمية الثانية:
1-الموقف الأميركي: تعاملت الولايات المتحدة الامريكية مع الاحتفاء بحذر ملحوظ ورغم إقرارها بالدور التاريخي للصين في الحرب فإنها اختارت تقليص مستوى تمثيلها في إشارة مزدوجة غايتها عدم تجاهل الدور الصيني بشكل كامل من جهة، وتجنب إعطاء بكين فرصة لإعادة صياغة الذاكرة التاريخية على نحو يخدم مشروعها السياسي المعاصر من جهة اخرى، يعكس هذا الموقف التخوف الأميركي من أن تتحول الذكرى إلى أداة في الصراع الرمزي والاستراتيجي الدائر بين واشنطن وبكين.
2-اليابان وكوريا الجنوبية: عبرت كلا الدولتين عن قلقهما من التقدم في المجال العسكري الذي وصلت له الصين وتحديدا في مجالات الصواريخ والقدرات السيبرانية مما دفعهما الى التفكير في زيادة تعزيز تحالفاتهما الثنائية مع الولايات المتحدة الامريكية وتطوير قدراهما الدفاعية.
3-الاتحاد الاوروبي: ظهر الانقسام بين دول الاتحاد الاوروبي فيما يتعلق بموقفها من هذا الحدث، فبعضها دعت الى اجراء المحادثات الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي مع الصين واخرى حذرت من صعود الصين وتوسعها العسكري والتكنلوجي الامر الذي يعكس صعوبة التوصل الى اتفاقيات استراتيجية موحدة بين دول الاتحاد الاوروبي وبكين.
تؤكد هذه الردود المتباينة أن الاستعراض لم يكن حدثاً رمزياً داخلياً فحسب، بل أداة استراتيجية تتيح لبكين قياس تأثير قوتها العسكرية على ردود فعل القوى الكبرى والإقليمية، وتشكيل ديناميكيات جديدة في العلاقات الدولية.
ختاماً يمكن القول إن الاحتفاء الصيني بالذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية لم يكن مجرد مناسبة تذكارية، بل شكل منصة لإعادة إنتاج الذاكرة التاريخية في سياق الصراع الدولي المعاصر، فالصين سعت من خلال هذا الحدث إلى تأكيد مكانتها كقوة مسؤولة وكقائد عالمي في ظل عالم يمتاز بالتعدد والتحديات المعقدة وبذلك يتضح أن استدعاء التاريخ لم يعد مجرد فعلٍ تذكاري، بل أداة فاعلة في معركة الشرعية الدولية وتوازنات القوى في القرن الحادي والعشرين.
وردنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي