خريطة طريق الحكومة السورية لحل أزمة السويداء: تحديات إعادة الدمج وآفاقها

  • أعلنت الحكومة السورية عن خريطة طريق لحل أزمة السويداء، تهدف إلى إعادة دمج المحافظة، على نحو كامل وتدريجي، في الدولة السورية. وقد حظيت المبادرة بدعم أمريكي وأردني، لكنها قوبلت برفض من بعض القوى المناهضة للحكومة داخل السويداء. 
  • مع أن خريطة الطريق تواجه تحديات عدة، في جوانبها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، إلا أنها تمثل انتصاراً نسبياً للشرع عبر تصويرها أزمة السويداء كأزمة حوكمة محلية، أكثر من كونها جزءاً من أزمة وطنية.  
  • تُظهر خريطة الطريق اتساع نفوذ واشنطن في الملف السوري الداخلي، عبر وضع يدها على العلاقة بين دمشق والسويداء، ما كرس الدور الأمريكي المتفرد في جنوب البلاد.
  • تمثل خريطة الطريق إطاراً مهماً لمعالجة تداعيات أزمة السويداء، لكنها لا تمثل حلاً نهائياً شاملاً لمشاكل المحافظة، إذ سيظل نجاحها مرهوناً بإنجاز تفاهمات أمنية مع إسرائيل، وحسم ملف هياكل الحكم الذاتي الدرزية، ومعالجة أزمات الاقتصاد والمجتمع بشكل جذري.

 

أعلنت الحكومة السورية في 16 سبتمبر 2025 عن خريطة طريق لحل أزمة السويداء، تهدف إلى إعادة دمج المحافظة، على نحو كامل وتدريجي، في الدولة السورية. وقد حظيت المبادرة بدعم من الولايات المتحدة والأردن، لكنها قوبلت برفض من بعض القوى المناهضة للحكومة داخل السويداء.

 

تسعى هذه الورقة إلى استكشاف ما إذا كانت مكونات خريطة الطريق وخطواتها قادرة بالفعل على حل أزمة السويداء بطريقة سلمية ومستدامة.

 

لماذا خريطة الطريق؟ 

انطلقت المفاوضات السورية-الأردنية-الأمريكية حول السويداء بعد إعلان وقف إطلاق النار في 18 يوليو، وحققت تقدماً في 12 أغسطس، قبل أن تتكثف في الدوحة يوم 15 سبتمبر، وتصل إلى خاتمتها بإعلان “خريطة طريق حل الأزمة في السويداء واستقرار جنوب سورية” من دمشق في 16 سبتمبر، حيث تم توقيعها من قبل وزيرَي الخارجية السوري أسعد الشيباني والأردني الصفدي، والمبعوث الأمريكي إلى سورية توم براك، وصولاً إلى طلب الأطراف الموقعة من الأمم المتحدة إيداع الخريطة كوثيقة رسمية لديها.

 

أدى برّاك الدور الأول في التوصل إلى خريطة السويداء، وقد انخرط مع الأطراف المعنية بأزمة السويداء بشكل مكثف، بمن فيهم الشيخ موفق طريف القائد الروحي لدروز إسرائيل والداعم الرئيس لمواقف الرئيس الروحي لدروز السويداء الشيخ حكمت الهجري، من أجل تثبيت التهدئة في المرحلة الأولى، وفتح الباب أمام تدفق المساعدات الإنسانية عبر معبرَين إنسانيَّين بين محافظتي درعا والسويداء، قبل أن يعمل على بناء ترتيبات إسرائيلية-سوريةفي باريس في 20 أغسطس حول السويداء، ليزور بعدها دمشق من أجل مواكبة فتح الطريق الدولي بين دمشق والسويداء يوم 27 أغسطس. ومنذ البداية، دعم برّاك إنجاز ترتيبات للتعامل مع الوضع الذي خلقته الحملة العسكرية الفاشلة لدمشق في السويداء، بالتعاون مع المسؤولين الأردنيين، وهو ما أدى إلى إنشاء مجموعة العمل السورية-الأردنية-الأمريكية حول السويداء.

 

مثّل الأردنُ الموقفَ العربي وعمل على مؤازرة الموقف السوري، والحدّ من التدخل الإسرائيلي في الشؤون السورية الداخلية عبر السويداء، مُنبهاً إلى مخاطر التوغلات الإسرائيلية داخل سورية، ومساعي تل أبيب لتقسيمها. وبالمقابل، استغلت إسرائيل الموقف الصعب الذي أوقعت الشرع فيه، بعد دعْمها موقف الدروز العسكري في مواجهة حملة الإدارة السورية الرامية إلى استعادة السيطرة على محافظة السويداء. وسعت من دون حماسة إلى التفاوض على فتح معبر إنساني بين شمال إسرائيل والسويداء عبر محافظتي القنيطرة ودرعا، لكنها لم تعلن موقفاً مؤيداً لمناداة الشيخ الهجري بالانفصال، ما اضطره للتراجع والمطالبة بـ “كيان مستقل“. وضمن هذا الإطار طالب الشيخ طريف “الحكومة السورية بإظهار نيات حسنة تجاه الدروز.. وإعطائهم حقــهم ضمن إطار الدولة السورية”، إلى جانب قائمة مطالب أخرى حملها إلى براك في خلال لقائهما في باريس يوم 19 أغسطس.

 

سارعت دول الخليج وفرنسا وتركيا إلى الترحيب بخريطة طريق السويداء، ونالت استحسان وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو الذي شدد على أولويات الخطة في “المساءلة، والمصالحة، وتحقيق العدالة لضحايا الفظائع، وحماية حقوق الأقليات”، في حين رفضتها اللجنة القانونية العليا في السويداء التي شكّلها الهجري، وطالبت باستقلال المحافظة أو إدارة شؤونها ذاتياً. أما الهجري، فكان قد حدَّد سقفاً جديداً لمواقفه قبل إعلان خريطة الطريق، يتضمن المطالبة بـ “دستور جديد وحكومة تحمي كل السوريين”، رافضاً التفاوض مع إدارة الشرع التي اتهمها بهدم جسور الثقة. ورداً على إعلان دمشق خريطة الطريق، رعى أنصار الهجري حملة تواقيع تطالب بـ “حق تقرير المصير“، سواء عبر الاستقلال التام عن الدولة السورية أو التمتع بالإدارة الذاتية أو اللّامركزية، في حين التزمت إسرائيل بالصمت حيال الخطة.

 

أظهرت خريطة الطريق المعلنة لحل أزمة السويداء اتساع نفوذ واشنطن في الملف السوري الداخلي (أ.ف.ب)

 

الطريق الطويل نحو إعادة دمج السويداء

تأتي خريطة الطريق لمعالجة تداعيات الأزمة الأخيرة في السويداء، ولا سيما الانقسام بين المجتمع الدرزي من جهة والسلطات الجديدة وحلفائها في دمشق من جهة أخرى، وذلك وفقاً لـ “منهجية شاملة متدرجة” تبدأ من “تدابير لإعادة بناء الثقة” بين الحكومة السورية والمحافظة، وتتضمن “حلولاً انتقالية” تُفضي إلى إعادة دمج السويداء في الدولة السورية، وبذلك تُقرّ خريطة الطريق بأن السويداء ستظل خارج سلطة الإدارة السورية في خلال “مرحلة انتقالية”.

 

منذ اندلاع الثورة السورية، ظلت سلطة الدولة داخل محافظة السويداء ضعيفة نسبياً، وبمرور الوقت تفككت الروابط بين المحافظة ودمشق على مختلف المستويات. هكذا، انفصلت السويداء عن المركز؛ اقتصادياً مع تراجع دور دمشق كمحور اقتصادي، وإدارياً جرّاء ضعف قدرة الدولة على الحوكمة، وعسكرياً وأمنياً بعد صعود الميليشيات المحلية، فضلاً عن تنامي نفوذ الفاعلين الخارجيين في المحافظة، وعلى رأسهم إسرائيل. وبناء عليه، فإن أي حل حقيقي ومستدام يؤدي إلى إعادة دمج المحافظة بالدولة السورية، لا يتطلب التعامل مع تداعيات الأزمة الأخيرة فقط، لكنه في الوقت نفسه مطالب بمعالجة جذور هذا التفكك التاريخي.

 

تمثل خريطة الطريق نقطةَ انطلاق لهذه العملية، فهي تتضمن عناصر أساسية، لكنها تفتقر في الوقت نفسه إلى مكوّنات أخرى لا غنى عنها للنجاح. ومن هنا، يأتي هذا التحليل ليتناول مسألة الاندماج وتحدياته عبر خمسة محاور: الأمن الإقليمي، والأمن الداخلي، والاقتصاد، والمجتمع والديمغرافيا، والسياسة.

 

أولاً، المستوى الأمني الإقليمي

إلى الآن، لم تُصدر إسرائيل موقفاً واضحاً حيال خريطة الطريق. ويبدو أن الأطراف الموقعة على الخريطة احتاطت من عدوانية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عندما قدمتها بوصفها وثيقة رسمية إلى الأمم المتحدة. جاءت هذه الخطوة من أجل توفير ضمانة شكلية للوثيقة، تحميها من أي انقلاب إسرائيلي عليها، وبخاصة أن دمشق، قبل أحداث السويداء عقدت عدة تفاهمات مع الشيخ الهجري، تراجع عنها مباشرةً جراء تدخل إسرائيلي، على ما يعتقد المسؤولون السوريون.

 

تضمنت خريطة الطريق في السويداء بنداً صريحاً يربط أزمة السويداء بالدور الإسرائيلي. يذكر البند أن واشنطن ستعمل “بالتشاور مع الحكومة السورية”، على التوصل إلى “تفاهمات أمنية مع إسرائيل حول الجنوب السوري تعالج الشواغل الأمنية المشروعة لكلٍّ من سورية وإسرائيل”. ويبدو أن التقدم الذي أحرزته المفاوضات السورية-الإسرائيلية تحت الرعاية الأمريكية، مؤخراً، سهّل إعلان خريطة الطريق؛ فبالترافق مع هذا الإعلان سحبت الإدارة السورية العتاد الثقيل من جنوب البلاد. حصل ذلك عشية اجتماع الشيباني بوزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، في لندن في 17 سبتمبر، لمناقشة الرد السوري على المقترح الإسرائيلي، الرامي إلى توسيع المنطقة العازلة التي أنشئت بموجب اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، على كامل أراضي الجنوب السوري. كما انعقد اجتماعٌ أمني سوري-إسرائيلي في باكو من أجل مناقشة الترتيبات الأمنية الأوسع حول سورية، والتي تشمل الوجود التركي العسكري. لقد مالت الكفة أمنياً في الجنوب السوري إلى صالح الدور الإسرائيلي، بينما لم تُقدِّم واشنطن أكثر من التزام بتوفير الدعم لخريطة الطريق. لذلك، ونظراً لتوصل الأطراف إلى اتفاق وقف إطلاق للنار، وخلو الخريطة من أي روافع ضغط لتنفيذها باستثناء “الدعم الأردني والأمريكي”، فإن الموقف الإسرائيلي يصبح عاملاً أكثر أهمية في نجاح الخطة.

 

ثانياً، المستوى الأمني الداخلي

استبقت دمشق إعلان الخريطة بعزل العميد أحمد الدالاتي عن قيادة الأمن الداخلي في محافظة السويداء، وتعيين العميد حسام الطحان بديلاً منه. يُعد الدالاتي شخصية مكروهة في السويداء بسبب قيادته للعملية العسكرية ضد المحافظة في يوليو الماضي. عكس تعيين الطحان رغبة الإدارة السورية في استنساخ تجربته في تأسيس أمن محلي من الدروز في مدينة جرمانا بريف دمشق بعد الأحداث التي شهدتها أواخر شهر أبريل الماضي. تحركت وزارة الداخلية السورية خطوة إضافية عبر إعادة هيكلة المنظومة الأمنية في المحافظة وتعيين سليمان عبد الباقي، الذي يتزعم فصيلاً درزياً مقرب من دمشق، قائداً للأمن الداخلي في مدينة السويداء.

 

كشفت خريطة الطريق عن رؤية دمشق لاحتواء السويداء أمنياً، وربما عزلها حتى، في خلال “الفترة الانتقالية”. نصت الخطة على نشر “قوات مؤهلة ومدربة تابعة لوزارة الداخلية” على طول طريق السويداء-دمشق، إلى جانب نشر “قوات شرطية مؤهلة ومدربة ومنضبطة” على الحدود الإدارية للمحافظة، بعد سحب “المقاتلين المدنيين” منها. بهذه الترتيبات يستمر تطويق السويداء أمنياً من قبل الإدارة السورية، وتحافظ على وضعيتها حيال المحافظة عبر فرض سيطرة مطلقة على طريق دمشق-السويداء.

 

ونصَّت الخطة أيضاً على تشكيل “قوة شرطية محلية”، من كل أفراد المجتمعات داخل المحافظة، تُحدِّد تركيبتها وتكوينها “مفاوضات” لم توضح مع من ستُجرى، علماً أن الهجري أشرف على تأسيس هياكل شرطية بعد أحداث السويداء. كما أغفلت الخريطة بشكل واضح الحديث عن مصير الفصائل المسلحة الموجودة في السويداء، والتي أعلنت اندماجها الكامل بقوات “الحرس الوطني” تحت رعاية الشيخ الهجري وقيادة ابنه سلمان.

 

تشير بنود خريطة الطريق إلى اهتمام الإدارة السورية بقطع الطريق على مساعي الهجري لفرض أمر واقع في المحافظة وإقامة “كيان مستقل وإدارة ذاتية” (تقوده اللجنة القانونية العليا والهياكل التابعة لها)، أكثر من اهتمامها بسُبُل دمج المحافظة فعلياً. وفي مقابل تَصوُّر الخطة لإشراف الإدارة السورية على تشكيل قوة شرطية جديدة داخل المحافظة، تترك المسألة الأصعب والمتمثلة في نزع سلاح الحرس الوطني والفصائل الدرزية ومصيرهم إلى مرحلة لاحقة.

 

رداً على إعلان دمشق خريطة الطريق، رعى أنصار الشيخ حكمت الهجري حملة تواقيع تطالب بـ “حق تقرير المصير” (أ.ف.ب)

 

ثالثاً، المستوى الاجتماعي: مصالحة، وسلم أهلي، وتغيير ديمغرافي

تبتدئ خريطة الطريق بدعوة الإدارة السورية للجنة التحقيق المستقلة الدولية التي أسسها مجلس حقوق الإنسان في عام 2011، إلى إجراء تحقيق حول المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان التي حصلت في المحافظة في شهر يوليو الماضي، مع تعهُّد حكومي بمحاسبة المرتكبين وفق القانون السوري. واللافت للنظر أن الحكومة لا تتعهد، بموجب الخريطة، بإعادة بناء “القرى والممتلكات المتضررة”، بل ستعلن عن خطط يتم تنفيذها بعد تأمين التمويل اللازم لها، ما يعني أن التطهير العرقي الذي نفّذه المقاتلون المحسوبون على سلطات دمشق في غربي السويداء قد تستمر مفاعيله لمدة طويلة، بالرغم من تعهُّد الإدارة بـ “اتخاذ كل الخطوات اللازمة لتمكين سكان قرى السويداء التي شهدت اقتتالاً من العودة إلى قراهم”.

 

وتتضمن الخطة العديد من البنود التي تهدف إلى بناء الثقة والمصالحة، مثل استكمال إطلاق كل المحتجزين والمختطفين، وبناء “سردية وطنية تحتفي بالوحدة والتعددية والمساواة بين جميع السوريين”، وإنهاء “خطاب الكراهية” وتجريمه قانونياً، وعقد جلسات مصالحة بين أبناء السويداء في الأردن، وصولاً إلى صياغة “خريطة طريق للمصالحة مع الحكومة”.

 

بيد أن تنفيذ هذا المخطط، وحتى لو تجاوبت معه الأطراف كافة، لن يكون سهلاً ومثمراً. فانطلاق التحقيق الدولي سيستغرق وقتاً، كما أن تنفيذه سيحتاج إلى وقت إضافي ما يؤدي إلى تمييع المسألة برمتها. وكما حصل في التحقيق الخاص بأحداث الساحل (في مارس الماضي)، صدر التقرير لكن لم تتم محاسبة أحد على الرغم من مرور شهرين على ذلك. ولإظهار الجدية سارع وزير العدل مظهر الويس لاستقبال وفد من لجنة التحقيق الدولية المستقلة يوم 18 سبتمبر. ونظراً لحالة الفوضى التي شهدتها المحافظة في خلال أحداث يوليو، فقد ارتكبت جميع الأطراف انتهاكات جسيمة بحق المدنيين. وقد وثَّق المقاتلون المحسوبون على الشيخ الهجري، هجومهم على منزل الشيخ القيادي المقرب من دمشق الشيخ ليث البعلوس، ونبْشهم قبر والده، وتعديهم على مقام عين الزمان مقر شيخ العقل يوسف الجربوع، إلى جانب ارتكابهم عشرات الانتهاكات الأخرى بحق أبناء العشائر العربية في المحافظة.

 

وفي المقابل، لاتزال عملية تبادل المحتجزين والمختطفين بين الحكومة والهجري تتعثر، بسبب رفض الأولى الإفصاح عن العدد الحقيقي للمختطفين لديها، ونفيها وجود نساء وأطفال بينهم. والواقع أن ربط عودة المهجرين من الدروز والبدو إلى قراهم بإعادة الإعمار، سيستغرق مدة زمنية، مع ما لذلك من تداعيات كارثية على الوضع الإنساني الهش. وعلى الأرجح فإن الدروز سيعارضون بشدة البند الخاص بتشكيلة وفد المحافظة، المكون من الدروز والسنة والمسيحيين، الذي سيلتقي في الأردن “وفد العشائر العربية” في السويداء، إذ ينزع هذا البند الخصوصية الدرزية عن المحافظة، ويجعل الدروز مكوناً بين مكونات المحافظة المتنازعة مع العشائر العربية.

 

رابعاً، الاستجابة الإنسانية والاقتصاد

تطرقت خريطة الطريق بإيجاز إلى الأزمة الإنسانية التي سببتها حملة الشرع العسكرية في محافظة السويداء، وهو أمر مهم بحد ذاته. فالعمل لإعادة كل الخدمات الأساسية في المحافظة، وضمان استمرار تدفق المساعدات الإنسانية والطبية دون انقطاع ومن دون عوائق، والسماح بوجود منظمات متعددة والتعاون مع وكالات الأمم المتحدة، كلها عناصر ضرورية في ظل الحاجات الملحّة التي تعيشها المحافظة.

 

قد تكون عناصر الخطة الإنسانية مقنعة، ولكن هناك تحديات تتعلق بتنفيذها على الأرض. وسبق للفعاليات الشعبية في السويداء، وليس فقط أنصار الشيخ الهجري، رفض استقبال أي مساعدات قادمة من الإدارة السورية. ومن جهة أخرى، سيكون هناك تعقيد حول مسألة من يسلم المساعدات داخل المناطق الدرزية من المحافظة، حيث تسيطر الهياكل العسكرية والإدارية المحسوبة على الشيخ الهجري، كالحرس الوطني واللجنة القانونية العليا، والأغلب أن ترفض اللجنة خطة الإدارة “تشكيل مجلس محافظة يمثل كل مكونات المجتمع المحلي في السويداء”، لأنه سيؤدي إلى إلغائها أو الحد من دورها.

 

لقد فشلت الخطة في التعامل مع حاجات السويداء الاقتصادية الأوسع؛ فقد تدهورت الأوضاع الاقتصادية في المحافظة جراء سنوات الحرب الطويلة، وما تلاها من سقوط لنظام الأسد وتفكك العرى الإدارية التي كانت تربط الدروز بالدولة بوصفها أكبر مصادر الدخل في المحافظة. وقد وجهت الأحداث ضربةً قوية للسكان الذين فقدوا أعمالهم ومدخراتهم وأملاكهم، على وجه الخصوص، ولعموم قاطني السويداء جراء انقطاع الصلات التجارية مع دمشق، وتوقف حركة الاقتصاد لأكثر من شهرين حتى الآن. ومن دون إجراءات اقتصادية متينة ومتماسكة، سيتزايد اعتماد السكان في المحافظة على المساعدات الخارجية القادمة من إسرائيل، وعلى الأعمال الاقتصادية غير المشروعة، مثل تجارة الكبتاغون وتهريبه، وأخيراً سيتزايد انخراط الشباب الفاقدين للعمل وللأمل في “الحرس الوطني”.

 

خامساً، المستوى السياسي 

كرَّست خريطة الطريق النتائج التي تمخَّض عنها فشل الإدارة السورية في فرض سلطتها على السويداء، وعلى رأسها ميل الشرع، الآن، إلى منح الأقليات هامشاً من الحكم الذاتي، شريطة تطويقها أمنياً وسياسياً واقتصادياً، في الوقت الذي يعمل فيه على ترسيخ سلطته في عموم المناطق السورية خلال المرحلة الانتقالية، لذلك لم ترد كلمة الديمقراطية ولو لمرة واحدة في الخريطة. ولن تقبل سلطة الشرع بالدمج النهائي للسويداء اقتصادياً وسياسياً وقانونياً وإدارياً بالدولة السورية، قبل تسليم السلاح أو إخضاعه لسيطرة وزارة الدفاع، وهو الذي يربطه الشيخ الهجري بالتوصل إلى دستور ديمقراطي علماني وتأسيس جيش وطني.

 

وفي خلال المرحلة المقبلة، قد نشهد مفاوضات غير مباشرة بوساطة أردنية-أمريكية على تشكيل مجلس المحافظة والقوة الشرطية، لكنها مفاوضات ستكون صعبة نظراً لأنها ستحدد شكل الإدارة الذاتية الدرزية وبنيتها، وستصطدم برفض الشيخ الهجري لهدم الهياكل الإدارية والقانونية والأمنية التي أسسها في خلال الشهري الماضيين. والأرجح أن يجد الدروز صعوبةً كبرى في القبول بوجود منفصل للمكونات المسيحية والسنية والعشائر البدوية عنها، بعد أن اعتادوا لعقود على تمثيل المحافظة بشكل مطلق.

 

كشفت خريطة الطريق عن رؤية دمشق لاحتواء السويداء أمنياً، وربما عزلها كذلك، في خلال “الفترة الانتقالية” (أ.ف.ب)

 

الدلالات والتداعيات 

مما لا شك فيه أن إعلان خريطة الطريق الخاصة بالسويداء، والبنود التي تضمنتها، شكلت إنجازاً لسلطة الشرع، وبخاصة أن الخطة لم تلحظ وجود الدروز بوصفهم طرفاً، كما لم تتطرق إلى مسؤولية السلطات عن المجازر التي وقعت في المحافظة، والتي تسبب بمقتل المئات من المدنيين وتدمير عشرات القرى ونزوح أكثر من مئة وتسعين ألف شخص. وقد تستخدم إدارة الشرع الخريطة أداةً فعالةً للحد من هياكل الحكم الذاتي التي يؤسسها الشيخ الهجري في السويداء وتفكيكها، وإعادة ربط المحافظة بالمركز (دمشق) عبر هياكل مختلطة، وبشيء من الحظ يمكن للشرع الطموح إلى تحويل الأزمة من صراع بين الدروز ودمشق وحلفائها من البدو إلى صراع بين الدروز أنفسهم، خصوصاً أن الشيخ الهجري أقصى كل القيادات الدرزية الدينية والسياسية والعسكرية بالقوة بعد أحداث يوليو، والتي قد تعود إلى المشهد نتيجة للمفاوضات التي ستفتتحها الخريطة بدعم أمريكي وأردني. وأخيراً، مكّنت خريطة الطريق الشرع من فصل الوضع في السويداء عن السياق الوطني العام، وجعْلها مسألة حوكمة محلية. كما نجح الشرع في عزل السويداء عن المسألة الكردية، مُحبِطاً مساعي “قسد” لتعزيز أوراقها عبر دعم الدروز في مواجهته.

 

ونجح الشرع في خريطة الطريق، وبدعم أمريكي-أردني، في تكريس عشائر السويداء العربية بصفتهم لاعباً مستقلاً، الأمر الذي عكس ميزان القوى العسكري الذي تمخضت عنه المواجهات بين الدروز والبدو المدعومين من العشائر في مختلف الأراضي السورية بعد انسحاب الجيش وقوات الأمن في خلال أحداث يوليو. وستنظر “قسد” إلى موافقة واشنطن على تكريس دور عشائر السويداء، على أنه تمهيد لمنح أخواتها دور أكبر في شمال شرقي سورية؛ فأبناء القبائل العربية هم سكان محافظتي دير الزور والرقة بالكامل، ويصل تعدادهم إلى أكثر من نصف عدد السكان في محافظة الحسكة. وستنظر العشائر العربية في شمال شرقي سورية إلى النجاح الذي حققته أخواتها في السويداء باعتباره سابقةً تُحتذى. ويبدو أن الشرع حرص على تحقيق مكاسب للعشائر في السويداء، يؤثر في تحالف “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي (بيدا)، المسيطر على “الإدارة الذاتية” وقوات “قسد” في شمال شرقي سورية، مع بعض القبائل العربية. وسيكون لذلك أثر مزعزع لقوة “قسد” التفاوضية وموقعها في خلال المفاوضات مع دمشق التي تتوسط فيها باريس وواشنطن.

 

أخيراً، عكست خريطة الطريق انزلاق سورية أكثر فأكثر إلى مدار النفوذ الأمريكي، فقد وضعت الولايات المتحدة يدها على مسألة داخلية سورية جديدة هي العلاقة بين الإدارة الجديدة ومحافظة السويداء، وذلك بعد دورها في الوساطة التي قادت إلى توقيع اتفاق العاشر من مارس بين الشرع ومظلوم عبدي قائد “قسد”، وجهودها المشتركة مع فرنسا للتوسط في تنفيذه. فضلاً عن الخريطة أقرَّت بدور واشنطن في صياغة ترتيبات أمنية متفاهمة عليها بين دمشق وتل أبيب حول الجنوب السوري، ستشكل بديلاً من اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 واتفاق الجنوب لعام 2018، الذين كان لموسكو دور في التوصل إليهما وتنفيذهما على أرض الواقع. وهي نتيجة لم تغفل عنها الجهات المعارضة لسلطة الشرع، عادَّةً أنَّه يضع الجنوب السوري تحت “الوصاية الأمريكية“.

 

استنتاجات

تدور خريطة الطريق التي أعلنتها دمشق حول إرساء مرحلة انتقالية لمحافظة السويداء بعد الانتهاكات التي شهدتها في يوليو. وتستهدف الخريطة احتواء السويداء أمنياً وجغرافياً وإدارياً، وعزلها عن الشؤون السورية العامة، وتقليص دورها في السياسة الوطنية، مع الإبقاء على هامش للسياسات المحلية. غير أن الخريطة تنطوي على عدة إشكالات سوف تُلقي بظلالها على السياسة المحلية مثل دور العشائر، وكسر احتكار الدروز لتمثيل المحافظة، فضلاً عن فتحها الباب أمام حصول صراع بين الدروز، وبخاصة من طرف القيادات الدينية والعسكرية الذين أقصاهم الشيخ الهجري بالقوة عن المشهد. وسيتمثل التحدي الأكبر أمام تنفيذ الخريطة بمصير هياكل الحكم الذاتي، سواء الأمنية أو الإدارية التي أقامها الدروز، وشكل وتوزيع القوى داخل الهياكل الإدارية التي تطمح الخريطة إلى تأسيسها.

 

ونظراً لذلك، لن تشكل خريطة الطريق حلاً بحد ذاتها، فربما مثَّلت محطة انطلاق لتفكيك ومعالجة المعضلات التي تعيشها المحافظة، سواء جراء الحرب التي شهدتها البلاد أو سقوط النظام الأسد أو أحداث يوليو الفائت. وبما أن الخريطة عكست التقدم الحاصل في المفاوضات السورية-الإسرائيلية، فقد قلصت هامش المناورة أمام الشيخ الهجري. وإذا ما توصّلت إدارة الشرع إلى تفاهم مع إسرائيل، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، فسوف تسير الأمور وفق أجندة دمشق مع مساحة محدودة لتأثير الدروز؛ والعكس بالعكس.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M