- يُعدّ الانضمام للاتحاد الأوروبي مسألةً طارئة ووجودية بالنسبة لأوكرانيا، باعتبار أن وجود كييف داخل الاتحاد يُمثِّل ضمانةً أمنية لها. كما تُعد عضوية أوكرانيا مسألةً وجوديةً بالنسبة لقطاع واسعٍ من الدول الأوروبية، التي ترى في ضمان أمن أوكرانيا ضماناً لأمن أوروبا من أي تهديدات روسية مستقبلية.
- منذ افتتاح مسار التفاوض بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، بشأن انضمام كييف للاتحاد، في يونيو 2024، ظلت المحادثات تراوح مكانها دون تقدُّم بسبب الفيتو الذي ترفعه المجر، لأسبابٍ سياسيةٍ واقتصادية.
- تسعى دول الشمال ودول البلطيق وألمانيا إلى تسريع وتيرة مفاوضات انضمام أوكرانيا، وتُطالِب بتغيير قواعد التصويت لتجاوز العقبة المجرية وتدعمها في ذلك المؤسسات الأوروبية، وفي مقدمتها المفوضية ورئاسة المجلس الأوروبي.
- نظراً للطبيعة الوجودية التي تكتسيها المسألة الأوكرانية بالنسبة لأوروبا، يبدو سيناريو التسوية المشروطة بين المجر وبقية الدول الأعضاء، مُرجَّحاً، إذ قد تُمنَح المجر حوافز مالية وضمانات مؤسسية تجعلها تتراجع عن تجميد مسار مفاوضات الانضمام من دون المساس بقواعد التصويت في مسائل التوسّع.
على الرغم مما تشكله الحرب الأوكرانية من تهديد وجودي بالنسبة لأوروبا، فإنها لم تنجح في تبديد الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي بشأن طريقة التعامل مع تأثيراتها على نحو موحد. وكان زعماء الاتحاد الأوروبي قد وافقوا قبل نحو عامين على فتح مفاوضات انضمام أوكرانيا للاتحاد من حيث المبدأ، لكن المفاوضات -حتى اليوم- مُجمَّدة بسبب الانقسام الذي يشق الدول الأعضاء، وهو ما دفع مؤسسات الاتحاد إلى طرح خُططٍ لتسريع عملية الضم، في وقتٍ تحتاج فيه أوكرانيا إلى ضماناتٍ أمنية كافية لمرحلة ما بعد الحرب، وفي ظل رفض الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، منح كييف عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو أي ضماناتٍ أمنية أخرى.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على طبيعة الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي بشأن عضوية أوكرانيا، وتُحلِّل خطط ودعوات تسريع ضم كييف التي طرحها المجلس الأوروبي ويدافع عنها تيار واسع من الدول الأعضاء، وتستكشِف السيناريوهات المحتملة لهذه المسارات المتعارضة.
السياق العام وخطة كوستا
وافق زعماء الاتحاد الأوروبي، في ديسمبر 2023، على فتح مفاوضات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد. وافتتح الاتحاد رسمياً مفاوضات الانضمام في يونيو 2024، وذلك بعد أكثر من عامين من طلبٍ تقدَّم به الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في نهاية فبراير 2022، أي بعد أيامٍ قليلةٍ من الغزو الروسي. وفي السياقات العادية تستغرق عملية الانضمام سنوات عدة، إذ تُعد عملية الاندماج طويلة الأمد وشديدة التعقيد، حيث يجب مواءمة قانون الدولة المرشحة مع القانون الأوروبي، مما يؤدي غالباً إلى مفاوضات صعبةٍ. وبينما اكتملت الموجات الأولى من التوسع بسرعة نسبية، فإن الموجات الأخيرة استغرقت وقتاً أطول.
ومن الناحية الإجرائية يجب أن توافق الدول الأعضاء بالإجماع على طلبات الانضمام، وعندها تحصل الدولة على صفة المرشح للعضوية، وهي الصفة التي حصلت عليها أوكرانيا ومولدوفا في 23 يونيو 2022. ولاحقاً يتطلب افتتاح واختتام كل فصل من فصول التفاوض إجماعاً من الدول السبعة والعشرين، بعد استشارة المفوضية. وللانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يجب على الدولة المرشحة استيفاء ثلاثة معايير رئيسة، والتي تسمى معايير كوبنهاجن، وهي فصول التفاوض الثلاثة: مؤسسات مستقرة تضمن الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان واحترام الأقليات وحمايتها؛ واقتصاد السوق الفعال والقدرة على المنافسة في السوق الأوروبية الموحدة؛ والمكتسبات المجتمعية، أي القدرة على تنفيذ الالتزامات الناشئة عن العضوية، وبخاصة الالتزام بأهداف الاتحاد السياسية والاقتصادية والنقدية.
ومنذ افتتاح مسار التفاوض بين كييف وبروكسل قبل 15 شهراً ظلت المحادثات تراوح مكانها دون تقدُّم بسبب الفيتو الذي ترفعه المجر، فقد كان من المفترض أن يشرع الطرفان في التفاوض حول الفصل الأول من فصول الانضمام التي ينظمها قانون التوسع الأوروبي، والذي يسمى “الأساسيات”، ويغطي قضايا رئيسة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والأمن والقضاء والمشتريات العامة. لكن الحالة الأوكرانية لا تنتمي لسياقٍ عادي، ذلك أن دوافع طلب الانضمام، الذي أعقب الغزو الروسي، تبدو مسألةً طارئة ووجودية بالنسبة لأوكرانيا، باعتبار أن وجود كييف داخل الاتحاد يُعد ضمانةً أمنية لها، بموجب ضمانات المادة 42 من معاهدة الاتحاد الأوروبي التي تنص على وجوب الدفاع المشترك عن أي دولة عضو تتعرض لعدوان مسلح على أراضيها. كما تُعد عضوية أوكرانيا مسألةً وجوديةً بالنسبة لقطاع واسعٍ من الدول الأوروبية، التي ترى في ضمان أمن أوكرانيا ضماناً لأمن أوروبا من أي تهديدات روسية مستقبلية، سيما بعد رفض إدارة الرئيس ترمب منح كييف عضوية حلف شمال الأطلسي.
في مواجهة جمود تقدُّم المفاوضات وإلحاح الوضع الأمني والجيوسياسي، سيما مع شروع الرئيس الأمريكي ترمب في مباحثات سلام ثنائية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورفْضه تقديم أي ضماناتٍ أمنية لأوكرانيا، ظهر تيار أوروبي يطالب بالتعامل مع مسار عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي بشكل مختلفٍ عن المسارات العادية، وبالتالي تسريع مراحل التفاوض. وهذا التيار تقوده دول الشمال والبلطيق، بوصفها الأكثر تهديداً من روسيا. ففي مارس الماضي، طالبت كل من السويد وفنلندا والدنمارك ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا، في رسالة مشتركة، بتسريع ضمّ أوكرانيا للاتحاد، مُطالبين بفتح الفصل التفاوضي الأول حول الأساسيات في أقرب وقت ممكن، وفتح بقية الفصول بحلول نهاية العام الحالي. وقبل ذلك طرحت كل من ألمانيا وسلوفينيا مقترحاً في ديسمبر 2024، لإلغاء حق النقض الذي تتمتع به الدول الأعضاء في القرارات الفنية في خلال عملية التوسيع، مع المحافظة عليه في القرارات السياسية الرئيسة كالموافقة على الانضمام.
وفي أبريل الماضي، دعت الحكومة الألمانية الجديدة، بقيادة فريدريش ميرتس، إلى أن “يترافق توسيع الاتحاد الأوروبي مع قدرته على استيعاب أعضاء جدد، وألا يُعيق مبدأ الإجماع في المجلس الأوروبي عملية اتخاذ القرار”، في إشارة واضحة إلى تسريع انضمام أوكرانيا السريع للاتحاد، وبالضد من موقف الحكومة المجرية. ويحظى هذا التيار بدعمٍ معلن من قادة المؤسسات الأوروبية، وبخاصة رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، ورئيس المجلس، أنطونيو كوستا. وكانت فون دير لاين قد أعلنت في فبراير الماضي، عن أن أوكرانيا قد تنضم إلى الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030. وقدمت المفوضية تقريرها الأول عن تقدم كييف في تلبية شروط العضوية في يناير 2025، وأقرَّت “بجهود الإصلاح التي تبذلها كييف”. وفي يونيو 2025، أقر المجلس الأوروبي بأن “مجموعة الأساسيات جاهزة للفتح” بناءً على تقييم المفوضية، ودعا إلى المضي قدماً في الخطوات التالية لاستكمال عملية الانضمام.
ومع ذلك ظلت المفاوضات مجمدةً، على رغم ما جرى في قمة ألاسكا بين بوتين وترمب في 15 أغسطس 2025، وما أعقبها من تقدُّم روسي على خطوط الجبهة الميدانية، وتصاعُد وتيرة الحرب الهجينة بالمُسيرات والهجمات السيبرانية، وهو ما دفع رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا إلى طرح خطةٍ لتغيير قواعد التوسع للالتفاف على الفيتو المستمر الذي تستخدمه المجر ضد طلب عضوية أوكرانيا نهاية سبتمبر الماضي. وأساس هذه الخطة هو تغيير إطار المفاوضات مع أوكرانيا من طريق السماح بفتح فصول التفاوض بالأغلبية المؤهلة وليس بالإجماع كما تنص معايير كوبنهاجن. وهذا يعني عملياً أن حق النقض المجري لن يكون كافياً لعرقلة التقدم، مع أن إغلاق فصول الانضمام سيظل خاضعاً لقاعدة إجماع الأعضاء السبع والعشرين في الاتحاد.
طرح كوستا مبادرته في خلال اجتماعات ثنائية تخللت جولته في العواصم الأوروبية، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، قبل تقديمها رسمياً في قمة كوبنهاجن في الأول من أكتوبر الماضي. لكن الخطة لم تحظَ بدعمٍ كبيرٍ، فقد اتفق قادة الاتحاد على العودة إلى مسألة انضمام أوكرانيا في الاجتماع المقبل للمجلس الأوروبي يومي 23 و24 أكتوبر. وتعهَّدت الدنمارك، التي تتولى رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي حتى نهاية العام، بممارسة “أقصى قدر من الضغط” على المجر لرفع حق النقض. لكن هذا الجمود لا يكشف فقط عن تحدٍ جيوسياسي يمثله وجود كييف داخل الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، بوصفها جبهة مُتقدِّمةً لحرب يمكن أن تندلع في أي وقت بين أوروبا وروسيا، ولكن أيضاً عن ضعفٍ بنيوي يعانيه الاتحاد، الذي لا يزال -بوصفه كياناً وحدوياً- مرتهناً لحسابات سياسية وطنية تتعلق بالدول. وإذا استمر هذا التناقض، فستتداعى مصداقية الاتحاد بشأن التوسع، وكذلك قدرته على صياغة سياسات موحدةٍ ومجابهة تحديات مستقبلية بشكل موحد.
الانقسام حول أوكرانيا
تنقسم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول مسار تسريع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي إلى تيارين. التيار الأول بقيادة ألمانيا، ويضم دول الشمال الأوروبي ودول البلطيق، والذي يرى في التهديد الروسي تناقضاً رئيساً يجب أن يؤخذ باعتباره دافعاً لوضع أوكرانيا في مسار استثنائي للعضوية الأوروبية، وأنها يجب ألا تُعامل بصفتها مُرشحةً [لنيل هذه العضوية] في سياقات عادية، وذلك لتأمين ضمانة أمنية قوية لكييف ولأوروبا في حال توقيع اتفاق سلام مع موسكو. أما التيار الثاني فيضم بقية الدول، وبدوره يبدو هذا التيار منقسماً حول دوافع المعارضة، على النحو الآتي:
1. معارضو تغيير القواعد: لأسباب بعضها قانوني وأكثرها سياسي تُعارض دول، مثل فرنسا واليونان وهولندا والبرتغال وبلغاريا وكرواتيا، مسألة تغيير قواعد التوسع، ولاسيما خطة رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا التي تجيز السماح بفتح فصول التفاوض بالأغلبية المؤهلة وليس بالإجماع كما تنص معايير كوبنهاجن، على رغم أن هذه الدول تساند مسألة عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي. فقد أكد رئيس الوزراء الهولندي المؤقت ديك شوف أن مستقبل أوكرانيا يكمن في الاتحاد الأوروبي، لكن من دون تجاوز حق النقض، لأن تغيير القواعد سوف يتطلب في حد ذاته دعماً بالإجماع، مما يجعل اقتراح كوستا مستحيلاً من الناحية القانونية دون موافقة المجر. كما أعربت فرنسا واليونان وبلغاريا وكرواتيا عن قلقها من أن تغيير قواعد الانضمام سيُقيّد قدرتها على عرقلة طلبات العضوية التي تراها مُشكِلة، إذ تسعى اليونان دائماً لعرقلة محادثات عضوية تركيا، وتدعمها في ذلك المسعى قبرص وفرنسا التي تُعارض بقوة وجود أنقرة داخل الاتحاد، كما تتحفظ أثينا على ترشيح ألبانيا. في الوقت نفسه يُريد البلغار أن يتمكنوا من وضع حدٍّ لمسألة انضمام مقدونيا الشمالية، وكذلك تسعى كرواتيا إلى عرقلة محادثات انضمام صربيا.
2. المعارضة المجرية الجذرية: خلافاً لدوافع الخشية من تغيير القواعد، يُعارض رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي بشكل جذري واستراتيجي، ولأسباب جيوسياسية واقتصادية. فمن ناحية أولى، تبدو المجر أكثر دول الاتحاد الأوروبي قرباً من روسيا، إذ تعمل على منع فرض الاتحاد عقوبات على موسكو، كما ترفض التوقف عن الاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية، على الرغم من مطالبة إدارة ترمب لحلفاء الناتو بالتوقف عن شراء النفط الروسي. فضلاً عن ذلك، يعتقد أوربان أن ضم أوكرانيا سيجلب إلى أوروبا نزاعاً مع روسيا، سيما أن أوكرانيا هي الفاصل الجغرافي بين روسيا والمجر، وبالتالي في حال أي نزاعٍ ستكون المجر مستهدفة بشكل مباشر. كما أُثيرت قضايا الفساد وضعف سيادة القانون والمخاوف بشأن الحوكمة. وتجادل المجر بأن أوكرانيا ليست مستعدة بما يكفي في المجالات القضائية، ومكافحة الفساد لتكون عضواً في الاتحاد.
أما من الناحية الاقتصادية، فترى المجر أن انضمام أوكرانيا من شأنه أن يقلّص حصتها من أموال الاتحاد الأوروبي المخصصة للتماسك والدعم الزراعي. إلى جانب الخشية أن تكون السلع الزراعية الأوكرانية، وبخاصة تلك المنتجة في ظل قواعد أقل صرامة، بما في ذلك المحاصيل المعدلة وراثياً، عاملاً في تعريض تنافسية كُلٍّ من الشركات المجرية والمزارعين المجريين إلى مخاطر اقتصادية عالية، حيث تعد أوكرانيا واحدة من أكبر المنتجين الزراعيين في القارة، وثالث أكبر مصدّر للحبوب في العالم. كما تخشى الحكومة المجرية أن يؤدي السماح بحرية حركة الأشخاص إلى قدوم أعداد كبيرة من العمال الأوكرانيين إلى المجر، وهو ما يؤدي إلى خفض الأجور أو الضغط على الخدمات الاجتماعية. ويقف وضع الأقلية المجرية في أوكرانيا، أيضاً، حجرة عثرةٍ أمام أي موافقة مجرية على عضوية أوكرانيا، إذ تقول بودابست إن المجريين في منطقة ترانسكارباتيا الأوكرانية قد تعرضوا لانتهاكات تتعلق بحقوقهم اللغوية وغيرها من أشكال تهديد الأقليات. وتسعى المجر إلى أن تكون الضمانات وخطط العمل المتعلقة بحقوق الأقليات شرطاً مسبقاً أو جزءاً صريحاً من أي مفاوضات انضمام. وقد صعّد رئيس الوزراء المجري موقفه المعارض لعضوية أوكرانيا مستفيداً من قربه من ترمب، كما تُوظِّف الحكومة المجرية معارضة انضمام أوكرانيا أداةً لحشد قاعدتها الشعبية، لا سيما بين الناخبين القوميين والمحافظين. وأجرت المجر استفتاءً شعبياً استشارياً حول انضمام كييف، وشارك في التصويت أكثر من مليوني مجري، عارض 95% منهم انضمام أوكرانيا للاتحاد. وتخشى الدول الأوروبية في أن ينجح المجر في استمالة سلوفاكيا إلى معسكر المعارضة الجذرية، من طريق التقارب السياسي والأيديولوجي بين أوربان ورئيس الوزراء روبرت فيكو، وسياستهما القريبة من روسيا، إذ تضافرت مواقف سلوفاكيا والمجر في يونيو الماضي لمنع حزمة العقوبات الثامنة عشرة التي فرضها الاتحاد الأوروبي، والتي كان من شأنها أن تقدم الجدول الزمني لحظر واردات النفط الروسية بين الدول الأعضاء بحلول عام 2027.
السيناريوهات المحتملة
في ضوء موازين القوى الحالية داخل الاتحاد الأوروبي، والإلحاح السياسي والأمني الذي تمثله المسألة الأوكرانية للاتحاد، سيما للدول الأكثر تهديداً في الشمال والبلطيق، تبدو مسارات عضوية أوكرانيا والاستعصاء المجري مفتوحةً على ثلاثة سيناريوهات محتملة:
السيناريو الأول: نجاح المجر في منع عضوية أوكرانيا. وهذه ليست سابقة، حيث نجحت فرنسا واليونان منذ أكثر من عقدين في عرقلت انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. وضمن هذا السيناريو تتمترس المجر وراء حق النقض ضد خطوات رئيسة، مثل فتح فصول المفاوضات أو معاهدات الانضمام النهائية. وتتجنَّب الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد المواجهة المباشرة للحفاظ على الوحدة، وكذلك تمتنع عن تغيير قواعد في التصويت حول مسائل التوسّع. وفي المقابل ترتبط أوكرانيا مع الاتحاد باتفاق شراكة استراتيجية في مجال الطاقة، ومواءمة الجمارك، والأسواق الرقمية، فيما تظل العضوية الكاملة مؤجلة. يحقق هذا السيناريو هدف المجر، ويخدم في الوقت نفسه أهداف روسيا في حرمان أوكرانيا من أي ضمانات أمنية، لكنه في الوقت نفسه يُضعِف كثيراً مصداقية توسيع الاتحاد الأوروبي التي مثلت دائماً أحد أقوى أوراق نفوذه في القارة، وقد يدفع ذلك الدول الأعضاء إلى مراجعة قواعد الانضمام على نحو جذري. يبدو هذا السيناريو مُستبعداً بسبب الضغوط الجيوسياسية والأمنية التي يشكلها ملف أوكرانيا بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
السيناريو الثاني: المواجهة بين المجر وبقية الدول الأعضاء، وذلك إما من طريق تغيير قواعد التصويت في مسائل التوسّع وإعادة تفسير إجراءات التوسع الخاصة بأوكرانيا بشكل يتجاوز حق النقض الذي تتمتع به المجر(احتمالية ضعيفة)، أو من طريق اللجوء إلى المادة 7 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، التي تُخوّل فرض عقوبات على أي دولة عضو لا تحترم القيم المنصوص عليها في المعاهدة، والتي تمكّن من تعليق حقوق تصويت أي دولة عضو، للحد من نفوذ المجر. ويبدأ الإجراء باقتراح يُقدّمه ثلث الدول الأعضاء في الاتحاد، أو البرلمان الأوروبي، أو المفوضية. وتصاعدت الدعوات في الأونة الأخيرة لتفعيل هذا الإجراء العقابي ضد المجر. وفي هذا السيناريو، ستواصل أوكرانيا تلبية بقية متطلبات الانضمام دون إجماع كامل، وبحيث تكتسب موطئ قدم مؤسسياً بشكل أسرع. وفي المقابل ستواجه المجر عزلةً سياسيةً وخطر التعرض لعقوبات مالية. ومع أن هذا السيناريو لا يزال مُستبعَداً لكنَّه محتمل في ظل الدور الذي يؤديه فيكتور أوربان في معارضة الكثير من سياسات الاتحاد الأوروبي.
السيناريو الثالث: التسوية المشروطة بين المجر وبقية الدول الأعضاء التي لا يُريد قطاع كبير منها تغيير القواعد لأسباب سياسية، وربما يكون ذلك مدفوعاً بخشية المجر من عقوبات أوروبية. في هذا السيناريو ستتخلى المجر عن حق النقض في مقابل تنازلات مالية أو سياسية، الأمر الذي يسمح بمواصلة مسارات التفاوض بشكل طبيعي، إذ تُقدّم المؤسسات الأوروبية حوافز مالية للمجر من طريق زيادة أموال حزمة التماسك مثلاً، ومعايير صارمة بشأن حماية المزارعين، وكذلك توفير ضمانات تتعلق بحقوق الأقلية المجرية في منطقة ترانسكارباتيا في أوكرانيا. وفي المقابل يُسوّق فيكتور أوربان ذلك على المستوى المحلي على أنه مكسب للمصالح الوطنية المجرية. وفي ضوء ميزان القوى الراهن، يبدو هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً، مع أن المجر ستُحاوِل كسب الوقت والمماطلة لتعطيل فتح أولى فصول التفاوض مع أوكرانيا.
خلاصة
في ظل سعي أوكرانيا إلى كسب ضماناتٍ أمنية بعضوية الاتحاد الأوروبي لتأمين نفسها في مرحلة ما بعد الحرب مع روسيا، بعد رفض الرئيس الأمريكي ترمب منحها عضوية حلف شمال الأطلسي، يشهد الاتحاد انقساماً بشأن هذه العضوية. إذ تُعارِض المجر بشدة عضوية كييف لأسباب سياسية واقتصادية، وتستفيد من حق الفيتو الذي يُقرّه مبدأ الاجماع الأوروبي، وفي الوقت نفسه ترفض عددٌ من الدول الأعضاء المساس بقواعد التصويت في مسألة التوسع لأسباب جيوسياسية. لكن، في المقابل، تسعى دول الشمال ودول البلطيق وألمانيا إلى تسريع وتيرة مفاوضات انضمام أوكرانيا وتطالب بتغيير قواعد التصويت لتجاوز العقبة المجرية وتدعمها في ذلك المؤسسات الأوروبية، وفي مقدمتها المفوضية ورئاسة المجلس الأوروبي.
وفي ضوء هذا الانقسام، بالترافق مع الطبيعة الوجودية التي تكتسيها المسألة الأوكرانية بالنسبة لأوروبا، يبدو سيناريو التسوية هو الأكثر توقُّعاً، إذ قد تُمنَح المجر حوافز مالية وضمانات مؤسسية تجعلها تتراجع عن تجميد مسار مفاوضات الانضمام من دون المساس بقواعد التصويت في مسائل التوسّع. وهذا السيناريو يخدم مصالح جميع الأطراف من دون الوقوع في عقوبات أو حدوث قطيعة من شأنها أن تُعرِّض تماسُك الاتحاد نفسه للخطر.