إسرائيل بعد عامين من الحرب في غزة: التحولات الداخلية والخارجية

  • حمل عامان من الحرب الشرسة في غزة تداعيات كبيرة على إسرائيل خارجياً وداخلياً، إذ عمَّقت الحرب الاستقطاب الداخلي، وأنتجت ثقافة سياسية جديدة، وتسببت في تراجع الاقتصاد، وزيادة الهجرة المعاكسة للإسرائيليين، لاسيّما من النخبة المتعلمة. كما حملت الحرب تداعيات خارجية على مستوى تزايد عزلة إسرائيل الدولية، وتصدّع سرديتها التاريخية للصراع مع الفلسطينيين.
  • تتباين مواقف التقديرات الإسرائيلية بالنسبة للتغييرات الإقليمية التي أحدثتها الحرب على غزة، فهناك مَن يعتقد أن التغييرات كانت تكتيكية والخسارة أكبر من المكاسب، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أن التغييرات كانت استراتيجية، وسوف تؤثر في البيئة الإقليمية بصورة عميقة.
  • في حال تغيَّرت الحكومة الإسرائيلية الحالية، فإن مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية قد تتحسن على المدى البعيد، وخاصةً إذا رافق ذلك انخراطها في تسويات سياسية جديَّة، تتعلق بالقضية الفلسطينية خصوصاً، تُنهي حالة الصراع مع دول الجوار.

 

مع انتهاء الحرب في غزة، في حال حققت خطة الرئيس ترمب بشأنها النجاح المأمول، تكون إسرائيل قد خاضت أطول حروبها منذ قيامها، وهي حربٌ أفرزت تداعيات داخلية ملموسة على المشهد الإسرائيلي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، من أهمها تعميق الاستقطاب الداخلي، وإنتاج ثقافة سياسية جديدة، وتراجع الاقتصاد الإسرائيلي، والهجرة المعاكسة لإسرائيل، لاسيّما من النخبة المتعلمة. كما حملت الحرب تداعيات خارجية على مستوى عزلة إسرائيل الدولية، وتصدّع -لدرجة انهيار- سرديتها التاريخية للصراع مع الفلسطينيين. وفي المقابل، نجحت إسرائيل بعد عامين من الحرب في تحقيق بعض الإنجازات الاستراتيجية (مثل إضعاف المحور الإيراني)، في مقابل خسارتها مسار توسيع التطبيع في المنطقة العربية في المدى القريب على الأقل، وعودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الإقليمية والدولية بوصفها قضية محوريّة في منطقة الشرق الأوسط.

 

تستعرض هذه الورقة تداعيات الحرب في غزة على المشهدين الداخلي والخارجي في إسرائيل، وتحاول استشراف تداعيات الحرب على هذين المشهدين في المدى القصير.

 

المختلف في الحرب على غزة

أدى النجاح الصادم لعملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 إلى إثارة الهاجس الوجودي في إسرائيل، لأول مرة ربما منذ حرب عام 1973. وأدى هذا الهاجس، وبغض النظر عن واقعيته، إلى تولُّد شعور لدى قسم من الإسرائيليين بأن إسرائيل ما عادت تُمثِّل ملجأً آمناً لليهود في العالم، أو وُجهةً مُثلى لهجرة النخب اليهودية النوعية.

 

وتُعد حرب العامينِ في غزة الأطول في تاريخ إسرائيل، وكان يُمكن أن تطول أكثر من ذلك، لو لم يفرض الرئيس الأمريكي دونالد ترمب خطةً لإنهائها. على مستوى التأييد الداخلي للحرب، مرت الحرب بمرحلتين: الأولى حظيت فيها بإجماع اجتماعي وسياسي واسع، ومنحت حكومة بنيامين نتنياهو الشرعية للبقاء من أجل إدارة الحرب حتى تحقيق أهدافها، واستمر هذا الإجماع -إلى حد ما- حتى نهاية العام 2024. في المرحلة الثانية التي أعقبت هذا التاريخ، فقدت الحرب الإجماع الداخلي عليها، وبات يُنظَر لها على أنها حربٌ الهدف منها تحقيق مصالح شخصية ورؤى أيديولوجية، بمعنى أن نتنياهو يستغل حالة الحرب للبقاء في الحكم عبر الإبقاء على حكومته وتماسكها، وأيضاً لتحقيق أهداف اليمين الديني الاستيطاني في احتلال غزة وتهجير سكانها والاستيطان فيها.

 

وقد أدى بدء تآكل الإجماع على حرب غزة وأولويات أهدافها منذ يونيو 2024، إلى تداعيات داخلية كبيرة، وليس مُصادفةً أن خروج بني غانتس، رئيس حزب “أبيض-أزرق” من الحكومة في ذلك الشهر بالذات كان مُؤشراً على بدء تآكل الإجماع على الحرب، التي تحولت إلى مشروع شخصي وأيديولوجي لرئيس الحكومة وبعض وزرائه بشكل واضح منذ ذلك الحين. في هذا الصدد، يُمكن القول إنه لولا تدخل الرئيس دونالد ترمب لوقف القتال بعد عامين، لاستمر نتنياهو في الحرب لمدة لا يُمكن التنبؤ بها. وفي استطلاع للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية، أشار 66% من الإسرائيليين إلى أنه بعد عامين حان الوقت لإنهاء الحرب في قطاع غزة.

 

لولا تدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لوقف القتال في غزة، لاستمر نتنياهو في الحرب لمدة لا يُمكن التنبؤ بها (أ.ف.ب)

 

التداعيات الداخلية

حملت الحرب الإسرائيلية في غزة تداعيات داخلية عديدة، ويُمكن الإشارة إلى أهمها:

 

أولاً، تعمُّق الاستقطاب والتصدُّع السياسي-الاجتماعي. ما كان الاستقطاب والتصدّعات في المجتمع الإسرائيلي ظاهرة جديدة، إذ رافق دولة إسرائيل ومجتمعها منذ البداية، لكن الدولة والمجتمع المدني نجحا في إدارة هذه التصدعات عبر أدوات مختلفة، لا تتعارض مع مصالح الدولة العليا. وقد عمّقت الحرب على غزة الاستقطاب الداخلي على المستوى السياسي، حيث اتهم معسكر نتنياهو المعارضين له بأنهم سبب هجوم “السابع من أكتوبر” نتيجة للاحتجاجات الجماهيرية ضد التغييرات الدستورية والتهديد بعدم الالتزام بالخدمة الاحتياطية، مما أعطى “حماس” انطباعاً بأن إسرائيل ضعيفة من الداخل، ومتفككة اجتماعياً، ما يُمثّل فرصة للهجوم عليها. وفي المقابل اتهم المعارضون لحكومة نتنياهو تجاهل الأخير تحذيرات الأجهزة الأمنية وحتى وزير دفاعه آنذاك، يوآف غالانت، بأن الاستمرار في التغييرات الدستورية يُشكل خطراً على الأمن الإسرائيلي، فضلاً عن اتهامه بقيادة منظومة التفكير الإسرائيلية التي كانت تعتقد بأن حركة حماس “مردوعة” ومُهتمة بالحفاظ على حكمها، وإضعافه (أي نتنياهو) للسلطة الفلسطينية وسماحهِ بإدخال الأموال القطرية إلى غزة لتكريس فصل الضفة الغربية عن غزة. وما كان هذا الاختلاف تحت سقف النقاش السياسي العادي بل تجاوزه إلى توجيه اتهامات بالخيانة، ونزع شرعية الطرف الآخر، وتحولت لغة الحوار إلى لغة عنيفة فاقت تلك اللغة التي سادت النقاش حول اتفاق أوسلو في تسعينيات القرن الماضي، وأدت إلى اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين عام 1995.

 

كما تعمَّق التصدع الديني-العلماني في إسرائيل، ولكن في هذه المرحلة ليس من زاوية مكانة الدين في الدولة أو المجال العمومي، بل طال ملف الخدمة العسكرية، وتحولت هذه المسألة من قضية تتعلق بالمساواة في تحمل العبء الاقتصادي إلى قضية جوهرية تتعلق بالحياة والموت، فما عاد التصدُّع بين مَن يخدم ويعمل مقابل مَن لا يخدم ولا يعمل، بل تحول إلى تصدُّع عميق بين مَن يخدم ويُقتل وبين مَن لا يخدم ولا يُقتل ولا يعمل ويحصل على جميع الامتيازات الاقتصادية من الدولة. لقد تحول مطلب الخدمة العسكرية للمتدينين إلى مسألة مركزية تُهدد بقطع الخيط الرفيع الذي كان لا يزال قائماً بين المجموعة الدينية الحريدية وأغلب المجتمع الإسرائيلي. والتغيير الذي أحدثته حرب غزة أن هذا التصدع ما عاد قابلاً للتأجيل أو المراوحة في المكان، بل يجب حسمه قانونياً، ما يعني أنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى تعميق التصدع، حيث لن يقبل الحريديم بقانون يفرض عليهم الخدمة العسكرية بصورة جارفة، كما لن يقبل المعارضون قانوناً يُعفي هؤلاء من الخدمة أو يُهادنهم في ذلك.

 

تحول مطلب الخدمة العسكرية للمتدينين إلى مسألة مركزية تُهدد بقطع الخيط الرفيع بين المجموعة الدينية الحريدية وأغلب المجتمع الإسرائيلي (أ.ف.ب)

 

ساهمت إطالة الحرب في تعميق التصدّعات في المجتمع الإسرائيلي، ففي بحث أجراه عالم النفس السياسي الإسرائيلي، نمرود نير، حول الانقسام الداخلي في إسرائيل بعد مرور عام على الحرب، أكَّد نير إلى أن الوحدة التي ميّزت المجتمع الإسرائيلي في بداية الحرب سرعان ما تلاشت، وتحوّل الانقسام الداخلي إلى الخطر الوجودي الأساسي في نظر الإسرائيليين. وحول موقف الإسرائيليين بشأن التهديد المركزي على إسرائيل، أشار 62% من الإسرائيليين إلى أن الانقسام الداخلي هو التهديد المركزي على إسرائيل مقابل 38% اعتقدوا أن التهديد هو خارجي. وللمقارنة مع الاستطلاع نفسه الذي أجراه الباحث في أكتوبر 2023، تبين أن 77% من الإسرائيليين رأوا أن الحرب وحّدت المجتمع الإسرائيلي، وتراجعت النسبة إلى 40% في أكتوبر 2024، وارتفعت نسبة من يعتقدون أن المجتمع الإسرائيلي تَحوَّل إلى مجتمعٍ منقسمٍ بحدة من 12% إلى 40%.

 

ولأول مرة في تاريخ إسرائيل ربما، تكرر بشكل مكثف التحذير من وقوع “حرب أهلية” في خضم الحرب على غزة، فقد أنتجت هذه الحرب بعد عامين على اندلاعها الأرضية للصدام الداخلي، وزادت من هواجس الخطر على استقرار الدولة وحتى بقاءها، كما كانت هناك خشية من أن ضعف مؤسسات الدولة في خلال الأعوام الثلاث الماضية قد يخلق حالة من الفوضى في الشارع تتطور إلى مواجهات عنيفة بين مجموعات مختلفة.

 

ثانياً، صعود النزعة المليشيويّة. ساهمت حرب غزة في تصاعد النزعة المليشيويّة في المجتمع الإسرائيلي، لاسيّما في صفوف اليمين الديني الذي شكل مجموعات مُسلحة في الضفة الغربية من أجل التنكيل بالفلسطينيين، ومجموعات أخرى (بلطجيّة) للتنكيل بالمتظاهرين ضد الحكومة. وتصاعدت هذه النزعة بغياب المساءلة القانونية لهذه المجموعات، لا بل حظيت بتأييد سياسي من وزراء في الحكومة، في مقدمتهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، رئيس حزب “عظمة يهودية”. وتغلغلت هذه النزعة إلى صفوف الجيش، حيث يتصرف جنود وضباط بناءً على توجهات سياسية وأيديولوجية في ممارساتهم العسكرية، وهو أمر ما عاد الجيش قادراً على احتوائه ومنعْه خوفاً من تفكّكه، وغياب الدعم السياسي للجيش لمواجهة هذه الظاهرة القادمة تحديداً من جنود وضباط يحملون توجهات يمينية. وتعدّ النزعة المليشيويّة نقيضاً جوهرياً للدولة، فدولة إسرائيل تحديداً بُنيت من خلال نفي النزعة المليشيويّة، سواء السياسية أو العسكرية التي سادت مجتمع المستوطنين اليهود قبل عام 1948، وعودتها بهذه الحدة في المجال العمومي والجيش تهدد واحداً من أركان الدولة المركزية.

 

ثالثاً، تداعي الاقتصاد الإسرائيلي. حملت الحرب في غزة تداعيات عميقة على الاقتصاد الإسرائيلي، لكنها تداعيات قد تكون مؤقتة. إذ تثبت تجربة إسرائيل مع الأزمات الاقتصادية في أعقاب الحروب والمعارك أنها قادرة على تجاوز الأزمة الاقتصادية نحو النمو والنهوض من جديد. وتكمُن المشكلة الأساسية في الحرب الحالية بخلاف الحروب السابقة، في أنها كانت طويلة، كما أنها أدت إلى هجرة شرائح سكانية نوعية بسبب حالة الإحباط من الثقافة السائدة في إسرائيل، من نحو التطرف الديني، وصعود اليمين الشعبوي، وإضعاف المؤسسات الديمقراطية، والتضييق على النخب الليبرالية (في مجالات الفن والأدب والإعلام والأكاديميا) والتي تعمّقت في سياق الحرب. وتشير معطيات دائرة الإحصاء المركزية في إسرائيل إلى أنَّه في خلال العام الأول من الحرب (2024) ترك إسرائيل حوالي 83 ألف إسرائيلي. وأغلب الذين غادروا إسرائيل (81%) من الشباب حتى جيل 49 سنة، ويُعد هذا العدد هو الأكبر الذي سُجل في إسرائيل في خلال عام واحد.

 

والأهم، أن الحرب أدت إلى تعميق أزمة قطاع التقنية الفائقة (الهايتك) الذي يُشكل العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي. فقد أفاد تقرير نشرته وزارة  العلوم والتكنولوجيا حول البحث والتطوير في إسرائيل، بأن قطاع “الهايتك” ساهم بمبلغ 338.8 مليار شيكل (حوالي 100 مليار دولار) في الاقتصاد الإسرائيلي في خلال العام 2024، والذي شكّل حوالي 18% من الاقتصاد الإسرائيلي، ومع ذلك سجَّل العام نفسه تراجعاً في عدد المستخدَمين في الهايتك، وارتفاعاً في انتقال الشركات العاملة في هذا القطاع إلى الخارج، ومنذ اندلاع الحرب في غزة أخذت شركات الهايتك الخاصة تُشغل نصف مستخدميها في مجال البحث والتطوير خارج إسرائيل، كما سجل القطاع تراجعاً في عدد الشركات الناشئة (Startup) الجديدة، نتيجة لارتفاع عدد الشركات التي أنْهت عملها، وعدم فتح شركات جديدة.

 

حملت الحرب في غزة تداعيات ملموسة على العديد من قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي، بما فيها قطاع مبيعات الأسلحة (أ.ف.ب)

 

لقد ساهمت الحرب في تراجع معدل النمو للفرد إلى الصفر في العام 2024، والأمر لن يكون أفضل في العام 2025، وللمقارنة فإن النمو الاقتصادي للفرد وصل في العام 2021 إلى 6.8% وفي العام 2022 إلى 4.4%. وفي هذا الصدد يشير أستاذ الاقتصاد في جامعة تل أبيب، إيتاي أتّر، إلى أن الأزمة الاقتصادية سوف تتفاقم في الأعوام المقبلة، لاسيّما في 2025-2026، إذا لم يتم تغيير الحكومة الحالية. ويشير أتّر إلى أنه في العام 2023 (مع استلام الحكومة الحالية) وصل العجز في الميزانية إلى 4.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي العام 2024 ارتفع إلى 6.8%، ومن المتوقع أن يصل في العام 2025 إلى حوالي 5%، وذلك نابع من الإنفاق على الحرب وسياسات الحكومة الاقتصادية غير المسؤولة.

 

ووصلت تكاليف الحرب إلى أكثر من 300 مليار شيكل، مما أدى إلى رفع العجز وتآكل الاقتصاد وارتفاع تكاليف المعيشة، فمثلاً ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 15%. ووصل الديّن العام في إسرائيل إلى 70% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 60% عام 2022، ومن المتوقع أن يرتفع في السنوات المقبلة، ليصل إلى 20 مليار شيكل سنوياً في العام 2028. وأدى التخوف من عدم القدرة على سداد الديّن وتدهور الاقتصاد، إلى تخفيض التصنيف الائتماني لإسرائيل لعدة مرات في خلال فترة قصيرة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ إسرائيل كما يشير أتّر.

 

رابعاً، تغيُّر المشهد السياسي الداخلي. غيّرت الحرب على غزة ميزان القوى في المشهد السياسي الإسرائيلي، وتشير استطلاعات الرأي، منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن، إلى أن الحرب ستطيح الحكومة الحالية في الانتخابات المقبلة، وربما تكون هذه الانتخابات هي نهاية نتنياهو في المشهد السياسي الإسرائيلي للأبد. لذلك قاوم نتنياهو كل المحاولات لتبكير موعد الانتخابات، وساهمت هذه الحقيقة في إطالة أمد الحرب. ولا يعني ذلك أن أفكار اليمين تراجعت، بل على العكس من ذلك، فأفكار اليمين باتت مهيمنة في المجتمع الإسرائيلي، وتحديداً فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، فضلاً عن أن المعارضة لنتنياهو ليست يساريّة بل تتألف من مكونات يمينية (مثل نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان) ومكونات يمين الوسط (مثل يائير لبيد وبني غانتس)، ولكن المعارضة تتركز ضد حكومة نتنياهو الحالية وضد شخصه وضد تيارات متطرفة فيها، والتي يرى اليمين الليبرالي وحتى المحافظ أنها انحرفت عن المسار الصحيح فيما يتعلق بالحريات، والحفاظ على السلطة القضائية، والتطرف الشعبوي، وغيرها، فضلاً عن أدائها الرديء في جميع المجالات، وفي مقدمتها فشلها في منع هجوم السابع من أكتوبر.

 

قاوم نتنياهو كل المحاولات لتبكير موعد الانتخابات، وساهمت هذه الحقيقة في إطالة أمد الحرب (أ.ف.ب)

 

التداعيات الخارجية

حملت الحرب في غزة على مدار عامين تداعيات خارجية على إسرائيل، ويُمكن تقسيمها إلى تداعيات دولية وإقليمية.

 

أولاً، على المستوى الدولي

دخلت إسرائيل في عزلة دولية غير مسبوقة في تاريخها، ويُرافِق هذه العزلة انهيار السردية الإسرائيلية ووصفْها بدولة ترتكب إبادة جماعية وتطهير عرقي في قطاع غزة والضفة الغربية. وأدت سياسات إسرائيل في قطاع غزة والضفة الغربية إلى موجة اعترافات واسعة بالدولة الفلسطينية، والتي وصل عددها إلى أكثر من 10 دول، في مقدمتها فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا وإسبانيا، وصعود حل الدولتين من جديد على الأجندة الإقليمية والدولية. وقد جاءت المبادرة الفرنسية-السعودية داعمة لهذا التوجه؛ فبدل أن تحصل إسرائيل على اتفاقيات تطبيع جديدة، حصلت على اعترافات دولية بدولة فلسطين، وهو أمرٌ تناقض مع خطاب نتنياهو عند تشكيل حكومته الحالية في نوفمبر 2022، إذ أكّد وقتذاك أن توسيع اتفاقيات التطبيع سيكون الهدف الاستراتيجي لإسرائيل في خلال ولايته الحالية.

 

ومع تقدُّم الحرب على غزة، كانت إسرائيل تخسر مزيداً من تأييد الرأي العام الدولي، وبخاصة في الدول التي كانت تدعم إسرائيل، وأهمها الولايات المتحدة. فقد كشفت استطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة “نيويورك تايمز” و”كوليج سيينا”، عن تراجُع دعم الأمريكيين لإسرائيل في خلال الحرب بشكل غير مسبوق، ففي الاستطلاع الذي أجري بعد السابع من أكتوبر 2023، عبّر 47% عن تأييدهم لإسرائيل مقابل 20% للفلسطينيين، في حين أنه في الاستطلاع الذي أجري في سبتمبر 2025، تراجع التأييد لإسرائيل إلى 34% مقابل 35% للفلسطينيين. وفي استطلاع أجري في الولايات المتحدة الأمريكية كشف عن عمق القطيعة بين اليهود في الولايات المتحدة وبين إسرائيل، وتحديداً مع الحكومة الحالية، إذ بيّن الاستطلاع أن 61% من اليهود في الولايات المتحدة مقتنعون بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة، ويعتقد 39% أن إسرائيل تنفذ إبادة جماعية في غزة. وفي هذا الصدد، يشير أستاذ التربية في الكلية الأكاديمية “بيت بيرل”، يورام هرباز، إلى أن “السابع من أكتوبر” وما بعده أدى إلى انهيار سرديتين إسرائيليتين: الأولى، أن إسرائيل هي ملجأ آمن لليهود في العالم؛ والثانية، أن إسرائيل بوصفها دولة الشعب اليهودي -الذي عانى من المحرقة النازية- لا يمكن أن ترتكب جرائم حرب أو أن تكون مسؤولة عن إبادة جماعية.

 

ولم ينحصر تراجع إسرائيل في عموم الجمهور الأمريكي واليهودي تحديداً، بل وصل إلى الشرائح الشبابية في الحزب الجمهوري الأمريكي الذي لا يزال مؤيدوه يدعمون إسرائيل على الرغم من التراجع في معدل التأييد العام، فقد كشفت استطلاعات الرأي التي أجراها معهد “بيو” عن تراجع تأييد الفئة العمرية 50 عاماً وما دون لإسرائيل، ففي استطلاع أجري عام 2022 عبّر 63% من الجمهوريين من هذه الفئة العمرية عن تأييدهم لإسرائيل، في حين تراجع هذا التأييد إلى 48% في استطلاع أجري في يوليو 2025.

 

ويعد معدل الدعم لإسرائيل في أوروبا أسوأ من الولايات المتحدة، إذ تشير نتائج استطلاع أجرته مؤسسة YouGov في يونيو 2025، في ست دول في غرب أوروبا (ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا والدنمارك وإيطاليا)، إلى أن 13%-21% من جمهور هذه الدول يحملون موقفاً إيجابياً من إسرائيل، مقابل 63%-70% يحملون موقفاً سلبياً منها.

 

وعلى المستوى العلاقة مع الولايات المتحدة، فإن إسرائيل خسرت الحزب الديمقراطي بسبب سياسات نتنياهو الداعمة لترمب حتى قبل الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2024، وبمماطلته توقيع اتفاق حول غزة في فترة بايدن، ومواجهته للأخير علنيّاً على الرغم من دعمه لإسرائيل في بداية الحرب، ووضع مصالح إسرائيل في جعبة الحزب الجمهوري الذي يشهد تحولاً داخلياً معاديّاً لإسرائيل، وخاصة في صفوف حركة “لنجعل أمريكا عظيمة من جديد” MAGA، التي ترى أن إسرائيل تجر الولايات المتحدة إلى أزماتها، في حين أن التعويل على ترمب فقط في السياسة الخارجية هو مكسب قصير المدى ولكنه، في نظر بعض الإسرائيليين، يمثل “كارثة على المدى البعيد“. وكل ذلك حدث بسبب إطالة الحرب ورهان نتنياهو على مجيء ترمب، وتحدي العالم في هذه المسألة، وهو الذي دعم ووقف مع إسرائيل في بداية الحرب ومنحها حريةً لمواصلة الأعمال القتالية.

 

دخلت إسرائيل في عزلة دولية غير مسبوقة في تاريخها بسبب التداعيات الكارثية لحرب غزة (أ.ف.ب)

 

ثانياً، على المستوى الإقليمي 

تتباين مواقف التقديرات الإسرائيلية بالنسبة للتغييرات الإقليمية التي أحدثتها الحرب على غزة، فهناك مَن يعتقد أن التغييرات كانت تكتيكية والخسارة أكبر من المكاسب، في حين أن هناك تقديرات تشير إلى أن التغييرات كانت استراتيجية، وسوف تؤثر في البيئة الإقليمية بصورة عميقة، وهو ما يَعدّه نتنياهو تغييراً لوجه الشرق الأوسط.

 

ينطلق التوجه الثاني من أن إسرائيل حققت في سياق الحرب في غزة تدميراً كبيراً للمحور الإيراني، لن يتمكن بعدها من بناء نفسه كما كان في السابق، حيث أضعفت إسرائيل حزب الله سياسياً وعسكرياً وأخضعته ردعيّاً، ومستمرة في قضم سلاحه عسكرياً والضغط على الحكومة اللبنانية لنزع سلاحه نهائياً، كما أنها أسقطت النظام السوري، ليس لأن الأخير كان يُشكل تهديداً على إسرائيل، بل لأن سورية تحولت إلى ساحة نفوذ إيراني تُهدد إسرائيل وتم القضاء نهائياً على هذا التهديد، وضربت إيران عسكرياً وأعادت مشروعها النووي إلى الوراء، مما أدى إلى عودة العقوبات الاقتصادية الصارمة على إيران كما كانت تنادي إسرائيل منذ عام 2015. يضاف لذلك تدمير أغلب قدرات حركة حماس العسكرية، وإنهاء حكمها كما تنص على ذلك خطة ترمب، وهو ما يمنع قطاع غزة من أن يشكل تهديداً مستقبليّاً على إسرائيل.

 

وفي حين يؤيد التوجه الأول أن الإنجاز الحقيقي للحرب على غزة هو إضعاف وكسر المحور الإيراني، ولكنه في المقابل يشدّد على أن إيران بعد الحرب لا تزال تُشكل تهديداً على إسرائيل، فضلا أن إسرائيل خسرت استراتيجياً عبر إخفاقها في إكمال مسار اندماجها في المنطقة من طريق توقيع اتفاقيات التطبيع التي كان يُمكن لها أن تحققها حتى في خضم المراحل الأولى من الحرب لو وافقت على وقفها مبكراً والذهاب إلى تسوية سياسية، فإطالة الحرب -التي تحولت إلى حرب تدميرية وذات أهداف أيديولوجية، والتي توسعت إلى سورية ولبنان بالترافق مع تدمير البنية التحتية للضفة الغربية والتخطيط لضمّها- أفقدت إسرائيل مزاياها الاستراتيجية التي كان يُمكن تحقيقها مع بداية الحرب. ووفق هذا الرأي، تحولت إسرائيل تحت قيادة حكومة نتنياهو إلى دولة معتدية (على قطر وسورية ولبنان)، ودولة تهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية وحلّ الدولتين (الضم في الضفة الغربية والتهجير في غزة)، مما أفقدها مكانتها الإقليمية بوصفها شريكةً في بلورة شرق أوسط جديد في إطار الاتفاقيات الإبراهيمية التي كان يُمكن لها أن تتوسع وتتطور لو لم تُطِل إسرائيل حربها وتتوحش في أهدافها.

 

ولقد أدت سياسات حكومة نتنياهو العدوانية إلى أن تنظر دول الإقليم إلى إسرائيل بصفتها دولة تُهدد الاستقرار الإقليمي، كما أنها، وفق محللين إسرائيليين، خسرت فرصة توقيع اتفاق مع السعودية. وعلى الرغم من أن اتفاقيات التطبيع صمدت في ظل الحرب، فإنها – كما لاحظ مراقبون إسرائيليون – عمَّقت الفجوة بين النخب السياسية والشعوب في المنطقة فيما يتعلق بتأييد هذه الاتفاقيات، وهو ما كانت تأمل إسرائيل بأن يكون مختلفاً في الاتفاقيات الإبراهيمية، وهذا العامل يؤثر إلى حد ما في توجهات الدول بخصوص تطوير أو تعميق التعاون مع إسرائيل في إطار هذه الاتفاقيات.

 

استنتاجات

حمل عامان من الحرب الشرسة في غزة تداعيات كبيرة على إسرائيل خارجياً وداخلياً، ويُعتقَد بإمكانية تجاوز إسرائيل التداعيات الخارجية في حال جرى تغيير الحكومة الحالية، التي تعد متطرفة ومسيانية، في نظر العالم، بحكومة معتدلة، تعمل على ترميم ما فعلته حكومة نتنياهو؛ فالعالم يفرق بين إسرائيل والحكومة الحالية، وعبر تغييرها قد تتحسن مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية على المدى البعيد، وخاصةً إذا رافق ذلك انخراطها في تسويات سياسية، تتعلق بالقضية الفلسطينية خصوصاً، تُنهي حالة الصراع مع دول الجوار.

 

وتبقى التداعيات الداخلية الأخطر على إسرائيل، فالتصدّعات وصلت إلى مرحلة الصدام في حالة التوجه لحسم أي من مسائل الاستقطاب بين القوى المتعارضة؛ فحسم سؤال الدين والدولة سوف يؤدي إلى صدام بين المتدينين والمعارضين لهم، والتسوية في الموضوع الفلسطيني ستؤدي إلى صدام بين المؤيدين للتسوية والمعارضين لها، وربما تشهد الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، المقررة في أكتوبر 2026، حالات من الصدام لم تشهدها أي انتخابات سابقة في إسرائيل على ضوء هذه التصدّعات.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M