العزلة الاستراتيجية: أسباب غياب إيران عن المسارات الدولية والإقليمية وتداعياته

  • باتت “العزلة الاستراتيجية” إحدى الهواجس التي ينشغلُ بها العقلُ السياسي الإيراني على مدار العامين الماضيين، وتعني العزلة الاستراتيجية في مستواها السياسي، خروجاً متواصلاً، وبعيد المدى، لإيران من دائرة التحالفات الإقليمية والدولية، خصوصاً تلك التي تُشكّل الأساس للخريطة الجيوسياسية المستقبلية على المستوى الإقليمي.
  • على رغم الجهود التي تبذلها إيران من أجل الحضور في تكتلات دولية كبرى مثل “منظمة شنغهاي”، و”بريكس”، و”الاتحاد الأوروآسيوي”، فإنّ غالبية المعطيات تشير إلى أن جُلّ التنسيقات الإقليمية والدولية في المجالات التي تخص المصالح الإيرانية، والمصير الإقليمي (على غرار قمة شرم الشيخ حول غزة)، تجري في غيابٍ واضحٍ للمشاركة الإيرانية. 
  • تعود أسباب العزلة الاستراتيجية التي تعانيها إيران حالياً إلى قراراتٍ تأسيسية، وعوامل هيكلية. كما قد تعودُ إلى رؤيةٍ مستقبلية تعدُّها إيران استراتيجية، وتحاولُ تنظيم خطواتها معها، حتى إذا كانت تكلفها أثماناً باهظةً، أو إلى طبيعة عملية صناعة القرار الدبلوماسي الإيراني المُعقّدة، والتي تتّسمُ عادةً بالتلكؤ، والتّردُّد.
  • تحملُ العزلة الاستراتيجية التي تعاني منها إيران تداعياتٍ مهمة على الصعيدَيْن الإقليمي والدولي؛ يتبدى أبرزها في التهديد الإيراني المُتكرّر بالنّيل من المصالح الاقتصادية العالمية، وتفخيخ المسارات الاقتصادية التي تُغيَّبُ عنها، وبالتوازي قد تتجه إيران نحو الانصهار الاقتصادي التام مع الصين، بهدف إعادة تغيير موازيين القوى في الشرق الأوسط لصالحها.

 

اتخذ مفهومُ “العزلة الاستراتيجية” موقعاً أساسيّاً في الأدبيّات السياسيّة الإيرانيّة المُعاصرة، وبات أحد الهواجس التي ينشغلُ بها العقلُ السياسي الإيراني على مدار العامين الماضيين؛ إذْ تداولته غالبية مراكز التفكير المحليّة في تحليلاتها، وردّده الكُتّاب، والإعلاميون بشكلٍ مُطرد. لكنّ هذا المفهوم طغى في المشهد الإيراني غداة المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل على وجه الخصوص، باعتباره واقعاً آخذاً في التشكُّل، وليس هاجساً مُحتملاً، وذلك بفعل سلسة القرارات الرسمية المتّخذة من الجانب الإيراني، والاستجابات، والأحداث الدوليّة المُتعاقبة، وبوصفه مفهوماً يُشيرُ إلى حالة التوحُّد التي تعيشها إيران المحكومة بمنطق أيديولوجي وعقائدي، وسط خريطةٍ من التحالفات الدوليّة والإقليميّة الصّاعدة، سواءً على الصعيد السياسي أو على الصعيد الاقتصادي. حتى إنّ بعض المراقبين، بات يُحذّرُ من أنّ المجتمع الدولي والإقليمي في سبيله إلى التعايش مع حالة “غياب إيران” على الصّعيدَيْن السياسي والاقتصادي.

 

المعاني السياسية والاقتصادية لـ “العزلة الاستراتيجية” الإيرانية

تعني “العزلة الاستراتيجية” في مستواها السياسي، خروجاً متواصلاً، وبعيد المدى لإيران من دائرة التحالفات الإقليمية والدولية، خصوصاً تلك التي تُشكّل الأساس للخريطة الجيوسياسية المستقبلية على المستوى الإقليمي تحديداً. وبغضّ الطرف عن الجهود التي تبذلها إيران من أجل الحضور في تكتُّلات دولية كُبرى مثل “منظمة شنغهاي“، و”منظمة بريكس“، و”الاتحاد الأوروآسيوي“، فإنّ غالبيّة المُعطيات تُشيرُ إلى أنّ جُلّ التّنسيقات الإقليمية والدولية في المجالات التي تخصّ المصالح الإيرانية، والمصير الإقليمي، تجري في غيابٍ واضحٍ للمشاركة الإيرانية. كما تُظهِرُ التجربة الميدانية أنّ التعويل على الوجود ضمن بعض التّكتُّلات التي يراها صانع القرار الإيراني استراتيجية، كان قراراً خاطئاً، وما تمخّضت عنه نتائج ميدانية على مستوى دعم الموقف الإيراني في الملفات المطروحة.

 

وكان آخرُ تجليّات هذه “العُزلة الاستراتيجية” هو غياب إيران عن منتدى “شرم الشيخ” الأخير الذي انعقد لمباركة وقف إطلاق النار في غزة، ومُناقشة المسارات المستقبليّة لمسألة غزة تحديداً، والقضية الفلسطينية عموماً. فعلى الرغم من الدعوة التي تلقّتها طهران لحضور القمة على المستوى الرئاسي أولاً ثم على مستوى وزير الخارجية، فقد عدَّت مراكز الرصد المحليّة قرار الحكومة في التغيُّب عن هذا المسار الدبلوماسي، خطوةً أُخرى في سبيل تكريس تغييب إيران عن المسارات التي يتمّ من طريقها اتّخاذ القرارات الإقليمية، ورسم ملامح المستقبل.

 

غير أنّ أهمّ تجليات هذه “العزلة الاستراتيجية” جاءت في سياق حرب الاثني عشر يوماً بين إيران وإسرائيل؛ إذْ وسطَ أنباءٍ بأنّ الهجوم الإسرائيلي على الأهداف الإيرانية جاء بعد تنسيق مع روسيا التي عوّلت طهران على التحالف الاستراتيجي معها، فإنّ المواقف التي صدرت من أهم البلدان التي عَدَّتها طهران من حلفائها المُقرّبين، كانت دون التوقعات. فقد اكتفت تلك البلدان، بمن فيها الصين، وباكستان، وروسيا، بالتنديد والمواقف اللفظية، دون اتخاذ أيّة خطواتٍ إجرائية في التّصدي للهجمات الإسرائيلية. هذا فضلاً عن موقف الأطراف الإقليميّة والأطراف الأوروبيّة التي لم تتخّذ خطواتٍ خارج المواقف الدبلوماسية الباردة لوقف الحرب.

 

جُلّ التنسيقات الإقليمية والدولية في المجالات التي تخصّ مصالح إيران، والمصير الإقليمي، تجري حالياً في غيابٍ واضحٍ للمشاركة الإيرانية (أ.ف.ب) 

 

وتتعمّق “العزلة الاستراتيجية” الإيرانية على الصعيد الدولي، وسطَ إجماعٍ دوليّ على الخطر القادم من طهران في ضوء إصرارها على بعض القرارات التي لا تجدُ ترحيباً على الصعيدَيْن الإقليمي والدولي، سواءً على مستوى البرنامج النووي الذي كان محوراً من محاور إنشاء هذا الإجماع الدولي/الإقليمي أو على مستوى البرنامج الصاروخي الذي أظهرت التجربة أنّه خطرٌ يهدّد المصالح الاقتصادية للبلدان المحيطة بإيران، أو على مستوى الإجراءات العسكرية الأخرى التي ترى فيها الأطراف الإقليمية والدولية مخالبَ تُهدّد الأمن الاقتصادي والسياسي العالمي.

 

وعلى المستوى الاقتصادي، تتّخذُ “العزلة الاستراتيجية” الإيرانية معاني أوقع أثراً، مثل خروج إيران من خريطة التّحالفات، والممرّات الاقتصادية التي ستُشكِّل ملامح المستقبل الجيوسياسي في مناطق: الشرق الأوسط، وغرب آسيا، وآسيا الوسطى، وجنوب القوقاز. ولا شكّ أنّ الغياب عن هذه المسارات التعاونيّة سيعني تراجُع موقع إيران في خريطة الاقتصاد العالميّة المستقبليّة. وعلى هذا الصعيد، تؤدي العقوبات الأمريكية والدوليّة المفروضة على إيران دوراً مركزيّاً في تعميق “العزلة”. وسيسهمُ تكريس واقع العقوبات، بموجب القرارات التي تحولها من عقوبات أمريكية إلى عقوبات دولية، في تحويل إيران إلى نقطة اقتصادية عمياء، لا يلحظها الفاعلون، ولا ينخرطون في مشاريع التعاون الاقتصادي معها، من طريق القنوات التقليدية الشّفافة المعترف بها دوليّاً. وبفعل العقوبات أيضاً، فإنّ أيّ تعاونٍ اقتصاديٍّ مع إيران، سوف يُعرّض الأطراف التي تتعاون مع إيران إلى عقوباتٍ أمريكيّة ودوليّة، بعضها صادرٌ بحكم قرارات عن مجلس الأمن الدولي، وبما يُحوّل التعاون الاقتصادي والطّاقوي مع إيران إلى مجالٍ حصريٍّ للمسارات الاقتصادية غير الرسمية والرّمادية التي تُشبه مساراتِ التّهريب، والتّحايُل على مراكز الرّصد الدوليّة.

 

وإذا كانت إيران قد ابتكرت بعض المناهج للصُّمود في وجه تلك العقوبات، فإن كُلّ تلك المناهج لا يمكنُ أنْ تَحولَ دون حقيقة تغييبِ إيران عن خريطة الاقتصاد الدولي. وبفعل هذه “العزلة الاستراتيجية” انخفضت حصّة الاقتصاد الإيراني من الاقتصاد الدولي من 1.1% إلى أقلّ من ربع بالمائة؛ كما اتجهت أسواق النفط العالمية إلى التّعايش مع حالة غياب النفط الإيراني عن أسواق البيع الرسمية.

 

وفي سياق الواقع الذي تخلقه العقوبات، ومؤثراتٍ أخرى، منها: غياب القرارات السياديّة الداخليّة اللّازمة، فإن إيران ظلّت غائبةً عن أهمّ الخطط المتعلّقة بممرّات النقل الدوليّة على مدى الأعوام الماضية؛ ممّا يُنذرُ بغيابها عن خريطة التّفاعلات الاقتصادية المستقبلية التي تُشكّلُ ممرّاتِ النقل فيها العمود الفقري. وعلى الرغم من المحاولات التي تبذلها إيران للوجود ضمن هذه الممرّات من طريق التركيز على استكمال حلقات الممرّ الشمالي – الجنوبي الذي يربطُ الهند بروسيا وأوروبا عبر إيران، فإن تلكَ المحاولات، ما تمخّضت عن أيّة حصيلة ميدانيّة ملموسة حتى الآن. مع الأخذ في عين الاعتبار أنّ غالبية خطط الممرّات الإقليمية الأخرى، مثل “طريق التنمية”، و”ممرّ IMEC”، و”ممرّ زنغزور”، و”ممرّ ترنس أفغان”، تمضي من دون التنسيق مع الجانب الإيراني، وتُوفّر طرائق اتّصالٍ تتجاهلُ الجغرافيا الإيرانية إلى حدٍّ بعيد. ويُضاف إلى ذلك، غياب مُتزايدٌ لإيران عن المشاريع الصينيّة المرتبطة بخطة “الحزام والطريق” لأسباب سياسيّة، واقتصاديّة؛ في ظاهرةٍ وصفتها مراكز رصدٍ إيرانية بأنّها أشبه بتحوُّل إيران إلى “ثُقبٍ أسود” ضمن خطط النقل المستقبليّة العالميّة.

 

أسباب “العزلة الاستراتيجية” الإيرانية

لقد باتت “العزلة الاستراتيجية” الإيرانيّة، إذن، واقعاً سياسياً واقتصادياً ملحوظاً، وليست مجرّد هاجس مستقبليّ. ويتصاعدُ الجدلُ في أنّ هذه العُزلة جاءت نتيجة للتباطؤ الملحوظ في النشاط الدبلوماسي الإيرانيّ، أم بفعل بُنية النّظام السياسي الإيراني التي تُعرقل الانتقال من القرارات المبنية على العقيدة والأيديولوجيا إلى منطق يتأقلم مع “عصر الجيوإيكونومي” الذي تحاول الأطراف الإقليمية إعادة رسم سياساتها بما يتناسب معه؟ وقد تعود أسباب هذه “العزلة الاستراتيجية” إلى قراراتٍ تأسيسيّة، وعوامل هيكليّة. كما قد تعودُ إلى رؤيةٍ مستقبليّةٍ تعدُّها إيران استراتيجيةً، وتحاولُ تنظيم خطواتها معها، حتى إذا كانت تكلّفها أثماناً باهظةً في الزمن الرّاهن، أو إلى طبيعة عمليّة صناعة القرار الدبلوماسي الإيراني المُعقّدة، والتي تتّسمُ عادةً بالتلكؤ، والتّردُّد.

 

ولعلّ أهمّ تلك الأسباب، وأجدرها بالتحليل والمناقشة، ما يرتبط بالقرارات التأسيسية؛ إذْ حاولت طهران في سياق تلك القرارات، مُمارسة السياسة الإقليميّة والدوليّة من منطلق الأيديولوجيا، والعقيدة، وبعيداً عن “منطق الدولة”. وقد دفعتها تلك القرارات الممزوجة بإرادة الهيمنة إلى التعامل مع “فاعلين دون مستوى الدولة” في منطقة الشرق الأوسط، وتجاهل “منطق الدولة” في توجُّهاتها الإقليمية. وإذا كان ذلك قد أدّى إلى هيمنةٍ سياسية هشّة، مارستها طهران في فترة زمنية محدودة على أجزاء من الشرق الأوسط، بالتعاون مع لاعبين محليّين، دون مستوى الدولة في معظمهم، وجمعتهم بإيران ولاءات عقائدية، فإن ذلك قد أدّى بالنتيجة، أيضاً، إلى خلق إجماعٍ دوليٍّ ضدّ إيران، باعتبارها خطراً يتهدّد “الدولة الطبيعية” في منطقة الشرق الأوسط؛ ليكون هذا الإجماع الذي لم تُحاول مؤسسة الدولة في إيران فعل شيء لكسره، أساساً لتحالفاتٍ صاعدةٍ ضدّ إيران، وقراراتٍ بتغييب إيران من خريطة الأحلاف السياسية، والأحلاف الاقتصادية.

 

باتت العزلة الاستراتيجية الإيرانيّة واقعاً سياسياً واقتصادياً ملحوظاً، وليست مجرّد هاجس مستقبلي (أ.ف.ب)

 

وعلى صعيد القرارات التأسيسية أيضاً، فإنّ قرار التعامل الاستراتيجي مع ملفات مُحدّدة، مثل الملف النووي، والبرنامج العسكري والصاروخي على وجه الخصوص، من منطلقاتٍ استراتيجيّة جزميّة كان من ضمن الأسباب التي كرّست حالة الإجماع الدولي ضدّ إيران؛ فقد حوّلت تلك القرارات التأسيسيّة ملف البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي من ملفاتٍ يمكنُ طرحها على طاولة المفاوضات مع المجتمع الدولي لتكريس الانصهار، إلى ملفاتٍ ذاتِ طبيعةٍ سياديّة، ولا يمكن التّنازل عنها، حتى إذا أدّت إلى خلق ذلك الإجماع المُضادّ. وبهذا الصّدد، تُشيرُ الأرقام إلى أنّ التعامل مع الملفين النووي والصاروخي كلّف الاقتصاد الإيراني نحو 1200 مليار دولار من الخسائر على مدار أكثر من عقدين.

 

وبفعل تلك القرارات التأسيسيّة أيضاً، ظلّت تصوُّرات طهران حول مستقبل المنطقة، تختلف عن كُلّ التّصورات الإقليمية والدّولية. وكانت وراء عزل إيران عن المجتمع الدولي، ومحاولة ابتعادها عن كل المسارات التي عَدَّها العقل الاستراتيجي الإيراني مساراتٍ عابرةٍ وعاجلة. وعلى سبيل المثال، استندت التصوُّرات الإيرانية إلى أنّ عالمَ المُستقبل، سيكونُ عالماً خالياً من الهيمنة الأمريكية/الغربية، وأنّ المستقبل سيشهدُ صُعوداً للهيمنة الشرقيّة المُنافسة. وفي ضوء هذه القراءة التي اعتمدها القائد الإيراني الأعلى، ومجموعات تابعة له، مُؤكّداً مُكوث العالم على “محطة تاريخية” لتغيير سكّة التاريخ، اعتمدت إيران استراتيجية “التّوجُّه نحو الشّرق”، وسعت إلى إنشاء تحالف استراتيجيٍّ مع الكُتلة الشرقيّة من دون التركيز على التّناقضات التي توجد داخل الكتلة الشرقيّة، وتلك التي توجد بين منطق إيران الجيو-استراتيجي والعقائدي، والمنطق الجيو-اقتصادي الذي تعتمده بعض القوى الموجودة في العالم الشرقيّ، مثل الصين والهند. وإذا كانت هذه الاستراتيجية الحالمة، قد دفعت إيران نحو الإصرار على الوجود ضمن أحلافٍ مثل “شنغهاي”، و”بريكس”، و”الاتحاد الأورو-آسيوي” باعتبارها إنجازاتٍ تضمن لإيران مقعداً في عالم المستقبل، فإنّ الوهم ذاته دفع إيران إلى تجاهل/احتقار المسارات الراهنة، وإلى تصوُّرِ أنّها (أيْ طهران) ارتقت إلى مستوى “الحليف الاستراتيجي” لكل من الصين وروسيا، بما يجعلها في غنىً عن أيّة مسارات سياسية، واقتصادية أخرى.

 

وكلُّ ذلك جرى وسطَ حالةٍ من التناقض الداخليّ بين المؤسسات، والأجهزة المؤثرة في صناعة السياسة الخارجية الإيرانية، وتطبيقها؛ إذْ تنقسم أجهزة اتخاذ القرار في السياسة الخارجية الإيرانية إلى مؤسسات تابعة للحكومة التي تمنح الأولويّة للمفاوضات، والانفتاح على الغرب، وأخرى تابعة للدولة العميقة التي تتبنّى استراتيجية “التوجه الشرقي”. فانكمشت مستويات التأثير، وتباطأت سرعة اتخاذ القرارات، واتسمت المواقف بالازدواجية؛ ما حال دون انخراط العديد من الدول في مساراتِ توافقٍ مع إيران، حتى في الملفّات التي تحصل على إجماعٍ في المشهد السياسي الإيراني. فبينما ظلّت القرارات التي يتّخذها الجهاز الدبلوماسي التابع للحكومة تتسم بالهشاشة، بفعل المعارضة التي تبديها المؤسسات التابعة للدولة العميقة، وبأنها مبتورة بفعل الصلاحيّات المنقوصة التي تتمتع بها أجهزة الحكومة، فإنّ القرارات الناتجة عن مؤسسات الدولة العميقة كانت تواجه تلكُّؤاً في التطبيق، بفعل تقاعُس أجهزة الحكومة في تطبيقها بشكلٍ مُتعمّدٍ في أغلب الأحيان.

 

وإذا أضفنا إلى تلك الأسباب، أسباباً ظرفيةً أُخرى، مثل: ضعف بعض الوجوه الدبلوماسية، وغياب الصلاحيّات في الملفات الخلافيّة، يتّضح لنا كيف وضعت إيران نفسها في مسارٍ يُكرّسُ حالة الإجماع الدوليّ ضدّها، ويؤسِّسُ لحالة “العزلة الاستراتيجية” التي برزت ملامحُها اليوم للعيان. ولا تزالُ هذه الأسباب والمحدّدات تعملُ على إضعاف قدرة إيران في كَسْر هذه العزلة، وتفكيك الحلقات التي تحولُ دون انصهارها في المسارات الواقعية التي تُكرِّسُ للرّاهن الإقليمي والدولي على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وتُؤسّس للمستقبل.

 

التداعيات الإقليمية

بمعزلٍ عن التّداعيات الناتجة عن تحوُّل إيران إلى بؤرة تعاني من الفقر الاقتصادي على الاقتصادات الإقليمية، وما ينجم عن ذلك من أعباء على دول الجوار، سواءً على المستوى الاقتصادي أو على المستوى الأمني، فإن “العزلة الاستراتيجية” التي تذهب إيران نحو عيشها، تحملُ معها أيضاً، تداعياتٍ مُهمّة على الصعيدَيْن الإقليمي والدولي:

 

  • أول تلك التّداعيات ناجمٌ عن ردود الفعل الإيرانية على ما تعدّه إرادةً دوليّةً على عزلها، وزجِّها في الزاوية، وتغييبها عن المسارات الاقتصادية والسياسية. ويمكنُ أنْ نلحظ طلائع تلك الردود المحتملة في التهديد الإيراني المُتكرّر بالنّيل من المصالح الاقتصادية العالمية، وتفخيخ المسارات الاقتصادية إذا ما جرى الإصرارُ على تغييبها. وفي هذا السّياق، تجدرُ الإشارة إلى نماذجَ مثل التلويح بإغلاق “مضيق هرمز”، أو التأثير على أمن الملاحة في الخليج العربي، وبحر عُمان، أو النّيل من مصالح الدول الغربية في البلدان المحيطة بإيران. ومن المتوقّع أنْ تتكرّس القناعة في إيران، بضرورة الإخلال بالأمن الاقتصادي الإقليمي والعالمي طالما استمرّ هذا الشُّعور بتغييب إيران المُتعمّد عن المشهد الاقتصادي والسياسي الإقليمي والدولي.

 

في إطار مساعيها لكسر حالة العزلة الاستراتيجية، قد تتخذ إيران قراراً بالانصهار الاقتصادي التام مع الصين (شترستوك)

 

  • من المحتمل، ثانياً، أنْ تتخذ إيران قراراً بالانخراط في انصهارٍ اقتصاديٍّ تامٍّ مع الصّين، أثناء محاولتها كسر حالة “العزلة الاستراتيجية” في ظلّ انغلاق المسارات الدولية والإقليمية الأخرى. ويمكنُ ملاحظة طلائع هذه الرغبة في طبيعة “الاتفاق الاستراتيجي” الذي سعت إيران إلى توقيعه مع الصين، بما يُحوِّل إيران إلى محطّة ضمن البرنامج الصيني للتوسُّع الدولي، والتصدّي للتحدّي الأمريكي. كما يمنحُ الصّين أولوياتٍ اقتصاديّةً كبيرة في إيران. ومن شأن هذا القرار الذي تعدّه الدولة العميقة في إيران خطوةً لتكريس المناعة في وجه الضغوط الدولية والغربية، وطريقاً نحو التحوُّل إلى “حليف استراتيجي” للصين، والحصول على المظلّة الصينية في وجه التهديدات الغربية، أنْ يُغيِّر موازين القوى في الشرق الأوسط، ويؤدي إلى تطوُّرٍ جوهريٍّ في المسألة الإيرانية.

 

ومن المرجح أنْ تكون التّداعيات الناجمة عن وصول إيران إلى حالة “العزلة الاستراتيجية” كبيرةً، سواءً في المحور الأول أو في المحور الثاني. ومن هذا المنطلق، قد تُشجِّع هذه الحالة الإيرانية الأطراف الإقليمية على محاولة فضّ الخلافات مع إيران، عبر طرائق تجعل من سلوكها أقرب إلى “منطق الدولة”. وقد وفّرت التطورات الجارية في المنطقة منذ السابع من أكتوبر مُناخاً أكثر مُلائمةً لمثل هذا التحوُّل؛ ما يفتح المجال لتقارب إقليمي على أُسسٍ جديدة، تُعيد بناء الثّقة بين الأطراف، وتفتحُ الطريق نحو نقل المنطقة بشكلٍ آمنٍ إلى العصر “الجيواقتصادي” المنشود.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M