قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
التأمل الأول:
بشكل عام يمكن حصر الوظيفة الأساسية للمرسلين بالبلاغ المبين ، والبلاغ قد يكون سهلاً إذا لم يكن مُبيناً ، والصعوبة تكمن في جعله مُبيناً ، هذا إذا كان بلاغاً أما إذا كان تبليغاً فستكون المهمة أصعب ، فإن بلّغ الرسول ولم يُبيّن فما بلّغ رسالته ، لذلك فإن خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله عندما جاءه الأمر في حِجة الوداع (التبيلغ) : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) قد ألقى الحُجة والبيان عندما بلّغ ، بل إنه سبق هذا التبيلغ المبين عدة تبيلغات مبينة طيلة فترة الرسالة الإسلامية ، وهذا يدل على أن البلاغ حتى يكون مبيناً يحتاج الى الكثير من العناء والتضحية ، لذلك طمأن الباري سبحانه رسوله بقوله ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .
التأمل الثاني:
عندما يرسّخ المؤمن في عقله الباطن أن الله تعالى يعلم ما في باطنه فسيكون ذلك مُحركِّاً له للعمل بشكل أفضل وأكثر ، فلا يهمه رأي الآخرين فيه ما دام الله سبحانه يعلم سِرّه ، إلا أن يترتب على رأيهم رضا الله عز وجل ، فإن كان هذا المؤمن يعلم أن له القدرة على إبلاغ الناس بأحكام الله جل وعلا فلا يستطيع أن يكبت هذه القدرة بداخله ، لأنه يعلم أن ربه جل جلاله يعلم بقدراته ، لذلك يخرج من جهاده الداخلي لنفسه الى جهاده الخارجي فيبلغ الناس بما يعرفه من الدين ، وأن هذا العلم الرباني بقدراته يجعل بلاغه مُبيناً بالقدر الذي يتمكن منه ، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
ومن هنا نعرف مدى أهمية الإيمان بعلم ربنا بحالنا وقدراتنا ، خاصة وأن الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره .
التأمل الثالث:
قد يسأل سائل : إذا لم يكن على المرسلين إلا البلاغ المبين فلماذا كان خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله يفرض قوانين في دولته الناشئة في المدينة المنورة ووصلت الى تجنيد المسلمين والدخول في حروب ودماء ؟
للإجابة نقول : إن البلاغ المبين الذي جاء به الخاتم صلى الله عليه وآله جعل الحجة قوية على الناس فأسلموا له وآمنوا به وبما جاء به ، فاقتنعوا أن قيادته الربانية لا تخرجهم من هدى الى ضلال بل بالعكس ، وأن رب العالمين يعلم أن ما يقوم به في صلب عمله الرسالي ورسالته السماوية ، وأن القوانين المشرعة من قِبَلِه تصب في مصلحتهم كمجتمع وكفرد ، ولما وجدهم صلى الله عليه وآله بهذا المستوى من القبول قادهم بما يرضي الله تعالى ويحقق طموحهم الدنيوي والأخروي ، فكانت تشريعاته معبرة عن الخط العام لما يريدون وما يرغبون .
التأمل الرابع:
فرصة لأرباب العمل أن يتعلموا من ربهم بعض الدروس ، من باب التخلق بأخلاق الله ، فعادة يحتاج رب العمل الى إرسال مندوب يمثله أمام باقي الشركات ورجال الأعمال ، فمن الضروري أن يحيط علماً بما يقوم به المندوبون ، هذا فضلاً عن اختياره للمندوب بعناية بحيث تكون مواصفاته ومؤهلاته تناسب المهمة المناطة به ، وإذا كانت هناك عدة مستويات من المهام فتُعطى المهمة الأصعب لصاحب الكفاءة الأعلى ثم نزولاً .
وفي الوقت نفسه على المندوبين أن يتعلموا من رسل رب العالمين ، إذ لا بد أن يتقنوا أداء وظيفتهم بشكل احترافي ، بحيث يبلغون الشركات الأخرى ما يريده رب عملهم الى درجة إقناعهم من دون محاولة خداعهم مثلاً أو غشهم أو ما شابه بحجة تحقيق مبيعات أكثر ، وأن لا يتعدوا حدودهم التي رسمها لهم رب عملهم .
التأمل الخامس:
في الهيكل التنظيمي والسياسي لأي دولة هناك تسلسل وظيفي يبدأ من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء وينتهي الى أصغر موظف ، وصاحب كل منصب وظيفي يكلّف الموظفين الذين دونه ببعض المهام ، فإن كان يعلم الرئيس أو المدير ما يقوم به موظفوه بحيث يطابق ما يريده وبما يوافق النظام الوظيفي فستكون دائرته أو مؤسسته منضبطة وتسير نحو الأمام ، أما إذا لم يكن يعلم ذلك فستفلت الأمور عن السيطرة ، وتلك مصيبة ، أما إذا كان يعلم أنها تسير وفق مسار مخالف لما يحكمه القانون فالمصيبة أعظم .
ومن زاوية أخرى فإن على الموظفين المكلفين بأداء مهام معينة أن يتقنوا ما كُلِّفوا به من دون زيادة أو نقيصة إلا أن تكون هذه الزيادة أو النقيصة في مصلحة العمل ، وهنا يتضح دور السفراء الذين يجب أن يُمثّلوا بلدانهم أكثر من تمثيل حكوماتهم ، إن كانت تلك الحكومات غير وطنية .
التأمل السادس:
بإمكان رب الأسرة وكَشَكلٍ من أشكال التربية أن يُرسِل أبناءه ويكلفهم ببعض التكاليف التي ينوبون بها عنه كالمناسبات أو إتمام بعض المهام الموكلة إليه ، فإن كان رب الأسرة هذا شخصية ذو وجاهة في المجتمع – كشيخ العشيرة – فيمكن أن يرسلهم نيابة عنه لحل بعض النزاعات والخلافات ، وهذا يتطلب طبعاً وتربيتهم على أسلوب الإقناع والبلاغ المبين الذي يحتاجونه في تلك الحالات .
وهُم بِدَورِهم – أي الأبناء – عليهم أن يعلموا أنهم يمثلون أباهم ، وبالتالي فينبغي أن لا يخرجوا عن توجيهاته وأوامره ، وأن أي تصرفٍ غير لائق ولا يناسب سمعة أبيهم فستؤثر سلباً عليه وعليهم ، وستقلل من مكانتهم الاجتماعية ، ولا ينفع عندها حتى لو كان بلاغهم مُبيناً ، متأسين بذلك بالمرسلين الذين حافظوا على التقيد بما أُرسِلوا به ولم يرتكبوا أي شيء يمكن أن يؤثر على عقيدة الناس بربهم جل وعز .
التأمل السابع:
إن لجوء المرجعيات الدينية العاملة في الوسط الإسلامي الى نظام الوكلاء والممثليات للتواصل مع المجتمع فبسبب عدم استفادة المجتمع استفادة قصوى عند حصر تعامله مع المرجعية بالاتصال المباشر ، وكان المرَاجِع العاملون يدققون في اختيار وكلائهم ويتابعون أداءهم ، وفي حال فشل أو تقصير أحدهم في تنفيذ مهامه أو تجاوز حدود مسؤولياته وصلاحياته بقصد أم بغير قصد ، أو حتى إذا لم يكن بلاغه للناس مُبيناً (لقصوره) بحيث لا يقدّم العمل الديني خطوة للأمام ، وربما يؤخره ، فإنهم يسارعون الى إستبداله ، ولا يتركون للوكلاء حرية مطلقة تفوق قدراتهم ومؤهلاتهم العلمية والعملية ، فيحددون عملهم بأطر معينة .
وكان للوكلاء دور كبير في إيصال صوت المرجعية الى كل أنحاء العالم وإيصال أخبار الناس الى المرجعية ، ومن خلالهم تمكّن كثير من المراجع العاملين تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح المجتمع والتزامهم بما وجهه به مراجعهم .
* مشاركتها ثواب لنا ولكم
للمزيد من التأملات القرآنية يمكنكم الانضمام الى قناتنا على التلكرام:
https://t.me/quraan_views