أبعاد التوغل الإيراني في أفغانستان

تتجه الأنظار إلى الساحة الأفغانية ومسار الأحداث فيها كمنطقة عمليات محتملة للتصعيد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران عقب مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني وظهور ردود فعل إيرانية تتوعد بالانتقام لمقتله في أفغانستان ما أثار التساؤل حول طبيعة الدور والتوغل الإيراني هناك، بالوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة منذ تسلم الرئيس دونالد ترمب السلطة هناك إلى دفع عملية حل القضية الأفغانية إلى الأمام عبر تفعيل المفاوضات مع حركة طالبان، والتي قطعت شوطًا وأحرزت تقدمًا لا بأس به بالنسبة لمفاوضات تشهد عراقيل مستمرة ([1]).

ووفق مسارات التوتر بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وإيران من جهة أخرى، تبرز أهمية أفغانستان جيوسياسيًا كمنطقة قريبة إلى ساحة الأحداث الرئيسية في العراق وإيران بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام، كما أنها دولة حدودية مع إيران، ما يجعل التركيز الاستراتيجي على استثمارها كدائرة عمليات جديدة محتملة ضد إيران أو ضد الولايات المتحدة أولوية للأطراف المتنازعة، خصوصًا في ظل وجود علاقات متناقضة بين الأطراف الأفغانية ذاتها وبين الفاعلين الدوليين، ومنهم حركة طالبان وشيعة الهزارة والسلطة الأفغانية.

لذلك فإن حسابات الفاعلين الدوليين واللاعبين المحليين بخصوص انعكاسات مقتل سليماني على الوضع في أفغانستان ستتخذ منحىً جديدًا بناء على المتغيرات وخيارات المواجهة المحتملة خصوصًا بعد إعلان حركة طالبان موقف استنكارها مقتل سليماني وامتلاكها لعلاقات قديمة مع القيادة الإيرانية، ما قد يتيح لطالبان أوراق ضغط جديدة على واشنطن في جولات المفاوضات الجارية بينهما. بل إن بعض المراقبين يذهبون إلى أبعد من ذلك بأنه “في حال اندلاع حرب بين إيران والولايات المتحدة، فإن طالبان يمكن أن تنسحب من اتفاقية السلام التي باتت على وشك توقيعها مع واشنطن”([2]).

محددات النُّفوذ الإيراني

قامت القيادة الإيرانية باستثمار عدة عوامل مكنتها من التوغل في أفغانستان بشكل حذر منذ الإطاحة بحكم طالبان عام 2001 ضمن آليات استراتيجية موضحة وفق ما يأتي:

1. استثمار الروابط الثقافية والعرقية (الفارسية) التي تجمع بين شريحة كبيرة من الشعب الأفغاني والإيرانيين في بداية بناء نفوذ إيران داخل البلاد، حيث قامت بتعزيز العلاقات مع عرقية الطاجيك السنية التي تتحدث بلغة تشابه الفارسية، وكذلك مع عرقية البشتون السنية التي تستولي على مناصب حساسة في مراكز صنع القرار الأفغانية، بالإضافة إلى محاولة احتواء عرقية الهزارة الشيعية -التي تتهم حركة طالبان بشكل مستمر بالقيام باضطهادها- عبر تقديم المنح المالية والدعم الاجتماعي لها. واستطاعت إيران بذلك تكوين شبكة علاقات لعبت من خلالها على المتناقضات بين مكونات المجتمع الأفغاني([3]).

2. انتقلت إيران إلى ترجيح العلاقات المذهبية الشيعية على الروابط العرقية لبناء قاعدة سياسية صلبة جديدة تصل إلى دوائر صنع القرار الأفغانية وتكون حليفة لطهران بما يحقق للأخيرة تمرير مصالحها بشكل سلس في البلاد، بالإضافة إلى بناء جدار حماية أمني وسياسي للأقلية ضد سياسات طالبان المستهدفة لهم، وعليه فقد قامت بتمكين عرقية الهزارة الشيعية بشكل أكبر للوصول إلى مناصب قيادية في أجهزة الدولة الأفغانية، وشاركت الهزارة بفاعلية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة مستفيدة من الدعم الإيراني لها، وحصلت على تمثيل برلماني بـ 61 مقعدًا من إجمالي عدد مقاعد البرلمان البالغ عددها 249 مقعدًا. أي بنسبة تمثيل تفوق 24%، كما كان لقيادات سياسية من الهزارة وأهمهم كريم خليلي ومحمد محقق دور بارز في دعم رئيس الحكومة الأفغانية عبد الله عبد الله في السباق الرئاسي أواخر عام 2019([4]).

“كما استطاع الشيعة لأول مرة الحصول على تمثيل في المحكمة العليا والمجلس الأعلى للقضاء. وتم الاعتراف بالمذهب الشيعي الجعفري في الدستور الأفغاني إلى جانب المذهب السني الحنفي. وعلى صعيد الأحزاب وتكتلات السياسة فهناك الكثير من الأحزاب والمنظمات الشيعية الفاعلة مثل حزب الوحدة وحزب وحدة الشعب وحزب الاقتدار الوطني وحزب الحركة الإسلامية للشعب الأفغاني وغيرها من المنظمات والهيئات والجمعيات”([5]).

3. على الصعيد الأمني وضمن إطار حماية المصالح الإيرانية أمنيًا قامت طهران بدعم تشكيل ما يسمى “حزب الله الأفغاني لواء فاطميون، الذي تأسس عام 2013 كجزء من فيلق القدس، ويتكون من ميليشيات معظمها من المهاجرين الأفغان المنتمين لأقلية الهزارة الشيعية، وقد لعب لواء فاطميون دورًا فعالًا في الحرب في سوريا، كما حارب في العراق وإلى جانب الحوثيين في اليمن، ولا يزال القسم الأكبر من عناصره في سوريا، إلا أن بعضهم عاد إلى أفغانستان بعد التدخل الروسي في سوريا، ويمكن لإيران استخدام ميليشيا فاطميون في إطار استراتيجية التمدد الشيعي التي تتبعها”([6]).

وعلى صعيد التعاون الأمني الحكومي فقد قام البلدان عام 2015، بالتوقيع على اتفاقية “للارتقاء بمستوى الأمن الحدودي بين البلدين وتسهيل وتقديم الخدمات لسكان المناطق الحدودية من خلال تعزيز الأسواق الحدودية ومكافحة التهريب”([7]).

4. على الطرف المقابل عملت طهران على تجاوز خلافاتها الحادة مع حركة طالبان عندما تسلمت السلطة، وعندما قامت بإعدام تسعة دبلوماسيين إيرانيين داخل القنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف بأفغانستان عام 1998، وحينها كان محمد خاتمي رئيسًا لإيران([8]). وبعد ذلك استثمرت إيران التحول المنهجي والتنظيمي الذي حصل داخل الحركة بعد موت قائدها الملا محمد عمر عام 2013([9])، وعلى إثره فتحت قنوات تواصل مع طالبان بشكل غير معلن، وشيئًا فشيئًا بدأت هذه العلاقات بالتطور([10]) خصوصًا بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2015، وجاء ذلك بناء على إدراك القيادة الإيرانية لحجم قوة الحركة وتأثيرها على مسار الأحداث في أفغانستان وفرض نفسها كطرف مفاوض للولايات المتحدة، دفع الإيرانيين إلى تنشيط العلاقات معها لتعزيز النفوذ الإيراني في البلاد أو على الأقل لحماية نفوذها الموجود وغير المرتبط بحركة طالبان([11]).

وبحسب تقارير فقد “زودت إيران طالبان بكمية من الأسلحة، شملت: قذائف الهاون عيار 82 ملم، مدافع رشاشة خفيفة، بنادق كلاشنكوف من طراز AK-47، قذائف صاروخية ومواد C4 المتفجرة، في حين أرسلت طائرة مسيرة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية تحذيرًا شديد اللهجة إلى طهران وإسلام آباد، عندما قصفت عربة أحد أبرز قادة طالبان، أخطر منصور، في أثناء عودته من إيران بعد قضاء عدة أسابيع هناك، كما بدأ مجلس الشيوخ الأفغاني تحقيقًا في دعم إيران العسكري لحركة طالبان في شهر كانون الأول/ديسمبر 2016”([12]). بعد أن “اتهمت السلطات الأمنية الأفغانية إيران رسميًا في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 بتقديم الدعم العسكري واللوجستي لحركة طالبان التي صعدت عملياتها الإرهابية في الآونة الأخيرة في مختلف مناطق البلاد”([13]).

بدورها حركة طالبان لا تنفي صلتها بالحكومة الإيرانية وتعتبر ذلك علاقات ضمن تفاهم إقليمي، وقد قامت الحركة باستنكار قتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس، الذي وجهت له الإدارة الأمريكية اتهامات بدعمه المالي واللوجستي لطالبان([14]).

5. خلق نقاط تقاطع على صعيد علاقاتها المتشعبة في الداخل الأفغاني، وهو يعد نقطة الانعطاف الأخطر في استراتيجية التوغل الإيراني في أفغانستان، حيث انتقلت الديناميات الإيرانية إلى فرض حالة من التوافق بين حركة طالبان من جهة وعرقية الهزارة من جهة ثانية وقيادات أفغانية ذات وزن من جهة ثالثة كقلب الدين حكمتيار، وعليه فقد انضمت مجموعات صغيرة مقاتلة من الهزارة إلى تنظيم طالبان والتحقت بصفوفها عام 2016. كما عاد قلب الدين حكمتيار -رئيس الحزب الإسلامي في أفغانستان عام 1978([15])– الذي كان يقطن في إيران إلى أفغانستان وأعلن مشاركته في الانتخابات الرئاسية عام 2019 معتمدًا على تحالفات مع وجوه سياسية من الهزارة في السلطة الأفغانية([16]).

6. بناء نفوذ اقتصادي في أفغانستان([17])، استفادت إيران من الوضع الاقتصادي المتدهور للبلاد لإبرام اتفاقيات اقتصادية، بالإضافة إلى حجم العمالة الأفغانية الكبيرة في إيران التي يمتلك بعضها رؤوس أموال أفغانية هناك([18])، وبحسب الأرقام بلغ سعر الصادرات الإيرانية إلى أفغانستان في أول ستة أشهر من عام 2019 ما يقارب 151 مليون دولار([19]). كما تم في ذات العام توقيع مذكرات تعاون في مجال الكهرباء بين إيران وشركة “برشنا” الأفغانية التي تقضي بأن تقوم إيران بإعادة بناء وصيانة المحولات الكهربائية التالفة وكذلك توربينات محطات الطاقة في أفغانستان([20]).

وبناء على سياسات إيران بالمجمل المتبعة لبناء نفوذها في أفغانستان، فإن طبيعة ومدى قوة النفوذ الإيراني في أفغانستان ستوضح بشكل أكبر خيارات التحركات الدبلوماسية والأمنية للولايات المتحدة، وللأفغانيين والإيرانيين أيضًا، وما يرتبط بهذه القضية من استراتيجيات دول فاعلة فيها كروسيا والاتحاد الأوروبي؛ على اعتبار أن مقتل سليماني أشار إلى أن أماكن ثقل إيران خارج حدودها قد يكون هدفًا لأي مسارات تصعيدية قادمة.

وعليه لا يمكن فصل عملية قتل سليماني وارتداداتها على الاستراتيجيات الدولية وخصوصًا الأمريكية التي تعمل على المواكبة بين التصعيد ضد طهران وبين دفع عجلة المفاوضات مع طالبان لحل القضية الأفغانية وهو ما يعني أن سياسة واشنطن تهدف إلى تعزيز حماية مصالحها في أفغانستان في ظل ارتفاع المخاطر المهددة لوجودها في العراق بشكل عام والشرق الأوسط بشكل خاص، ولذلك فإن الساحة الأفغانية ستكون ساحة رد استراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة وإيران وكذلك الدولة الأخرى المؤثرة في مسار القضية هناك. لكن السؤال الأهم ما هي وجهات نظر الفاعلين ونقاط اتفاقهم واختلافهم حول القضية الأفغانية والإيرانية خصوصًا بين الولايات المتحدة وروسيا التي تنظر إلى أفغانستان وفق رؤية الهزيمة السوفييتة في ذلك البلد؟


([1]) “استئناف محادثات واشنطن وطالبان بالدوحة”. الجزيرة نت، 9-7-2019. https://bit.ly/2uCLAyT

“جولة عاشرة من المفاوضات مع “طالبان”: نقاط الخلاف”. مركز الجزيرة للدراسات، 12-12-2019. https://bit.ly/2tTpzeB

([2]) “ترك جيشًا من مقاتلي «فاطميون» و«طالبان».. هل تستغل إيران ما بناه سليماني في أفغانستان لضرب الأمريكيين؟”. عربي بوست، 9-1-2020. https://bit.ly/2FGMHjk

([3]) “بعيدًا عن الحروب وطالبان والمخدرات.. ماذا تعرف عن أفغانستان؟”. ساسة بوست، 1-12-2015.

“إيران وأفغانستان: مصالح مشتركة وقضايا عالقة”. المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 11-4-2019. https://bit.ly/2sfPY68

([4]) “النفوذ الإيراني في أفغانستان”. مؤسسة راند، 2014. https://bit.ly/36LbUVM

“فيديو: أقلية الهزارة هدف متكرر للجماعات المتشددة في أفغانستان”. فرانس 24، 26-7-2017. https://bit.ly/30ajnuN

“بعد انهيار محادثات السلام.. أفغانستان نحو رئاسية حاسمة (إطار)”. الأناضول، 24-9-2019. https://bit.ly/2Nd8cMR

([5]) “التغلغل الإيراني في أفغانستان يهدد الأقاليم”. الشرق الأوسط، 28-1-2016. https://bit.ly/2t6SwUo

([6]) انظر المرجع رقم 2.

([7]) “ايران وأفغانستان توقعان اتفاقية حدودية مشتركة”. وكالة الأنباء الإيرانية ارنا، 4-2-2015. https://bit.ly/2t016oa

([8]) “محمد خاتمي”. الجزيرة نت، 6-12-2014. https://bit.ly/2FGOKnw

([9]) “المخابرات الأفغانية: الملا عمر مات من سنتين”. بي بي سي، 29-7-2015. https://bbc.in/2NgDjXS

([10]) مصادر خاصة بالباحث.

([11]) “لماذا تسعى إيران إلى تحسين علاقاتها مع “طالبان”؟” مركز المستقبل، 14-1-2019. https://bit.ly/2FIej7v

“إيران والقاعدة… من العالمية الثورية إلى البراغماتية الفارسية”. إندبندنت عربية، 10-9-2019. https://bit.ly/2tNVZXW

([12]) “إيران وأفغانستان: مصالح مشتركة وقضايا عالقة”. المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 11-4-2019. https://bit.ly/2sfPY68

“التايمز: “أفضل مقاتلي طالبان يُدربون في إيران”. بي بي سي، 2-7-2018. https://bbc.in/2QGH3nK

([13]) “أفغانستان تتهم إيران بدعم إرهاب طالبان”. العربية نت، 20-11-2016. https://bit.ly/2QEjifS

([14]) “انظر المرجع السابق.

“طالبان تدخل على الخط.. تنعى سليماني وتهدد أميركا”. العربية نت، 5-2-2020. https://bit.ly/2FEFkcd

“بومبيو: إيران لديها علاقات مع “طالبان”. الأناضول، 7-1-2020. https://bit.ly/305uO7e

([15]) “الحزب الإسلامي” بأفغانستان.. القادم من المعارك للسياسة”. الجزيرة نت، 2-5-2017. https://bit.ly/2QJo3F7

([16]) “قلب الدين حكمتيار: عين على السياسة وأخرى على السلاح”. العربي الجديد، 28-9-2019. https://bit.ly/2QMdDEO

([17]) “أفغانستان وباكستان “طوق نجاة” لصادرات إيران في مواجهة الحصار”. إندبندنت عربية، 30-5-2019. https://bit.ly/2TfqyjW

([18]) “التغلغل الإيراني في أفغانستان يهدد الأقاليم”. الشرق الأوسط، 28-1-2016. https://bit.ly/2t6SwUo

([19]) “ايران تصدر سلعا بقيمة 151 مليون دولار إلى أفغانستان”. وكالة الأنباء الإيرانية ارنا، 5-10-2019. https://bit.ly/37YcVKk

([20]) “إيران تعيد بناء توربينين للطاقة في أفغانستان”. وكالة الأنباء الإيرانية ارنا، 19-8-2019. https://bit.ly/2t87CJp

 

رابط المصدر:

https://barq-rs.com/%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%BA%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%81%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M