ألاثار الوضعية للفتوى السياسية

بهاء النجار

بسبب تدني ثقافة الفقه الاجتماعي نسبة للفقه الفردي فإن الأعم الأغلب من الأمة تتعامل مع الفتاوى السياسية كما تتعامل مع الفتاوى الفردية التي تتعلق بالجانب العبادي الفردي ، هذا إذا قبلنا بأن هناك ثقافة ووعي بالفقه الفردي ، فعادة ما نتعامل مع الآثار التكليفية للأحكام الشرعية ولا نلتفت للآثار الوضعية لتلك الأحكام ، حتى على المستوى الفردي فضلاً عن المستوى الاجتماعي والسياسي ، فبما أن الطهارة تثبت بالعلم فلا يهمنا إن كان فعلاً المكان أو الثوب نجسين أم لا ، لأنهما حتى لو كانا نجسين واقعاً فما دمنا لا نعلم بهذا العلم الواقعي فنبني على طهارتهما .
هذا الكلام وإن كان صحيحاً في مسألة الطهارة وبعض المسائل الأخرى ، ولكن هناك مسائل من الضروري أن نلتفت الى الحكم الواقعي وأن نهتم به ونحتاط في حالة شككنا بحاله الحقيقي ، لأن الآثار الوضعية المتحققة ستكون صعبة وقد توصلنا الى مزالق ومآزق لا قدرة لنا عليها ، فمثلاً عندما يجد شخص قدحاً فيه شربت أو ما شابه ويقوم بشربه فإذا تبين أنه خمرٌ فلا إشكال عليه من الناحية التكليفية ، بمعنى أنه لا يتحمل وزراً وذنباً على شرب ذلك الخمر لأنه لا يعلم به ، ولكن مع هذا فإنه سيشعر بالسُكر وبالتالي قد يوقعه في حرج وإحراجات مع المجتمع وقد يرتكب حادثة لا سمح الله وغيرها من تبعات شرب الخمر ، وهذا يعني أن الآثار الوضعية للأحكام لا علاقة لها بالآثار التكليفية ، فقد يكون المكلف قد أدى تكليفه الشرعي ومع هذا قد يقع في مشاكل جاءت بسبب تبعات بعض التصرف كما في المثال السابق ، وحتى لا يقع المرء في مثل هذه التبعات عليه أن يكون حذراً في التعامل مع أي شيء وأن لا يكتفي أن ينظر الى الجانب التكليفي فقط وإنما عليه أن يدقق ويحتاط في الأمور التي ممكن أن توقعه في محاذير هو في غنى عنها ، ففي مثالنا السابق على الإنسان أن ينظر الى الشراب الموجود في القدح ويدقق في رائحته أو شكله فإذا تيقن بأنه شربت محلل فليتوكل على الله ويشرب أما إذا شك فيه ولم يكن مضطراً لشربه أو أن هناك بديلاً عنه فليتركه حتى لا يقع في المحاذير التي بيناها آنفاً .
وقد يسأل سائل : ما ذنب الشخص إن أكل أكلاً ولا يعلم بحرمته أن يتحمل تلك الآثار والتبعات ؟ والجواب : قلنا في موضع سابق أنه لا ذنب على الإنسان أن يأكل من أكل لا يعرف بحرمته أو يشرب شراباً لا يعرف حرمته ، ولكن من عدل الله أن لا يساوي بين شخصين أحدهما أكل من أكل حرام والآخر لم يأكل منه وكلاهما لا يعلمان بحرمته ، فكما أن العدل الإلهي يستلزم عدم المساواة بين من أكل حراماً عن عمد وبين من أكل الحرام بغيرعمد فإنه يستلزم عدم المساواة بين من يأكل الحرام وبين لم يأكل حراماً في الأصل .
هذه الآثار الوضعية سارية على كل الأحكام الشرعية ، فكما أن السُكر يصيب من يشرب الخمر سواء علم بذلك الخمر أم لم يعلم فإن تطبيق الفتاوى السياسية لها آثار وضعية في حالة تطبيقها كما أرادته المرجعية أم لم تكن مطابقة ، فالبعض يتعامل مع الفتاوى السياسية كتعامله مع الفتاوى التقليدية الفردية بأسلوب (إسقاط الفرض) حتى يقنع نفسه أو يقنع الآخرين والمجتمع بأنه أدى ما عليه تجاه فتوى المرجعية ، مع إننا وجدنا الآثار الوضعية التي يمكن أن تصيب الشخص إذا ارتكب حراماً سواء علم بذلك أم لم يعلم وسواء كان متعمداً لارتكاب الحرام أم لم يكن ، فكيف بالاثار التي تكون سبباً لتطبيق فتوى سياسية تهم البلد من دون التأكد وبذل الوسع الجهد لمطابقة العمل للفتوى ؟! فمجرد إسقاط الفرض قد لا يكون مسموحاً به بالدرجة المسموح بها مع العبادات الفردية ، لأن آثار الفتاوى السياسية سيكون على المجتمع والبلد عموماً وليس فقط على الفرد الذي طبّق الفتوى .
فمثلاً لو افتت المرجعية بوجوب (انتخاب الأصلح) ، وإن كان من غير المتوقع أن تصدر من المرجعية مثل هذه الفتوى لأنها نتيجة عقلائية لا داعي من صبغتها صبغة فتوائية ولكن ضربناها مثالاً للتوضيح بسبب مطاطيتها ، فإذا توجه شخص لانتخاب مرشح يعتقد أنه هو الأصلح – تطبيقاً لهذه الفتوى – ولم يكن المرشح أصلح بنظر المرجعية فسيكون تأثير هذا المرشح بعد فوزه تأثيراً سلبياً على البلد أو على الأقل لا يسير وفق ما تراه المرجعية ، وقد يستغل هذا الشخص منصبه بسبب عدم صلاحه لأغراض حزبية وشخصية فيصبح مصدراً للفساد ومعوناً للفاسدين ، وقد تعودنا في العراق أن هناك الكثيرين من السياسيين يحتاجون الصعود للبرلمان او الحكومة مرة واحدة وسيبقى فيها طول العمر حتى وفاته ، وهذا الشخص (الأصلح) الذي لم يكن صالحاً ممكن أن يبقى في مفاصل الدولة ويكون حجر عثرة في طريق كل صلاح وإصلاح .
طبقاً لهذا المثال نعرف أن هذا الشخص الذي تصور أنه طبق فتوى المرجعية وأسقط الفرض الذي عليه قد ساعد مفسداً في الوصول الى السلطة ، والمجتمع كله يدفع ثمن وصول هذا الفاسد لأن الذين انتخبوه إسقاطاً للفرض وتلبية – كما يتصورون – لفتوى المرجعية ، فكان من المفترض ان يكونوا دقيقين في معرفة معنى (الأصلح) الذي كانت تقصده المرجعية ويبذل قصارى جهده كي يتعرف على الأناس الذين تقصدهم المرجعية وأن لا يكتفي بالشكليات والمظاهر وما يقوله الإعلام ، لأن هذا سيورطه ويورط المجتمع باشخاص فاسدين ، وهذا هو حالنا .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M