الاتجاهات الأوروبية المضادة للرأي من “بوتين فيرشتير” إلى “ساحر الكرملين”

داليا يسري

 

أعادت الحرب الروسية الأوكرانية العالم مرة أخرى إلى الحديث عن الصراع المحتدم بين الكتلتين الغربية والشرقية. إذ كثفت الآلتين الإعلاميتين؛ الروسية والغربية على حد سواء، مهام عملهما لإقناع الجمهور من كِلا الجانبين بأهمية محاربة الآخر. فِمن ناحية، اعتنى إعلاميو النظام الروسي أو من تُطلق عليهم الصحافة الغربية “روسكي براباجنديستي” أي الدعائيين الروس، بتكثيف جهودهم لإقناع الشعب الروسي بحتمية قرار الحرب وشرعيتها باعتبارها مصيرًا لم يكن أمام روسيا بديلًا عنه. وعلى النقيض الآخر، ركزت منصات الإعلام الغربي على شيطنة الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، وإقناع شعوبها بإدانة الحرب وضرورة مقاومتها. ومن هذا المنطلق، نبحث الآن في ظهور الاتجاهات المضادة لآراء الإعلام الغربي حول الحرب، أملاً في الوصول إلى أجوبة عن تساؤلات حول فاعلية الدعاية الإعلامية أو الأدبية في تغيير التوجهات الشعبية.

“بوتين فيرشتير”: من يفهم بوتين في ألمانيا؟

أصبحت كلمة “بوتين فيرشتير” لفظة متداولة في الصحافة الألمانية بالتزامن مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022. وهي كلمة ألمانية تعني الترجمة الحرفية لها “فاهمي بوتين”، أو “الشخص الذي يفهم بوتين”. ولطالما تم استخدامها في ألمانيا، بوجه عام، كإهانة موجهة للسياسيين والشخصيات العامة التي أبدت تعاطفًا مع التوجهات السياسية الخاصة بالكرملين. مثال على ذلك؛ التصريحات التي قالها نائب قائد القوات البحرية الألمانية، الأدميرال “كاي أحيم شونباج”، 21 يناير 2023، أثناء زيارته لأحد مراكز الفكر الهندية في نيودلهي. ردًا على سؤال حول موقف بلاده من توسعات حلف الناتو، إذ قال إن الوقت قد حان للاعتراف بأن شبه جزيرة القرم لن تصبح أراضي أوكرانية مرة أخرى أبدًا. مضيفًا أن “فلاديمير بوتين”، في غنى عن الحصول على الأراضي الأوكرانية وأن كل ما يحتاج إليه هو الحصول على الاحترام الذي يستحقه. مؤكدًا أن برلين ونيودلهي تحتاجان إلى روسيا كحليف في المواجهة مع الصين. وقد هوجم المسؤول الألماني بمجرد أن خرجت تصريحاته للعلن واضطر للاعتذار ثم الاستقالة خلال الأيام اللاحقة على ذلك.

ولم تكن الحرب الروسية الأوكرانية هي الظرف العالمي الأول الذي تشهد فيه الصحافة الألمانية بروز هذه اللفظة إلى السطح. بل إنه من الممكن الإشارة إلى أن ظهورها يعود إلى العام 2007، عقب التوتر الدولي الذي خلفته الحرب في أوسيتيا الجنوبية، وما اتصل بها من محاولات جورجيا وأوكرانيا للانضمام لحلف الناتو بشكل تحتم عليه أن تقوم الصحافة الألمانية بإطلاق هذه الكلمة على كل من يُبدي تفهمًا لسياسات الكرملين الخارجية.

وبرز هذا المصطلح أيضًا في العام 2014 إبان الهجوم الروسي على شبه جزيرة القرم واستردادها مرة أخرى تحت لواء العلم الروسي. بشكل يجعل من الممكن وصف الموقف الألماني الرسمي من ضم القِرم بأنه شيء أقرب إلى “تأييد” منه إلى “معارض”. وعلى الرغم من مشاركة ألمانيا في العقوبات التي فرضت على روسيا في ذلك الوقت، إلا أن غالبية سياسيي حزب البديل وحزب اليسار الألماني كانوا يظهرون دعمهم الكامل لموقف الحكومة الروسية.

وفي سياق متصل، كتب الصحفي الأوكراني “بوركارد مولر أورليتش”، بتاريخ 18 نوفمبر 2014، مقالاً منشورًا على أحد المواقع الإخبارية الألمانية، بعنوان “كثيرون يفهمون بوتين”، سرد من خلاله تجربته الخاصة عبر محادثات لا تعد ولا تحصى خاضها في أوروبا، بينت له أن الغالبية لا يفهمون بوتين فحسب بل إنهم أيضًا لا يحاولون فهم الجانب الآخر –أوكرانيا. وطرح تساؤلاً وصفه بأنه مؤلم للغاية، حول لماذا دائمًا يبدو المعتدى أكثر قابلية للتفهم من ضحايا عدوانه!

وكذلك أثارت الكاتبة الألمانية، “جابرييل كرون شمالتز”، الجدل في العام 2015 بعد أن أصدرت كتابها الذي من الممكن وصفه بأنه يحتل مرتبة متقدمة في مسألة “بوتين فيرشتير”، والذي يحمل عنوان “فهم روسيا- النضال من أجل أوكرانيا والغطرسة الغربية”. وعكفت الكاتبة من خلاله على وصف السياسة الروسية تجاه أوكرانيا بأنها سياسة دفاعية في أغلبها. وألقت بالمسؤولية الكاملة للصراع على عاتق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، نظرًا لتعمد الغرب إهمال المصالح الأمنية الروسية والاتجاه نحو التوسع.

وسبق أن لفت هذا المصطلح، أو بمعنى أدق هذا التوجه، أنظار المهتمين من الصحافة والإعلام الألماني على حد سواء. فقد كتب الصحفي الألماني “راينهارد مايير”، في مقاله المنشور بتاريخ 4 إبريل 2022، موقع “جورنال ميهيوريت“، بعنوان “من يفهم بوتين ليس مثل من يفهم روسيا”، محاولاً شرح دوافع أصحاب هذا التوجه قائلاً “إنهم يعترفون بأن حرب روسيا العدوانية في أوكرانيا تعتبر تطورًا رهيبًا للأحداث”. ويستطرد مشيرًا إلى أنهم على قناعة بأن الحرب، لسببٍ ساذج أو رومانسي، وقعت بسبب تعمد الغرب إذلال بوتين مرارًا وتكرارًا. وبناءً عليه يحق لبوتين أن ينظر لتكتل الناتو باعتباره تهديدًا عسكريًا حقيقيًا لروسيا كما أن أوكرانيا لطالما كانت جزءًا من الأراضي الروسية التاريخية. ويشرح “مايير” أن فاهمو بوتين يعتقدون أنه ليس من الممكن إلقاء اللوم عليه بفعل هذه الأسباب.

ساحر الكرملين: رومانسية باريسية أم دعوة شعبية للسلام؟!

هناك مقولة شائعة تشير إلى أنه ينبغي على من يرغب في فِهم السياسة عليه أن يبدأ على الفور بقراءة الأدب. ربما تكون هذه العبارة قد تعدت، هذه المرة، كونها مجرد نصيحة ذهبية تشيد بأهمية الدور الذي يلعبه الأدب كحلقة وصل بين أشياء متضادة كثيرة مثل؛ الواقع والخيال، السياسة والجماهير، الحقيقة والكذب وغيرها. ففي رواية الكاتب الإيطالي، “جوليانو دا امبولي”، التي صدرت في فرنسا بعنوان “ساحر الكرملين”، في إبريل 2022، يظهر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” وهو يقول “يوجد هناك شيئان يطلبهما الروس من الدولة؛ النظام الداخلي والقوة الخارجية”. فقد عكفت الرواية التي باعت أكثر من 430,000 نسخة حتى الآن، على شرح تفاصيل دوافع الرئيس الروسي التي أدت إلى اتخاذه قرار الحرب.

وكذلك يحاول مؤلفها تقديم دليل شامل للمنطق البوتيني والمنظومة العقلية للرئيس الروسي، حيث يروي بإسهاب كل ما أدى إلى غزو أوكرانيا في فبراير 2022. وتركز القصة على شخصية تُدعى “فاديم بارانوف” باعتباره يظهر في دور أحد معاوني الرئيس الروسي. ويحكي الكاتب على لسان هذه الشخصية قصة صعود وتوطيد سلطة بوتين من خلال عيون أحد رجال الظل الذي كان يعمل مستشارًا سياسيًا له. وتمثل قدرة الكاتب على الاختراق التخيلي لما يدور في عقل “بوتين”، على الرغم من كونه واحدًا من أكثر الرجال غموضًا في عالم السياسة، امتيازًا كبيرًا لصاحبها. كما يقدم الكاتب تأملاً في مصطلحات تعتمدها الصحافة الروسية أثناء حديثها عن الغرب بوجه عام، حيث يشرح الكاتب ما يسمى بالانحطاط الغربي وأهداف الولايات المتحدة المتمثلة في رغبتها بجعل روسيا تركع على ركبتيها.

وتسببت الرواية في تحقيق شهرة واسعة لكاتبها، وتمت دعوته للقاء مع رئيسة الوزراء الفرنسية، “إليزابيث بورن”، بالإضافة إلى استضافته في واحد من أشهر البرامج الحوارية الصباحية في فرنسا لتقديم تحليل عن تطورات الحرب. فقد عبرت رئيسة الوزراء الفرنسية عن متعتها الشديدة أثناء قراءتها للكتاب الذي يمزج بين الخيال والواقع وتتردد عبر صفحاته أصداء للأحداث الدولية الجارية والحرب في أوكرانيا. غير أن الرواية أثارت، في غضون ذلك، مخاوف الكثير بشأن قدرتها على تشكيل وجهات نظر الفرنسيين السياسية نحو روسيا. حيث يرى نقاد أن الرواية تنقل صورة تحث على خلق تعاطف كبير مع “بوتين” بشكل ربما يؤثر على القرار السياسي لبلد تلقى بالفعل العديد من الانتقادات بفعل تسامحه السابق مع الرئيس الروسي.

نظرة تحليلية

للوقوف على الأسباب المؤدية لبزوغ شمس ظاهرة “مؤيدو الكرملين” أو “فاهمو بوتين” في ألمانيا، نجد أن استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها في الداخل الألماني، يوليو 2022، أظهرت أن أكثر من ثلثي الألمان يدعمون أوكرانيا ويدينون الهجوم الروسي. أعقبتها استطلاعات رأي أخرى، تم إجراؤها بتاريخ نوفمبر 2022، رصدت أن أكثر من ثلثي الألمان باتوا يؤمنون أن روسيا اضطرت لمهاجمة أوكرانيا بشكل قسري. في تحول فسره خبراء وإعلاميون ألمان بأنه يعود إلى نجاح الدعاية الروسية في الترويج لمفهوم “بوتين” عن الحرب. ترتب عليه، ظهور لفظة “بوتين فيرشتير” مرة أخرى إلى سطح الأجواء الإعلامية الداخلية. في غضون ذلك، وبالمقارنة مع ازدهار هذه اللفظة خلال فترات سابقة شهدت أزمات جمعت بين موسكو وبرلين نجد أن هذا الازدهار كان في أغلبه قاصرًا على طبقة النخبة الألمانية والتي عادة ما كانت الصحف الألمانية تفسر ميولها لروسيا بالعمالة للكرملين.

نجد أنه من الأجدر الربط بين ظهور وتنامي ظاهرة “البوتين فيرشتير” خلال الحرب الراهنة بشكل يتجاوز طبقة النخبة إلى الطبقة العادية من أفراد الشعب، بأنه توجه ينبع من جذور اقتصادية في المقام الأول. خاصة عقب التبعات الاقتصادية المؤثرة التي لامست أغلب طبقات الشعب الألماني بفعل أزمات الطاقة وارتفاع الأسعار التي تلت الحرب. ويُشار في هذا السياق، إلى ما ورد في حلقة برنامج “ريداكتسيا” للإعلامي الروسي “أليكسي بيفاراف”، التي تم بثها على شبكة الإنترنت بتاريخ 3 فبراير، للحديث بشكل تفصيلي عن “فاهموا بوتين والمؤيدون للكرملين في أوروبا”. حيث تمت استضافة أحد المؤثرين الألمان على تطبيق “تيك توك”، “رينيه خيرمان”، الذي ظهر عبر حسابه الشخصي –الذي تم حظره فيها بعد- موجهًا رسالة شخصية لـ “بوتين”، عبر من خلالها عن أسفه لأن الدول الأوروبية هي من تسببت في ذلك. وأكد أنهم لا يفهمون بوتين. وعبر عن سعادته بكل من يحمل العلم الروسي ويخرج به إلى الشارع تأييدًا لموسكو لأجل بوتين. وعندما سأله المُحاور عن المتسبب في الصراع الجاري، ألقى باللوم في ذلك على الأمريكيين لأنهم يمدون أوكرانيا بالأسلحة التي يحصلون عليها من دولة مثل ألمانيا التي تمنحها لهم، متسائلاً عن المكان الذي تؤول إليه أموال دافعي الضرائب الألمان.

وكذلك الحال، بالانتقال لمناقشة دوافع ظهور أي توجهات شعبية لتأييد الكرملين في الداخل الفرنسي عقب نشر رواية “ساحر الكرملين”، إذ نرى أن الحالة الاقتصادية التي تعاني منها فرنسا بعد الحرب ربما تكون مماثلة لما يعانيه مواطنو ألمانيا. فقد أظهرت النتائج الاقتصادية الفرنسية، أواخر أكتوبر 2022، أن الصراع الروسي الأوكراني أدى لارتفاع أسعار الطاقة والأسمدة والحبوب في فرنسا بنسبة تتراوح ما بين 20% إلى 30%. وفي يناير 2023، خرج الخبازون الفرنسيون للشوارع احتجاجًا على ارتفاع أسعار الطاقة وأسعار الموارد الأخرى التي يقولون إنها تعرض تجارتهم للخطر. يأتي ذلك وسط مقترحات أعلن عنها الرئيس الفرنسي، “إيمانويل ماكرون”، 20 يناير 2023، حول تخصيص 413 مليار يورو للنفقات العسكرية خلال الفترة ما بين “2024- 2030”. حيث من المقرر أن تذهب هذه الأموال بشكل خاص لتحديث الترسانة النووية الفرنسية، وزيادة الإنفاق الاستخباراتي بنسبة 60%، ومضاعفة عدد الاحتياطيين العسكريين، وتعزيز الدفاع الإلكتروني، وتطوير أنواع الأسلحة التي من الممكن التحكم فيها عن بعد.

ختامًا، وردًا على سؤال نهائي بالدور الذي تلعبه الدعاية في تغيير موقف الشعوب. نجد أن الدعاية؛ الغربية والروسية على حد سواء، أو العمل بشكل مكثف على الترويج لفكرة، جمعيها آليات تلعب دورًا لا لبس فيه في تغيير توجهات الشعوب. لكن لا يزال تأثيرها لا يمكن مقارنته بالتأثير الاقتصادي المباشر للقرارات السياسية على حياة الأفراد. بشكل يجعل من الاقتصاد باعتباره رأس الحرب وأصل السلام هو أهم محرك وأداة يمكن لصانع القرار في أي بلد استخدامه لتوجيه الرأي العام الداخلي إزاء قضية ما.

وبناءً عليه، تُفسر ظاهرة “بوتين فيرشتير” جنبًا إلى جنب مع نجاح رواية “ساحر الكرملين” في فرنسا، بأنها نتائج منطقية تقترن بالأضرار الاقتصادية الناجمة عن الحرب على المجتمعين. بمعنى آخر، نجد أن التأثير الوارد أعلاه على موقف مواطني ألمانيا وفرنسا من توجهات السياسة الخارجية للكرملين لم يكن ليظهر لولا الأضرار الاقتصادية التي وقعت على شعوب هذين البلدين بفعل الحرب. بشكل ترتب عليه خلق ميول نفسية لدى غالبية أفراد هذه الشعوب، تدفعهم لإلقاء اللوم على حكوماتهم بفعل دعمها لأوكرانيا بالتسليح الذي ينعكس عليهم بضرر اقتصادي، وتبرير أفعال الكرملين من الناحية الأخرى. وربما يكون من الأجدر أيضًا النظر إلى تلك الظواهر، إجمالاً، باعتبارها تنطوي على نداء شعبي للقادة الأوربيين ينبه بأن موعد الدعوة السلام قد حان.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75397/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M