الجدران المتداعية لإنكار العرب للمحرقة النازية

 روبرت ساتلوف

 

على مدى العقد الماضي، بدأ التعليم عن تجربة المحرقة اليهودية في أوروبا ينتشر على المستوى الأكاديمي في العالم العربي. فما هي العوامل التي أدت إلى إضفاء الشرعية تدريجياً على قيام مناقشة نزيهة في المنطقة حول هذه الكارثة الإنسانية وجعلت التصريحات التقليدية عن الإنكار والتشويه أقل قبولاً؟

منذ ما يقرب من 20 عاماً، انتقلتُ مع عائلتي للإقامة في العاصمة المغربية الرباط وانطلقتُ في رحلة لإيجاد وسيلة للتحدث مع العرب حول المحرقة اليهودية (“الهولوكوست”) – على نحو جدي وناضج وبناء. وعلى الرغم من أن الطريق لا يزال طويلاً، إلّا أنه بعد مرور عقدين من الزمن، بوسعي أن أقول إن هذا الحديث أصبح شائعاً الآن، لأن مناقشة المحرقة في المجتمعات العربية أصبحت أكثر حيوية، وسائدة، وشرعية.

تقليدياً، وصل العلماء والمؤسسات في الغرب الذين أضناهم إنكار المحرقة والتشويه الشائع للأسف في المجتمعات العربية إلى الاعتماد على استراتيجيتين للتحدث مع العرب حول المحرقة. وتمثلت إحداها باستذكار لحظات الرعب الرهيبة المرتبطة بمحاولة الفاشيين الأوروبيين إبادة يهود أوروبا والتوقع من العرب أن يعبّروا عن التعاطف. أما الاستراتيجية الأخرى، فكانت في سرد قوائم طويلة من تصريحات شائنة أدلى بها قادة وشخصيات عربية بارزة والتوقع من العرب أن يعبّروا عن الندم. وربما تكون الاستراتيجيتان ضروريتين، لكن أياً منهما لم تكن فعالة للغاية. وقد اجتمعت عدة عوامل لتغيير هذه الديناميكية.

أولاً، شهد العرب فظائع جماعية عن قرب، ولّدت في كثير من الأوساط شعوراً بالاشمئزاز. فسواء إقدام صدام حسين على قتل الأكراد في العراق بالغاز وعلى غزو الكويت، أو عمليات القتل والحرق في دارفور أو الأعمال البربرية التي يرتكبها نظام الأسد في سوريا، حثّ الأثر التراكمي لسلسلة الأعمال الوحشية العديد من العرب على المشاركة في النقاش العالمي حول التوعية ضد الإبادة الجماعية ومنعها.

ثانياً، بدأ المؤرخون أخيراً بسرد الرواية العربية للمحرقة، أي اضطهاد مئات الآلاف من اليهود الذين كانوا يعيشون في تلك الأراضي العربية التي وقعت تحت سيطرة ألمانيا النازية أو فرنسا الفيشية أو إيطاليا الفاشية – المغرب والجزائر وتونس وليبيا بشكل أساسي – والدور الذي لعبه العرب كجناة ومتفرجين وحتى منقذين. وفي حين اقتصرت مساهمتي المتواضعة على البحث والكتابة والتحدث وتصوير فيلم عن هذه القصة، إلا أن ما أشفى غليلي بشكل خاص كان رؤية انتشار التعليم عن تجربة المحرقة اليهودية في العالم العربي على المستوى الأكاديمي على مدى العقد الماضي.

ثالثاً، أدى تغيير الديناميكيات الاستراتيجية في الشرق الأوسط – لا سيما الخوف المشترك من جشع إيران، وتقلص صدى القضية الفلسطينية، والجهود التي يبذلها رؤساء الولايات المتحدة الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء لتقليص البصمة الأمريكية في المنطقة والهروب من صراعاتها – إلى جمع الدول العربية وإسرائيل سويّة. والنتيجة الآن هي إقامة إسرائيل علاقات دبلوماسية كاملة مع ست دول عربية، يشكل سكانها مجتمعة غالبية سكان العالم العربي، فضلاً عن إقامتها علاقات عمل مع عدة دول أخرى، مما يجعل من الممكن قيام تفاعل إنساني غير مسبوق بين المجتمعين العربي والإسرائيلي. وأحد النتائج الثانوية هو أنه من خلال الاتصال يأتي الفهم للمحرقة وحتى التعاطف معها ومع الدور الذي تلعبه في السرد الوطني لإسرائيل.

رابعاً، توقفت دول عربية كبرى عن محاولة حماية نفسها من انتشار التطرف الإسلامي من خلال إيواء المتطرفين وتحوّلت إلى مواجهة التطرف وتبنّي استراتيجية التسامح الديني والتواصل مع الأقليات. فالوقت الذي بذل فيه القادة المصريون قصارى جهودهم لاستمالة جماعة «الإخوان المسلمين» وصدّرت السعودية تطرفها الذي هو من صُنْع الرياض، فقط من أجل التقدم بخطوة على المتطرفين الفعليين، هو الذي جعل الرئيس المصري الحالي يحضر قداس عيد الميلاد والسعوديين يُسكتون الأئمة المحافظين المتشددين وحتى استضافتهم قادة إنجيليين أمريكيين.

وفي مختلف أرجاء المنطقة، أطلقت هذه الظاهرة العنان لحلقة إيجابية من الخطوات “المحبّة للسامية” من قبل دول غير صديقة تاريخياً لليهود أو اليهودية. وتراوحت بين ترميم المعابد اليهودية في مصر – التي تم إهمالها منذ فترة طويلة – بتمويل من الحكومة وافتتاح العديد من المؤسسات المجتمعية اليهودية في جميع أنحاء الخليج بموافقة الحكومة، مع التركيز بشكل خاص على دولة الإمارات، التي تفتخر الآن بـ “وزارة التسامح” على مستوى مجلس الوزراء.

وعند إضافة هذه العوامل سويةّ كانت إحدى النتائج أن مناقشة موضوع المحرقة أصبحت أكثر شرعية، في حين أن التصريحات التقليدية عن الإنكار والتشويه أصبحت غير مقبولة بدرجة أكبر. وأخذت المغرب القيادة في هذا الصدد – وهي موطن أكبر جالية يهودية في المنطقة، والتي لا تزال صغيرة للغاية يناهز عددها 3000 شخص – مع البيان التاريخي للملك محمد السادس من عام 2009 الذي وصف المحرقة بأنها “واحدة من أكثر الفصول مأساوية في التاريخ الحديث”. جاء ذلك في أعقاب توقيع المغرب على أول اتفاقية مشاركة أرشيفية بين مكتبة وطنية عربية و”متحف ذكرى الهولوكوست في الولايات المتحدة” عام 2008. ومنذ ذلك الحين، عقدت جامعة مغربية المؤتمر الافتتاحي حول المحرقة في العالم العربي، وتم تأسيس منظمة للمسلمين المغاربة الشباب، تسمى “ميمونة”، للحفاظ على تراث الجالية اليهودية المحلية، بما فيها تجربتها خلال المحرقة.

واكتسبت المبادرات الجديدة المتعلقة بالمحرقة زخماً في الآونة الأخيرة. ففي عام 2018، أصدر الأمين العام لـ “رابطة العالم الإسلامي” ومقرها في السعودية – والتي كانت تصدّر منذ الستينيات نسخة المملكة البغيضة وغير المتسامحة من الإسلام في جميع أنحاء العالم – إعلاناً مذهلاً يدين إنكار المحرقة، وتبع ذلك قيام الأمين العام لـ “الرابطة” بزيارة “متحف المحرقة” في واشنطن، ثم في عام 2020، قاد وفداً من رجال الدين المسلمين بزيارة طويلة ومثيرة إلى “معسكر أوشفيتز” [للإعتقال والإبادة].

وفي أواخر عام 2020، قامت “مجموعة شراكة” الإماراتية باصطحاب مجموعة [من المعنيين] إلى “ياد فاشيم”  – “المركز العالمي التوثيقي والبحثي والتعليمي لتخليد ذكرى المحرقة” – في القدس، ونشرت مقطع فيديو مؤثراً عن تجربة أعضائها. وفي اليوم الدولي لإحياء ذكرى المحرقة في كانون الثاني/يناير 2021، كتب وزير الخارجية البحريني لنظيره الإسرائيلي أن الذكرى “تقف كنصب تذكاري رسمي لضحايا المحرقة وتذكير دائم بالحاجة إلى دعم التزامنا العالمي برفض جميع أشكال معاداة السامية”. وهذا الأسبوع فقط، أعلنت بفخر “رابطة الجاليات اليهودية الخليجية”، وهي منظمة جديدة يرأسها حاخام مقيم في دبي، على موقع “تويتر” عن برنامجها لإحياء ذكرى المحرقة في ستة بلدان. والقائمة طويلة.

وبالطبع، بقِيَتْ أصوات مؤيدي الإنكار وتشويه الحقيقة تصدح. فعندما وافقت المكتبة الوطنية التونسية في عام 2018 على استضافة معرض متنقل لـ”متحف ذكرى الهولوكوست بالولايات المتحدة” حول الحملة الدعائية النازية، في تذكير ضمني بقدرة المتطرفين على تحريف الأخبار والمعلومات لجذب أتباع ووقف الجدال، استطاع الأفراد الذين عينوا أنفسهم حراساً ومراقبين تصدّر العناوين الرئيسية بفضل نجاحهم في إغلاق المتحف مؤقتاً. لكن القصة الحقيقية كانت إصرار المتحف على إقامة المعرض، الذي أعاد افتتاح أبوابه في النهاية ومن ثم استمر في ذلك عبر موقعه الإلكتروني على الانترنت.

ولا يزال هناك الكثير لإنجازه. وتشمل المهام الرئيسية التعاون مع وزارات التعليم العربية لإدراج تاريخ المحرقة في المناهج الدراسية للتأكد من أن وسائل الإعلام في المنطقة، مثل قناة “الجزيرة”، لا تستخدم عبارات ملطفة ومطمئنة في الإنكليزية في حين تُبقي على خطاب الكراهية باللغة العربية.

وبما أن الرياح السياسية في المنطقة يمكن أن تتغيّر، فمن الأهمية بمكان بشكل خاص التشجيع بصورة أكبر على عدم إنكار العرب للمحرقة في الوقت الحالي كي لا تجد إسرائيل نفسها يوماً ما على خلاف مع أصدقاء اليوم من العرب. وإحدى الطرق التي يمكن لإسرائيل نفسها أن تساعد بها هذه العملية هي أن تتخلى “ياد فاشيم” عن رفضها العنيد وأن تعترف أخيراً بالعرب الشجعان الذين حموا اليهود في الدول العربية خلال الحرب العالمية الثانية بوصفهم “الصالحين بين الأمم”.

ولربما تتمثل الخطوة الأكثر إلحاحاً في ضرورة إقناع القادة العرب بأن الاعتراف بتاريخ المحرقة له تداعيات سياسية على التصدي لشبح بلاء الإبادة الجماعية الذي لا يزال قائماً، والذي يريد الكثيرون التغاضي عنه في الصين، حتى عندما يكون الضحايا من المسلمين.

ولكن بدلاً من الرزوح تحت عبء هذه الأجندة غير المكتملة، فلنستغل مناسبة ذكرى المحرقة [التي صادفت في الثامن من نيسان/أبريل] للإضاءة على الخبر السار الصادر عن منطقة نادراً ما تصدّر أي خبر سار. فلنكرر التزامنا بأهمية محاربة إنكار المحرقة وتشويهها في العالم العربي من خلال النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس. ومن شأن هذا الواقع الملفت وحده أن يكون محفزاً لمسعى السنوات العشرين القادمة.

 

رابط المصدر:

https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/aljdran-almtdayt-lankar-alrb-llmhrqt-alnazyt

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M