السياسات الدولية تجاه الثورات العربية: المحددات والمسارات

د. عصام عبد الشافي

تمهيد:

تأتي هذه الدراسة، سعياً للإجابة عن تساؤل رئيس: ما هي محددات سياسات القوى الدولية في المنطقة العربية في مرحلة الثورات الشعبية؟ وما هي أنماط ومستويات هذه السياسات؟ وما هي مساراتها وسيناريوهاتها المحتملة في ظل تطورات الثورات العربية؟ وما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات مستقبلية؟

منهجية الدراسة:

سعياً نحو الإجابة على هذا التساؤل، يعتمد الباحث على منهج الارتباط أو الركيزتين Two Level Game: والذي يقوم على أن هناك تداخلاً شديداً بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية في تشكيل السياسات الخارجية للدول، وأن قرارات هذه السياسات تأتي انعكاساً لعمليات التفاعل المتبادل بين السياسات والقوي والجماعات الداخلية من ناحية، ومعطيات ومتطلبات البيئة الإقليمية والدولية وما تفرزه من تداعيات من ناحية أخري.

فما يحدث علي مستوى يؤثر علي الآخر، ويمكن أن يظهر هذا التأثير في عدد من المخرجات والمطالب التي يفرزها كل مستوى، فالسياسات والأوضاع والقوى الداخلية تؤثر في تحديد أهداف الدولة، داخلياً وخارجياً، وبالتالي في صياغة الاستراتيجيات التي تتبناها هذه الدولة لتحقيق أهدافها، وهو ما ينعكس في التحليل الأخير علي وضع الدولة وطبيعة علاقاتها وتفاعلاتها الدولية[1].

وفي إطار هذا المنهج سيتم تناول المحددات النابعة من القوى الكبرى والحاكمة لتوجهاتها وسياساتها الخارجية، من ناحية، والمحددات النابعة من الإقليم في مرحلة ما بعد الثورات، والتي كان لها تأثيراتها على صياغة وتشكيل سياسات القوى الكبرى تجاه المنطقة، وأثر هذه المحددات على خصائص ومستويات استراتيجيات هذه القوى حاضراً ومستقبلاً.

 

تقسيم الدراسة:

في إطار الاعتبارات السابقة، يأتي التقسيم المقترح للدراسة على النحو التالي:

المبحث الأول: محددات سياسات القوى الدولية تجاه الثورات العربية

أولاً: المحددات النابعة من القوى الدولية وتحولاتها

ثانياً: المحددات النابعة من البيئة الإقليمية

المبحث الثاني: مسارات القوى الكبرى وتحديات الدور في المنطقة العربية

أولاً: مستقبل السياسة الأميركية في المنطقة

ثانياً: مستقبل السياسة الأوروبية تجاه المنطقة

ثالثاً: مستقبل السياسة الروسية

خاتمة: نحو بدائل أولية لإدارة التحديات الراهنة

 

المبحث الأول: محددات السياسات الدولية تجاه الثورات العربية

في إطار العوامل المؤثرة في سياسات القوى الدولية تجاه الثورات العربية، يمكن التمييز بين مجموعتين أساسيتين، الأولى تلك النابعة من البيئة الداخلية لهذه القوى الدولية والتي تم حصرها في هذه الورقة البحثية في الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا الاتحادية وأوروبا والصين الشعبية، والثانية تلك النابعة من البيئة الداخلية لدول الثورات العربية ومنطقتها الإقليمية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

المجموعة الأولى: المحددات الدولية:

في القرن التاسع عشر كانت هناك إمبراطوريات متحاربة برز من بينها الإمبراطورية البريطانية والفرنسية والعثمانية والنمساوية، والمجرية والروسية واليابانية، تحولت في القرن العشرين إلى دول متحاربة ظهر منها بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي، الصين، تحولت في القرن الحادي والعشرين إلى دويلات متحاربة[2]، وفواعل ما فوق الدولة وما دون الدولة، في إطار بنية عالمية وإقليمية غير مستقرة، ولكن تبقى هناك أطراف تملك القدرة على السيطرة على جوانب من هذه البنية، وتتحكم في إدارة بعض مشاهدها بما يتوافق ومصالحها وأنماط تحالفاتها، ومن بين هذه الأطراف تبرز مع اقتراب العقد الثاني من القرن العشرين أربع قوى يمكن وصفها “بالكبرى” هي الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية، والصين الشعبية، وعلى أساس أنماط ومستويات التفاعل فيما بينها، تتحدد طبيعة النظام الدولي وتحولاته الأساسية.

ومن هنا تأتي أهمية الوقوف على محددات سياسات هذه القوى وأنماط ومستويات سياساتها تجاه الثورات العربية، وهو ما يمكن تناوله وفق المحاور التالية:

المحور الأول: خريطة الفاعلين الرئيسيين في العالم المعاصر:

أولاً: الولايات المتحدة:

منذ اندماجها في النظام الدولي بشكل كامل بعد نهاية الحرب العالمية الثاني، وحتى الآن، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية، تحقق تفوقا مستمرا، يمكن الاستدلال عليه عبر معايير قابلة للقياس، تتعلق بموارد القوة الصلبة والناعمة والذكية، حتى أنتجت ما يسميه البعض “الدولة – العالم”، أمام تمتعها بامتيازات جيوسياسية واقتصادية واجتماعية تجعل من تفوقها فريدا في الكم والنوع، حتى لو ناظرتها قوى عسكرية واقتصادية أخرى، سواء بحجم أوروبا أو روسيا أو الصين [3].

ووفقا لمكانتها، تتحمل من المسؤولية في الداخل الأمريكي بقدر ما تتحملها في الخارج. وهذا يعني بالضرورة أن أي تقدم أو تراجع في الداخل لا بد وأن ينعكس على النفوذ في الخارج، بحيث يزيد أو يقلص من حدود الهيمنة دون أن ينال الانحسار، بالضرورة، من مستوى التفوق، وهنا يكمن جوهر أي استراتيجية أمريكية قومية، فرغم التراجع في قوتها، ستظل الولايات المتحدة تتمتع بقدر من القوة لا تتمتع به أي دولة أخرى على الساحة الدولية، وإذا لم تستطع، خلال السنوات العشر القادمة، فرض هيمنتها على المجتمع الدولي، كما كان بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي في التسعينيات من القرن العشرين، فإنها لن تنسحب من الساحة العالمية، حيث سيظل دورها محوريا في إدارة تفاعلاتها، صراعية كانت أو تعاونية[4].

لقد دخل الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط[5]، عبر الحلف الأطلسي لتامين مصالحها الحيوية التي يتعين الدفاع عنها، فأوروبا وحدها، بعد 1945، لا تستطيع أن تحقق الاستقرار والأمن في المنطقة، وهو ما دفع بالولايات المتحدة إلى إقرار مفهوم “المجال المتوسطي” في إطار الحوار الأمني الذي باشره الحلف الأطلسي مع دول المنطقة وتجلى اقتصاديا من خلال مبادرة شراكة متعددة الأطراف “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.

وازداد اهتمام الولايات المتحدة بالإقليم بعد 2001، حيث اعتمدت عليه واعتبرته مركزا استراتيجيا يجب مراقبته، لأنه قد يشكل تهديدا للأمن القومي الأمريكي، وأصبح تعزيز الحضور الأمريكي في المنطقة يرتبط بمسارين رئيسيين، تنفيذ عمليات للمراقبة الدائمة، وتعزيز القدرات الاستطلاعية والهجومية الأمريكية في دول المنطقة، من خلال إقامة شبكة قواعد عسكرية وقوات انتشار سريع، بجانب التدخل العسكري المباشر وغير المباشر في مناطق التوتر فيها.

وفي هذا السياق اعتمد التدخل الأمريكي في المنطقة على دعم القوى الإقليمية الأساسية في الشرق الأوسط مثل تركيا والسعودية وإيران ومصر، بغية تحقيق أهدافها الاستراتيجيّة، مع العمل، لضمان الهيمنة على هذه القوى على استبدال هويات الجماعات في فيها بمبدأ المواطنية الفردية، بديلاً لنظام “الملة” الذي كان سائداً في ظل الإمبراطورية العثمانية، والقائم على القيادة الجماعية الدينية وعلى المقاطعات الاستراتيجية المتعددة الأعراق[6].

وعن التدخل الأميركي في المنطقة وتحولاته، بعد نهاية الحرب الباردة، يقول مارتن انديك Martin S. Indyk، مساعد وزير الخارجية الأمريكية الأسبق: “كان للولايات المتحدة استراتيجية للشرق الأوسط عرفت باستراتيجية الأعمدة، وأساسها العمل مع القوى الإقليمية الملتزمة بالحفاظ على الوضع القائم، إيران والسعودية و”إسرائيل” وتركيا، لكن بعد عام 1992، وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة القوة المسيطرة تبنّى الرئيسان بوش وكلينتون استراتيجية واضحة ومتوسّعة للحفاظ على الاستقرار، تضمنت ثلاثة مكونات: حل شامل تدعمه أمريكا للصراع العربي الإسرائيلي؛ والاحتواء الثنائي لاثنتين من القوى الإقليمية العراق وإيران والاستثنائية العربية “أي إعطاء المستبدين العرب، شركاء أمريكا في الحفاظ على نظام الشرق الأوسط، إشارة خضراء عندما يتعلق الأمر بمعاملة مواطنيهم”.

ولكن مع أحداث 11 سبتمبر 2001، تركت الولايات المتحدة سياسة “الاحتواء” وفتحت المجال أمام سياسة “الفوضى الخلاقة” في سياق تغيير الأنظمة، وفتح الأبواب من بغداد إلى إيران، وكانت المحصلة انهيار النظام القائم في العراق، واستبداله بأنظمة فاشلة، وظهور مناطق غير محكومة، وتنامي القاعدة وداعش”[7].

ومع تولي أوباما مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، بداية من يناير 2009، عمل على إعادة هيكلة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، مستفيداً من التحولات التي شهدتها مع تحولات الثورات الشعبية التي انطلقت في عدد من دولها في ديسمبر 2010، وفي هذا السياق أصدر أوباما في يناير من عام 2012 توجيها استراتيجياً، تضمن التأكيد على الأهداف الرئيسة التي تمثل جوهر استراتيجية الأمن القومي الأميركي في المنطقة، وهي: هزيمة القاعدة، وردع القوي المعتدية التقليدية، واحتواء التهديد الذي يمكن أن ينتج عن أسلحة غير تقليدية، وخلال السنوات الثلاث التالية لهذا التوجيه، قامت السياسة الأميركية في المنطقة على:

  • التخلي عن سياسة الضربات الاستباقية لمصلحة استعادة سياسة الاحتواء التي حاولت الإدارة الأمريكية تنفيذها بدرجات متفاوتة من النجاح في مواجهة عراق صدام حسين، وإيران قبيل توقيعها اتفاق التسوية النووية.
  • محاولة خلق توازنات إقليمية بديلا عن التدخل الأمريكي، أو محاولة انتهاج سياسة الاحتواء، حين تكون عالية التكلفة، بل وخطرة، بالنسبة للمصالح الأمريكية. ويتمثل الخيار الأمريكي في هذه الحالة في تعزيز القدرات العسكرية للقوى الإقليمية للحيلولة دون أن ترضخ لهيمنة القوة العسكرية الصينية النامية، وتعزيز الوجود البحري والجوي الأمريكي لردع أي نزعات توسعية صينية.
  • محاولة دعم حلف الناتو، وتعزيز قدرة الحلفاء الأوروبيين على أداء بعض الأدوار الأمنية، خاصة في مناطق الاضطراب والصراعات المجاورة من الفضاء الأوروبي. وهنا تضغط الولايات المتحدة على الدول الأعضاء في حلف الناتو للالتزام بالحد الأدنى الذي تفرضه العضوية للإنفاق العسكري، وهو 2% من الناتج المحلي الإجمالي لكل منها[8].

وفي إطار هذا التوجيه الاستراتيجي، قامت “عقيدة أوباما” تجاه المنطقة بين 2009، ونهاية 2016، على:

1ـ إعادة تعريف القوة الأمريكية وإعادة توازن الدور القيادي الأمريكي في الشؤون العالمية، حيث اعتقد أوباما أن سياسة الولايات المتحدة لم تكن متوازنة، وسعى إلى استعادة التوازن بين الأولويات في مناطق مختلفة، وبين الأولويات المحلية والدولية، وفي مختلف الشراكات الأمريكية.

2ـ العمل على تطوير التزامات مستدامة في الشرق الأوسط تكون متوازنة مع مصالح أخرى، فالقيادة الأمريكية وقدرتها على وضع جداول الأعمال العالمية، تشكلان عنصراً أساسياً لأي سياسة مستدامة ومتوازنة.

3ـ تفضيل أدوات القوة الأمريكية الأكثر دقة وسرية، مثل هجمات الطائرات بدون طيار والعمليات الخاصة والعقوبات المحددة الأهداف، مع استراتيجية مغايرة لنشر القوات الأمريكية، وتعزيز وضع شركائها في منطقة الخليج، حيث شهدت فترة إدارته عمليات ضخمة لمبيعات الأسلحة وتحديث قدراتها العسكرية، كما أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بشراكات أمنية في المنطقة، ولكن هذه العلاقات معقدة، فهي ليست عبارة عن اتفاقيات دفاع متبادلة وملزمة، مماثلة لتحالفات حلف شمال الأطلسي، أو التحالفات الأمريكية في آسيا.

4ـ التأكيد على أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية تثير قلق الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وهي: منع أي بلد منفرد من فرض هيمنته، ومنع الانتشار النووي، والحفاظ على الوصول العالمي إلى النفط في المنطقة. وعلى الرغم من أن التكنولوجيا الجديدة قد جعلت الولايات المتحدة أقل اعتماداً على موارد الطاقة في الشرق الأوسط، إلا أن اليابان وأوروبا الغربية لا يزالان يعتمدان عليها، ولذلك فإن الحفاظ على علاقات الولايات المتحدة مع هؤلاء الحلفاء المقربين سيتطلب الاستمرار في إعطاء الأولوية لأمن النفط في المنطقة [9].

ومع هذه القناعات والتوجهات التي عبرت عنها “عقيدة أوباما”، وفي سياق التحولات الأساسية في السياسة الأميركية في المنطقة، يتم التأكيد على تشابك وتداخل المصالح الأميركية في المنطقة، وتتمثل هذه المصالح في:

  • الأمن: حماية الولايات المتحدة والمواطنين الأميركيين من الإرهاب، وأن الضمان لتأمين الولايات المتحدة ضد الإرهاب يتمثل في مواجهة الإرهاب في مصادره الأساسية، وتجفيف منابعه المادية والفكرية، وهذه يتركز معظمها، وفقاً لواضعي الاستراتيجية الأميركية، في منطقة الشرق الأوسط.
  • حماية الاقتصاد الأميركي، نظراً لأن المنطقة واحدة من أهم الأسواق المستهلكة للمنتجات الأميركية، من ناحية، ومصادر حيوي للطاقة، والاستثمارات الضخمة من عائدات النفط.
  • منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، أمام خطورة أن تعمد القوى الإقليمية في المنطقة، بمن فيهم أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى امتلاك أسلحة دمار شامل، وتشكيل أجواء خطيرة في ظل أوضاع هشة وإمكانية وقوع تلك الأسلحة بأيدي مجاميع إرهابية.
  • منع حصول كوارث إنسانية مهددة للاستقرار، فالنزوح الجماعي للبشر في ظل الحروب والكوارث سيمثل وضعا مهددا للاستقرار في المنطقة والعالم.
  • تمكين أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة من الوقوف بشكل أفضل في مواجهة التحديات المشتركة، وجعل العمليات العسكرية الأميركية في العالم أكثر قدرة وفاعلية [10].

ثانياً: الاتحاد الأوروبي:

نجح الاتحاد الأوروبي في إنشاء نموذج تعاوني تكاملي، منذ عام 1951، بدأ تدريجياً حتى أصبح أحد أهم التجمعات الإقليمية في العالم المعاصر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا النموذج يواجه بالعديد من التحديات والإشكاليات التي كان لها انعكاسات كبيرة على دوره في التعاطي مع التحولات الإقليمية والدولية، ومنها الثورات التي شهدتها دول جنوب وشرق المتوسط، بل إن هذه التحديات من شأنها أن تؤثر سلباً على مسيرته المستقبلية، ومدى قدرته على البقاء خلال السنوات العشر القادمة.

1ـ في تحليله لهذه التحديات، قارن “ديفيد ميليباند” وزير الخارجية البريطاني السابق، بين المشاكل الهيكلية التي يواجهها المشروع الأوروبي، ومشاكل النظام العالمي[11]. حيث يرى أن هناك عدم توازن داخل أوروبا بين دول “القلب” القوية ودول “الأطراف” التي تعاني أزمات مالية حادة، يتوازى هذا مع عدم التوازن الدولي، بين الفوائض الصينية الكبيرة والعجز الأمريكي غير المسبوق، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإنه كما أن هناك غياباً للقيادة السياسية على المستوى الدولي، فقد أصبح التكامل الاقتصادي الذي هو جوهر الوحدة الأوروبية يفتقد للقيادة التي تملك القدرة على مواجهة الواقع السياسي والاقتصادي الجديد في القارة.

ويضيف “سباستيان روساتو”[12]، بعداً آخر للتحليل، حيث يرى أن بناء الاتحاد الأوروبي في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، كان مدفوعا بالخوف من قوة الاتحاد السوفيتي، الذي أصبح يشكل القطب العالمي الثاني في مواجهة القطب الأميركي، ووجود تخوف أوروبي من أن الولايات المتحدة سوف تسحب قواتها العسكرية من القارة، لذلك، كان التفكير في البحث عن وسيلة تُمكن دول القارة، من مواجهة الاتحاد السوفيتي دون اعتماد مُطلق على الولايات المتحدة، إلا أنه مع تغير موازين القوى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، ونهاية الحرب الباردة، واندماج عدد من دول شرق أوروبا في منظومة الاتحاد الأوروبي، وتراجع شعور دول القارة بعدم وجود خصم قريب يتفوق عليهم بشكل واضح في القوة، لذلك تراجعت اتجاهات تعزيز الوحدة السياسية أو العسكرية[13].

إلا أنه مع بداية القرن العشرين، وتداعيات أحداث سبتمبر 2001، ثم الأزمة الاقتصادية التي بدأت تتفاقم في 2007 و2008، تراجعت معدلات النمو الاقتصادي في فرنسا وألمانيا أقوى دولتين في الاتحاد الأوروبي، وارتفعت معدلات البطالة، ولجأت الدولتان إلى مخالفة القوانين التي تحكم الوحدة الاقتصادية الأوروبية، في سبيل الدفاع عن مصالحها القومية، واتجهت إلى تقديم الدعم إلى صناعاتها الوطنية[14]، ثم تفاقمت أزمة الاتحاد مع إعلان بريطانيا انسحابها من الاتحاد، بعد استفتاء شعبي بريطاني تم في 23 يونيو 2016[15].

2ـ تحديات التيارات اليمينية: مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية، تفاقم تحدى من نوع آخر، خلال السنوات العشر الماضية في عدد من الدول الأوروبية، يتمثل في تنامي قوة التيارات اليمنية [16]، وتأثيرها على التوجهات الأوروبية تجاه العديد من قضايا منطقة الشرق الأوسط، بل أصبحت تشكل تهديداً حقيقياً لبقاء الاتحاد، مع هيمنة النزعات الانفصالية على هذه التيارات، ومن بين العوامل التي تكمن وراء صعود هذه التيارات:

  • انتشار معدلات البطالة، وتراجع مزايا دولة الرفاه، حيث سجل الاتحاد الأوروبي في نهاية 2014 معدلات نمو اقتصادي لم تتجاوز 1.3% في دول الاتحاد، و0.8% بدول منطقة اليورو، وبلغ معدل البطالة الإجمالي في الاتحاد الأوروبي 9.4% في عام 2015 [17].
  • تزايد الهجرة للدول الأوروبية عقب ثورات الربيع العربي، فقد بلغ عدد المهاجرين إلى أوروبا، بشكل غير شرعي، عام 2015 إلى 924.147 ألفاً، كما وصل عدد طلبات اللجوء المقدمة لدول الاتحاد الأوروبي إلى 1.322 مليون طلب، نحو 40% منها كانت طلبات لجوء لألمانيا وحدها[18]. وقد أسهمت زيادة معدلات الهجرة الوافدة في دعم مخاوف التحول الديموغرافي في أوروبا لمصلحة الجاليات المسلمة، وخاصة مع تركزهم في عدد من المدن الأوروبية الكبرى، مثل باريس بنسبة تتجاوز 10% من سكانها، وفي ستوكهولم بنسبة 20%، وفي برمنجهام البريطانية بنسبة 22%.
  • ضعف خطط الإصلاح والتقشف الاقتصادي التي اتبعتها الحكومات الأوروبية، بعد الأزمة الاقتصادية 2007/2008، وتراجع النمو العام للاقتصاد الإجمالي لأوروبا، وتراجع أكبر لكل دولة على حدة، فضلا عن اتساع الفجوة بين الدول الأوروبية نفسها من حيث النمو الاقتصادي.
  • تزايد أحداث العنف والإرهاب التي شهدتها عدد من المدن الأوروبية، والربط بينها وبين المهاجرين المسلمين، واستخدامها كفزاعة لتعزيز ظاهرة “الإسلام فوبيا”، وهو ما أسهم في تعزيز الأفكار اليمينية الداعية إلى رفض المهاجرين بشكل عام والمسلمين بشكل خاص[19].

ويجمع بين هذه التيارات عدد من التوجهات الأساسية، لعل في مقدمتها: العداء للمهاجرين والسعي للحد من الهجرة، بدعوى أن هؤلاء المهاجرين يهددون القومية الأوروبية، من خلال أسلمة أوروبا، والدعوة لاستخدام العنف والتدخل القسري للحفاظ على التقاليد، وحماية الأعراف والقيم داخل المجتمعات الأوروبية، والعداء لفكرة الاندماج الأوروبي، والدعوة لتفكيك الاتحاد الأوروبي، والخروج من منطقة اليورو [20].

وفيما يتعلق بقضايا اللاجئين، تتبنى تيارات اليمين الأوروبي، عدداً من السياسات والتوجهات، منها: غلق الحدود بشكل كامل، بل وإعطاء تعليمات لحرس الحدود بإطلاق النار على أي مهاجر أو لاجئ يحاول الدخول بشكل غير شرعي للبلاد، وتضييق الخناق على الإعانات التي تقدمها الحكومة للمهاجرين، بما في ذلك الرعاية الصحية والخدمات التي يحصل عليها المهاجرون، إلى جانب تقليل أعداد طالبي اللجوء، وكذلك إغلاق المدارس والجمعيات الإسلامية التي تقدم خدمات للاجئين والمهاجرين، وعدم السماح بإقامة مزيد من المساجد، وعدم السماح بممارسة الشعائر الدينية الإسلامية. كما ظهرت دعوات تطالب بإعادة اللاجئين إلى أراضيهم، حفاظًا على الأمن والهُوية القومية الأوروبية[21].

ونظراً لارتباط تفاقم قضية اللاجئين خلال السنوات الخمس الأخيرة بتطورات الأزمة السورية، فقد أعلنت التيارات اليمينية دعمها لاستمرار نظام الأسد، ووقف الدعم المادي والعسكري لتيارات المعارضة السورية، بما يتيح الفرصة لإحداث تسوية سياسية من شأنها أن تعيد اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، وتأييد التعاون مع روسيا من أجل إيجاد مخرج للأزمة السورية[22]، بل والترويج لإمكانية حدوث صفقة بين الاتحاد الأوروبي وبين روسيا من شأنها رفع العقوبات عن الأخيرة في مقابل ضغطها على نظام الأسد لتهدئة الأوضاع في سوريا بما يسمح بعودة اللاجئين[23].

وبين التحديات الاقتصادية والتطورات السياسية والاجتماعية وتصاعد التيارات اليمينية، جاءت المواقف الأوروبية من الثورات العربية، حيث التدخل عسكرياً في الثورة الليبية، 2011، ليس من باب دعم الثورة ولكن من باب الحفاظ على مصادر الثروة النفطية من ناحية، والتصدي لظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر الحدود الليبية، والتصدي لظهور جماعات إسلامية في الجنوب الأوروبي. كما كان موقفها داعماً للثورة التونسية، مرتبطاً بالتكوين الثقافي والفكري الغالب في تونس، وعدم وجود مخاطر حقيقية من نجاح الثورة التونسية على الأوضاع في أوروبا.

بينما اختلف الأمر في الحالتين المصرية والسورية، ففي الحالة المصرية ورغم الترحيب الأوروبي الرسمي بالثورة في بداياتها، إلا أن بعض الحكومات الأوروبية كانت شريك رئيس في دعم الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر في 3 يوليو 2013، في ظل الارتباط المصلحي الاستراتيجي بين هذه الحكومات والمؤسسة العسكرية المصرية والنظم الاستبدادية التي حكمت مصر خلال العقود الماضية، ثم كان الموقف من الثورة السورية، مرتبطاً في الجانب الأكبر منه بقضية اللاجئين. دون أن تدرك هذه الحكومات أن عدم الاستقرار السياسي في مصر، وفشل تجربة التحول الديمقراطي فيها، يمكن أن يكون أشد كارثية من تداعيات الأزمة السورية.

ثالثاً: روسيا الاتحادية:

يأتي ترتيب الدائرة الشرق أوسطية، من حيث الأهمية في التسلسل الهرمي التقليدي للسياسة الخارجية الروسية، بعد الدائرة الأميركية والدائرة الأوروبية ثم الآسيوية، لكن أمام الطموحات الروسية نحو إعادة بناء أمجاد الإمبراطورية السوفيتية، فإنها اتجهت نحو ترسيخ وجودها في المنطقة، استناداً لعدد من الاعتبارات الأساسية:

1ـ المكانة التاريخية: تاريخياً كانت روسيا تنظر لنفسها من موقع “الدولة ذات الرسالة” فهي القيصرية الروسية حامية الكنيسة الأرثوذكسية، أو هي الاتحاد السوفيتي صاحب الرسالة العالمية الشيوعية؛ بينما تطرح نفسها حالياً من موقع براجماتي تسعى لتحقيق مصالح مشتركة مع دول المنطقة، وتعمل على الحفاظ على استقرارها، وتحرص على تكوين شبكة علاقات متوازنة مع الجميع[24].

2ـ الدوافع الاستراتيجية: ما تمثله المنطقة من موقع جغرافي وثروات طبيعية، مستفيدة من حالة الاضطراب والفوضى فيها، لبناء شبكة تفاعلاتها في المنطقة، والتي قامت على عدد من السياسات، منها: التحالف مع إيران، والتدخل العسكري في سورية، وعقد عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية مع تركيا، والاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الكيان الصهيوني، ثم التمدد غرباً، من خلال العمل على تعزيز علاقات مع دول مثل العراق ومصر ودول الخليج. ونظرًا لأن هياكل هذه الدول تواجه مشكلات “بقاء”، فإن موسكو ترى أنه يتعين عليها الدخول في تحالفات استراتيجية معها، بهدف التصدي للجماعات المسلحة والتنظيمات “الإرهابية” التي لم يتوقف خطرها عند دولة بعينها بل باتت تهدد كل دول الإقليم [25].

3ـ بجانب الدوافع السياسية للتحرك الروسي في المنطقة، تبرز الدوافع الاقتصادية، خصوصاً في مجال الطاقة البديلة، والنفط، والغاز، وصفقات السلاح، كما يبرز هدف محاربة ما يُسمى “التطرف والإرهاب”، النابع من المنطقة، وفقاً للتصريحات الروسية، وما يمثله من تهديد أمني على الداخل الروسي، وخاصة مع وجود تقارير تشير لوجود عدة آلاف شخص يحملون الجنسية الروسية، بين صفوف تنظيم الدولة الإسلامية أو التنظيمات الأخرى في العراق والشام، وما يمكن أن يترتب على عودتهم في مناطق تشهد نزعات انفصالية في داخل روسيا، وتصل نسبة المسلمين بين سكانها إلى 15%[26].

4ـ يضاف إلى هذا الرؤية الروسية لحدود الدور العالمي في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، التي تسعى إلى تشكيل العالم على صورتها، وإلى التحكم المنفرد بالنظام الدولي، ومن هنا جاء التحرك الروسي في المنطقة، مرتبطاً في جانب منه، بأن على روسيا أن تُظهر للعالم أنها على استعداد للوقوف أمام التفرد الأميركي، وأنها شريك يمكن الاعتماد عليه لبناء نظام عالمي متعدد القوى [27].

ساعدها على مثل هذا التصور، ما بدا من التوجهات الاستراتيجية والتحركات الميدانية للسياسة الأمريكية في عهد أوباما من تجنب الانخراط في بؤر الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، بعد الخبرات التدخلية السلبية في عهد جورج دبليو بوش في العراق وأفغانستان، ومع التكلفة البشرية والمادية المرتفعة، فضلا عن التأثيرات العكسية المرتبطة بتزايد قوة التنظيمات الإرهابية.

وفي إطار هذه الاعتبارات وتلك المحددات، وغيرها، أقر الرئيس الروسي بوتين في 31 ديسمبر 2015 الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الروسي، والتي تضمنت التأكيد على عدد من الثوابت والمنطلقات الأساسية:

1ـ أن روسيا أظهرت قدرتها على صون سيادتها واستقلالها ووحدة دولتها وأراضيها وحماية حقوق مواطنيها خارج البلاد”، إضافة إلى تنامي دور روسيا في حل أهم القضايا العالمية وضمان الاستقرار الاستراتيجي وسيادة القانون الدولي في العلاقات بين الدول، وأن تعزيز قدرات روسيا يتم وسط تهديدات مترابطة جديدة على أمنها القومي. كما أن ممارسة روسيا سياستها المستقلة داخليا وخارجيا تلقى مقاومة من قبل الولايات المتحدة والدول الحليفة لها الساعية إلى تكريس هيمنتها على شؤون العالم.

2ـ إن تعزيز قدرات حلف الناتو وتكليفه بوظائف كونية تنفذ بما يخالف القوانين الدولية، واتساع نشاطات الحلف العسكرية، واقتراب بنيته التحتية العسكرية من الحدود الروسية، يشكل تهديداً للأمن القومي الروسي.

3ـ إن بقاء منطق العمل العسكري في حل قضايا دولية، يؤثر سلبا على التعامل مع التحديات والتهديدات الجديدة، وقد أثبت تنامي تدفق المهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، عجز نظام الأمن الأورو أطلسي المبني على هياكل الناتو والاتحاد الأوروبي.

4ـ إن زيادة عمليات إسقاط الأنظمة السياسية الشرعية وإثارة اضطرابات ونزاعات داخلية، أدى إلى تحول المناطق التي تستعر فيها هذه النزاعات إلى قواعد لانتشار “الإرهاب” والنعرات القومية والطائفية وغيرها من مظاهر التطرف. كما أن ظهور المنظمة “الإرهابية” التي أطلقت على نفسها اسم “الدولة الإسلامية” وتعزيز نفوذها كانت نتيجة لسياسة المعايير المزدوجة التي تتبناها بعض الدول في مكافحة الإرهاب.

5ـ إن روسيا في تعاملها مع التهديدات على أمنها القومي تركز على تعزيز وحدتها الوطنية وضمان استقرارها الاجتماعي والوفاق بين قومياتها والتسامح الديني، وإزالة الخلل في اقتصادها وتحديثه، ورفع القدرات الدفاعية للبلاد، كما أن إن سياسة موسكو الخارجية تهدف إلى بناء نظام مستقر وراسخ للعلاقات الدولية، يستند إلى القانون الدولي ومبادئ المساواة والاحترام المتبادل، وحل الأزمات الدولية والإقليمية بطرق سياسية، وهو نظام ترى روسيا أن الأمم المتحدة تشكل عنصره المركزي.

6ـ تدعو روسيا إلى تحويل منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى منظمة دولية شاملة قادرة على التصدي للتحديات والتهديدات الإقليمية، بما فيها الإرهاب الدولي والتطرف وتجارة المخدرات والهجرة غير الشرعية، إضافة إلى التهديدات على الصعيد الإعلامي[28].

إلا أنه في مقابل هذه الاعتبارات، تصطدم السياسة الروسية في المنطقة بعدد من المعوقات، من بينها:

1ـ فشل روسيا في التحول لدولة مؤسسات، وبالتالي خشية مرحلة ما بعد بوتين، وضعف الإمكانيات المادية الروسية، والأزمة المالية الكبيرة التي تتعرض لها موسكو، بسبب تراجع أسعار النفط، والعقوبات الاقتصادية الأوروبية، احتمال تمدّد الحرب في سورية واتساعها، وتعرض روسيا لاستنزاف شديد تحاول تجنبه، ويمكن أن يعيد ذكريات حرب أفغانستان إلى الرأي العام الروسي.

2ـ إن التعاون الوثيق مع إيران، كما أنه يمثل فرصة لروسيا، إلا أنه أيضاً يمثل عقبة المنطقة، مع تشابك مصالحها مع نقيضين في المنطقة، وهما “إسرائيل” وإيران، مما سيؤثر على مصالحها في حالة حدوث صراع بين الطرفين. نعم سوف تسعى روسيا إلى استغلال الخصومة بين إيران ودول الخليج السنّية من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية، لكن من غير المرجّح أن تتوصل روسيا وإيران إلى تقارب جدّي نظراً للعداء المتبادَل بينهما منذ قرون، والتباين في جداول أعمالهما في سورية وآسيا الوسطى، والتنافس في قطاع الطاقة.

3ـ المُحدِّد الأمريكي، حيث تُعد منطقة الشرق الأوسط، منذ 1945، منطقة نفوذ أمريكي، ولم يحصل تغير على جوهر السياسة الأمريكية، في المنطقة رغم السعي الأمريكي لخفض التكاليف وعدم التدخل المباشر، كما أن النظم الحاكمة في المنطقة ما تزال أكثر ميلاً في علاقاتها مع الأمريكيين مقابل الروس[29]. فالتأثير الروسي لدى عرب الخليج سيكون محدوداً، بسبب دعم موسكو لنظام الأسد، وعلاقتها مع إيران، والأهم من ذلك الروابط التي تجمع دول الخليج بالولايات المتحدة منذ عقود.

4ـ تنبع النجاحات التي حققتها روسيا في سورية، في جزء منها، من النطاق المحدود لطموحاتها في المنطقة والاعتراف بمحدودية التأثير الروسي خارج سورية. فموسكو تهدف لبيع الأسلحة وتتصرف بطريقة انتهازية لتوسيع نفوذها، لكنها لا تريد أن تتبنّى مشكلات المنطقة، أو تقطع تعهّدات أمنية جديدة، أو تتحمّل المسؤوليات الأمنية التي تتولّاها الولايات المتحدة في المنطقة، وفي الهرمية الروسية للأولويات الإقليمية، يأتي الشرق الأوسط بعد “الخارج القريب” في الغرب والجنوب، ومنطقة آسيا-المحيط الهادئ.

5ـ لو كانت روسيا تطمح إلى التوسع مع مرور الوقت، فإن قدرتها على تحقيق هذه الطموحات محدودة. فآفاق موسكو الاقتصادية في المدى الطويل قاتمة بسبب الفساد، والاعتماد المفرط على إيرادات صادرات الطاقة التي سجّلت انخفاضاً حادّاً، والتراجع الديمغرافي، والعقوبات الدولية، وبيئة الأعمال التي تُثبط الاستثمارات الأجنبية.

6ـ لا تملك روسيا قوة بحرية بإمكانها التربّع على عرش الهيمنة في الخليج مكان الأسطول الخامس الأميركي. فمحطتها البحرية القائمة منذ فترة في طرطوس، وقاعدتها الجوية الجديدة في اللاذقية هما المنشأتان العسكريتان الوحيدتان اللتان تملكهما خارج بلدان الاتحاد السوفيتي سابقاً. وتمنح هذه المرافق الجيش الروسي مربضاً مهماً في منطقة شرق المتوسط الاستراتيجية، وتوسيع هذا الحضور إلى درجة كبيرة قد يُتيح لروسيا مضايقة القوات البحرية الأميركية. لكن ومع أن البحرية الروسية قد تشكّل مصدر إزعاج أكبر، إلا أنها لن تتمكّن من تحدّي السيطرة الأميركية في المنطقة، طالما أن تركيا لاتزال عضواً في حلف شمال الأطلسي الناتو ويواصل الأسطول السادس العمل من خلال منشآت في المنطقة.

كما أن التحسّن في علاقات روسيا وتركيا، يبقى تكتيكياً، فالدولتان تتعاونان في الملف السوري لتنسيق استراتيجياتهما، وتوصلتا لاتفاق وقف إطلاق النار في 29 ديسمبر 2016، وتراجعت أنقرة عن التزامها بعزل الأسد وخفضت دعمها لبعض مجموعات الثوّار، وقدّمت لها روسيا المساعدة في جهودها الهادفة إلى منع المجموعات الكردية من السيطرة على أراضٍ في سورية، لكن تبقى مصالح الدولتين في سورية غير متطابقة، وستستمر تركيا في تحقيق التوازن بين علاقتها مع روسيا من جهة، ومصالحها في الناتو وعلاقاتها القوية مع الولايات المتحدة من جهة ثانية.

7ـ أن ثمة خطر حقيقي بحدوث ارتدادات عكسية، ضد السياسة الروسية في المنطقة، حيث يشكّل المسلمون نحو 12 إلى 15% من سكان روسيا، وقد صرّح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن نحو ألفَي مواطن روسي يحاربون ضمن تنظيم الدولة الإسلامية في سورية. وفي 31 أكتوبر 2015، تم إسقاط طائرة مقاتِلة روسية من طراز “متروجيت” فوق شبه جزيرة سيناء المصرية، وفي 19 ديسمبر 2016، تم اغتيال السفير الروسي في أنقرة، وتعددت عمليات استهداف الدبلوماسيين الروس في عدد من العواصم، حتى الأوروبية، وكلها مؤشرات على ما يمكن أن تواجهه السياسة الروسية في المنطقة والعالم من تهديدات مستقبلية [30].

رابعاً: الصين:

تعد الصين قوة عظمي على المستوى الاقتصادي، لكنها تواجه مشاكل متعددة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وتمارس الصين، بشكل واسع دبلوماسية “الأموال السائلة”، مما أدى إلى أن تمتد مصالحها الحيوية إلى مختلف أنحاء العالم. وتمتد حدود الصين البرية لنحو 22 ألف كم، والساحلية نحو 18 ألف كم مع 14 دولة مختلفة، مما يمثل عبئا أمنياً. وتتقاطع مصالحها مع مصالح القوي المجاورة في عدة مناطق. فهناك تقاطع في المصالح مع روسيا في آسيا الوسطي، ومع أوروبا والولايات المتحدة فيما يتعلق بإيران وأفغانستان وكوريا الشمالية. كما أن للصين نزاعا حدوديا مع الهند، وتتقاطع معها في المصالح في باكستان وسيرلانكا. وهناك عداء تاريخي بين الصين واليابان، لا يزال يلقي بظلاله على العلاقة ما بين البلدين[31].

لقد اعتمد صعود الصين في النظام الدولي، على قدراتها الذاتية، فقد تبنت منذ عام 1978 رؤية استراتيجية 2020 انتقلت البلاد بموجبها إلى اقتصاد سوق أكثر انفتاحاً، وعملت على زيادة الإنتاجية والإنتاج، وزيادة علاقاتها مع الدول الأخرى والهيئات الدولية التي سهلت التجارة. لكن التنافس على الموارد والسعي للتفوق عسكرياً يضع الصين في مسار تصادمي مع الولايات المتحدة.

حيث إنه من الصعب استمرار سيناريو صعود الصين بنحوٍ مستقل تماماً عن الدول الأخرى، فزيادة قوتها السياسية تتطلب العمل مع الدول الأخرى، وإذا أسفر صعود الصين عن فوائد كافية لدول معينة فقد يقلل ذلك من حدة الصراعات، أما إذا صعدت الصين بتكاليف عالية أو منافع لا تكفي للدول الأخرى، وتصادمت مع مصالح القوى المنافسة عالمياً أميركا، روسيا، أوروبا، اليابان، فسيكون من الصعب تجنب الصراعات المستقبلية وخاصة مع الولايات المتحدة الأميركية.

وقد أدى انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة لتزايد القلق بين المسؤولين الصينيين بعد اتصالاته المباشرة مع الرئيس التايواني، وبعد انتقاده للصين بشدة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما اعتبره البعض فرصة للصينيين ليصبحوا أكثر حزماً، وربما الابتعاد عن النهج الدفاعي للأمن الذي عملوا به حتى الآن، وبطريقة تدفع نحو مزيد من الصعود الصيني سياسياً وعسكرياً [32].

وفي هذا السياق، يرى المفكر الأميركي ووزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر أنه لا ينبغي النظر للصين كدولة قومية مثل الدول الأوروبية التي صعدت في القرن العشرين، لأنها كيان حضاري وقوة قارية شاملة، والولايات المتحدة أيضا دولة تُجسد هوية ثقافية على امتداد قاري واسع، والعلاقة بين الصين والولايات المتحدة محورية بالنسبة لتحقيق السلام والاستقرار العالمي، وأيا من الدولتين لن تستطيع أن تفرض سيطرتها أو هيمنتها على الأخرى، والصراع بينهما لن يؤدي إلا إلى استنزاف مجتمعاتهم بشكل كبير، بالإضافة إلى تقويض فرص السلام العالمي[33].

يضاف إلى ما قال به كيسنجر، أنه على الرغم من أن استمرار النمو الاقتصادي في الصين، يتم النظر إليه بوصفه يمثل تهديداً لمصالح الولايات المتحدة، لما قد يترتب عليه من تراجع للنفوذ الأمريكي في آسيا، إلا أن العواقب السلبية لتباطؤ النمو في الصين قد تطال الولايات المتحدة، نظراً لما سينجم عنه من تقلب في أسواق المال العالمية.

وإذا كان إبرام الصين لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ TPP يمكن أن يساعدها على مواصلة تنمية اقتصادها، لأن بقاء بكين خارج هذه الاتفاقية قد يجعل اقتصادها في وضع استراتيجي غير مناسب، وتحديداً في القطاعات ذات القيمة المضافة التي تأمل في تطويرها بشكل أكبر، إلا أنه من المستبعد أن تستطيع الصين التخلص من الولايات المتحدة حتى تصبح القائد الإقليمي في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وذلك في ظل استمرار التراجع في معدلات النمو، وضعف سوق الأسهم الصينية، بالإضافة إلى التحدي الديموغرافي المتمثل في شيخوخة القوى العاملة الصينية [34].

هذا بجانب بعض التحديات الاستراتيجية التي تواجه الصين، ففي تقرير مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكي، “الاتجاهات العالمية لعام 2025″، توقع أن تكون الصين أكبر دول العالم اقتصاداً، وأنها ستكون قوة عسكرية رائدة، في ظل سعيها واستعدادها لمزيد من التأثير في السياسة الدولية على مدى العشرين سنة القادمة من أي بلد آخر”. وصعود الصين كقطب دولي وتحديها للمكانة والهيمنة الأمريكية مع النمو الاقتصادي الصيني، وتراجع نظيره الأمريكي، في ضوء الأزمات المتعددة التي عاناها النظام المالي الأمريكي وسيظل يعانيها خلال العقود القادمة.

لكن في المقابل فالطريق لا يزال طويلا أمام الصين حتى تنافس قوة الولايات المتحدة، نظرا للتحديات التي تواجهها على صعيد التنمية، ومشكلات تدهور المناطق الريفية، والمشكلات الديموغرافية. وبافتراض أن معدَّل نمو الناتج المحلي الصيني سوف يصل إلى نسبة 6%، ومعدل النمو الأمريكي لن يتعدى 2% بعد 2030، فإن نصيب دخل الفرد في الصين أقل من نظيره في الولايات المتحدة.

كما أنَّ الصين لم تحل مشكلة المشاركة السياسية التي تصاحب ارتفاع مستوى دخل الفرد، كما أنه من المشكوك فيه أن تمتلك الصين القدرة العسكرية على تحقيق هذا الهدف في المدى المنظور. كما أنَّ الصين لا ترغب في إثارة غضب جيرانها واستعداء دول خارجية، في ظل خوفها من إغلاق أسواقها أمام منتجاتها وحرمانها من مواردها. بالإضافة إلى أن أي تصرف صيني عسكري سيدفع جيرانها إلى تشكيل تحالفات، من شأنها إضعاف قوة بكين الصلدة والناعمة.

كما أنَّ هناك معارضة من دول آسيوية، كالهند واليابان، لدور صيني فاعل في القارة الآسيوية، مما يصب في المصلحة الأمريكية في ظل التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة واليابان، وتحسُّن العلاقات الأمريكية – الهندية. لكن يمكن إشراك الصين في القضايا الدولية، وتقديم الحوافز لها للعب دور مسؤول، مع الاستعداد والتحوّط من أي طموحات أكبر للصين كقوة صاعدة، رغم الحقائق التي تؤكد أن الصين تعمل حالياً على بناء أسطول بحري حديث مزود بالمدمرات والغواصات، فضلاً عن إعادة صياغة العقيدة العسكرية لتفعيل قدرتها على التحرك في جنوب وشرق الصين، بالإضافة إلى مد نفوذها في البحار والمحيطات[35].

المنطقة وأبعاد التنافس الدولي:

1ـ أميركا وروسيا:

في تقييمه للدور الروسي في العالم قال الرئيس الأميركي أوباما أبريل/نيسان 2016: إن روسيا دولة ضعيفة، ولا تمثِّل خطرًا داهمًا على الغرب، إلا من جهة التصرفات غير المتوقعة من رئيسها المسكون بمحاولة الرد على ضعف بلاده، ومحاولة تأكيد سلطته ومحاصرة شكوك الرأي العام الروسي في قدرته على البقاء والحكم. وقال إن بعضًا من مواقف بوتين لابد من تفهمها، مثل ردَّة فعله على خسارة أوكرانيا، ولكن بعضًا من خطوات الأخرى، مثل تدخله العسكري في الأزمة السورية، لا يمكن وصفها سوى بالحُمق، وأنها ستورط روسيا وتجعلها تدفع ثمنًا باهظًا في النهاية”.

وأمام عقيدته هذه، تصَرَّف أوباما على أساس أن التحدي المستقبلي لموقع ودور الولايات المتحدة في العالم سيأتي من الصين، وليس روسيا، لذلك بذل جهودًا كبيرة لإعادة بناء الاستراتيجية الأميركية في حوض الباسيفيك، حيث عقدت إدارة أوباما اتفاقات لقواعد وتسهيلات عسكرية مع عدة دول آسيوية، كما مع أستراليا؛ ووقَّعت اتفاقية تجارية واسعة النطاق مع الدول على جانبي الباسيفيك؛ وساعدت على انتقال ميانمار إلى نظام صديق؛ وأسست لعلاقات وثيقة مع دول مثل إندونيسيا وماليزيا وفيتنام؛ وحافظت على سياسة العلاقات الدافئة مع الهند وباكستان. ولم تتردد في مواجهة التحديات الروسية في أوروبا، باستخدام حلف الناتو، ونشر مزيد من قواته في دول البلطيق والبحر الأسود، ثم فرضت عقوبات مالية واقتصادية على روسيا [36].

ونظراً لأن روسيا أصبحت جزءًا من السوق الاقتصادي والمالي والأنظمة المالية والاقتصادية الدولية، فهذا يجعل العقوبات التي تفرضها الكتلة الغربية على روسيا، ذات أثر فعَّال، وإذا كانت الدول الغربية لا تريد أن ترى انهيارًا ماليًّا واقتصاديًّا روسياً، فإنها ترغب في بقائها غارقة في أزماته الداخلية، كما أن الحشود الروسية على حدود دول البلطيق، وهي أعضاء في حلف الناتو، قد تؤدي إلى زيادة التواجد العسكري للحلف في الساحة الأوروبية وتصعيد التوتر في القارة. وهذا لن يكون في صالح روسيا، وسيجبرها على زيادة الإنفاق العسكري، في وقت تعاني فيه من تأزم الأوضاع الاقتصادية [37].

2ـ أميركا وأوروبا:

إن فكرة العالم متعدد الأقطاب حلم أوروبي حقيقي، والولايات المتحدة تعلم هذا جيداً، وفرنسا هي المحرِّك في هذا الموضوع، لكن نجاح أوروبا الاقتصادي لا يدعمه حتى الآن، نجاح سياسي مماثل، لذلك يقال دائماً إن أوروبا “عملاق اقتصادي، ولكنها قزم سياسي”، كما أطلق عليها الأمريكيون “أوروبا العجوز”، وهناك شكوى دائمة من العجز عن صياغة سياسة أوروبية خارجية موحدة [38]. الأمر الذي يترتب عليه محدودية القلق الأميركي من احتمالات تعاظم الدور الأوروبي بما يشكل تهديداً للمصالح أو المواقف الأميركية في العالم بصفة عامة، أو العالمين العربي والإسلامي بصفة خاصة.

3ـ الأمركة والليبرالية:

رغم الانكفاء الأمريكي، دون الانسحاب أو المغادرة الكلية، في منطقة الشرق الأوسط، نحو فضاءات استراتيجية حيوية أخرى في العالم، فإن الولايات المتحدة ما زالت تتمتع بتأثير كبير في كثير من القضايا، ورغم حدوث توتر في العلاقة بين واشنطن وبعض عواصم المنطقة، فإن دولها لا تزال تراهن على القوة الأمريكية، في الجانب السياسي منها، بدون الالتفات نحو قوى دولية أخرى مثل روسيا أو الصين أو أوروبا[39].

ولكن في المقابل، يذهب البعض إلى أن النظام الدولي المعاصر ليس في جوهره أمريكي أو غربي الصبغة، فهو نظام تراتبي ارتكز على القوة الأمريكية، ولكنه ذو صفات ليبرالية، وسوف يظل متماسكا، حتى في ظل محاولة الصين أو دول صاعدة أخرى انتزاع مرتبة الصدارة من الولايات المتحدة. فالدول الصاعدة لديها الدافع للتفاعل مع هذا النظام الدولي والاندماج فيه، لأن ذلك يخدم مصالحها، ولأنه يشكل نوعا من الحاضنة الدولية التي توفر لأعضائها أدوات التقدم الاقتصادي والسياسي، وحماية الحقوق التي يوفرها في التجارة والاستثمار، واستغلال منابر المؤسسات الدولية القائمة لممارسة نفوذها على الصعيد الدولي، وتدعيم شرعيتها على الصعيد الداخلي.

وإذا كانت الصين، بحضارتها وثقافتها، يمكم أن تشكل تحدياً لهذا الاتجاه، فإنها لن تتمكن من أن تصبح قطبا دوليا مهيمناً غير ليبرالي يعيد تنظيم المؤسسات والقواعد العالمية، وستجد نفسها، مع إصرار باقي الدول على تطبيق قواعد الليبرالية، تحت ضغوط قوية لاحترام هذه القواعد أيضاً، وإذا كانت الصين جادة في إقناع القوى الأخرى برؤيتها حول “الصعود السلمي”، فيجب عليها أن تصبح أكثر اندماجا في النظام الدولي”[40].

ولعل ما يبرر هذا، من وجهة نظر البعض، أنه في ظل الاعتماد الدولي المتبادل، اقتصادياً وأمنياً، تصبح تكلفة عدم الالتزام بالقواعد، وعدم تكوين روابط تعاونية، أكثر ارتفاعا، ويكون من الصعب على أكثر الدول قوة، تحقيق الرخاء بدون التعاون مع الآخرين، وخاصة في قضايا عالمية مثل الطاقة النظيفة وحماية البيئة، ومنع الانتشار النووي.

4ـ الواقع العالمي الجديد:

اضطرت الدول الغربية، تحت ضغط مشكلة الديون، إلى تقليص حجم قواتها العسكرية وإنفاقها على التسلح، بينما اتجهت الدول الصاعدة، خاصة في آسيا والشرق الأوسط، إلى استخدام قوتها الاقتصادية في تدعيم قدراتها العسكرية، عن طريق صفقات تسلح ضخمة[41]. وتشكل هذه التحولات في القوة الاقتصادية والعسكرية، وما يصاحبها من نفوذ سياسي على الساحة الدولية، ما أطلق عليه نيل فيرجسون Niall Ferguson بـ “الواقع العالمي الجديد”، الذي أصبح يهدد قواعد وأسس النظام الدولي الذي تشكل بعد نهاية الحرب الباردة[42].

هذا الواقع العالمي الجديد، تتعدد فيه القوي الصاعدة، والدول التي تكتسب نفوذاً متصاعدا على الساحة الدولية، وأصبحت هناك حاجة ملحة لصياغة هيكل جديد للنظام العالمي، حتى يمكن استيعاب هذا العدد الكبير من الفاعلين في مختلف أقاليم العالم، وخاصة مع وجود مصالح متشابكة قد تدعم التعاون فيما بين هذه القوى، لكن اختلاف الرؤي والمناهج بينها يجعل الخريطة الجيوسياسية حافلة بالتناقضات وعدم الوضوح. كما يدعم ذلك أيضاً أن القوى الصاعدة عادة ما تأتي بالقيم السائدة فيها إلى النسق الدولي القائم، وتسعي لنشرها، فهي اليوم أقل استعدادا لتقبل مفاهيم غربية عما كانت عليه منذ سنوات.

وفي هذا السياق يرى هنري كيسنجر: “أنه في السبعينيات من القرن العشرين، كان هناك خط استراتيجي واضح يفصل بين القوي الدولية الفاعلة والمؤثرة في المشهد الدولي، يرتبط بالدرجة الأولى بالقارة الأوروبية، أما في مرحلة ما بعد 2001، أصبح من الصعب حصر الخطوط الاستراتيجية الفاصلة، أو تحديد عامل مشترك أدني يجمع بينها، وخاصة مع التفاوت في معايير القوة على المستوى الاستراتيجي”.

ويضيف كيسنجر: إن تعدد الفاعلين بشكل كبير في النظام الدولي الحالي، واختلاف قيمهم وتوجهاتهم على الصعيد الاستراتيجي، يجعل من تطبيق المفهوم الكلاسيكي للأمن الجماعي عملية شاقة وصعبة، ولكن تبقي الولايات المتحدة، وفق كيسنجر، طرفاً رئيساً لا يمكن الاستغناء عنه في أي نظام دولي للأمن الجماعي. وعلى الولايات المتحدة أن توطد نفسها على ممارسة فن القيادة في إطار عالم معقد، سوف تضطر فيه إلى تقاسم أعباء المسئولية مع مراكز القوة الصاعدة[43].

5ـ العمليات الاتصالية:

أصبح النظام الدولي يتسم بتنامي تأثير وسائل الاتصال الاجتماعي، والتي تستطيع أن تتخطى الحدود الإقليمية للدول، وترقى عن إمكانيات الدول في فرض رقابة عليها، وهي الأدوات التي أسهمت، في التعبئة السياسية والشعبية ضد نظم الحكم الديكتاتورية والسلطوية، وضد معالم الرأسمالية المنفلتة غير المنضبطة. وتقدم الثورات العربية وانعكاساتها على الحركات الاحتجاجية في الدول الرأسمالية الكبرى نموذجا لهذا التطور الحيوي في النظام الدولي.

فقد أمدت الثورة التكنولوجية العالمية في وسائل الاتصال الحديثة، الفاعلين المحليين في النظم الإقليمية الفرعية بقوة دفع غير مسبوقة، كما أكدت غلبة التفاعلات العالمية على ما سواها. وهي تلك التفاعلات التي عجزت الدولة السلطوية عن حجبها أو تطويقها أو الحد منها. وهكذا، صار التواصل العالمي بين الشباب أحد الأسس الجديدة في بناء نظام إقليمي تفاعلي مع نظام دولي متغير[44].

6ـ تداعيات الأزمات الدولية:

فقد كان لسنوات ما بعد أزمة سبتمبر 2001، وسياسات إدارة جورج بوش العديد من التداعيات على منطقة الشرق الأوسط، لعل من أهمها: تعزيز التوجه نحو دعم وتوسعة القوة العسكرية لدي الدول الإقليمية الكبرى في المنطقة، لأن نموذج الغزو الأمريكي، والاقتراب الأمريكي العسكري الاستراتيجي من حدود هذه الدول دفع برامج التسلح إلى الأمام من أجل بناء قوة ردع في مواجهة أي تهديدات أمريكية، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، ساهمت سياسات بوش في إطلاق قوى الطائفية والصراع الإثني في منطقة الشرق الأوسط، وبات تأثيرها يتجاوز حدود المنطقة، ويلقي بآثاره على نطاق عالمي. وتم استغلال هذه الظاهرة لرفع حدة الصراع الطائفي بما يتجاوز قدرة الولايات المتحدة على إدارته وضبطه ليصبح عامل استنزاف لها من جهة، وبما يعزز من نفوذ عدد من الأطراف الإقليمية لضمان استمرار الاحتياج الأمريكي لها في إدارة الصراعات المعقدة، من جهة أخري[45].

المجموعة الثانية: المحددات الداخلية:

يقصد بالمحددات الداخلية في هذه الدراسة، وفق منهج الركيزتين، تلك النابعة من البيئة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط، أو المنطقة العربية، سواء كانت نابعة من داخل الدول بحدودها الجغرافية الراهنة، أو عابرة لهذه الحدود، ويقوم الإطار النظري لدراسة محددات وتحولات النظام الإقليمي، على مجموعة من العناصر الأساسية التي يجب مراعاتها عند التحليل، وتتمثل هذه العناصر في:

1ـ مصدر التغير والاستمرار في النظام: هل التغير ناشئ عن عوامل كامنة في بنية النظام؟ أم أنها آتية من خارجه؟ أم أنها تنبع من تفاعل بين الخارج والداخل؟ وذلك لتحديد نوعية عمليات التغيير من حيث إمكانية السيطرة عليها، أو عدم القدرة على السيطرة عليها.

2ـ مستوى التدخل الخارجي في النظام: وهو ما يشار له أحيانا بدرجة التغلغل الخارجي في النظام الإقليمي.

3ـ مركزية وهامشية النظام: ويقصد به إلى أي حد تغير الوزن النسبي للإقليم في النظام العالمي، أي أهميته في التأثير في التفاعلات العالمية.

4ـ الأدوار: التغير في أدوار القوي التقليدية والقوي الجديدة إلى تدخل النظام.

5ـ أبنية النظام: أي أنماط توزيع القوي بين وحدات النظام.

6ـ التفاعلات والمؤسسات الإقليمية: ويشمل أنماط الصراعات الإقليمية الجديدة، وأداء المؤسسات الإقليمية على مستوى القيم والممارسة، والمؤسسات المنافسة من خارج الإقليم.

7ـ التغيرات الداخلية في وحدات النظام: وتشمل التغيرات في الأنظمة والأيديولوجيات، والقيم السياسية في وحدات النظام[46].

وهو ما سنحاول الوقوف عليه في هذا الجزء من الدراسة، من خلال بيان أهم المحددات الإقليمية المؤثرة في سياسات القوى الدولية تجاه الثورات العربية، وذلك على النحو التالي:

1ـ الاعتبارات التاريخية:

شكلت الإمبراطوريات الكبرى نظاماً للحكم الطبيعي في فترات تاريخية ممتدة، ومع انهيار تلك الإمبراطوريات دائمًا ما ينتج عنه واقع فوضوي، لذلك يذهب كثيرون إلى أن ما تشهده المنطقة العربية والشرق الأوسط هو في جانب منه نتيجة لانهيار الإمبراطورية العثمانية، وأن الفوضى الراهنة بالمنطقة تدل على أن المنطقة لم تجد الحل المناسب حتى الآن لانهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، فخلال القرون الأخيرة كانت هناك بعض النزاعات الإقليمية والطائفية بين السنة والشيعة، والعرب واليهود، والمسلمين والمسيحيين، في كل من سوريا الكبرى وبلاد ما بين النهرين. وكانت كل تلك المناطق تقع تحت سيادة الإمبراطورية العثمانية، لكنها وقفت حائلاً ضد تفجر هذه النزاعات، ومع انهيارها بعد الحرب العالمية الأولى، وإعادة ترسيم الحدود السياسية تفاقمت الصراعات[47].

فقد نصت تفاهمات سايكس بيكو 1916، وصلح فرساي 1919 واتفاقيات سيفر 1920 على تقسيم المنطقة العربية شرق المتوسط المعروفة باسم بلاد الشام، الهلال الخصيب إلى ثلاثة مناطق: المنطقة أ الزرقاء وهي العراق وتخضع للإدارة البريطانية، المنطقة ب الحمراء وهي سورية وتخضع للسيادة الفرنسية، والمنطقة ج السمراء وهي فلسطين وتخضع لإدارة دولية [48].

هذا التقسيم، الهندسي، الذي لم يراع الاعتبارات التي يمكن أن تنشأ على أساسها الدول القومية الدين، العرق، اللغة، الجغرافيا، أفرز العديد من الإشكاليات التي كانت سبباً لنشوء واستمرار وتفاقم الصراعات في دول المنطقة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهو ما أكدته تحولات المنطقة بعد الثورات العربية، فهذه الدول بحدودها المصطنعة، حيث فشلت الحكومات والنظم السياسية التي تعاقبت على حكم هذه الكيانات التي سميت “دولاً”، في دمج المواطنين داخل كيان واحد وترسيخ دولة المواطنة، واستخدمت مختلف الإمكانيات والقدرات لحماية النظام فقط، وبعد أن انهارت هذه الدول المفرطة في المركزية، غير الفعالة القائمة على الحزب الواحد أو العائلة الواحدة، وتحولت الصراعات بين الطوائف أو القبائل أو القوميات إلى فجوات واسعة، تم استغلالها من قبل الجهات الخارجية الحريصة على ممارسة النفوذ [49]. ومع فشل الدول العربية في إدارة التنوع، كان منطقياً أن تتنامى كيانات ما فوق الدول وما دون الدولة، مع أي عملية تغيير سياسي واسع في المنطقة.

واكب هذا الفشل تعدد المشاريع الخارجية لإعادة رسم الجغرافيا السياسية لدول المنطقة، فبرز مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي تم طرحه في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، وهو تطوير للمشاريع الإسرائيلية بإعادة تقسيم الوطن العربي، وفقاً للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، والقائم على فكرة الفوضى الخلاقة وإعادة تفكيك الكيانات وبنائها على أسس جديدة بداية من العراق، التي تم غزوها أميركياً في مارس 2003[50].

الحديث عن التقسيم الجديد، وصفه البعض بـ “المستوى الثالث من التقسيم”؛ فالمستوى الأول جاء بعد إزالة مظلة الخلافة الإسلامية والرابطة الدينية كغطاء جامع لشعوب المنطقة، وكان المستوى الثاني هو تقسيم المظلة القومية، والتي كانت متمثلة في الجامعة العربية، والتي انتهت فعليًا مع بدء غزو صدام للكويت، ثم المستوى الثالث، التقسيم على أساس عرقي ومذهبي. وقد خرج المستويان الثاني والثالث من العراق، فهو يقع في منطقة قلب العالم الإسلامي الذي يتكون بالأساس من تركيا وإيران ومصر والخليج، فالعراق له خصوصيته التاريخية وشهد تجليات “الفتنة الكبرى” بين المسلمين، وفي عالمنا المعاصر كان يمثل الحاجز بين عالمي العرب والفرس، كما يقع في المنطقة الفاصلة بين العرب والترك، وبين العرب والكرد. وبعد تحطيم الحاجز العراقي تفاقمت الخلافات التاريخية المذهبية والعرقية، لتدور رحى حرب مذهبية بالوكالة بين أقطاب العالم الإسلامي، ثم يبرز البعد العرقي كأحد محددات إعادة ترسيم المنطقة من جديد [51].

2ـ بنية النظام الإقليمي:

منذ الاستقلال أنشأت الحكومات العربية، بمساندة الدول الاستعمارية الكبرى نظاما عربيا مختلا، فالمنطقة التي تمتلك كل مقومات الوحدة من لغة ودين وتاريخ وثروات ومصالح مشتركة، وكانت لقرون عدة جزءا من إمبراطورية عربية إسلامية واحدة، انتهت على يد القوى الغربية الاستعمارية إلى دول متعددة، ومنظمة إقليمية ضعيفة، بجانب زرع كيان صهيوني غريب بين مشرقها ومغربها.

لذا ولد النظام الإقليمي مختلا من حيث أركانه الأربعة الفاعلون، الهوية، العدو والتحديات المشتركة، واستراتيجيات العمل، كما أن سياسات الحكومات أدت إلى محاربة مقومات القومية العربية، فقد حفرت الحكومات العربية منذ الاستقلال خندقا بين العروبة والإسلام، بل وذهبت حكومات كثيرة تحارب الإسلام كمقوم للوحدة، ومعين للقيم ومنطلق للحضارة، واعتمدت سياسة الإقصاء والملاحقة لكل من يستند إلى الإسلام في فهمه ومعالجته مشكلات العصر، كما حوربت اللغة العربية، وبقية مقومات هذه الهوية[52].

3ـ انتشار تنظيمات العنف في المنطقة:

وذلك مع تطور في طبيعة التوجهات والممارسات، حيث تطورت أهدافها من مجرد التأثير على قرار سياسي في دولة ما إلى السيطرة على الأرض وإقامة دولة، وتطورت مقوماتها المادية والتكنولوجية بل وإدارة بعض الأنشطة الاقتصادية. وتطورت عملياتها سواء في النطاق المكاني لتصبح عابرة للحدود بين الدول بل وتسعى لتغيير الخريطة الأساسية في المنطقة، وتطورت عملياتها نوعيا بتطور الأسلحة التي تستخدمها لتحقيق أهدافها، وتطورت تفاعلاتها سواء بوجود علاقات مع دول بعينها تتوافق مصالحها مع أهداف التنظيمات الإرهابية، أو من خلال التعاون بين بعض من هذه التنظيمات.

ومن ناحية ثانية، تطورت طبيعة التهديد ذاته فلم يعد قاصرا على تهديد الأمن الوطني لإحدى الدول، بل أصبح تهديدا لكيان الدولة ذاتها في بعض الحالات مثل: سوريا والعراق وليبيا من حيث السيطرة على بعض المدن وممارسة أعمال السيادة عليها، وكذلك تحدي سيادة الدول في تجاهل الحدود السياسية لهذه الدول، وتهديد الأمن الاقتصادي للدول والمجتمعات، كالإضرار بقطاعات اقتصادية هامة مثل تضرر قطاعات السياحة، والتأثير سلبا على أسعار السوق سواء سوق النفط أو سوق السلع بفعل عمليات التهريب التي تديرها هذه التنظيمات، او بيع النفط في السوق السوداء بما يؤثر سلبا على سعره لدى الدول المنتجة للنفط رسميا.

ومن ناحية ثالثة، برز التغير في نمط وأساليب إدارة الصراع المسلح، وافتقاد عنصري التكافؤ والتوازن حيث إدارة عمليات بين قوات نظامية وميليشيات مسلحة والمزج في التنفيذ بين العمليات العسكرية والعمليات التعسفية باستخدامك القوة المفرطة لتحقيق هدف الانتصار المعنوي بغض النظر عن الخسائر البشرية والمادية الناجمة عن الصراع، هذا التغير يزيد من تعقيد عمليات المواجهة العسكرية سواء للعمل بين المدنيين، وللتأثير المتزايد للرأي العام.

4ـ جدل الداخل والخارج:

تتزايد أهمية هذا الجدل مع زيادة تدخلات القوى الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، يدعم هذا التدخل عدة اعتبارات، أهمها، وجود حالة من التشاحن والتنافس بين القوى الإقليمية الفاعلة والتي تتمثل في طرفين عربيين مصر والسعودية، وثلاثة أطراف غير عربية إسرائيل وتركيا وإيران. ومن ثم تعتمد كل من هذه القوى على قوى دولية كبرى لتدعيم مكانتها ومصالحها الإقليمية الأمر الذي يزيد من الاختراق الدولي الخارجي للمنطقة، مع الغياب النسبي للفواصل بين البعدين الداخلي والخارجي في العلاقات الدولية، وزيادة الدور الذي تقوم به هذه القوى وسياساتها داخل الدول العربية.

هذه التدخلات تشكل معضلة للأمن الإقليمي في المنطقة وليس مجرد تهديد أمني؛ إذ إنها تؤكد أن أية ترتيبات أمنية في المنطقة يصعب أن تكون بمنأى عن القوى الكبرى الدولية، ومن ثم فإن أية ترتيبات محتملة يجب أن تتوافق مع مصالح القوى الكبرى الأكثر نفوذا في المنطقة.

5ـ التحديات المجتمعية:

ومن صورها انتشار بعض الظواهر الاجتماعية ذات الانعكاسات السياسية والأمنية على المستوى الإقليمي، مثل: انتشار الجريمة الدولية وعمليات الاتجار بالبشر، والهجرة غير الشرعية من الدول الأكثر تضررا من التهديدات الأمنية التي تواجهها المنطقة ويرتبط بهذه الهجرة تفاقم مشكلة اللاجئين –خاصة السوريين باعتبارها الدولة الأكثر تضرراً. ويشهد الأمن الإقليمي تهديدا من هذه الظواهر يتجاوز حدود الدول، مثل: انخفاض معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع معدل الفقر، ووجود قاعدة بشرية للفكر المتطرف.

وكذلك التركيز على عوامل الانقسامات والاختلافات الطائفية والعرقية في الصراعات المنتشرة في المنطقة، هذا التركيز يتم تغذيته من قِبل أطراف الصراع أنفسهم والقوى الدولية المرتبطة بهم، فعلى سبيل المثال يتم ترويج فكرة أن التنافس الإيراني – السعودي لاعتبارات مذهبية للخلاف بين الشيعة والسنة، بينما في جوهره هو اختلاف على النفوذ في الخليج. والتهديد الأمني من هذا الترويج يتمثل في تجذير الصراع والحد من فرص تسويته سياسياً أو سلمياً [53].

6ـ طبيعة الصراعات العربية والنظم العسكرية:

يقول يزيد صايغ: “إن الحكومات التي تمكّنت في السابق من الحفاظ على النظام السلطوي من خلال الوسائل العسكرية، باتت تُفكِّك دولها القوية سابقاً من خلال خوض الحرب ضد مجتمعاتها. وفي حالات عدة، أدّى ذلك أيضاً إلى تفكيك قواتها المسلحة النظامية. إذ تخوض أنواع جديدة من الجماعات المسلحة، غير الدول، وهذا لا يؤدّي فقط إلى إعادة تركيب الدول الوطنية القائمة، بل ويساهم في بناء كيانات سياسية بديلة تستند إلى أواصر وهويات اجتماعية-ثقافية دون الوطنية أو فوقها، أكانت حقيقية أم مُتخيَّلة”.

ويضيف: لقد ظهرت هذه الاتجاهات أمام “فشل معظم الدول العربية في فتح نظمها السياسية أمام المشاركة الأوسع، وفي مأسسة التعدّدية. بل وامتنع أغلبها حتى عن “ترقية” أو “تحديث” بُناها السلطوية، لتحسين الأداء الإداري، والخدمات العامة الأساسية، والوظائف التنظيمية للدولة، على الرغم من تساهلها إزاء اتّساع الهوة الاجتماعية بسبب اتّباعها لسياسات الخصخصة الاقتصادية. ونتيجة لذلك، فإن استخدام القوة لحلّ المشاكل الاجتماعية ومواجهة التحديات السياسية، قد أوصل العديد من النظم المتكلِّسة إلى نقطة الانهيار، وهو ما أطلق العنان لقوى وأجندات مجتمعية جديدة، وظهرت أشكال جديدة من التنظيمات العسكرية، في موازاة ذلك، لدى الجيوش النظامية والميليشيات على حدّ سواء، ومجمل هذه الأشكال العسكرية المدمجة أو الهجينة لن تكون أكثر استقراراً أو صلابة من الكيانات السياسية الجديدة، ولكن يترتّب على كل مَن يريد مقاومة أشكال بناء الدولة الناجمة عن الحروب العربية الجديدة، أن يعمل على وقف استخدام القوة العسكرية المنظمة ضد المجتمعات العربية، إذ إن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تفكّك دولها القائمة”[54].

7ـ تنافس الأدوار الإقليمية:

ففي الوقت الذي تشهد المنطقة صراعًا بين السنة والشيعة؛ طرفاه السعودية وإيران، هناك صراع آخر بين القوى في الدول السنية، بين بعض النظم السياسية القائمة، من ناحية، والجماعات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، التي يسميها البعض “تيارات الإسلام السياسي”، من ناحية، كالعمليات التي يقوم بها النظام العسكري الحاكم في مصر، بعد انقلاب 3 يوليو 2013، ومعه النظام السياسي في الإمارات ضد الجماعات الإسلامية في ليبيا، وفي اليمن وسوريا والعراق، وكذلك في مواجهة حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب. وهذه الصراعات مع استمرارها تعني استمرار الحروب بالوكالة بين السعودية والإمارات ومصر وقطر وتركيا في إنتاج المزيد من الفوضى في المنطقة[55]. واستمرار تدمير القدرات الذاتية لشعوبها ومجتمعاتها، وترسيخ مشاعر العداء والكراهية التي يمكن أن تدفع باتجاه مزيد من الصراعات المستقبلية.

8ـ تعدد اللاعبين المحليين:

ثمة عدد من اللاعبين المحليين الذين يتمتعون بنفوذ متزايد، سواء كانوا دولًا سيادية أصغر حجمًا، وكيانات شبه سيادية حكومة إقليم كردستان ولاعبين من غير الدول ميليشيات، شبكات إرهابية دولية وتجمع هؤلاء اللاعبين المحليين تحالفات مترابطة أو شراكات أو علاقات بالوكالة مع شركاء دوليين، لكنهم يتمتعون بأولوياتهم الخاصة ويحافظون على درجات متفاوتة من الاستقلالية.

وخلال مراحل الفوضى والاضطراب التي تشهدها المنطقة، سيكون هؤلاء الفاعلون المحليون بحاجة إلى التفاعل مع قوى إقليمية ودولية، وفي بعض الأحيان إلى الاصطفاف معها، دون أن يكون لهم قدرة على التأثير في أنماط ومستويات هذا التفاعل، مع الانجرار إلى منافسات ونزاعات هذه القوى، وهو ما قد يحول دون التخطيط لبناء وتعزيز مصادر قوتهم، وحمايتها بدلاً من تدميرها في مواجهات لا عائد منها[56].

المبحث الثاني: مسارات القوى الكبرى وتحديات الدور في المنطقة العربية

يري هنري كيسنجر أن الولايات المتحدة “دولة أطلسية” لا يمكن إقصاءها من أوروبا وأفريقيا، وهي “دولة باسيفيكية”، لا يمكن إقصاءها عن شرق آسيا، كما لا يمكن إقصاء الصين أو الهند من الشرق الأوسط، وهناك العديد من القضايا الدولية الملحة، لا يمكن التعامل معها على المستوى الإقليمي، بل تحتاج إلى مقاربات عالمية. وهنا يطرح كيسنجر مقاربة “وظيفية” للتعامل مع قضايا النظام العالمي، تكون أوسع من المستوى الإقليمي، ولكن أقل شمولا من المستوى العالمي. تقوم على تولي الدول الأكثر تضررا من مشكلة ما، قيادة وتنسيق العمل الدولي لمواجهتها[57].

وفي مقابل هذه الرؤية، يرى “دومينيك مويسي” أنه خلال السنوات القادمة، سوف يكون من الصعب خلق نظام عالمي يحقق التوازن بين الشرعية والقوة وحتى نتغلب على هذا التحدي هناك ثلاث مقاربات واضحة:

الأولى: إعادة تعريف النظام العالمي، وذلك حتى يعكس بشكل أفضل الحقائق الجيوسياسية، فبعد الحرب العالمية الثانية ظهر نظام عالمي ثنائي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، وعندما انهار الاتحاد السوفيتي أصبح العالم أحادي القطب وأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، ولكن في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين تراجعت الولايات المتحدة من موقع القيادة العالمي، ولم تتقدم أية دولة أخرى لملء الفراغ مما ترك النظام معرضا لانعدام الاستقرار.

والدولة الوحيدة التي لديها الوسائل والطموح لأن تعمل إلى جانب أميركا قائدا عالميا هي الصين، والتي يمكنها تنشيط النظام العالمي، حتى يكون في وضع أفضل من أجل وقف مد الفوضى والعنف، والإقرار بدور الصين قوة عالمية حقيقية سوف يجبر الولايات المتحدة الأميركية على تفهم تراجع هيمنتها ويجبر القادة الصينيين على الإقرار بمسؤولياتهم الدولية.

الثانية: تعزيز القيم التي تعكس ذلك النظام، ففي نهاية القرن التاسع عشر كان جان جاك روسو مقتنعاً بأن غياب الديمقراطية في أوروبا يمثل أحد الأسباب الرئيسية للحرب، واليوم يبدو أن الشيء المفقود هو حكم القانون. فوجود نظام دولي يطبق حكم القانون بشكل فعال سوف يحقق الكثير فيما يتعلق بالتخفيف من السلوك الذي يؤدي للصراع.

الثالثة: إعادة تقييم عمل المؤسسات المتعددة الأطراف، فنقل بعض القرارات المهمة من مجلس الأمن الدولي، على سبيل المثال، إلى مؤسسة أقل رسمية مثل مجموعة العشرين، والتي وإن كانت عضويتها ليست مثالية إلا تعتبر أكثر تمثيلا للمتغيرات الجيوسياسية الحالية[58].

وفي إطار هذه الرؤى الكلية، تأتي أهمية البحث في المسارات المستقبلية لأدوار هذه القوى، محل التفاعل تجاه منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها الدول العربية.

أولاً: مستقبل السياسة الأميركية في المنطقة:

1ـ المبادئ والمنطلقات:

في تقريره السنوي، 2016، طرح مجلس الأطلسي، عدداً من المبادئ التوجيهية التي يجب على السياسة الأميركية مراعاتها في المنطقة، جاءت على النحو التالي:

أ: النظام القديم في الشرق قد انتهى ولن يعود، فقد أدت الأحداث التي حصلت خلال العقد الأخير إلى خلخلة الوضع القائم في الشرق الأوسط وقواعد النظام التقليدية، ولن يتحقق الاستقرار ما لم يتشكل نظام إقليمي جديد. ويبقى التحدي في تحديد هيئة هذا النظام الجديد وتطوير استراتيجية لتحقيقه، ويجب أن تأخذ المنطقة المسؤولية لبناء النظام الإقليمي الجديد، حيث أصبح صعباً على القوى الخارجية أن تفرض نظامها أو مفهومها للنظام في المنطقة.

ب: الانسحاب من المنطقة ليس حلا عملياً بالنسبة للقوى الغربية، التى تستطيع تقديم المساعدة، ويعد ذلك جزءا هاما من مصالحها، خاصة وأن الظروف غير ملائمة في المنطقة كي تتمكن من وضع الحلول لنفسها بنفسها، ومن الضروري فهم أن من مصلحة القوى الخارجية أن تقوم بما عليها أن تقوم به لإيقاف النتائج العالمية لأي تدهور وفوضى في المنطقة. وينبغي أن تلعب دوراً مختلفاً عما كانت تلعبه في السابق، حيث ينبغي أن تتحرك وفق مقاربة المساندة والتسهيل للجهود الإيجابية للبلدان والقادة والشعوب في المنطقة.

ج: الصراع الطائفي والإثني أمر لا مفر منه، والصراعات تشتعل بسبب الحروب الأهلية والتنافس الجيوسياسي بين دول المنطقة، وحل هذه الصراعات سيكون الخطوة الأولى لإطفاء التوترات، لكن لن يمكن تحقيق الاستقرار مع استمرار تدخل القوى الإقليمية في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، بشكل معلن وخفي، وعلى كل الأطراف التوقف عن مثل هذه النشاطات والسماح لظهور نظام إقليمي أكثر استقرارا.

د: سيادة الدول على أراضيها شيء هام، ولكن تمكين الحكومات المحلية شرط ضروري إذا شاءت الدول أن تبقى ضمن حدودها الحالية، مع أهمية التركيز على شعوب المنطقة بدلاً من الدول، فلن يتمكن الشرق الأوسط من بناء مستقبل أفضل بدون وجود مشاركة فاعلة لشعوب المنطقة، بما في ذلك الشباب والنساء والذين تم تشريدهم بسبب الصراع.

هـ: الحكومات يجب أن تكون مسؤولة أمام مواطنيها بشكل متساو، فهناك إحساس لدى الناس بأنه يتم التعامل معهم بشكل مجحف وأنهم لا يحصلون على نفس المستوى من الموارد والحماية مقارنة بمن في السلطة والقريبين منها، لذا فإن توفير الحماية المساوية للمواطنين تحت حكم القانون سيكون الأساس لمجتمعات سليمة.

و: يحتاج الشرق الأوسط إلى إطار أمني إقليمي خاص به إذا أراد أن يمضي قدما نحو المستقبل، على أن تحدد شروط وقواعد هذا الإطار بلدان المنطقة، مع بذل جهود لتحقيق عقد إقليمي للشرق الأوسط. وهو عقد غير رسمي لتحقيق تحالف قائم على التفاهمات ومستويات التعاون وليس على مستوى الاتفاقيات الرسمية بين بلدان المنطقة، والتوسع في مساعي وقف إطلاق النار، تطبيق المعايير الدولية في حماية المدنيين وتقديم المعونة لهم، وإقامة مناطق آمنة عند الضرورة.

ز: الجهود العسكرية لا تكفي وحدها لإنهاء الإرهاب، ويتضمن هذا مراجعة وتحديث التعليم الديني في المنطقة، والتوسع في تدريس المواد في المدارس والمعاهد الدينية بحيث لا تقتصر على المواد الدينية فقط، وكذلك العمل على تقليص حدة الحروب الأهلية، حيث سيؤدي العمل الأميركي على تقليص حدة الحروب الأهلية في المنطقة إلى تقليل حدة المواجهة السعودية-الإيرانية وفي نفس الوقت سيؤدي الانخراط الأميركي إلى تطمين العربية السعودية بأن الدعم الأميركي سيستمر لها وإيقاف واحتواء الجهود الإيرانية التي تتدخل في الشؤون الداخلية في البلدان المجاورة.

ح: التركيز على تطوير وتنمية الرأسمال البشري خاصة الشباب والنساء، ودعم وتسهيل الإصلاحات التنظيمية لتعزيز التجارة، الاستثمار والتكامل الاقتصادي مع التركيز على أصحاب المشاريع الخاصة، وتشجيع ومكافأة الحكومات التي تمكن مقاربات حل المشاكل التي تجعل المواطن في مركز عملها وقطاع الأعمال ذات الجانب الاجتماعي، وتشجيع الدول في المنطقة التي تجعل الحكم الرشيد من أولوياتها، والذي يتضمن تمكين الحكم المحلي بموارد جيدة، والتحرك باتجاه إطار إقليمي يتضمن آليات تسهل الحوار الإقليمي وإطفاء الأزمات والنزاعات [59].

وبجانب هذه المبادئ التوجيهية، أكد “مركز بروكينجز”، عدداً آخر من الخطوط الإرشادية للسياسة الأميركية في المنطقة، منطلقاً من أن تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط يتطلب مواجهة الأسباب الرئيسة لمشاكل المنطقة ودعمها بالوسائل الفعالة، ويجب أن يكون إنهاء الحروب الأهلية الحالية على رأس تلك الأولويات، وتغيير مبدئي لديناميكيات ساحات المعركة من أجل إقناع جميع الفصائل المتحاربة، أن تحقيق انتصار عسكري يعد من الأمور المستحيلة، مع إرسال قوات لحفظ السلام، تساهم في بناء قوات مسلحة وطنية جديدة تكون الحجر الأساس لبناء دولة جديدة، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، أن تكون الأولوية في استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لدعم الدول التي تعاظم فيها خطر الانزلاق باتجاه حروب أهلية مستقبلية: مصر، والأردن، وتونس، وتركيا، فهذه الدول الأربعة معرضة للمخاطر وهي بحاجة ماسة للمساعدات الاقتصادية وتطوير أبنيتها التحتية، كما أنها بحاجة للإصلاحات السياسية من أجل تجنب الفشل في الدولة، وعلى الولايات المتحدة وحلفائها تقديم مجموعة من المساعدات التجارية، والحوافز المالية والمساعدات الاقتصادية، في مقابل القيام بخطوات تدريجية باتجاه إصلاحات سياسية ملموسة، وتحقيق العدالة وسيادة القانون، والشفافية، والتوزيع العادل للموارد والخدمات.

ومن ناحية ثالثة، التأكيد على أن التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، سيتطلب من واشنطن إجراء تقييم موضوعي لمعرفة ما يمكن للولايات المتحدة عمله لتأمين مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط. ولعل أكبر مزايا خفض الولايات المتحدة لوجودها في الشرق الأوسط، هو ضرورة تخفيض خطر الإرهاب. فهجمات الإرهابيين تستهدف الأمريكيين في المنطقة إلى حد كبير؛ لأنهم يشعرون بالظلم بسبب سياسات الولايات المتحدة؛ لأن قادة هذه الدول هم حلفاء مخلصون لها. فالتحدي الأكبر للولايات المتحدة إذا تراجعت من الشرق الأوسط هو معرفة كيفية الدفاع عن مصالحها عندما تُهدد بسبب مشاكل كانت قد أوجدت حلولا سيئة لها؛ والتراجع هنا يعني خطر المجازفة بالانهيار القريب لمصر، الأردن، لبنان، تونس، وتركيا.

ومن ناحية خامسة، على الولايات المتحدة إما بذل المزيد من الجهود لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، أو الانسحاب منه بشكل كامل، إما التصعيد أو التراجع، وفي الحالتين فإن ذلك سيكلفها أكثر مما هو متوقع، لأن تحقيق الاستقرار في المنطقة سيتطلب الكثير من الموارد، والطاقة، والاهتمام من قبل العواصم السياسية الداعمة لموقف الولايات المتحدة، وفي المقابل فالتخلي عن المزيد من السيطرة والالتزامات في المنطقة سيتطلب القبول بمخاطر أكبر، لأن تكلفة التصعيد ستُسهل التحكم بها مقارنة مع مخاطر التراجع، وأحد الخيارين سيكون أفضل من حالة الفوضى [60].

2ـ الفرص والتحديات:

إلا أن هذه المقترحات وغيرها تصطدم بما تواجهه القوة الأميركية من تحديات، ففي تقريره السنوي، 2016، ذكر “المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والدولية”، أنه في أوروبا تواجه الولايات المتحدة، خلافات حادة مع روسيا، وفي آسيا تشير صور الأقمار الصناعية إلى محاولات صينية للسيطرة على المجال الجوي والبحري لأماكن بعيدة عن شواطئها، وتواصل كوريا الشمالية ممارساتها، فضلاً عن المخاطر الناجمة عن برنامجها النووي. بجانب الأوضاع المضطربة في منطقة الشرق الأوسط؛ بدايةً من الدور الإيراني في المنطقة، مروراً بالفوضى في ليبيا، وصولاً إلى التدمير الكامل لسوريا وتداعياته على العراق والأردن وتركيا”.

وأضاف التقرير إنه: “خلافاً للحرب الباردة، فإن الولايات المتحدة لا تعتبر منخرطة في صراع عالمي، بل في سلسلة من الصراعات الإقليمية، تفتقد فيها لوجود استراتيجية للعمل في هذه البيئة الجديدة، لأنه إذا كان لدى واشنطن تفكيراً استراتيجياً حقيقياً، ما أثمرت جهود 13 عاماً قضتها واشنطن في الشرق الأوسط منذ حرب العراق 2003 لتحقيق الديمقراطية عن هذه الفوضى القائمة الآن”.

وأمام هذه الاعتبارات، أكد المركز على عدد من الأمور الأساسية، أولها، وجود مفارقة تتعلق باستمرار وضع الولايات المتحدة كدولة عظمى مع تراجع تأثيرها العالمي، فمن المرجح أن تظل واشنطن القوة العظمى في العالم خلال السنوات الـ 15 المقبلة اعتماداً على وضعها الاقتصادي والثقافي والعلمي، ووفرة الموارد الطبيعية لديها، وقوتها العسكرية، ولكن قدرتها على تشكيل سلوك القوى الفاعلة الأخرى في العالم بدأ في التراجع. ولذلك سوف تختلف ممارسة الولايات المتحدة لسلطاتها وقوتها في العالم حسب كل منطقة وقضية على حدة، وثانيها، ثبات الدعم الشعبي الأمريكي لدور واشنطن العالمي، وثالثها، اتباع نهج التعامل الانتقائي في السياسة الخارجية الأمريكية، فعلى الرغم من الإجماع الأمريكي الدائم للانخراط في العالم، لكن واشنطن لم تكن تمتلك الموارد الكافية أو حتى الرغبة في العمل في كل مكان بالعالم، في كل وقت أو باستخدام نفس أدوات القوة، لذا لابد دائماً من قياس تكاليف المخاطر والفرص وترتيب الأولويات، وإبراز مصداقية الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية في سياستها الخارجية، بدلاً من محاولة عرقلة علاقات الشركاء والحلفاء مع الدول المنافسة خاصةً الصين وروسيا[61].

وفي، تقريرها السنوي 2016، ذكرت مؤسسة “بزنس إنسايدر” “إنه في ظل تحول العالم إلى مكان فوضوي غير متوقع على مدى السنوات العشر المقبلة، سيكون رد فعل الولايات المتحدة متحفظاً بشأن الكيفية التي ستختار بها تحدياتها بدلًا من اتخاذ دور قيادي فعّال في حل مشاكل العالم. وعلى الرغم من أن هذا الدور المتحفظ للولايات المتحدة في الشؤون العالمية قد يجعل العالم مكانًا أقل قابلية للتنبؤ، لكن الحقيقة هي أن الدول الأخرى ستضطر إلى التعامل مع هذا الوضع الجديد”.

وأضاف التقرير: “إن النمو الاقتصادي والإنتاج المتزايد من الطاقة المحلية، وتراجع الصادرات، والشعور بالسلامة في الزاوية الأكثر استقرارًا في العالم، يمنح الولايات المتحدة رفاهية أن تكون قادرة على تحصين نفسها ضد الأزمات العالمية. كما ستواصل الولايات المتحدة مسيرتها لتكون قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية كبيرة في العالم، ولكن ستكون أقل انخراطًا مما كانت في الماضي، وسوف يكون هناك عالم غير منظم، مع تغيير الدول العظمى في العديد من المناطق، وسيكون الثابت الوحيد القوة القديمة للولايات المتحدة والتي سيتم الاستفادة منها بشكل أقل في العقد المقبل”[62].

3ـ توجهات استخدام القوة:

في ظل المبادئ التوجيهية السابقة، وأمام خريطة الفرص والتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة، تبرز مجموعة من الاحتمالات المستقبلية لاستخدام القوة في النظام الدولي:

الاحتمال الأول: استمرار الوضع الراهن في استخدام القوة: يدور هذه الاحتمال على أن الولايات المتحدة سوف تستمر في ممارسات القوة والإكراه في النظام الدولي، بوضعها الراهن، وبصرف النظر عن شكل هذه القوة وطبيعتها، على أساس أن الولايات المتحدة يحكمها مبدأ البرغماتية في التعامل مع الغير، ومن أجل تحقيق هدفها الاستراتيجي وهو التربع على عرش الريادة الدولية، سوف توظف كل إمكاناتها من أجل منع أي طرف دولي منافس لها من تهديد مكانتها.

الاحتمال الثاني: التوسع في استخدام القوة: ينطلق هذه الاحتمال من أن الولايات المتحدة سوف تتوسع في استخدام القوة في النظام الدولي بما يخدم مصالحها، ومتجاهلة بذلك أي قيود أو عراقيل تفرضها طبيعة النظام الدولي على سياساتها هذه، منطلقة بذلك من إمكانات القوة التي تملكها، وضرورة هيمنتها على العالم وتحقيق الحلم الأمريكي الداعي إلى قيادته.

الاحتمال الثالث: التراجع عن استخدام القوة: ويقوم على أن الولايات المتحدة سوف تتراجع عن ممارسات القوة في النظام الدولي حتى 2025، ويتم تبرير التراجع عن ممارسة القوة بتحقيق نوع من التوازن الذاتي من خلال الانطواء إلى الداخل والوقوف على نقاط الضعف الداخلية لها، والمحافظة على ما تبقى من القوة الأميركية والعمل على تحسينها من خلال المعالجة الداخلية، ولكن مع مراعاة أن التراجع عن ممارسة القوة لا يعني التراجع عن دورها العالمي في النظام الدولي، إلا إذا فرض النظام الدولي هذا التراجع، نتيجة قيام متغيرات تؤثر على هيكلية النظام الدولي كقيام حرب بين القوى الكبرى.

الاحتمال الرابع: الحذر في ممارسة القوة: ويقوم على أساس أن الولايات المتحدة ستتجه نحو ممارسة للقوة محسوبة من منطلق الربح والخسارة، وحجم الآثار السلبية والإيجابية الناتجة من هذه الممارسات حيال قضايا استراتيجية مهمة في النظام الدولي، وبالتالي يمكن أن تبدأ بممارسة ما يسمى “سياسة الدفاع الذكية” التي تعتمد على الحروب الإلكترونية وخصخصة الحروب وتوظيف وسائل غير عسكرية من أجل تنفيذ أهدافها الخارجية[63].

ومع تعدد هذه السيناريوهات، تأتي أهمية التأكيد أن دولة بحجم الولايات المتحدة يمكن أن تجمع بين أكثر من سيناريو وأكثر من بديل في آن واحد في ظل استراتيجية شاملة، وخطط وسياسات فرعية توفر لها حرية الحركة، وفقاً لما تقتضيه تحولات البيئة الدولية والإقليمية، ولكن مع الأخذ في الاعتبار سمات القيادة السياسية الحالية في الولايات المتحدة، ممثلة في الرئيس دونالد ترامب، وتأثير هذه السمات على السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات القادمة، ومن بين هذه السمات:

1ـ انفصال ترامب النسبي عن المؤسسة الحزبية الجمهورية، ولا يعتبر نفسه ملزماً بتوجهات أيديولوجية بعينها، ولا يقبل بأي قواعد للسلوك السياسي الجمهوري.

2ـ افتقاره للخبرة السياسية الدولية، وما تمخض عن ذلك من تناقض في رؤيته للفاعلين البارزين في منطقة الشرق الأوسط. حيث تجلت ذلك في ميوله اتجاه الروس ومواقفهم، إلا أنه في الوقت ذاته شديد العداء لإيران، والتي تعد الشريك الأساسي لروسيا في معظم مواقفها في المنطقة. كما أعلن أنه عارض التدخل الأمريكي في العراق، مُبرراً ذلك بأنه قد تمخض عنه نتائج كارثية، إلا أنه يؤكد على أن العراق باتت ملجأ لحركات إرهابية خطيرة، مما يستدعي التدخل.

3ـ الميل نحو الانعزالية، حيث تحدث عن إمكانية عدم تقديم الدعم العسكري لدول الناتو مستقبلاً، وهددّ بسحب قواته من أوروبا وآسيا، إذا فشل حلفاؤه هناك في رعاية المصالح الأمريكية بشكل أفضل، وكذلك هدد بالانسحاب من معظم الاتفاقات التجارية الإقليمية[64].

ثانياً: مستقبل السياسة الأوروبية تجاه المنطقة:

تواجه أوروبا اليوم احتمالات التقسيم، سياسياً واقتصادياً، إلى أربع مناطق أساسية: أوروبا الغربية، أوروبا الشرقية، الدول الإسكندنافية، والجزر البريطانية، وهذه المناطق لن تكون مرتبطة على نحو وثيق كما كانت من قبل، وقد يبقى الاتحاد الأوروبي بشكل أو بآخر، ولكنّ العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية في أوروبا سيتم التحكم فيها من خلال العلاقات الثنائية أو العلاقات متعددة الأطراف التي ستكون صغيرة من حيث النطاق وغير ملزمة في الوقت نفسه. وقد تحافظ بعض الدول على عضويتها في اتحاد أوروبي مُعدّل بشكل تام، ولكن هذا لن يوحد أوروبا[65].

يزيد من الشعور بالخطر على مستقبل السياسة الأوروبية، بل والوحدة الأوروبية، تصاعد تأثير الأحزاب والتيارات اليمينية والقومية في الدول الأوروبية، ولكن مع وجود عدة احتمالات خلال السنوات القادمة لهذه الأحزاب، منها:

1ـ وصول بعض هذه الأحزاب إلى الحكم في الدول الأوروبية، ومن شأن ذلك أن يغير ملامح وسمات القارة الأوروبية التي اكتسبتها على مر السنوات، منذ نهاية الحرب الباردة، بحيث ستبدأ أفكار التكامل الأوروبي في التلاشي تدريجيا، ويتهدد الاتحاد بالانهيار القوي، خاصة أن معظم هذه الأحزاب كانت مؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل ودعت لاستفتاءات مماثلة في بلادها للخروج من الاتحاد.

2ـ تراجع الأحزاب اليمينية وتفوق الأحزاب والجماعات التقليدية المعتدلة، بحيث لا تحصل الأحزاب القومية على نسبة أصوات مرتفعة داخل البرلمانات الأوروبية بما يقيد إمكانياتها لتشكيل الحكومات مستقبلا، في ظل سيادة الأحزاب المعتدلة، وتقديمها لرؤي وإصلاحات اقتصادية تزيد من معدلات النمو الداخلية، وتسهم في رفع الأداء الاقتصادي، ومن ثم السياسي للدولة.

3ـ أن تصعد هذه الأحزاب في عدد من الدول الأوروبية مقابل تراجعها ولو بنسبة أقل في دول أخري. ومن بين الدول المرشحة لصعود الأحزاب اليمينية فيها: دول شرق وجنوب أوروبا، مثل بولندا، والمجر، وبلغاريا، وإسبانيا، وإيطاليا، فيما يقل صعود اليمين بنسب أضعف في دول شمال وغرب أوروبا، مثل السويد والدنمارك، والنرويج، وألمانيا، وهولندا، باستثناء بسيط أيضا لفرنسا وبريطانيا، نظرا لتطور دور اليمين بقوة فيهما [66].

ثالثاً: مستقبل السياسة الروسية

وفقاً لتقرير “بيزنس إنسايدر”، فإن العقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها روسيا، وانخفاض أسعار النفط، وانخفاض قيمة العملة الروسية “الروبل”، وارتفاع النفقات العسكرية، وزيادة الانشقاق الداخلي؛ ممن شأنها أن تضعف قبضة الحكومة المركزية في روسيا، وتتعاظم المخاوف مع بقاء بوتين على رأس السلطة من عدمه، ومن يمكن أن يخلفه، وكلها أمور قد تدفع نحو تراجع روسيا بل وتهديد وحدة الاتحاد الروسي في شكله الحالي[67].

ومع هذا التحدي الداخلي، وما تشهده البيئة الدولية والإقليمية من تحولات، تبرز مجموعة من السيناريوهات المستقبلية للدور الروسي في المنطقة:

الأول: استمرار تمدد الدور الروسي: وهو سيناريو تدعمه القدرة على بناء شبكة علاقات متنوعة ومتشابكة من التحالف الاستراتيجي إلى العلاقات الاقتصادية، مستفيدة في ذلك من التحولات الدولية والإقليمية، والمبادرة بالتدخل الاستباقي في سوريا ومنع سقوط النظام، واحتواء حادثة إسقاط طائرة الركاب الروسية في سيناء، واستخدام سياسة التصعيد المدروس في احتواء الأزمة مع تركيا إثر إسقاط الطائرة.

الثاني: انحسار الدور الروسي: ويرتبط بتطورات الأزمة السورية، وقدرة ورغبة الدول الداعمة لقوات المعارضة السورية على إحداث تغير استراتيجي في الميدان، كما يرتبط بتفكك التحالف الإيراني – الروسي، وتطورات الأوضاع الاقتصادية في روسيا وحجم الضغوط الخارجية عليها[68].

الثالث: التوازن الاستراتيجي وثبات الوضع القائم، حيث النجاح في تحقيق مكاسب نوعية خلال السنوات الخمس الأخيرة في علاقاتها مع بعض النظم والقوى السياسية في سوريا وليبيا ومصر، بجانب توثيق علاقاتها مع إيران وتركيا، وتمددها في شرق المتوسط عبر قاعدة عسكرية في قبرص، وتحالف استراتيجي مع صربيا، والاتفاق على صفقات سلاح ضخمة لهذه الدول، وكلها أمور أدت لتعزيز دورها العالمي، ويكون الهدف الرئيس وفق هذا السيناريو، البقاء على هذا الوضع.

إلا أن هذه السيناريوهات، ترتبط بدرجة كبيرة بتطورات الملف السوري، ونجاح روسيا في تحقيق أهدافها من هذا الملف، استراتيجي من كون سوريا مرتكز توسيع السيطرة على الشرق الأوسط، وعسكرياً من خلال العمل على توفير قواعد بحرية للهيمنة على البحر المتوسط، وقواعد جوية وبرية لـحماية مصالحها في المنطقة واقتصادياً مشروعات النفط والغاز وإعادة الإعمار والتحكّم بخطوط نقل الطاقة.

وهنا يمكن أن تبرز عدة خيارات أمام روسيا في التعاطي المستقبلي مع الملف السوري، منها:

الخيار الأول: الاعتماد على إيران والقوى التابعة لها في سوريا، وهذا يعني أن تقاسم إيران في المكاسب، كالقبول بمدّ خط أنابيب الغاز الذي وقعته إيران مع بشار الأسد سنة 2010، وضمان مشاريع اقتصادية لها، وسداد ديون النظام لها. وأن تقبل سياسات إيران التي تستغلّ حزب الله من أجل التفاوض، حيث تريد السيطرة على سوريا ولبنان. ويتناقض هذا الأمر مع تحالف روسيا مع الدولة الصهيونية التي تريد إنهاء وجود حزب الله، وإبعاد إيران عن حدودها.

الخيار الثاني: الهيمنة الروسية على الأوضاع في سوريا، والعمل على إعادة بناء الجيش السوري، بعد فرض تسوية سياسية معينة، تحقق لها هدنة تستطيع من خلالها القيام بذلك[69].

ولكن حتى لو نجحت روسيا في فرض سيطرتها، كلياً أو جزئياً على سوريا، فإن احتمالات الواجهة ضدها، والرفض لدورها في المنطقة ستتصاعد، وستأخذ أشكالاً جديدة، خاصة وأن الوضع العالمي والإقليمي يعاني من سيولة وتحوّل في التحالفات والتوازنات، ويمكن أن يتكرر النموذج الأفغاني في الساحة السورية، وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات على كل دول المنطقة.

 

خاتمة: نحو بدائل أولية لإدارة التحديات الراهنة:

في كتابه “نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه”، يقول “فولكر بيرتيس”: إنَّ ما يحدث حاليًا في المنطقة ليس سوى “بداية لمرحلةٍ من الاضطراب”، ذلك لأنَّ مجمل الدول والأنظمة التي أنشأتها القوى الغربيَّة في النصف الأول من القرن العشرين شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط تقف على حافة الهاوية، وعلى الرغم مع أنَّ نظام سايكس بيكو، كان مرفوضًا في الكثير من بلدان المنطقة منذ البداية، إلا أنه مع التحديات التي تواجه الكيانات الناشئة عنه، أصبح هناك نوع من الحرص عليه بل والدفاع عنه. حيث يتزايد عدد من يرون أنَّ النظام القديم كان “سيئًا”، إلا أنَّ البديل لنظامٍ سيءٍ ليس نظامًا أفضل بالضرورة، بل من المحتمل ألاَّ يكون هناك نظامٌ نهائيًا”، بسبب الفساد والاستبداد وممارسات القمع والقهر وتنامي هويات وجماعات ما دون الدولة”.

ويضيف: “كلما زاد غياب النظام والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي واليقين في الحاضر والمستقبل، قلَّت ضمانات التعايش بين مجموعات السكان المختلفة في إطار كيان الدولة الموثوق، وازدادت أهميَّة الهويات والروابط الطائفيَّة والعرقيَّة والعشائريَّة، ومن هنا يأتي دور القوى الدولية، في العمل على التغلُّب على صراعاتها مع دول المنطقة، وعلى الصراعات بين هذه الدول وبعضها البعض، وعلى الصراعات داخل هذه الدول، فالتعامل مع شريكٍ صعبٍ فاعلٍ أسهل من التعامل مع دول فاشلة، الأمر الذي يتطلب العمل على إحلال هدناتٍ قابلةٍ للاستمرار ومفاوضاتٍ جادة وعمليةٍ سياسيَّةٍ انتقاليَّةٍ تـُشكِّل مصداقيَّةً كافيةً لاستقطاب الساعين للتغيير بما يدفعهم للاستجابة الحقيقية وفق أطر سلمية وقابلة للاستمرارية”[70].

وفي هذا السياق، تبرز مجموعة من المسارات والبدائل المهمة، من بينها:

المسار الأول: المصالحة الصامتة:

في كثير من، إن لم يكن في جميع، الصراعات التي تشهدها المنطقة، برزت مجموعة من العوامل التي عرقلت إمكانية الوصول إلى مصالحات وطنية حقيقية بناءة وشاملة، ومنها شكلية بعض المبادرات، والإخفاق في التوافق حول صيغ تشمل جميع أطراف الصراع السياسي، وتنامي دور جماعات العنف، والامتداد الخارجي للصراعات الداخلية، فضلا عن التجذر المجتمعي لحالة الاستقطاب السياسي والديني.

وبين استمرار النزاع وإخفاق عمليات المصالحة الوطنية، يأتي مسار “المصالحة الصامتة” كمرحلة وسيطة بين استمرار الصراع والمصالحة الشاملة، حيث يقوم على وقف الاعتداء والتدمير المتبادل بين المتنازعين، دون الاضطرار إلى تقديم تنازلات سياسية كبيرة، في ظل تشدد مواقف الأطراف المتنازعة، وتعقد حدة الصراعات.

ويُعطي هذا المسار مساحة لبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، وإعطاء المصالحة طابعًا مجتمعيًّا بما يمهد الطريق أمام إجراءات المصالحة التقليدية، عبر عملية تفاوض وتوافق حول عناصر العدالة، وإجراء إصلاحات مؤسساتية.

ومن الأمور التي يمكن أن تدفع باتجاه هذا المسار عدم قدرة أطراف الصراع على الحسم، واستنزاف قدراتها، وصعوبة الاستمرار في النزاع، بالتوازي مع أزمات اقتصادية تواجهها القوى الإقليمية والدولية، وتبني بعض الدول سياسات انعزالية، بما قد يحد من قدرة الخارج على استمرار تغذية الصراع ماليًّا وعسكريًّا.

ونجاح هذا المسار يتطلب العمل على المعوقات الأساسية التي تواجهها، ومنها مصادر تغذية الصراعات، والتي يتمثل أبزرها في أن حالة الانقسامات المجتمعية التي تشهدها بلدان المنطقة خلقت هويات اجتماعية متضادة دينية أو قومية أو قبلية تغذي استمرار الصراع، وتعيد إنتاج نفسها من خلاله، هذا من ناحية، والتنافس الإقليمي والدولي الذي يدفع أطرافه إلى الحفاظ على تغذية الصراع حتى لو كان الأمر أكبر من طاقتها، بالإضافة إلى نجاح تنظيمات عابرة للدول في فرض وجود مؤثر داخل مناطق النزاعات[71].

إن المصالحة الصامتة حالة أدنى من فكرة المصالحة التقليدية المعلنة، أو خطوة تمهيدية لها عبر تجميد النزاع ووقف العنف، وقد تأخذ نمطين أحدهما سلبي والآخر إيجابي وفقًا لمدى ودرجة التعايش، وذلك على النحو التالي:

النمط الأول: المصالحة الصامتة السلبية: تقوم على توقف أطراف النزاع عن ممارسة العنف والاستهداف المتبادل عبر اتفاق ضمني أو سري أو معلن، وقبول التعايش والوجود الاضطراري في نفس المساحة دون التحرك إلى ما هو أبعد من ذلك. أي أنها أشبه بحالة سلام بارد أو هدنة مؤقتة أو وقف اعتداء، سواء لفترة قصيرة أو طويلة، أو مرحلة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق وبناء القدرات.

النمط الثاني: المصالحة الصامتة الإيجابية: وتقوم على الاتفاق على وقف الاعتداء والتفاعل والاحترام والثقة وتطوير علاقات أكثر تجانسًا. وإعداد بيئة حاضنة للمراجعة والتفكير في صياغة علاقة إيجابية أبعد.

ومع بساطة الأطروحات التي يقوم عليها مسار المصالحة الصامتة، فإنها تتسم بعدم القابلية للاستمرار لافتقادها العناصر الرئيسية اللازمة لخلق حالة من السلام الممتد عبر تأسيس جديد للعلاقات بين أطراف النزاع، وذلك أمام التحديات التي تواجهها، ومن بينها، عدم القدرة على تجاوز سلبيات الماضي، واحتمالات تجدد النزاع، وعدم اتفاق المتنازعين حول المصالح، فاللجوء إلى حالة تكيف أو تعايش دون وجود تسوية تضمن هذا الاعتراف تجعل من التعايش بين الأطراف حالة هدنة مؤقتة غير قابلة للصمود حال تغير موازين القوة، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، الامتداد الخارجي للنزاع، فحينما تكون النزاعات الداخلية ذات امتدادات خارجية، تبقى احتمالية التعايش الصامت بين أطراف النزاع الداخلي محل تهديد. ذلك أن هذا النوع من التعايش قد يتحول إلى مرحلة نزاع جديد، حال الدعم أو التحفيز الذي يمكن أن تقدمه الأطراف الخارجية لأطراف الصراع، ومن ناحية ثالثة، غياب التجذر المجتمعي للمصالحة، وعدم وجود ظهير أو قناعة مجتمعية لفكرة المصالحة، بما يوفر غطاءً شرعيًّا للنخب التي تتولى عملية التفاوض لتقديم التنازلات الضرورية سعياً نحو تحقيق مصالحة حقيقية ممتدة لاحقًا، وبما يضمن تطبيقًا فعليًّا لفكرة المصالحة وإمكانية استمراريتها وتمتعها بحماية شعبية[72].

المسار الثاني: تعزيز الأطر الأمنية:

كشفت سنوات ما بعد أحداث سبتمبر 2001، وما بعد الثورات العربية 2011، عن فشل الصيغ الأمنية القائمة، الدولية والإقليمية والعربية في التعاطي مع التحولات السياسية والأمنية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، عامة، والمنطقة العربية عامة، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في هذه الأطر، على المستوى الفكري والعملي، بما يتوافق مع متطلبات المرحلة الراهنة:

1ـ الأمن الجماعي:

برز استجابة للآثار التدميرية التي شهدتها الحرب العالمية الأولى، فكانت الدعوة لتكوين عصبة الأمم، 1920، ولكنها أخفقت في الحيلولة دون قيام الحرب العالمية الثانية 1939، فجاءت الدعوة إلى تأسيس الأمم المتحدة، 1945، وبالتوازي مع هذه المحاولات ذات الطابع العالمي، برزت بعض المحاولات الإقليمية الكبرى، مثل منظمة الوحدة الأفريقية، 1963، التي تحولت إلى الاتحاد الأفريقي لاحقاً، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. لكن تأسيس هذه الكيانات لم يكن كافيا لضمان فاعلية تحقيق الأمن الجماعي. بسبب تباين الإرادات، خاصة بين الفواعل الكبرى فيها، وعدم التوافق بين أعضائها، قيمياً ومصلحياً.

2ـ النظام الأمني:

يقوم على وضع عدد من المعايير والقواعد التي يتعين أن تلتزم بها الدول التي تقبل الانخراط في هذا النظام، بما يضمن تحقيق نتائج إيجابية ومنافع مشتركة لها، ويتضمن النظام الأمني آليات لتطبيق تلك المعايير، وتعزيزها، والتحقق من الالتزام بها، ويمكن أن يشمل “مدونات للسلوك”، يتم الالتزام بها بهدف الحد من احتمالات نشوب الحروب، أو الصراعات المسلحة، مثل عدم استخدام القوة، واحترام الحدود الدولية القائمة، ويندرج في هذا الإطار إجراءات ضبط التسلح علي نطاق إقليمي، مثل المناطق الخالية من الأسلحة النووية، أو معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، 1990.

3ـ الجماعة الأمنية:

يقوم على وجود عدد من الأطراف تتوافر فيما بينها ضمانات حقيقية بأنها لن تلجأ إلى محاربة بعضها بعضا بشكل مادي، وستعمل علي تسوية نزاعاتها بطرق أخري، ويفترض تحقيق درجة من التفاعلات البينية التعاونية الأكثر كثافة، واستدامة، وشمولية.

ومع هذا التعدد في الأطر الذي يمكن الاختيار فيما بينها، في منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات القادمة، تأتي أهمية التأكيد على عدد من الاعتبارات الأساسية، منها:

أ أن هذه الأطر، من خلال تركيزها علي خفض عوامل الصراعات المسلحة والحروب، ونزع أسبابها، أو الحد منها، لا تعني بزيادة القدرات العسكرية للدول المنخرطة فيها، بل قد تعمل علي تقييد تلك القدرات، وبالتالي تحييد البنية الاستراتيجية للقطبية الدولية، مقابل إرساء البنية المعيارية لها، والتي ترتكز بشكل أساسي على ما يتوافر لدي أطراف التفاعل من موارد فكرية وقيمية، كالتزامها بالقانون الدولي، والعمل المؤسسي الدولي، والإحساس بالهوية الجمعية، وكذلك العمل على تعزيز سياسات التعاون الدولي، وتعزيز الأمن، من خلال إتاحة فرص متبادلة لتعزيز مصالح جميع الأطراف بشكل جمعي وعادل.

ب أن هذه الأطر تعكس التطور في مفهومي الإقليمية والأمن، حيث لم تعد الإقليمية تقتصر علي التقارب الجغرافي، بل تشمل أيضا التقارب الوظيفي، وهو ما يعني احتمالات قيام تعاون، أو تكامل، في أحد المجالات بين دول لا يجمعها نطاق جغرافي واحد أو متقارب، الأمر الذي يزيد من الفرص المتاحة أمام دول المنطقة لتوسيع وتنويع مساراتها التفاعلية، في إطار مواجهة التحديات التي تعاني منها.

ج إن اتساع مفهوم الأمن يعكس الطبيعة متزايدة التعقيد للقضايا الإقليمية والدولية وتداخلها مع العديد من الأنشطة الإنسانية، الأمر الذي يمكن البناء عليه في الحركة المستقبلية، لمختلف الفواعل الأطراف في المنطقة، من الدول والمنظمات والهيئات والحركات والتيارات، في إطار إدارتها للأزمات الراهنة[73].

المسار الثالث: التشاركية السياسية والمجتمعية:

ويقوم هذا المسار على عدد من الأطر والضوابط الحاكمة، التى أفرزتها خبرة السنوات الست الماضية منذ انطلاقة الثورات العربية في يناير 2011، ومن بين هذه الأطر وتلك الضوابط:

1ـ أنه لا مستقبل للدول العربية دون تصالح حكوماتها مع الشعوب، عبر بناء دولة القانون والمؤسسات والشفافية والتنمية، وإقامة قواعد إنتاجية حقيقية واستخدام كل الثروات العربية لصالح كل الطبقات في كل المجتمعات العربية، عبر برامج تنمية وعدالة اجتماعية يستفيد منها كل عربي، والتمسك بمقومات هويتهم الجامعة من لغة ودين وتاريخ وحضارة، بل واستخدام القوة الكامنة في كل هذه المقومات الناعمة لتقوية المجتمعات العربية ومؤسساتها وسياساتها، ومواجهة عدوهم الحقيقي، ممثلاً في الكيان الصهيوني وسياساته العنصرية والتوسعية، ومواجهة كافة سياسات الهيمنة العالمية.

2ـ أنه لا مستقبل للعرب إلا بالتعامل مع الأتراك والإيرانيين كحلفاء وأصدقاء وليس كمنافسين أو أعداء، ومع قيام حكومات عربية مسؤولة أمام شعوبها سيتم النظر إلى تركيا وإيران بالشكل الطبيعي، كجارتين شقيقتين وحليفتين طبيعيتين لأي تكتل عربي حقيقي.

3ـ العمل على امتلاك إرادة العمل وإصلاح الخلل عبر حكومات إنقاذ وطنية وبناء نظام إقليمي جديد، ولن يكون هناك بديل لهذا الخيار، إلا انتظار موجة جديدة من الثورات العربية، والتي لا مفر أمامها إلا أن تأخذ شكل حركات تحرر وطني ضد الحكومات العاجزة في الداخل والتبعية والهيمنة من الخارج، ولن يكون أمام هذه الحركات إلا الهدم أملا في إفساح المجال لشعوب المنطقة وقواها الوطنية لتولي موقع المسؤولية[74].

 


الهامش

[1] James Rosenau, Linkage Politics – Essays on the Convergence of the National and International Systems, New York: The Free Press, 1969.

وأنظر أيضاً: مارسيل ميرل، سوسيولوجيا العلاقات الدولية، ترجمة د. حسن نافعة، القاهرة، دار المستقبل العربي، الطبعة الأولي، 1986، ص 134 ـ 139، وكذلك: مارسيل ميرل، السياسة الخارجية، ترجمة خضر خضر، بيروت، دار جروس برس للنشر، د. ت، ص ص 191 ـ 204.

[2] ROBERT D. KAPLAN, The Ruins of Empire in the Middle East, Foreign Policy, MAY 25, 2015

[3] د. أكرم حجازي، الاستراتيجيات الأمريكية والتحالفات الدولية: عرض ونقد وتقييم، مركز المراقب للدراسات والأبحاث الاجتماعية، الرابط، تاريخ الزيارة، 28 يناير 2017.

[4] يقول جورج كينان، أحد مخططي السياسات الخارجية الأمريكية في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، و”مهندس” سياسة احتواء الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة: “الطابع المحلي للدولة أقل أهمية من سلوكها الدولي، والولايات المتحدة مجبرة على التعامل مع الدول على أساس سلوكها الدولي وليس طابعها المحلي”.

[5] سيتم التعامل، في هذه الورقة البحثية، مع مصطلح “الشرق الأوسط”، وفق رؤية جغرافية فقط وليس سياسية، يتحفظ عليها البعض، رفضاً أو قبولا من حيث موقعه من خط الطول الرئيسي جرينتش الذي يقسم الأرض فلكياً إلى شرق وغرب، ويكون الشرق الأدنى دول المغرب العربي، والشرق الأوسط بداية من مصر والسودان وانتهاءً بحدود تركيا شمالاً وإيران شرقاً، والشرق الأقصى، في جنوب شرق آسيا.

[6] ماوريتسيو جيري، حدود الشرق الأوسط بعد سايكس بيكو: نحو القومية الواحدة أو التعددية؟، معهد واشنطن، 2حزيران/يونيو 2016

[7] Martin S. Indyk, A return to the Middle Eastern great game, Brookings, Tuesday, February 17, 2015

[8] مالك عوني، انتهاء الإمبراطورية القوة العسكرية واستراتيجيات بناء النفوذ الدولي، ملحق تحولات استراتيجية، التحديث العسكري: تطوير الأسلحة ومستقبل المكانة الدولية واتجاهات الصراع العالمي، مجلة السياسة الدولية، العدد 202، أكتوبر 2015.

[9] ديريك چوليت، إيلين ليبسون، مايكل دوران، ومايكل ماندلباوم، هل الشرق الأوسط لا يزال مهماً؟ عقيدة أوباما وسياسة الولايات المتحدة، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 14 أبريل 2016.

[10] مادلين أولبرايت، ستيفن هادلي، التقرير النهائي لفريق استراتيجية الشرق الأوسط للولايات المتحدة، المجلس الأطلسي، 30 نوفمبر 2016.

[11] David Miliband, “Europe between America and China”, Transcript of speech delivered at the 4th Polish-British Roundtable, held in Krakow, Poland, May 12, 2011

[12] Sebastian Rosato, “Europe’s Troubles: Power Politics and the State of the European Project”, International Security, vol.35, N4 Spring 2011, pp 45-86.

[13] كارن أبو الخير، الحقائق الاستراتيجية الجديدة في النظام الدولي، مجلة السياسة الدولية، تاريخ الزيارة 10 يناير 2017.

[14] كارن أبو الخير، الحقائق الاستراتيجية الجديدة في النظام الدولي، مجلة السياسة الدولية، تاريخ الزيارة 10 يناير 2017.

[15] عبد الحافظ الصاوي، مآلات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 29 يونيو 2016، الرابط، تاريخ الزيارة 29 يناير 2017.

[16]من بين ملامح صعود الأحزاب القومية في أوروبا في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة التي تمت في عدد من دول الاتحاد مثل السويد، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والنمسا، وهولندا، وسويسرا، والدنمارك: ففي النمسا: تصدر نوربرت هوفر، مرشح حزب الحرية اليميني، الجولة الأولي للانتخابات الرئاسية في أبريل 2016 بحصوله على 36.4 من الأصوات. وبالرغم من أنه خسر في جولة الإعادة التي جرت في مايو 2016 أمام مرشح حزب الخضر فان دير بيلين، فإن خسارته كانت بفارق ضئيل لم يتجاوز بضعة آلاف من الأصوات. وفي ألمانيا: برز حزب “البديل من أجل ألمانيا” مع الانتخابات الإقليمية، مارس 2016، ضمن ثلاث ولايات، وأسفرت عن فوز الحزب بنحو 12.5% من الأصوات في ولاية “راينلاند بالاتينات”، و15% في “بادن فورتمبيرج”، و24% في ولاية “سكسونيا أنهالت”. وفي فرنسا: أحكم حزب “الجبهة الوطنية” سيطرته على 11 مجلسا محليا في الانتخابات المحلية، كما يشغل مقعدين في مجلس الشوري الفرنسي، وحصل على 25% من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2016، كما حصل على 27% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، ديسمبر 2015. وفي الدنمارك: تقدم “حزب الشعب” قائمة الأحزاب السياسية في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2016، والسويد: حصل “الحزب الديمقراطي” على 13% من الأصوات في الانتخابات التي أجريت في سبتمبر 2014. أنظر: باسم راشد، هل تُهدد التيارات القومية المتطرفة النموذج الأوروبي؟، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عدد 206، أكتوبر 2016.

[17] في 2015، بلغ معدل البطالة في فرنسا 10.4، وإيطاليا 11.6، وإسبانيا 22.1، واليونان 24.9، والبرتغال 12.6%.

[18] أعلنت المنظمة الأوروبية لمراقبة الحدود فرونتكس، التابعة للاتحاد الأوروبي، أن عدد المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا ارتفع من نحو 100 ألف مهاجر غير شرعي خلال عام 2013 إلى قرابة 274 ألفا في عام 2014، كما زاد ذلك الرقم بنسبة 250 خلال شهري يناير وفبراير 2015، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2014. كما أنه منذ بداية عام 2016، وصل ما يقرب من 136 ألف مهاجر غير شرعي إلى أوروبا عن طريق البحر فقط.

[19] باسم راشد، هل تُهدد التيارات القومية المتطرفة النموذج الأوروبي؟، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عدد 206، أكتوبر 2016.

[20] باسم راشد، هل تُهدد التيارات القومية المتطرفة النموذج الأوروبي؟، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عدد 206، أكتوبر 2016.

[21] THE NEW YORK TIMES, “Europe’s Rising Far Right: A Guide to the Most Prominent Parties”, THE NEW YORK TIMES, UPDATED December 4, 2016|, available at: https://goo.gl/fLrq1C

[22] Leonid Ragozin, “Putin’s Hand Grows Stronger as Right-Wing Parties Advance in Europe”, Bloomberg, March 15, 2016. LINK.

[23] Susi Dennison & Dina Pardijs, “The world according to Europe’s insurgent parties: Putin, migration and people power”, European council on foreign relations, June 23. 2016. link

[24] مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، بيروت، تقدير استراتيجي 94، كانون الأول/ ديسمبر 2016

[25] في هذا السياق يرى البعض أن دفاع روسيا عن نظام الأسد لا يستند إلى تخوفها من تداعيات تغييره أو إسقاطه فقط، بل من مخاطر الفوضى التي سوف تنتشر في المرحلة التي ستلي سقوطه، وخاصة في ظل اللامركزية في إدارة الحدود وتعدد الفواعل المسلحة العنيفة من غير الدول، والتي صارت أقرب إلى الجيوش الموازية كبيرة العدد والمتمركزة في مناطق استراتيجية. أنظر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، الصعود السياسي للدور الروسي في صراعات الإقليم، 26 ديسمبر 2016.

[26] مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، بيروت، تقدير استراتيجي 94، كانون الأول/ ديسمبر 2016

[27] مركز الجزيرة للدراسات، روسيا والغرب: نذر حرب باردة ومخاضات تعددية قطبية”، تقدير موقف، 13 نوفمبر 2016، تاريخ الزيارة 12 يناير 2017

[28] بوتين يقر الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الروسي، موقع روسيا اليوم، 31 ديسمبر 2015. الرابط

[29] مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، بيروت، تقدير استراتيجي 94، كانون الأول/ ديسمبر 2016

[30] ريتشارد سوكولسكي، بيري كاماك، “هدّئوا من روعكم: الروايات عن صعود روسيا في الشرق الأوسط مبالَغ فيها”، مركز كارنيجي الشرق الأوسط، 3 يناير 2017، الرابط، تاريخ الزيارة 24 يناير 2017.

[31] كارن أبو الخير، الحقائق الاستراتيجية الجديدة في النظام الدولي، مجلة السياسة الدولية، تاريخ الزيارة 10 يناير 2017

[32] سجاد نشمي، صعود الصين وقلق الولايات المتحدة، مركز البيان للدراسات والتخطيط، 17 ديسمبر 2016.

[33] Henry A. Kissinger, “Power Shifts”, op cit

[34] التوقعات العالمية لعام 2016، المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS ديسمبر 2015.

Craig Cohen and Melissa G. Dalton eds., Global Forecast 2016 Washington: Centre for Strategic and International Studies, December 2015.

[35] المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي، صراع القطبية العالمية والنزوع الإمبراطوري الأمريكي، الرابط

[36] مركز الجزيرة للدراسات، “روسيا والغرب: نذر حرب باردة ومخاضات تعددية قطبية”، تقدير موقف، 13 نوفمبر 2016، تاريخ الزيارة 12 يناير 2017

[37] المصدر السابق.

[38] المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي، صراع القطبية العالمية والنزوع الإمبراطوري الأمريكي، الرابط

[39] د. نادية سعد الدين، اقترابات القوي الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يناير 2016.

[40] G. John Ikenberry, “The Future of the Liberal World Order, Internationalism after America”, Foreign Affairs, May/June 2011

[41] The Military Balance 2011, Executive Summary, the International Institute for Strategic Studies, visit 26-1-2017

[42] Niall Ferguson, “The West and the Rest: The Changing Global Balance of Power in Historical Perspective”, Transcript of lecture given at Chatham House, May 9, 2011.

[43] Henry A. Kissinger, “Power Shifts”, Survival: Global Politics Strategy, vol.52 no 6, December 2011, link

[44] د. عبد المنعم المشاط، تأثير الثورات العربية في العلاقات الإقليمية في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، مؤسسة الأهرام، يوليو 2012.

[45] مالك عوني، انتهاء الإمبراطورية القوة العسكرية واستراتيجيات بناء النفوذ الدولي، ملحق تحولات استراتيجية، التحديث العسكري: تطوير الأسلحة ومستقبل المكانة الدولية واتجاهات الصراع العالمي، مجلة السياسة الدولية، العدد 202، أكتوبر 2015.

[46] See:

– Mohammad Selim, Regional Systems in Transition: The Middle Eastern and African Systems in Comparative Perspective, Journal Middle East and African Studies, Korea, 1993, pp. 18 – 48.

– Mohammad Selim, Changes in Middle Eastern politics after the Anglo-American occupation of Iraq: -Malaysian and Egyptian perspectives, in Had Metkees and Mansour Isa, eds. Towards and Egyptian-Malaysian Strategic Understanding in the 12st Century, Cairo: the Department of Malaysian Studies of Cairo University, 2005, pp. 147 – 160.

[47] ROBERT D. KAPLAN, The Ruins of Empire in the Middle East, Foreign Policy, MAY 25, 2015

[48] من بين النصوص التي تضمنتها تفاهمات سايكس بيكو:

ـ فرنسا وبريطانيا مستعدتان للاعتراف وحماية أية دولة عربية أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيس عربي في المنطقتين أ داخلية سورية وب داخلية العراق ويكون لفرنسا في المنطقة أ وبريطانيا في المنطقة ب حق الأولوية في المشروعات والفروض المحلية، وتنفرد كلّ منهما في المنطقة المخصصة لها بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.

ـ يكون لفرنسا في الساحل السوري، ولإنكلترا في المنطقة الساحلية في العراق من بغداد حتى خليج فارس إنشاء ما ترغبان فيه من شكل الحكم مباشرة أو بالواسطة أو من المراقبة بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.

ـ فلسطين: يعين شكلها بعد استشارة روسيا بالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة، مع تدويل الأماكن المقدسة في فلسطين، وتأمين حرية الحج إليها وتسهيل سائر السبل اللازمة للوصول إليها وحماية الحجاج من كلّ اعتداء.

ـ تعهدت بريطانيا بعدم دخول أية مفاوضات مع دولة أخرى للتنازل عن قبرص إلا بعد موافقة الحكومة الفرنسية، وخصصت إسكندرونة كميناء حر لتجارة بريطانية، في حين تكون حيفا ميناءً حراً لفرنسا ومستعمراتها وللبلاد الواقعة تحت حمايتها.

ـ يحق لبريطانيا أن تنشئ وتدير وتكون المالكة الوحيدة لخط حديدي يصل حيفا بالمنطقة ب، وتتبادل كلّ من فرنسا وبريطانيا حقوق كلّ منها في المنطقة المخصصة لها.

واتفاقية سايكس ـ بيكو هي الجزء الخاص التنفيذي لمعاهدة بطرسبرغ التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في مارس 1916، وقسمت فيها أملاك الإمبراطورية العثمانية، وكانت أهم مبادئ هذه المعاهدة:

ـ تمنح روسيا الولايات التركية الشمالية الشرقية، وتمنح بريطانيا وفرنسا الولايات العربية في الإمبراطورية موضوع مراسلات حسين ـ مكماهون. أنظر: د. منير الحمش، العرب في مواجهة مخاطر التقسيم، ورقة مقدمة إلى ورشة: العرب في مواجهة مخاطر التقسيم، دمشق، هيئة الأبحاث القومية، 27/9/2011.

[49] لماذا تنهار دول ما بعد الاستعمار العربية؟، الإيكونيميست، 14/10/2014. النص متاح على الرابط.

[50] من المفكرين الذين دعوا إلى تفتيت العالم العربي المؤرخ اليهودي الصهيوني برنارد لويس، الذي كان له تأثير مهم على مدرسة المحافظين الجدد، وعلى الرئيس جورج بوش الابن نفسه. وقد بنى الكاتب والضابط الأميركي المتقاعد رالف بيترز على دراسات لويس، ودعا إلى تقسيم الشرق الأوسط في مقاله “حدود الدم”، الذي نشره في مجلة الجيش الأميركي في يونيو 2006، حيث رأى بيترز أن أكثر الحدود جوراً وعشوائية هي تلك التي في أفريقيا والشرق الأوسط، التي رسمها المستعمرون الأوروبيون. وأن “تجاهل كل هذا الكم من الجور في الحدود، وعدم مراجعتها بصورة جوهرية سيؤدي إلى أن هذه المنطقة لن تنعم بحالة من الاستقرار والسلام”. وأضاف بصورة تحريضية “إننا نتعامل هنا مع تشوهات هائلة صنعها الإنسان بيده، وإنه إذا لم يكن ممكناً تعديل حدود الشرق الأوسط الكبير بحيث تعكس الروابط الطبيعية المستندة إلى الدم والعقيدة يقصد العرق والطائفة، فيجب أن نتقبل حقيقة تنص على أن جزءاً من الدم المسفوح في هذه المنطقة سيكون على حسابنا نحن الأميركيين”.

وقبيل نجاح الثورة في تونس كتب الخبير السياسي الأميركي باراج خانا في 13/1/2011 مقالاً في مجلة فورين بوليسي قال فيه إنه في غضون عقود قليلة قادمة، ليس مُستبعداً بتاتاً أن يصل عدد دول العالم إلى 300 دولة. ودعا إلى “أن تنفذ كل الانقسامات القادمة بالترافق مع تطبيق مزيج من سياسة المشرط والفأس، أي بالمرونة والقسوة معاً، وفوق كل ذلك يجب أن يدرك العالم أن هذه الانقسامات لا مفر منها”. وفي مقال آخر كتبه خانا نفسه بالاشتراك مع فرانك جاكوبس ونشر في صحيفة نيويورك تايمز في 22/9/2012 اقترحا تقسيم سوريا إلى أربع دويلات واحدة علوية وثانية درزية وثالثة سنية مركزها دمشق ورابعة سنية مركزها حلب، ودولة كردية شمالي العراق.

[51] محمد سليمان الزواوي، معركة الأفكار في ساحة التقسيم الإقليمية، أخبار العالم، 24/10/2014، النص متاح على الرابط التالي: http://www.akhbaralaalam.net/?aType=haber&ArticleID=84419

[52] د. عبد الفتاح ماضي، مصير النظام الإقليمي العربي، الجزيرة نت، الأحد 26/7/2015.

[53] د. دلال محمود، مسـتقبل الترتيبات الأمنية في الشرق الأوسط، السياسة الدولية، يناير 2016.

[54] يزيد صايغ، الحروب العربية الجديدة، الحياة، لندن، 19 سبتمبر 2014.

[55] ستيفن كوك، جاكوب ستوكس، ألكسندر بروك، الحرب العربية الباردة الجديدة، فورين بوليسي، ترجمة علاء البشبيشي، موقع شؤون الخليج، 29/9/2014.

[56] دلاور علاء الدين، الصمود في خضم عملية الانتقال في الشرق الأوسط، معهد واشنطن، الرابط

[57] Henry A. Kissinger, “Power Shifts”, op cit

[58] دومينيك مويسي، ترميم النظام العالمي، بروجيكت سانديكيت، 29 يونيو 2015، تاريخ الزيارة 21 يناير 2017.

[59] التقرير النهائي لفريق استراتيجية الشرق الأوسط للولايات المتحدة، المجلس الأطلسي، نوفمبر 2016.

[60] كينث بولاك، المواجهة أو الهروب ـ الخيارات الأمريكية في الشرق الأوسط، مركز بروكينجز، ترجمة: نور حسين الرشدي، 16 شباط/فبراير 2016.

[61] التوقعات العالمية لعام 2016، المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS ديسمبر 2015.

Craig Cohen and Melissa G. Dalton eds., Global Forecast 2016 Washington: Centre for Strategic and International Studies, December 2015.

[62] بزنس إنسايدر، توقعات مثيرة عن شكل العالم بعد عقد من الآن، الخميس 18 يونيو 2015، الرابط.

[63] علي زياد عبد الله، الاستراتيجية الأميركية والنظام الدولي، العراق، جامعة النهرين، كلية العلوم السياسية الرابط، 26 مايو 2016.

[64] محمد محمود السيد، التوجهات الأمريكية المحتملة تجاه الشرق الأوسط في عهد ترامب، ۸ ديسمبر ۲۰۱٦. الرابط.

[65] بزنس إنسايدر، توقعات مثيرة عن شكل العالم بعد عقد من الآن، الخميس 18 يونيو 2015، الرابط.

[66] باسم راشد، هل تُهدد التيارات القومية المتطرفة النموذج الأوروبي؟، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عدد 206، أكتوبر 2016.

[67] بزنس إنسايدر، توقعات مثيرة عن شكل العالم بعد عقد من الآن، الخميس 18 يونيو 2015، الرابط.

[68] مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، بيروت، تقدير استراتيجي 94، كانون الأول/ ديسمبر 2016

[69] سلامة كيلة، أزمة المنظور الروسي في سورية، العربي الجديد، 25 ديسمبر 2016

[70] أنِّه ألمِلينيغ، عرض كتاب فولكر بيرتيس: “نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه”، برلين، دار سور كامب للنشر 2015، ترجمة: يوسف حجازي، موقع قنطرة 2015.

[71] عمرو صلاح، هل تصلح المصالحة الصامتة لتجميد نزاعات الشرق الأوسط؟، مركز المستقبل، 25 ديسمبر 2016.

[72] عمرو صلاح، هل تصلح المصالحة الصامتة لتجميد نزاعات الشرق الأوسط؟، مركز المستقبل، 25 ديسمبر 2016.

[73] مالك عوني، هل يعزز الأمن الإقليمي انتقالاً عسيراً إلى التعددية القطبية؟، ملحق تحولات استراتيجية، مجلة السياسة الدولية، عدد 205، يوليو 2016.

[74] د. عبد الفتاح ماضي، مصير النظام الإقليمي العربي، الجزيرة نت، الأحد 26/7/2015.

 

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%ac%d8%a7%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d8%af%d8%af%d8%a7%d8%aa-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M