تأثير سمات الشخصية: السياسة الخارجية للرئيس ماكرون

د. توفيق أكليمندوس

تناول التحليل السابق تأثير السمات النفسية والشخصية للرئيس ماكرون ومشواره الفكري وأسلوب عمله على السياسة الخارجية الفرنسية، فتأثير الرئيس ومدركاته دائماً قوي في فرنسا، وازداد قوة في عصر الرئيس الحالي لميله إلى تركيز كل السلطات في يديه، وإلى انفراده باتخاذ القرار، وإلى التشكك في مقولات وعقائد البيروقراطيات المعنية، ورغبته الجامحة في الاستماع إلى آراء غير آرائهم. قال أحد مستشاريه للصحفية إيزابيل لاسير إن الرئيس يستمع إلى كل الآراء وإلى كل محاوريه ما عدا آراء مستشاريه. ولا شك في أن هذا التصريح يبالغ بشدة، ولكنه يشير إلى عدم موافقة حارسي الدولة وذاكرتها وأسرارها على بعض توجهات الرئيس. ومن نتائج هذا الوضع أن مهارات الوزارات ومخزونها المعرفي الهائل وإلمامها بالشئون الاستراتيجية وبدقائق السياسة العالمية غير مستغلة حالياً. ومن المعروف أن الرئيس قرر تغيير القواعد المنظمة لعضوية السلك الدبلوماسي وأسلوب عمله واحتكاره لعدد كبير من المناصب، مما يعرض المخزون المعرفي المذكور للخطر.

يرى الرئيس ماكرون أن فرنسا هي الوسيط المثالي، وإن لم تدرك هذا. فمن ناحية هي أهم قوة عسكرية في الاتحاد الأوروبي، وتمتلك الرادع النووي، ومقعدًا دائمًا، وحق الفيتو في مجلس الأمن، وشبكة اتصالات واسعة، وقدرًا من الاستقلالية. ومن ناحية أخرى، حجمها ليس مخيفًا إن قورن بغيرها، ويرى الرئيس أن نشاطه في الوساطة لا يكلف فرنسا الكثير، وأنه قد يجلب أرباحًا كبيرة وتواجدًا قويًا في الإعلام، وأن كلفة الإخفاق ليست مرتفعة، قليل من التهكم في وسائل الإعلام. لسنا متأكدين من صحة تشخيص الرئيس، لأن كثرة التوسط معناه كثرة الانشغال بالقضايا الدولية مما يعرضه لتهمة تُلازمه وهي عدم الاهتمام بمشاكل الشعب الفرنسي والبحث الدائم عن دور شخصي. ومن ناحية أخرى فإن محاولاته للتوسط بين حلفائه ودول عدوة مثل إيران تزرع الشكوك في نفوس قادة كل الدول المعنية.

كما ذُكر في التحليل الماضي فإن الرئيس ماكرون ليس من أنصار الفكر ما بعد الحداثي، فهو يؤمن بفرنسا وبدور حضاري عالمي رائد لها لخيرها وخير البشرية، ويؤمن بأن فرنسا ثرية بمواهبها وبمهارات أبنائها وبتراثها ولكنه يرى أن فرنسا بحجمها الحالي وتنظيمها الداخلي الحالي لا تستطيع لعب هذا الدور، ولا حتى المنافسة على الصدارة، فالعصر عصر الدول العملاقة، ولذلك على فرنسا إن رغبت في الاحتفاظ بمكانتها العمل على إنجاح مشروع الاتحاد الأوروبي، وتعميق جذوره، والتحدث باسمه، وهذا يقتضي أولًا وثانيًا تقوية وتعميق الروابط مع ألمانيا، ومن المعروف أن مستشاره الدبلوماسي الأول، السيد فيليب إتيين، من أصدقاء ألمانيا في فرنسا، شأنه شأن وزير ماليته وغيرهم.

والرئيس الفرنسي من الفريق المتشكك في نوايا وأساليب عمل الولايات المتحدة، ويعرف أن أوروبا لم تعد الأولى على قائمة أولويات واشنطن، التي تفضل تخصيص جهدها وقواها لمواجهة الصين، وهذا التوجه تهديد وفرصة في آن واحد، فهو يفرض بناء قوة عسكرية أوروبية وقاعدة تصنيعية، تضمنان الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي والتوصل إلى تفاهمات مع روسيا، لاتقاء شرها على أقل الفروض، ولإقناعها بأن مكانها في أوروبا وبأن حضارتها حضارة أوروبية على أحسنها.

منطق هذا الكلام قوي وشديد التماسك، ولكنه يتجاهل بعض الحقائق المحورية، أو على الأقل يبالغ في قدرة فرنسا والرئيس ماكرون على تغييرها، ولذلك من السهل انتقاد حصاد خمس سنوات رئاسة.

أولًا كان واضحًا منذ أول دقيقة أن الرئيس يتصور أن ذكاءه وحديثه وتصريحاته وحقائق الاقتصاد والخوف من الصين ستدفع الرئيس بوتين إلى مراجعة موقفه والتوصل إلى تفاهمات مفيدة لكل الأطراف، ولم يدرك ولم يستمع إلى من كان يدرك أن ذاكرة الزعيم الروسي جريحة، وأنه يرى أن الغرب أهان بلاده إهانات لا تغتفر وتمنع فتح صفحة جديدة، وأن تصورات روسيا عن ضرورة خضوع الدول الجارة لها لتوجهاتها منفرة لكل الجمهوريات السوفيتية السابقة ولدول أوروبا الشرقية، وأن أحلام روسيا الإمبراطورية مرعبة لها. وأدى تجاهل الرئيس ماكرون لمواقف ومخاوف أوروبا الشرقية إلى رفض هذه الدول الصريح أو المستتر لمفهوم الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي الذي تُروج له فرنسا، والذي بدا موجهًا ضد واشنطن أكثر منه سلاحًا ضد موسكو. وزاد من الطين بلة تصريحات الرئيس المنتقدة لحكام بولندا والمجر وإيطاليا وغيرهم، وهناك من يرى أنه أخطأ أساسًا في خطوات المقاربة مما حتم فشله، تصرف منفردًا بدلًا من محاولة بناء توافق بين بعض الدول الأوروبية على الحوار مع روسيا مما أفقد مبادراته وخطواته جزءًا كبيرًا من وزنها.

يقتضي التقدم في هذا المشروع الضخم تفاهمًا وتنسيقًا دقيقًا مع ألمانيا، ومع المستشارة ميركل، ورغم تقارب موقف الدولتين من موسكو، فإن الخلافات في المدركات والتصورات والمشروعات السياسية وأساليب العمل والأولويات كانت عميقة. فرنسا ترى أن قيادة أوروبا مسئولية ألمانية فرنسية مشتركة، بينما ألمانيا ترى أنها تقود أوروبا منفردة وأنها الاقتصاد الأخطبوط الذي يتحكم في القارة، وأن عليها الموازنة بين علاقاتها مع باريس وعلاقاتها مع وارسو وباقي عواصم دول أوروبا الشرقية. ألمانيا ماليتها منضبطة وفرنسا دولة مسرفة بل مبذرة، فرنسا لديها جيش وثقافة استراتيجية رفيعة المستوى. ألمانيا مرعوبة من امتلاك أي أداة من أدوات القوة الخشنة ولا ترى ضرورتها، فهي “محاطة بأصدقاء” وتعتمد على الضمانة الأمريكية، وطبعًا لن يستبدل عاقل الضمانة الأمريكية بالضمانة الفرنسية، لديها استراتيجية تجارية وليست لها استراتيجية دفاعية أو أمنية. فرنسا دولة شديدة المركزية، لرئيسها سلطات ضخمة، وأجرى الرئيس ماكرون إصلاحات تسمح بتسريع عملية اتخاذ القرار وتسريع تنفيذه. ألمانيا دولة لا مركزية والسلطات موزعة بين الحكومة المركزية والمحافظات، وبين السلطتين التنفيذية والتشريعية، اتخاذ قرارات التدخل في الخارج يخضع لقواعد وتدابير صارمة وشديدة البطء. وإضافة إلى ذلك فإن الحكومة في ألمانيا ائتلافية ويحتاج أي قرار إلى اتفاق حزبين أو ثلاثة عليه. للدولة الفرنسية نصيب من أسهم الشركات الفرنسية الكبرى، الشركات الألمانية مملوكة لعائلات أو لأفراد، أسلوب الإدارة في الشركات الفرنسية والعلاقات مع النقابات مختلفة تمام الاختلاف عن الوضع في ألمانيا. يضاف إلى كل ما سبق اختلاف موقف الدولتين من تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، وخوف برلين من قوة الجاليتين التركية والكردية في ألمانيا، وهناك الاختلاف الكبير بين شخصيتي الرئيس ماكرون والمستشارة ميركل. هي تجيد إدارة الأزمات وهو تفكيره استراتيجي، هي متحفظة وهو كثير الكلام، هي تؤمن بالحلول الوسطى وهو يحاول دائمًا إقناع محاوره بصحة وجهة نظره، هي متخصصة في العلوم الطبيعية وهو دارس فلسفة وعلوم سياسية واجتماعية، هي صبورة وهو مندفع.. إلخ.

الرئيس ماكرون كان وما يزال مدركًا لأهمية العلاقات مع ألمانيا، والمستشارة الألمانية -وهي عانت من كل رؤساء فرنسا الذين تعاملت معهم- كانت حسنة الظن به، وجدت فيه شابًا قويًا مخلصًا في رغبته في إصلاح مالية واقتصاد فرنسا وفي العمل معها، وكان التعامل مع الرئيس ترامب قد أقنعها بوجاهة رأي فرنسا في خطر الاعتماد على الولايات المتحدة، وبعد ما يناهز الخمس سنوات من العمل المشترك يمكن القول إن الرئيس الفرنسي أقنعها بضرورة دعم اقتصادات جنوب أوروبا وبقبول مبدأ وجود عجز في الميزانية ومبدأ استدانة جماعية في مواجهة جائحة كوفيد. ولكن العلاقات بين الدولتين تعرضت لأزمات وهزات تنسب كلها إلى أسلوب عمل الرئيس الفرنسي، وميله إلى مفاجأة نظرائه بإعلانات منفردة دون مراعاة ظروفهم. في سبتمبر ٢٠١٧، ألقى الرئيس ماكرون خطابًا حدد فيه تصوراته عن الاتحاد، في توقيت غير موفق، يومين بعد الانتخابات التشريعية الألمانية، رأت المستشارة فيه تدخلًا في الشئون الداخلية الألمانية وفي مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية ودعمًا لمواقف الأحزاب الأخرى، ولم تسامحه على هذا ولم ترد على مقترحاته وتركت هذا لكوادر ثانوية من حزبها، وغيرت مقاربتها للعلاقات مع فرنسا وبدأت تعرقل مبادرات ماكرون سواء بالاعتراض عليها أو تجاهلها، ولا تستجيب لطلباته إلا ببطء شديد وبقدر محدود، وتتعمد إثارة غضب باريس بمطالبتها بالتنازل عن مقعدها الدائم في مجلس الأمن لصالح الاتحاد الأوروبي، ولعبت الاضطرابات الداخلية الفرنسية دورًا في تقليل حماس المستشارة.

أزمة أخرى تفجرت في نوفمبر ٢٠١٩ عندما فاجأ الرئيس ماكرون حلفاءه بتصريحه عن الموت السريري للناتو. هذا التصريح كان احتجاجًا على ميل الولايات المتحدة إلى التساهل مع الرئيس التركي وسياسته العدوانية سواء في ليبيا أم تجاه قبرص واليونان ودول شرق المتوسط. وكما قلنا فإن ألمانيا تميل إلى مهادنة الرئيس التركي خشية قدرته على خلق اضطرابات داخلية على أراضيها، وأيامها كانت المستشارة تحاول تهدئة اللعب مع واشنطن وتوثيق التحالف معها، ورأت المستشارة (وغيرها من قادة أوروبا) في تصريح ماكرون محاولة فرنسية جديدة لتوسيع الهوة بين أوروبا وأمريكا لتحقيق استقلال أوروبي في مواجهة الأمريكيين. وبعبارة أخرى، دفع تدهور الأمن الدولي الدول الأوروبية إلى محاولة تعميق العلاقة مع واشنطن، في حين أن فرنسا رأت في هذا التدهور وفي ميل واشنطن إلى مهادنة الرئيس التركي سببين للإسراع في تحقيق استقلال استراتيجي أوروبي.

تشير التقديرات إلى أن الرئيس ماكرون محق في سعيه إلى تحقيق استقلال استراتيجي أوروبي وتقوية دفاعاتها، فوضع أوروبا العسكري مزرٍ، وندرك صعوبة الأمر، فمصالح دول أوروبا متباينة ومتعارضة، ولكن الرئيس لم يفلح في إقناع نظرائه بأن هذا الاستقلال يساهم في تقوية الحلف الأطلسي بتقليل التزامات الولايات المتحدة في أوروبا وجعلها لا تعرقل مجهود أمريكا في آسيا. وعلى العكس صور الأمر مرات وكأنه موجه ضد واشنطن وهيمنتها على القارة، ولم ينجح في إقناع دول أوروبا الشرقية بأنه يفهم ويراعي مصالحها ومخاوفها من روسيا، وهي مخاوف أثبتت الأحداث أنها مشروعة. في تقديري (وتقدير الكثيرين في الدولة الفرنسية) لم يكن من الممكن الجمع بين خطاب مهادن لروسيا ولم الشمل الأوروبي وتبني خطاب مناوئ لواشنطن.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19327/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M