حسابات الحرب .. بين الأهداف الروسية والتقديرات الغربية

بعد مرور شهر كامل من العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية، وفي ظل تضارب المسميات والتأويلات، حيث تطلق عليها موسكو “عملية خاصة” بينما يسميها الغرب “غزو”، بينما تعتبرها كييف تدمير ممنهج لمكونات ومقدرات الدولة الأوكرانية التي نشأت بعد تفكك الاتحاد السوفييت، قد يكون من المفيد التفتيش قليلا في المعطيات التأسيسية لهذا المشهد، علها تكون قادرة على استجلاء ما يمكن الذهاب إليه بعد تلك الفترة، التي لم تزد الأمر إلا غموضا، حول ما يمكن أن تؤول إليه هذه العملية العسكرية، بكل ما يجري فيها وحولها.

قراءات منقوصة: مرحلة ما قبل الحرب

في الفترة التي سبقت تحرك الآليات العسكرية الروسية، بدأت تقارير الاستخبارات الأمريكية تضع تقديراتها لما تراه أمامها من تفاعلات، حيث ظهر فيها أن الرئيس فلاديمير بوتين يحشد قوة عسكرية كبيرة، على حدود أوكرانيا وبالقرب منها بما يكفي لشن غزو واسع النطاق. وهناك تأكيد بأن وكالات الاستخبارات الغربية تمكنت من اعتراض، بعض من الخطط العسكرية الروسية في تاريخ قريب من بداية شهر فبراير، أي قبل العملية العسكرية بنحو 20 يوم تقريبا. المهم أن هذه المعلومات الاعتراضية، جاءت مصحوبة بتحليل موجز مفاده، أن الأنشطة العسكرية الروسية الواضحة وهذه الخطط تدعم الاستعدادات لغزو يبدو واضحا أن بوتين سيقدم عليه، إذا لم تتم تلبية مطالبه. واعتبرت الأجهزة الأمريكية التي قامت بالتحليل أن غزوا روسيا واسع النطاق لأوكرانيا، من شأنه أن يمثل تحولا جوهريا في النهج الذي اتخذته على مدى عقدين من الزمن، لتعزيز مصالحها والرد على التهديدات. وفيما لم تستبعد حدوث مثل هذا التحول، أوصت بأن على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وأوكرانيا، النظر بجدية في مخاطر الغزو الروسي، وإعداد التدابير العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية لردع هذا التهديد والرد عليه.

لكن كعادة مثل تلك التقارير الاستخباراتية، دائما ما تضع كافة الاحتمالات أمام صناع القرار السياسي حتى وإن جاءت نسبة ترجيحها منخفضة عن غيرها. لذلك وضعت فرضية مناقضة باعتبار أن بوتين ربما لا ينوي الغزو على الاطلاق، وأنه في هذه الحاله يقوم بتوجيه خداع استراتيجي خاطئ للغرب، كي يوقعه في دورة تخطيط عسكري تجعله غير مستعد لمواجهة خطوته التالية. وبحسب شبه المعلن من أهداف روسيا المتمثلة في تغيير التوجه الجيوسياسي لأوكرانيا من الغرب إلى الشرق، فضلا عن إضعاف الناتو، اعتبر هذا التقدير أن بوتين سيظل حريصا على تركيز الانتباه لمخاطر الحرب، مما سيدفع الولايات المتحدة تلقائيا إلى تقديم حلول لنزع فتيل الأزمة التي اخترعها ويملك وحده وقف تصعيدها. وفي حال استقر اليقين بأن تهديد بوتين بالعمل العسكري هو للتضليل، ستكون التنازلات الغربية حينها مغذيا بشكل مباشر لجهوده غير العسكرية لتحقيق أهدافه. ولهذا جاءت المحادثة الهاتفية التي جرت في الثاني عشر من فبراير بين الرئيسين بوتين وبايدن، تحمل تهديدا من الأخير بردود فعل اقتصادية قاسية للغاية حيال الغزو الروسي المحتمل، في الوقت الذي استبعد أيضا العمليات العسكرية الأمريكية الأحادية للدفاع عن أوكرانيا. حينها اعتبر الرئيس الأمريكي أن عملية خفض التصعيد الدبلوماسي، قد تفهم على أنها تقديم مزيدا من التنازلات لروسيا كجزء من الجهد الغربي لتجنب الحرب، ولذلك رفض أيضا التجاوب أو الاعتراف بالضمانات والمطالب الأمنية المحددة التي قدمها بوتين.

هناك تقرير استخباراتي آخر؛ ربما جرى التكليف فيه بمهمة استقراء مدى جدية بوتين في الاستعداد للغزو، ولذلك خرج على هذا النحو الذي يسير في اتجاه واحد، وإن استمد من معطيات عدة كانت حاضرة بواقعية تدفع لتحريره على هذه الشاكلة. بداية اعتبر أن على الرغم من الإجراءات العسكرية الحاشدة التي اتخذتها روسيا للاستعداد لهذا الغزو، هناك ادراك لدى بوتين والمسؤولون الروس الآخرون بالضعف الاقتصادي لروسيا، وآثاره التي ستلقي بظلالها سريعا على العمليات العسكرية. ففي الوقت الذي طورت فيه موسكو نموذج “الحرب الهجين”، الذي استخدمته طوال فترة ولاية بوتين في كثير من مسارح العمليات لتعويض هذا الضعف، سيأتي غزو أوكرانيا ـ في حال حدوثه ـ متجاهلا لهذا النموذج، بل سيدفع روسيا نحو الاعتماد على المزيد من القوة العسكرية التقليدية، والاستراتيجيات العملياتية الأكثر تقليدية التي لا يستطيع اقتصادها تحمله. باعتبار تلك الاستراتيجيات ستحمل المشهد للتمدد الزمني تلقائيا، بطبيعة أهداف السيطرة الشاملة على كامل مساحة دولة بحجم أوكرانيا، والآليات الافتراضية لتحقيق هذه الأهداف.

استعاد التقرير نموذج الحرب السوفيتية على أفغانستان عام 1979، وأسقط تداعياتها التي قد تتمثل في اضطرابات وملامح عدم استقرار مشابهة، لما قامت به أسر الجنود والضحايا الذين قتلوا حينها، واعتبرت محركا لسلسلة الأحداث التي أدت لانهيار الاتحاد السوفيتي. ولهذا ذكر التقرير أنه حتى تاريخ تحريره في موعد قريب من تاريخ 24 فبراير، بتتبع وفحص العمليات الإعلامية الروسية الموجهة لسكان روسيا، فضلا عن الشعب الأوكراني، تأكد أن الرئيس بوتين لم يهيئ بعد الظروف اللازمة للغزو، معتبرا أن الرسالة الرسمية الروسية ظلت تركز على انكار نية الحرب والاصرار على أن الحرب ليست وشيكة بأي حال، ووضعت اشارة أنه في حال تغيرت تلك الرسالة وتبدلت إلى اللهجة الخطابية التي تجهز الشعب للحرب، سيكون بمثابة المؤشر الحاسم على أن روسيا بالفعل تستعد للغزو. ويبقى في النهاية تصور حجم التعاون والاستعانة الاستخباراتية ما بين كييف وأكثر من نظير غربي، يتصور أنهم تواجدوا على الأرض بداخل أوكرانيا، للقيام بقراءة عن كثب لبيئة المعلومات في أوكرانيا، وتقييم مثاليتها لروسيا للقيام بهذا العمل العسكري الشامل أو الجزئي، وقد ظل هذا العمل للحظات أخيرة قبيل انفجار العمليات، يعتبر أن روسيا وعملائها في أوكرانيا لا يبدو يهيئون الظروف لخلق تلك البيئة المثلى، التي تعد أمرا ضروريا تتطلبه العقيدة العسكرية الروسية المعلوم قدر التزامها تاريخيا، بالإعداد الدقيق لمساحة توافر تلك المعلومات والامساك بخيوطها وتدفقاتها.

روسيا ومعضلة الوقت لدى صانع القرار 

لقد وجد صناع القرار  أنفسهم أمام تصاعد لهيب الأحداث على غير توقعاتهم، هذا ما بدا من تقييمهم الذي تم تناوله فيما سبق، في هذا الجزء يتضح جليا أن هناك قدر أعمق من التحليلات بدأت تتشكل ملامحها، خاصة فيما بدا من خطوات روسية تستعد لدخول ساحة العمليات العسكرية، في صورة أقرب لما هددت به بطريقة غير مباشرة، رغم نفيها المتكرر في تلك المرحلة نيتها اللجوء للخيار العسكري من أجل تحقيق مطالبها المعلنة.

انحازت التقديرات الاستخباراتية الغربية، إلى فرضية استبعاد اقدام الرئيس الروسي على القيام بغزو معظم الأراضي الأوكرانية غير المحتلة، رغم أن تقارير المعلومات الواردة إليها أفصحت عن حجم الحشود العسكرية الكبيرة التي وضعها فلاديمير بوتين بالقرب من الحدود الأوكرانية، لكنها في ذات الوقت استقبلتها وتعاملت معها على محمل الجد، ولم تستبعد كليا احتمال أن يأمر بوتين جيشه بتنفيذ الغزو. تفاصيل الانحياز المشار إليه ذهب إلى أن إلقاء نظرة فاحصة على ما سيترتب على مثل هذا الغزو، المقدم في التقارير المعلوماتية، والمخاطر والتكاليف التي سيتعين على بوتين قبولها، يقودنا إلى توقع أنه من غير المرجح أن يشن غزوا لأوكرانيا غير المحتلة هذا الشتاء. لذلك فمن المرجح أن يرسل بوتين القوات الروسية إلى بيلاروسيا، وربما بشكل علني إلى إقليم “دونباس” الذي تحتله روسيا جزئيا من قبل. وفي حال أراد أن يقوم بتطوير ذا بال؛ قد يشن توغلا محدودا في جنوب شرق أوكرانيا غير المحتل، والذي لا يرقى إلى مستوى غزو واسع النطاق.

ورقة تحليلية جرى تقديمها، لتدعيم الانحياز لهذه الفرضية، مفادها أن الغزو الروسي الشامل لأراضي أوكرانيا “غير المحتلة”، سيعد بمثابة أكبر وأجرأ وأخطر عملية عسكرية شنتها موسكو منذ غزو أفغانستان عام 1979. وسيكون الأمر أكثر تعقيدا بكثير من الحروب الأمريكية ضد العراق في عام 1991 أو 2003، حيث سيمثل خروجا ملحوظا عن الأساليب التي اعتمد عليها بوتين منذ عام 2015، وتغيرا كبيرا في رغبته ونمط استخدامه للقوة العسكرية الروسية التقليدية علانية. مما سيكلف روسيا مبالغ طائلة من المال، ومن المحتمل أيضا أن تتكلف عدة آلاف من الضحايا والمركبات والطائرات المدمرة، حتى في حالة الانتصار. فإن مثل هذا الغزو سيفرض على الرئيس بوتين شروط باهظة تتعلق منطقيا بإعادة بناء أوكرانيا، ومن ثم تشكيل حكومة جديدة، فضلا وهو الأهم تصميم هياكل مستحدثة لقوات أمنية هناك أكثر ملاءمة للأهداف الروسية. لكل ما سبق من أسباب تمسك هذا التحليل بأن فلاديمير بوتين لا ينوي في الواقع؛ غزو أوكرانيا غير المحتلة في هذا الشتاء، على الرغم من استمرار تحشيد القوات الروسية استعدادا للقيام بذلك. ووضعت فرضيات أخرى قد تمثل مناورة روسية تضع حلف “الناتو” أمام تحدي حرج، له علاقة بتعزيزاته العسكرية التي يفترض إمداد دول البلطيق بها، في حال تمثلت المناورة في نقل مفاجئ للقوات الروسية إلى بيلاروسيا بغرض السيطرة على جانبي “ممر سوالكي” الضيق. فالممر يعد الطريق الحتمي الذي يجب أن تمر عبره إمدادات “الناتو”، التي يجب ألا تتأخر لاحداث التوازن على هذه الجبهة القادرة على تطويق العاصمة “كييف” من الجانب الغربي.

على جانب آخر كان هناك من حاول أن يفسر الاشارات العسكرية الروسية، ويضع لها الفرضيات التي قد تتواءم مع استبعاد الغزو الشامل، لكنها في الوقت ذاته يمكنها الاقتراب من بنك الأهداف الروسية التي ظلت معلنة حتى اللحظات الأخيرة. هذا السيناريو رجح أن يتألف الغزو الروسي واسع النطاق من مجموعة عمليات منفصلة، يمكن إجراء كلا منها بشكل مستقل عن الآخرين، لتحقيق أهداف محدودة بتكلفة ومخاطر أقل. ووضعت أبرز هذه العمليات بتتالي يبدأ من الأكثر إلى الأقل احتمالا، بداية من نشر الوحدات الروسية المحمولة جوا أو الآلية، في موقع واحد أو أكثر داخل بيلاروسيا، من شأنها أن تدعم هجوما مخططا على أوكرانيا، وتشكل في ذات الوقت تهديد آخر للدول الأعضاء في الناتو. الثانية تتلخص في امكانية نشر وحدات ميكانيكية ودبابات ومدفعية، ووحدات دعم خاصة روسية بشكل علني في دونباس المحتلة، وهذه العملية يرتبط بها ويعقبها مباشرة الخروج من إقليم الدونباس، لإنشاء جسر بري يربط شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا بالأراضي الروسية بالقرب من روستوف على طول ساحل “بحر آزوف” الشمالي. كذلك الاستيلاء على منطقة “خيرسون” شمال القرم، وتأمين “قناة دنيبر” التي تمثل أهمية استراتيجية لتثبيت السيطرة الروسية على كامل منطقة القرم. وتبقى العملية الأخيرة التي لا تبعد كثيرا عن تلك الدائرة الجغرافية، والتي قد تشهد إجراء عمليات إنزال برمائية وجوية، للاستيلاء على مدينة وميناء “أوديسا” الهامة، مصحوبة بالتمدد على الساحل الغربي الأوكراني المطل على البحر الأسود. وقد يجري بالتزامن مع هذا الاستهداف الساحلي؛ إطلاق حملة برية بالآليات للاستيلاء على مدينة “خاركيف” الإستراتيجية في شمال شرق أوكرانيا.

يلاحظ أن هذا السيناريو وإن كان قد وضع هذه الحزمة من العمليات بشكل متفرق، وأكد على استبعاد امكانية حدوثها مجتمعة، إلا أن التحرك الروسي الشامل الذي نقض هذا السيناريو فيما بعد لم يبتعد كثيرا عن تلك المسارح العملياتية، التي بدت فعليا هي الأقرب والأهم لبنك أهدافه التي يمكن في حال اتمامها، الحديث عن الانتصار الذي يراوغ القبضة الروسية حتى الآن بعد مضي 40 يوم من عمر الغزو، وهذه هي “معضلة الوقت” التي تواجه صانع القرار الروسي، مثلما تعد أداة ضاغطة على العسكريين الروس الذين صاروا في مواجهة اشكالية جغرافية، تعمق من وطأة كلفة المعضلة المرتبطة بالوقت والأيام التي تنفلت من آياديهم على نحو غير متوقع. فكما تخبطت التقارير والتقديرات الاستخباراتية الغربية التي سبقت عملية الغزو الشامل، لازالت الآلة العسكرية الروسية تضرب دون هوادة، بغير القدرة على صياغة النتائج لمشهد فارق.

حسابات متضاربة: مساعي روسية وتوقعات غربية

ظل التصور المسيطر على الرؤية الغربية لأسابيع مضت قبل بدء الغزو الشامل، متمحورا حول اكتفاء روسيا بدفع قواتها العسكرية إلى داخل إقليم “الدونباس” وحده، دون اللجوء إلى ما هو أبعد من ذلك. كون ذلك ينقل الأوضاع من حالة “السرية” التي تلف وجود جزء من تلك القوات هناك، إلى وضع الانتشار “العلني” الذي يعزز قدرة الانفصاليين بالقوة القتالية التي تمكنهم من النصر واتمام عملية الانفصال الكامل. جرى تفسير هذا الأمر باعتبار؛ أن هذا الانتشار العلني للقوات الروسية بالإقليم سيؤدي إلى ممارسة ضغط داخلي كبير على الرئيس زيلينسكي من اتجاهين، الأول مطالبة الأوكرانيون المناهضون لروسيا والجيش الأوكراني بالرد، ورفع درجة الاستعداد الجاد للدفاع ضد هجوم روسي محتمل، والثاني سيكون على الأرجح ضغط القادة الغربيين على زيلينسكي حتى لا يرد، لتجنب “تصعيد” الصراع أو تعقيد الجهود الدبلوماسية الجارية ـ حينها ـ لوقف تصعيده.

هذا التصور بتفسيراته، وبالضغوط المصاحبة له، واقعيا كان الأقرب لمسار العمل المفضل للرئيس الروسي بوتين، الذي بدا معنيا إلى حد كبير بتقويض سلطات الرئيس الأوكراني زيلينسكي، بل وكامل البيئة السياسية الأوكرانية الحالية قبل الوصول إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأوكرانية في 2023 و2024 على التوالي. فضلا عن ما هو متوافر لدى الغرب حول تفضيلات الرئيس بوتين العسكرية، التي تدفع باتجاه رغبته في انشاء جسر بري يربط “روستوف” بشبه جزيرة القرم، حيث يحل هذا الأمر مشكلة مزمنة تؤرق الروس لم تحل منذ ضم القرم. هذا الهدف يمنحه السيطرة على قناة دنيبر القرم التي توفر المياة العذبة لشبه الجزيرة، ويلحق في الوقت نفسه ضررا كبيرا بالاقتصاد الأوكراني، من خلال تعطيل طرق النقل الرئيسية القادمة من الشرق وصولا للساحل الغربي الأوكراني الذي يمثل رئته التجارية مع العالم. وربما تلك الترجيحات الاستباقية لدى الغرب، لم تكن بعيدة إلى حد كبير عن ما يمكن تسميته بـ”الأكثر جاذبية” الذي تكشف خلال أحداث الغزو الشامل، فقد فسره لاحقا حجم الجهد الهائل الذي تدفعه العسكرية الروسية باتجاه الاستيلاء على القناة والمنطقة المحيطة بها، ومن ثم مدينة “ماريوبول” الاستراتيجية الواقعة خارج حدود الدونباس جغرافيا.

المثير أن فلاديمير بوتين لم يدرك حجم ارتباك المعسكر الغربي؛ أثناء فترة مراقبته للحشود العسكرية الروسية التي سبقت عملية الغزو، ولم يزن وضعه التفاوضي حينها على النحو الصحيح. فالتقارير الغربية التي قدمت لصناع القرار ذهبت إلى تفسير الحشود الروسية، بأنها مرحلة من مراحل عديدة تستلزمها عملية الاجتياح الشامل، لكنها تبقى في درجة أهمية بالغة لأنها تكسب بوتين نفوذا هائلا مع الغرب، طالما ظل يلوح بأنه يقوم بتهيئة الظروف لحشد من أجل هجوم أسرع ضد أوكرانيا ومن ثم دول “الناتو” في المستقبل. وكلفت الأجهزة الغربية حينها؛ بتتبع وتحليل معلوماتي دقيق، لما يمكن تسميته الاشارات الروسية التي ستدل على استكمال اشتراطات حكم المناطق المزمع الاستيلاء عليها. فكل ما أمكن الوصول إليه حينئذ؛ أن فلاديمير بوتين يحاول إثارة الذعر لدى المعسكر الغربي، حتى يتنازل ويقبل بالإجراءات الروسية التي من شأنها الإضرار بالمصالح والأمن الغربيين بشدة. لكن وفق التقديرات هذه الشدة المشار إليها، لا تقارن بحجم التهديد الهائل الذي تمثله روسيا لأمن أوكرانيا وتماسكها.

لهذا ذيلت تلك التقديرات بتوصية تكررت أكثر من مرة، تمثلت في ضرورة تجنب القادة الغربيين الشعور بالانبهار من التهديد الروسي باستخدام القوة العسكرية، فيما يجري اقناع بوتين ـ عبر وسطاء ـ بتهدئة “الأزمة” التي أوجدها. وظلت معضلة الأزمة؛ أن الرئيس الروسي خلقها من أجل تحقيق هدفين رئيسيين،  أولا دفع جهوده وربما استكمالها لاستعادة السيطرة الفعالة على أوكرانيا نفسها، وثانيا تفتيت تحالف الناتو وتحييده. وطوال فترة اعتبار المعسكر الغربي أن مجمل هذه الأحداث لم تخرج عن نطاق “أزمة” عليه أن يواجهها، ظل أسيرا لمجموعة من التصورات التي ظلت أيضا خافية على ما يبدو عن تقديرات فريق بوتين، منها أن الحشد الروسي قادر على دعم غزو واسع لأوكرانيا من الشمال والشرق والجنوب، مما قد يمنح بوتين السيطرة المادية على العاصمة كييف والمدن الكبرى خلال أيام. وهذا سينقله بطبيعة الحال إلى مرحلة إملاء شروط تحقيق الهدف الأول، لكنه في نفس الوقت قد يقوض جهود روسيا في تحقيق الهدف الثاني. فالمنتظر حال تكامل سيناريو الأحداث على هذا النحو، أن يقوم حلف “الناتو” باجراءات للحشد المضاد من أجل مواجهة هذا التهديد، الذي يستلزم ردا باعتباره من أعمال العدوان.

لكافة هذه التقديرات السابقة؛ تبلورت التوقعات الغربية عشية انطلاق العملية العسكرية الشاملة، حول مجموعة أخيرة من المحاور الرئيسية. المحور الأول أن روسيا لن تقوم بغزو آلي كامل لأوكرانيا بأكملها هذا الشتاء، ووضع أمام هذا المحورتقدير (دون تغيير) أي لم يجر تغيير للمعطيات التي تبدل هذا الاحتمال. المحور الثاني أن القوات الروسية ستنتشر بشكل علني في اقليم “الدونباس” على نطاق واسع، خلال النصف الثاني من شهر فبراير، ووضع أمام هذا المحور تقدير (احتمالية متزايدة). المحور الثالث أن روسيا قد تشن حملة جوية وصاروخية بعيدة المدى، في جميع أنحاء أوكرانيا غير المحتلة، بالتزامن مع الانتشار العلني في “الدونباس”، وربما تفرض تطورات الأحداث بعض من التوغلات البرية المحدودة، شمالا وغربا من الدونباس أو شمالا من شبه جزيرة القرم، ووضع أمام هذا المحور تقدير (مسار العمل المحدد حديثا).

ولم يلبث المشهد سوى أيام، حتى انطلقت عملية الغزو الشامل، التي أطاحت بالعديد من هذه التقديرات وأكدت البعض منها جزئيا، وظل غياب الاطلاع الروسي عليها يمثل فجوة كبرى لدى أجهزة استخباراته، أو ربما علمها واستهان بما فيها، مثلما كانت الحالة تماما عند المحور الغربي، الذي لم يتصور طوال الوقت أن الأحداث ستجري على هذا القدر من التهور، لاسيما وروسيا تفقد من خلاله كافة الميزات التي ظلت تمتلكها حتى لحظة انفجار البداية الدراماتيكية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19223/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M