فورين أفيرز: نهاية الشرق الأوسط

عادل رفيق

 

نشرت مجلة فورين أفيرز في عدد – مارس / أبريل 2022 مقالاً كتبه مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، تحت عنوان: “نهاية الشرق الأوسط – كيف تشوه خريطة قديمة واقعاً جديداً”، تناول فيه التغييرات الهائلة التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، التي تجاوزت كثيراً الخريطة القديمة للمنطقة: جغرافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وأصبح هناك واقع جديد يتحتم على واشنطن أن “تقرأه” جيداً لتعرف كيف يمكن أن تتعامل معه. وقد جاء المقال على النحو التالي:

في أوائل ديسمبر 2021، تراجعت الحكومة الإثيوبية بشكل كبير في حربها الأهلية التي؛ كانت قد استمرت عاماً مع المتمردين في منطقة تيجراي. ثم ما لبثت أن تمكنت القوات الإثيوبية من صد هجوم شنته الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، المدعومة من مقاتلين صوماليين، والمدعومين بدورهم من قطر حسب بعض التقارير – وذلك بعد أن تم تسليح  القوات الإثيوبية بترسانة جديدة من الطائرات بدون طيار وأشكال أخرى من الدعم العسكري من إيران وتركيا والإمارات.

لقد فوجئ العديد من المراقبين الأمريكيين بالمشاركة المباشرة لما لا يقل عن أربع دول شرق أوسطية فيما كان يبدو أنه صراع أفريقي. لكن هذا الاهتمام ليس بالأمر المستغرب. ففي السنوات الأخيرة، أنشأت تركيا أكثر من 40 قنصلية في أفريقيا، بالإضافة إلى قاعدة عسكرية رئيسية في الصومال. وأعلنت إسرائيل كذلك  “العودة إلى أفريقيا”، جزئياً لإيجاد تحالفات جديدة في الوقت الذي تواجه فيه ضغوطاً دولية متزايدة بسبب احتلالها للضفة الغربية. واشترت المملكة العربية السعودية مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في إثيوبيا والسودان سعياً وراء الأمن الغذائي. وأنشأت الإمارات قواعد بحرية في جميع أنحاء القرن الأفريقي. وما لبثت أن دخلت مصر في صراع مع إثيوبيا بشأن خططها لبناء سد على منابع نهر النيل.

ولا تقتصر هذه التشابكات على أفريقيا. فقد اعتبرت عُمان نفسها تقليدياً دولة تتبع المحيط الهندي لذلك فهي تحافظ على علاقات اقتصادية قوية مع الهند وإيران وباكستان. ولطالما تدخلت المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى بعمق في شؤون أفغانستان وباكستان. بينما أصبحت تركيا منخرطة بشكل متزايد في آسيا الوسطى، بما في ذلك التدخل العسكري في أذربيجان. ثم قامت كل دول الخليج تقريباً مؤخراً بتعزيز شراكاتها مع الصين ودول آسيوية أخرى.

وسط هذه الارتباطات العابرة للأقاليم والتي اتسمت بالاستمرارية والتنامي، تظل السياسة الخارجية للولايات المتحدة مرتبطة بخريطة ذهنية أضيق بكثير لمنطقة الشرق الأوسط. فمنذ السنوات الأولى للحرب الباردة، نظرت المؤسسة في واشنطن إلى الشرق الأوسط على أنه العالم العربي – حيث يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية (باستثناء دول جزر القمر، المتباعدة جغرافياً، وموريتانيا، والصومال) – بالإضافة إلى إيران، وتركيا، وإسرائيل. هذه البارامترات تبدو طبيعية للكثيرين. واستناداً إلى الاتصال الجغرافي، والتفاهمات المنطقية داخل المنطقة، وتاريخ القرن العشرين، فهذا هو الشرق الأوسط بالنسبة لأقسام الجامعات الأمريكية ومراكز الفكر، وكذلك وزارة الخارجية الأمريكية.

لكن هذه الخريطة الذهنية أصبحت قديمة بشكل متزايد. فالقوى الإقليمية الرائدة أصبحت تعمل خارج الشرق الأوسط التقليدي بنفس الطريقة التي تعمل بها داخله، والعديد من المنافسات الأكثر أهمية بالنسبة للمنطقة يجري لعبها الآن خارج تلك الحدود المفترضة. ويعرف البنتاجون هذا: فالمنطقة التي تغطيها القيادة المركزية الأمريكية، القيادة المقاتلة التي تتعامل مع الشرق الأوسط، لا تشمل فقط مصر وإيران والعراق ودول الخليج، بل تشمل أيضاً أفغانستان وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وباكستان والصومال، والسودان – وهو تجمع يبدو مختلفا بشكل مباشر عن مفهوم وزارة الخارجية الأمريكية للشرق الأوسط.

يشير عدم الاتساق الدراماتيكي هذا بين صنع السياسات والمؤسسات العسكرية الأمريكية إلى مخاطر التمسك بالنموذج القديم للمنطقة. فمفهوم المؤسسات الأمريكية المتناقض للشرق الأوسط لا يغرد فقط خارج السرب فيما يتعلق بالسياسات الحالية والممارسات العسكرية؛ بل إنه يقف كذلك حجر عثرة أمام محاولات مواجهة العديد من أكبر التحديات اليوم، بما في ذلك أزمات اللاجئين المتتابعة، وحركات التمرد الإسلامية، والاستبداد الضارب بجذوره في المنطقة. إن الاستمرار في الاعتماد في المنح الدراسية والسياسة على تعريف موروث للشرق الأوسط يهدد بحجب الرؤية أمام إستراتيجيات الولايات المتحدة تجاه الديناميكيات الفعلية التي تشكل المنطقة – والأسوأ من ذلك، أن يجعل ذلك الوضع  واشنطن أكثر احتمالاً لمواصلة ارتكاب أخطاء فادحة هناك.

رسم تخطيطي للحرب الباردة

وكما هو راسخ كما يبدو الآن، فإن المفهوم الأمريكي للشرق الأوسط يعتمد على القليل من الأسس فيما يتعلق بتاريخ ما قبل الحداثة. فعلى مدى قرون، كانت الدول العربية في شمال أفريقيا والشام جزءاً من الإمبراطورية العثمانية الشاسعة متعددة الجنسيات. وكانت المجتمعات الساحلية في الخليج مرتبطة عضوياً بالقرن الأفريقي عبر البحر الأحمر. وربطت الشبكات الإسلامية مصر وبقية دول شمال أفريقيا بمناطق في عمق أفريقيا إلى جنوب الصحراء. ولكن بدلاً من النظر بعيداً إلى هذا الحد، تبنت الولايات المتحدة نسختها الخاصة بالمنطقة من مصدر أحدث وهو: الاستعمار وسياسات القوة العظمى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أوروبا.

في القرن التاسع عشر، أدت المشاريع الإمبراطورية البريطانية والفرنسية إلى ظهور فكرة منطقة متميزة حددتها بشمال أفريقيا والشام. ففي عام 1830، احتلت فرنسا الجزائر. وفي عام 1881، استولت على تونس. وبحلول عام 1912، سيطرت أيضاً على المغرب. وقد ساهمت الموروثات الاستعمارية الفرنسية من التصنيف العرقي، وليس الحاجز الطبيعي للصحراء، في التمييز بين أفريقيا السوداء الفرنسية والمغرب العربي الفرنسي من العرب والأمازيغ ذوي البشرة الفاتحة. لقد رسمت العنصرية نفسها حاجزاً صعباً بين السكان المتشابهين ثقافياً في حوض البحر المتوسط ​​، مع تمييز جنوب أوروبا الأبيض بالقوة عن شعوب الشرق الأدنى عبر البحر في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية.

ومن جانبهم، أطلق البريطانيون على المنطقة اسم “الشرق الأدنى” بسبب دورها كنقطة عبور على طول الطريق إلى مصالحهم الاستعمارية الأساسية في الهند و “الشرق الأقصى” أو آسيا. بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، اكتسبت المنطقة أهمية جديدة. حيث ربطت المصالح الإمبراطورية البريطانية آنذاك شبه الجزيرة العربية بمصر والشام، مع تمييز تلك المناطق من النقاط الشمالية والشرقية والجنوبية. وظلت سلسلة من المحميات على طول شبه الجزيرة العربية تحت السيطرة البريطانية على طول الطريق حتى عام 1971، مما عزز الحدود الاستعمارية القديمة بعد فترة طويلة من بدء القوى الأخرى في إعادة تشكيل المنطقة. وساعدت مجموعة من الافتراضات الأيديولوجية حول الغرائبية المفترضة للعرب والفرس والأتراك، وهي النظرة التي أطلق عليها الباحث الأمريكي/الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، “الاستشراق”، في تشكيل فكرة أن هذه المنطقة الشاسعة تشترك في حضارة قديمة مشتركة.

بعد الحرب العالمية الثانية، عندما انغمست الولايات المتحدة في صراع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، قامت وزارة الخارجية الأمريكية بتكييف المفهوم الأنجلو-فرنسي للمنطقة لأغراضها الخاصة. إن تعريف ما كانت تسميه الولايات المتحدة آنذاك “الشرق الأوسط” (أقرب إلى لندن منه إلى واشنطن) كان مستوحى بالأساس من أهداف صانعي السياسة المتمثلة في: الحفاظ على إمكانية الوصول إلى النفط في شبه الجزيرة العربية، وحماية إسرائيل، والحفاظ على الممتلكات البريطانية والفرنسية السابقة في شمال أفريقيا خارج دائرة نفوذ الاتحاد السوفيتي.

وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ساعدت الأولويات الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة في إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الخريطة في الدوائر الأكاديمية وصنع السياسات. وجّه قانون تعليم الدفاع الوطني لعام 1958 الموارد الفيدرالية نحو دراسات المنطقة بهدف دعم أولويات الحرب الباردة، وانضمت منظمات كبيرة غير ربحية، مثل مؤسسة فورد، إلى هذا الجهد. وبناء على النهج الجديد، تم تقسيم العالم إلى مناطق متميزة، كانت منطقة الشرق الأوسط إحداها. ونتيجة لذلك، طوّر علماء الشرق الأوسط خبرة عميقة حول ثقافات ولغات وتاريخ وسياسات الدول في هذه المنطقة المحددة بشكل محكم. لكن لم يكن من المتوقع أن يعرفوا الكثير عن أي شيء حول جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، أو أفغانستان وباكستان، بغض النظر عن مدى أهمية تلك الأماكن بالنسبة للقضايا التي كانوا يدرسونها.

لقد تشكل مفهوم أمريكا للشرق الأوسط من خلال تدفقات النفط والتاريخ الاستعماري للمنطقة

في تلك الأعوام الأولى من الحرب الباردة، عزّزت الوحدة العربية التي تبناها لرئيس المصري جمال عبد الناصر فكرة الشرق الأوسط كوحدة ثقافية سياسية وليست مجرد بنية مصطنعة. وأدت القضية الفلسطينية والنضال من أجل القضاء على الاستعمار إلى تنشيط العالم العربي وتوحيده، حيث تم تصنيف رؤساء الدول من خلال مواقفهم من إسرائيل والوحدة العربية. وفي مصر ودول شمال أفريقيا الأخرى، ساهمت المواقف العنصرية تجاه سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في فكرة أن الشرق الأوسط يختلف عرقياً وثقافياً عن المناطق المحيطة به. في غضون ذلك، برر دمج جزء كبير من آسيا الوسطى في الاتحاد السوفيتي استبعاد دول مثل أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان من منطقة كانت منافسة الحرب الباردة قد حددت معالمها.

مثّل مفهوم الشرق الأوسط هذا الأساس لسلسلة من التوجهات التي تبنتها السياسة الخارجية الأمريكية والتحالفات الأمنية لها، وهي العلاقات التي عملت لعقود عديدة على الحفاظ على تدفق النفط والحفاظ على الاستقرار، على الرغم من الاضطرابات التي حدثت في المنطقة، مثل الثورة الإيرانية. وعلى أي حال، فقد كانت هناك تكاليف في سبيل ذلك. وتم تدريب الأكاديميين وصانعي السياسات على التفكير وفقاً لهذه الخريطة، وغالباً ما كانوا على دراية تامة بآراء الاستشراق الموروثة من الحقبة الاستعمارية، وكانوا يميلون إلى استخلاص استنتاجات حول المنطقة دون مراعاة القوى الاجتماعية والسياسية العديدة التي تجاوزت حدودها. على سبيل المثال، سرعان ما أدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر إلى تكوين إجماع على أنها كانت مدفوعة بأمراض معينة متوطنة في الشرق الأوسط العربي. وغالباً ما تجاهلت تلال التحليلات التي تفسر ظاهرة الجهاد من خلال الثقافة العربية – تجاهلت الصعود الموازي للإسلاميين وأشكال من التطرف الديني في أفريقيا وجنوب آسيا وأجزاء أخرى كثيرة من العالم.

وبالمثل، فإن الفكرة المترسخة بأن الدول الإسلامية تقاوم الديمقراطية بشكل خاص، في الحقيقة تتجاهل الدوافع الحقيقية لرسوخ الاستبداد في الشرق الأوسط: فممالك النفط المدعومة من الغرب وبعض الحكام العرب المتسلطين الذين لا يتعرضون تقريبا لأي مساءلة أمام مواطنيهم الذين يرزحون تحت حكمهم السيئ. كما أنها تتجاهل أيضا المشاركة المنتظمة للمسلمين في العديد من الديمقراطيات خارج الشرق الأوسط – من الهند وإندونيسيا إلى الولايات المتحدة نفسها. الافتراض بأن المسلمين سيختارون بشكل حتمي الحكومات الإسلامية الراديكالية إذا أتيحت لهم الفرصة هي في لأساس لتبرير عقود من الفشل الأمريكي في دعم الإصلاح السياسي الحقيقي هناك.

عبر كل هذه الطرق، ظل المفهوم الأمريكي للشرق الأوسط في كثير من الأحيان قيداً أكثر من كونه أحد الأصول الهامة، ومع ذلك فقد ثبت على مدى عقود من الزمان أنه عالقا هناك بشكل ملحوظ. وحتى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي كشفت بقوة الروابط العالمية لتنظيم مثل “القاعدة”، المتجذرة في أفغانستان ومصر والسعودية والسودان، استمرت السياسة الأمريكية في أن تكون مدفوعة بالنموذج القديم للشرق الأوسط. وكان غزو العراق مبرراً جزئياً من حيث التصميم على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، مع إبراز “أجندة الحرية” التي تبنتها إدارة جورج دبليو بوش التي دفعت بحرب أفكار تستهدف عالماً عربياً كان من الممكن تحوله بشكل ليس له مثيل إلى ضحية للاستبداد والعنف الطائفي. وفي الآونة الأخيرة، أدت افتراضات مماثلة إلى فشل الولايات المتحدة في توقع موجة الثورات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي في 2010-2011 – أو التصرف تجاهها بشكل فعال.

السياسة خارج الحدود

في الحقيقة، قدمت الانتفاضات العربية درساً خادعاً لصانعي السياسة الأمريكيين. ففي البداية، بدا أن الانتشار السريع للاحتجاجات من تونس ومصر إلى معظم أنحاء المنطقة يظهر التماسك في الشرق الأوسط من جديد. وقد أكد التنافس الذي أعقب تلك الانتفاضات على فكرة الساحة الجيوسياسية الواحدة بشكل أكبر: حيث انخرطت السعودية والإمارات وقطر في حروب اشتعلت في ليبيا وسوريا واليمن، وتدخلت في التحولات التي حدثت في مصر وتونس. ومع ذلك، فإن دول المنطقة التي ازداد نفوذها بشكل أكبر – إيران وإسرائيل وتركيا – لم تكن جزءاً من العالم العربي على الإطلاق. وبالإضافة إلى ذلك، سرعان ما اعتبر المستبدون العرب الترابط بين شعوبهم تهديداً لبقائهم في السلطة، وسعى الكثير منهم إلى قمع الحركات السياسية العربية، مثل جماعة الإخوان المسلمين وشبكات النشطاء الليبراليين على حدٍ سواء. وفضلاً عن ذلك، تم القضاء على آمال التغيير السياسي في جميع أنحاء المنطقة بسبب التشظي الجديد، مع انزلاق ليبيا وسوريا إلى الفوضى وسعي العديد من الملوك العرب إلى تأمين مصادر جديدة للشرعية لا علاقة لها بالجمهور العربي الواسع.

واليوم، على أي حال، فالتطورات السياسية في العديد من دول الشرق الأوسط جعلت الحدود التقليدية للمنطقة لا معنى لها بشكل كبير ومتصاعد. حيث أظهرت ثورة السودان التي اندلعت عام 2018 – والانقلاب العسكري الأخير، الذي دعمته مصر، القوة الرائدة في الشرق الأوسط، وعارضه الاتحاد الأفريقي، وهو هيئة دولية تمثل 55 دولة أفريقية – أظهرت مدى تأثر البلاد بالمنطقتين (الشرق الأوسط ودول الاتحاد الأفريقي). وفي أماكن أخرى من أفريقيا، أدت الهجرة وتنامي حركات التمرد الإسلامية عبر منطقة الساحل إلى تحويل المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية لدول المغرب العربي باتجاه الجنوب. وصاعدت الحرب الأهلية في ليبيا تدفق المهاجرين والأسلحة والمخدرات والتطرف عبر أفريقيا الوسطى، مما زاد من ضبابية الخط الفاصل بين شمال أفريقيا وبقية القارة. حيث يأتي العديد من المهاجرين الذين يصلون إلى أوروبا من الشرق الأوسط من بلدان جنوبي صحراء أفريقيا. ونظراً للأهمية الاستراتيجية المتزايدة لمنطقة الساحل، ركز المغرب على نشر سلطاته الدينية في غرب أفريقيا، وشاركت الجزائر في العمليات الأمنية في مالي.

وأظهرت ديناميات سياسية أخرى أيضاً عن محدودية قيمة تعريف الشرق الأوسط كمنطقة جغرافية واحدة. فالتنافس الإيراني- السعودي، على سبيل المثال، ليس له أهمية تذكر في شمال أفريقيا. واندلعت المعركة السياسية بين قطر والسعودية والإمارات  بعد حصار قطر عام 2017 من قبل عدة دول في المنطقة في منافسة للحصول على الدعم ليس فقط في الدول العربية المجاورة ولكن أيضاً في جميع أنحاء القارة الأفريقية وحتى في واشنطن. وفاقت قابلية تنظيم الدولة (المعروف أيضاً باسم داعش)، قابلية القاعدة (في جذب الأنصار)، عالمياً أكثر منه إقليمياً، كما اتضح عندما تدفق المقاتلون الأجانب إلى سوريا وانتشار التنظيم عبر أفريقيا وآسيا. ومن الصعب نمذجة مكافحة الإرهاب بأنها قائمة على مشكلات يُزعم أنها عربية بشكل متفرد، عندما تتكشف بعض أكثر حركات التمرد الجهادية نشاطاً في مالي ونيجيريا والصومال.

في غضون ذلك، شكلت بعض أكبر الصراعات الأخيرة تحدياً للجغرافية المفترضة للمنطقة. حيث أدت الحرب الأهلية في ليبيا إلى زعزعة استقرار مالي والدول الأفريقية المجاورة الأخرى. وعندما أقامت السعودية تحالفاً لدعم تدخلها في اليمن ضد المتمردين الحوثيين في اليمن في عام 2015، لم تطلب المساعدة من الدول العربية ذات التفكير المماثل فحسب؛ بل طلبت الدعم أيضاً من إريتريا وباكستان والسودان، التي ساهمت بقواعدها وقواتها. وفي نفس الوقت، أدى فرض الإمارات لحصار بحري على الحوثيين إلى قيامها بترسيخ وجود عسكري لها عبر القرن الأفريقي وتحصين جزيرة سقطرى ذات الموقع الاستراتيجي، والتي هي أقرب إلى أفريقيا منها إلى شبه الجزيرة العربية. وعلى الرغم من أنه غالباً ما يُنظر إلى الصراع في اليمن على أنه حرب شرق أوسطية بامتياز، إلا أنه في نفس الوقت يثير التساؤل حول الحدود المفترضة للمنطقة.

الأسواق تتجه نحو الشرق

وتماماً كما جعلت الديناميات السياسية الأخيرة الخريطة القديمة للشرق الأوسط تبدو وكأنها قد عفا عليها الزمن، كذلك كانت التغييرات الاجتماعية واسعة النطاق في المنطقة. فمنذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات، أدت الهجرة الجماعية للعمال من الدول العربية الأفقر إلى دول الخليج سريعة النمو إلى خلق روابط قوية داخل المنطقة. ولعبت التحويلات المالية دوراً رئيسياً في الاقتصادات غير الرسمية في مصر ومعظم دول المشرق العربي، ومكَّنت الإقامة الطويلة للعمال في دول الخليج من انتشار الأفكار الإسلامية المحافظة التي لم يكن لها من قبل الكثير من الرواج خارج المملكة العربية السعودية. وبعد الغزو العراقي للكويت في عام 1990، تم استبدال العمال المهاجرين العرب في البلاد بعمال من جنوب آسيا أكثر أماناً من الناحية السياسية، حيث كان يُنظر آنذاك إلى العمال الفلسطينيين واليمنيين على أنهم غير موالين لدول الخليج. وقد أدى هذا الاتجاه إلى إضعاف الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين منطقة الخليج وبقية دول الشرق الأوسط إلى حد كبير، بينما عزز في المقابل العلاقات بين الخليج ودول المحيط الهندي.

وبالمثل، فقد الإعلام العربي الكثير من التماسك بالنسبة إلى المواضيع التي يتناولها. فحتى عام 2011، كانت الفضائيات العربية تقوم بالكثير لتشكيل ثقافة مشتركة على المستوى الشعبي، بما في ذلك أثناء الانتفاضات العربية. ولكن في العقد الذي تلا ذلك، أصبح المشهد الإعلامي أشبه بإعلام دول البلقان، حيث يعكس الاستقطاب السياسي في المنطقة. وهكذا، فبينما عملت الجزيرة كمنصة مشتركة للسياسة العامة العربية في التسعينيات والسنوات الأولى من هذا القرن، ولكنها بعد عام 2011، أصبحت واحدة فقط من بين العديد من المنصات الإعلامية، بما في ذلك مجموعة روتانا الإعلامية ومقرها السعودية، وقناة العربية ومقرها الإمارات، وقناة العالم الإيرانية الناطقة بالعربية. وتعزز مثل هذه المحطات التليفزيونية الاستقطاب السياسي، حيث تتبنى سردية كل واحدة فيهم رؤية من يكونون في نطاقها السياسي وتحتقر من هم خارجه. وبعد أن كانت وسائل التواصل الاجتماعي ذات يوم تمثل قوة لتكامل الجمهور العربي، تم استخدامها من قبل أنظمة مثل تلك الموجودة في مصر والسعودية كسلاح ضد الشعوب من خلال الاستخدام واسع النطاق للجيوش الإلكترونية والرقابة وتفتيتها إلى شراذم متناحرة.

بين دبي وسنغافورة الكثير من القواسم المشتركة عنها مع بغداد

على مدى العقدين الماضيين، أعادت الأسواق المالية العالمية تشكيل توجهات بعض أغنى دول الشرق الأوسط، بما في ذلك الكويت وقطر والسعودية والإمارات. ونظراً لاستثماراتهم العميقة في العقارات والأندية الرياضية الغربية، وروابطهم الاقتصادية المتنامية مع آسيا، والتعداد الكبير لعمال الخدمات غير العرب والمغتربين الغربيين، فمن المنطقي بشكل متزايد أن ننظر إلى هذه الأماكن على أنها مراكز للرأسمالية العالمية أكثر من كونها مجرد دول شرق أوسطية؛ حيث تشترك دبي في الكثير مع سنغافورة أو هونج كونج أكثر منها مع بيروت  أو بغداد. وبالمثل، فإن استخدام السعودية والإمارات لأدوات المراقبة والتجسس الرقمية الإسرائيلية الصنع يعكس نموذج الصين بقدر ما يعكس نموذج الأنظمة العربية الأخرى. وقد تلعب هذه الروابط العالمية في الاقتصاد والتكنولوجيا قريباً دوراً كبيراً في السياسات الخارجية لهذه الدول كما تفعل أي أولويات إقليمية تقليدية – مثل دفعها بشكل أكبر لتكون أقرب إلى آسيا، على سبيل المثال، أو في توفير حوافز جديدة لها للتلاعب بالانتخابات في الديمقراطيات الغربية.

في المقابل، تلاشت أهمية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، الذي كان يوماً ما قوة موحِّدة في العالم العربي، بشكل كبير. واجتذبت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، التي تهدف إلى مواجهة تصعيد إسرائيل للمستوطنات في الضفة الغربية، اهتماماً أكبر في حرم الجامعات الأمريكية وفي قاعات الكونجرس أكثر منه في منطقة الشرق الأوسط. وتعتبر أوروبا والأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ساحات معارك رئيسية للنزاعات الإسرائيلية-الفلسطينية أكثر من أي عاصمة عربية. وبينما تحظى القضية الفلسطينية اليوم بتأييد غير مسبوق في الغرب، إلا أنها نادراً ما تحظى بتعاطف أقل من ذلك بكثير في دول المنطقة العربية، كما يتضح من قرار البحرين والإمارات بتطبيع العلاقات مع إسرائيل في اتفاقية أبراهام 2020. وعلى الرغم من الآثار الملموسة المحدودة لهذه الاتفاقية، فقد ظهر أن الإسرائيليين يحتضنونها بشعور من التنفيس، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها تمثل إشارة إلى الولوج في الشرق الأوسط كميدان أساسي للمخاوف الأمنية أو السياسية – سواء للعرب أو للإسرائيليين.

خريطتهم، وليس خريطتنا

وعلى مدى 75 عاماً، كان الشرق الأوسط كما نعرفه إلى حد كبير من صنع الأولوية الأمريكية. فقد كانت خريطة الولايات المتحدة معظم الوقت آنذاك منطقية باعتبار أن أولويات واشنطن في المنطقة تمكنها من التأثير بشكل كبير على سياسة المنطقة. وشكلت العقائد الإستراتيجية للحرب الباردة التحالفات والتدخلات لواشنطن منذ أزمة السويس عام 1956، عندما أزاحت الولايات المتحدة فرنسا والمملكة المتحدة كقوى غربية أساسية في المنطقة، حتى سقوط جدار برلين في عام 1989. وفي عام 1990- 1991، رسخت حرب الخليج نظاماً إقليمياً أمريكياً بدا فيه أن كل الطرق تؤدي إلى واشنطن. حيث احتكرت الولايات المتحدة قيادة عملية السلام العربية-الإسرائيلية، من مؤتمر مدريد إلى اتفاقيات أوسلو، بالإضافة إلى احتوائها المزدوج لإيران والعراق الذي حدد الجغرافيا السياسية للخليج.

لكن الموقف العالمي للولايات المتحدة  تراجع بسرعة، وكذلك الحال بالنسبة لمنطقة تأسس تماسكها إلى حد كبير حول المصالح الأمريكية. ووسط تداعيات القرار الكارثي بغزو العراق في عام 2003، سعى ثلاثة رؤساء أمريكيون متعاقبون إلى التقليل من التزامات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والتحول نحو آسيا. ومع اعتبار الولايات المتحدة في حالة تراجع، أكدت القوى الإقليمية تعريفاتها الخاصة للمنطقة: ما بين نظام يتمحور حول المحيط الهندي لدول الخليج، وتوجه عبر الساحل لدول شمال أفريقيا. وهذا لا يعني أن مناطق الصراع التقليدية قد اختفت. فقد قامت إيران، على سبيل المثال، بنشر شبكاتها بالوكالة ونفوذها في جميع أنحاء الدول التي مزقتها الحروب في العراق ولبنان وسوريا واليمن، بينما تخوض تنافسا متزايدا مع إسرائيل والسعودية. ولكن كما فعل منافسوها الإقليميون، كثفت إيران أيضاً أنشطتها في أفريقيا وبدأت في بناء شراكات مع دول في آسيا، وخاصة الصين.

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن صعود حركات التمرد الجهادية في أفريقيا جنوبي الصحراء جعل عقيدة مكافحة الإرهاب التي كانت بعد 11 سبتمبر تركز على منطقة الشرق الأوسط – جعلها تبدو بشكل كبير أنها قد عفا عليها الزمن. فعلى الرغم من انسحاب القوات الأمريكية من العراق وسوريا، فالضربات التي تنفذها الطائرات المسيرة الأمريكية مستمرة، وكذلك عمليات مكافحة الإرهاب من الصومال عبر منطقة الساحل. المربك في الأمر، أنه حتى مع إشارة الولايات المتحدة إلى خروجها من الشرق الأوسط، فإنها تحافظ على نفس الهيكل العسكري هناك أو توسعه، للتعامل مع العديد من نفس المخاوف الأمنية، في منطقة الساحل وشرق أفريقيا.

مع تراجع أمريكا، تعيد القوى الإقليمية تعريف الشرق الأوسط

أما الآن، فعلى الولايات المتحدة أيضاً أن تتعامل مع بكين، التي تفكر في منطقة الشرق الأوسط بشكل مختلف عما تفكر فيه واشنطن. فخريطة الصين للمنطقة تتبع مصالحها الإستراتيجية الخاصة، وليس مصالح واشنطن. ومن خلال مبادرة الحزام والطريق، قامت بكين بتوسيع مصالحها في مجال الطاقة في الخليج، وعززت وجودها في أفريقيا. ووقّعت سلسلة من الاتفاقيات مع دول الخليج لسد الفجوة بين إيران ودول الخليج العربي من خلال التقليل من أهمية السياسة والتركيز على البنية التحتية وموارد الطاقة. لقد فتح التدخل الصيني المتزايد آفاقاً جديدة لتحقيق الاستقرار في إنتاج النفط وأشكال أخرى من التعاون الإقليمي، لكنه ضاعف أيضاً فرص سوء التفاهم الخطير، حيث تسعى واشنطن إلى تحقيق التوازن بين مصالحها الإقليمية وتنافسها المتزايد مع الصين.

وإذا بدأ العلماء والمحللون وصناع القرار الأمريكيون في فهم منطقة الشرق الأوسط كمجموعة مرنة من الدول والشعوب التي تتدفق عبرها قوى اجتماعية أوسع ومنافسات متحولة للسلطة بشكل أكبر من كونها مجرد منطقة جغرافية منفصلة، فإن العديد من هذه التطورات الأخيرة تبدو أقل إثارة للدهشة. إن التفكير فيما وراء الشرق الأوسط التقليدي سيكون له أيضاً فوائد تحليلية واستراتيجية مباشرة لواشنطن، ليس فقط لأنه يستلزم استعادة التاريخ المنسي ولكن أيضاً لأنه سيؤدي إلى فهم أفضل للواقع سريع التغير على الأرض.

لكن، هناك أيضاً مخاطر حول هذا التوجه العابر للأقاليم. فمجرد تبني تعريف البنتاجون الأوسع للمنطقة قد ينتهي به الأمر إلى إعادة إنتاج التركيز المدفوع بالأمن والذي أدى إلى العديد من السياسات الأمريكية الفاشلة في أفغانستان والشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين. وستكون هذه بالطبع مأساة. يجب أن تسمح النظرة العابرة للأقاليم للأكاديميين وصانعي السياسات ليس فقط بتجاوز النماذج القديمة ولكن أيضاً لإعادة التفكير في كيفية قيام الولايات المتحدة بتعزيز التنمية والحكم الرشيد في الخارج. ويمكن أن يساعد ذلك واشنطن على القيام برد أكثر فاعلية لأزمة الهجرة في أفريقيا وأوروبا، واصطفاف القوى العالمية بشكل أفضل لمواجهة الحروب الكارثية في ليبيا واليمن، وتجنب الصراع غير الضروري مع الصين في المجالات والقضايا التي سيكون التعاون بشأنها أكثر منطقية. إن التخلي عن الافتراضات الثقافية والسياسية القديمة حول الشرق الأوسط والنظر إلى المنطقة ضمن سياق عالمي أوسع يمكن أن يمكّن الولايات المتحدة وحلفاءها في النهاية من العمل بجدية في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز التغيير الديمقراطي الحقيقي هناك.

وإذا ظلت واشنطن عالقة في مفهوم عفا عليه الزمن في تعريف المنطقة، فإنها تخاطر بفهم سلوك ومصالح اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط بشكل مبتور؛ وإلى سوء فهم تصرفات القوى العالمية الأخرى هناك، مثل الصين؛ والمبالغة في تقدير آثار التراجع الأمريكي – سيكون من الصعب التفكير فيما وراء الشرق الأوسط: حيث الخبرة المتراكمة، وأنماط التفكير الداخلية العميقة، والهياكل البيروقراطية الراسخة، كلها تقف كعقبات في الطريق.

لكن الديناميات المتغيرة للقوة العالمية والممارسات الإقليمية تعيد توجيه العديد من الدول الرائدة في الشرق الأوسط بسرعة فائقة، حيث لم تعد الخريطة التي تتبعها هذه الدول هي خريطة واشنطن، إنما هي الخريطة الخاصة بهم. وعليه، فالأمر متروك الآن لواشنطن لتعلم كيف تقرأ هذا الواقع الجديد.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d9%81%d9%88%d8%b1%d9%8a%d9%86-%d8%a3%d9%81%d9%8a%d8%b1%d8%b2-%d9%86%d9%87%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b1%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d8%b3%d8%b7/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M