مفاتيح تفسيرية مبسطة للقرآن الكريم الحلقة الثامنة

بهاء النجار

ونستمر بعرض مفاتيحنا التفسيرية المبسطة لفهم معاني القرآن الكريم :

– معيار الخسارة
ربما يعتقد البعض أن أكثر الخاسرين وأسوأهم هم الكفار أو ربما المشركين ، لكن القرآن الكريم يبين لنا معياراً آخر للتفاضل بين البشر ، وفق هذا المعيار يتضح لنا أن من الممكن أن يكون الإنسان أشد خسارة من الكفار والمشركين يوم القيامة ، وهؤلاء هم ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) ، وقد يكون الكفار والمشركين في أشد العذاب لكون هذه الآية تنطبق عليهم لا لأنهم كفار ومشركون ، وهذا ما يطلق عليه حديثاً بالجهل المركب ، وهو الذي لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم ، وعلى هذا الأساس نجد دعاءً مروياً عن المعصومين عليهم السلام يقول فيه ( اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه والباطل باطلاً وارزقني اجتنابه ) ، لأنه قد يرى الحق باطلاً والعياذ بالله فيتركه فيحسب أنه يحسن صنعاً لأنه ترك الباطل مع إنه ترك الحق ، وقد يرى الباطل حقاً والعياذ بالله فيتركه فيحسب أنه يحسن صنعاً لتركه الباطل مع إن الواقع أنه ترك الحق فيكون أخسر الخاسرين نستجير بالله .
وقد يكون بعض المؤمنين الأشد خسارة من بين أقرانهم في مستوى معين من الإيمان إذا كان يعتقد أنه على حق وأن طريقه ومنهجه وسلوكه هو الصراط المستقيم ولكن لكونه لم يتبين ويدعم إيمانه بالحجة والبينة ممكن أن يكون من الأخسرين أعمالاً من بين أولئك لأنه يظن أنه يحسن صنعاً وليس متيقن من ذلك بحجة أو دليل قاطع ، وإذا أخذنا الآية على إطلاقها ولم نقيدها فإن من الممكن أن يكون المؤمن الذي لم يتبين من صحة معتقده بدليل وحجة قاطعين أن يكون أسوأ حالاً وأشد خسارة من الكافر أو المشرك الذي تبين له ولو بشكل إجمالي أن طريقه صائب ، فوفق هذا المعيار يكون الأشد خسارة هو من لم يتحقق من سلوكه واعتقاداته واعتمد الظن في اتخاذ دينه ومسلكه وليس للإيمان والكفر دور في التقييم .
ومن الأخسرين أيضاً الذي بينتهم بعض الروايات هم (المنافقون) ، فإنه يروى ( أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) وهذا يعني أنهم أسوأ حالاً من الكفار والمشركين لأن خطرهم أشد ، فالكافر والمشرك عدوان بيّنان وواضحان بينما المنافق يظهر الإيمان ويضمر الكفر وبصورة عامة يظهر لك عكس ما يعتقد به فيكون التعامل معه صعباً ، فإذا اعتمدنا هذا المعيار فإن الدرك الأسفل من مستوى معين من العذاب يكون لمن ( يظهر لك عكس ما يعتقد به ) لا وفق اعتقاده ولا وفق ما يظهره .
ومن الأخسرين أيضاً هم المعاندون ، حيث نقرأ في دعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام ( وتخلد فيها المعاندين ) ، مع إن المعرفة السائدة هو أن الكفار والمشركين هم من يخلدون في النار ، إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام يبين معياراً آخراً للخسارة باعتبار أن الخلود في النار هي الخسارة بعينها وغيرها لا تعد خسارة إذا ما قورنت بها ، أما الكفار والمشركون فقد يخلدون في النار لعنادهم لا لكفرهم وشركهم .

– النصر
كثيراً ما تناول القرآن هذا المصطلح البهيج الذي يشرح الصدر حينما يسمعه الإنسان ، لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يؤكد أن النصر حليف المؤمنين حتى لو انتصر ظاهراً أعداؤهم ، فكيف إذن ينتصر المؤمنون رغم انتصار أعدائهم ؟!
في البداية علينا أن نبين العدو ثم نبين متى يتحقق النصر ، فالنصر يكون مؤزراً كلما كان العدو شرساً ، وقد بيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروى عنه أن (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) وفي حادثة مروية أخرى وصف فيها جهاد النفس بأنه الجهاد الأكبر مقارنة بالجهاد الأصغر الذي يمثل جهاد العدو الخارجي ، وبالتالي فيمكن أن ينتصر المؤمن في اليوم والليلة عشرات المرات بانتصاره على نفسه الأمارة بالسوء عندما تدفعه لارتكاب المعاصي ، بل حتى عندما تدفعه لعمل المكروهات أو عمل المباحات من دون نية القربة الى الله ، ومن هنا نفهم الدعاء المروي عن المعصومين عليهم السلام (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك) ، فالسعادة بالتقوى جاءت لانتصار المؤمن على نفسه بينما الشقاوة جاءت بسبب هزيمة المؤمن في حربه وجهاده لنفسه .
وقد يكون النصر بانتصار قيم الدين وأحكامه وشرائعه ، لأن الجميع يذهبون قرباناً لهذا الدين العظيم ، وهذا ما حدث بالضبط مع سيد الشهداء عليه السلام عندما قُتِل هو وأهل بيته وأصحابه ، ومع هذا فإن ولده السجاد عليه السلام يعتبر النصر هو انتصار الدين باستمرار رفع أذان الإسلام وكشف زيف المدعين للقيادة الدينية ، مع إن المقتول هو ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فالمؤمن إذا وجد دينه عزيزاً ومعتقده في تطور وانتشار وتوسع ورفعة فلا يهمه إذا هُزِم المؤمنون في معركة ما كما يحدث الآن في الحرب مع داعش ، وأن الفتن والخطط الشيطانية المحاطة بالمسلمين عصيّة على الدخول الى الساحة الإسلامية فهذا هو النصر الحقيقي ، أما إذا حدث العكس فعليه عندها أن يحزن ويتألم وهذا ما نراه في الغزو الثقافي اليوم لمجتمعاتنا الإسلامية وأن يعد العدة لنصرة دينه بإرجاع أفراده الى الطريق الحق الذين آمنوا به ويجنبهم من فتن الأعداء .
ووفق هذا الإيضاح نفهم أن النصر في القرآن مفهوم واسع يبدأ من النصر على النفس الأمارة بالسوء مروراً بانتصار مبادئ الإسلام ومن ثم الانتصار على الأعداء الخارجيين .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M