واشنطن بوست: علاقات ترامب الخارجية لمن يدفع أكثر

عادل رفيق

نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية مقالاً لمارك فيشر، كبير محرري الصحيفة، بعنوان: “بالنسبة لترامب، العلاقات الخارجية ليست مبنية على الاستراتيجية، لكنها مبنية على دفع النقدية”، حيث يرى كبير محرري واشنطن بوست أن ترامب يتجاوز ’التاريخ والمعايير والنتائج‘ سعياً وراء عقد المزيد من الصفقات الاقتصادية، حسب المقال الذي جاء على النحو التالي:

في الوقت الذي كان فيه معظم الأميركيين قد سئموا من تورط الولايات المتحدة في العراق، برر جورج دبليو بوش قراره بإرسال الآلاف من القوات الإضافية هناك بأنه ضرورة استراتيجية: “فمن دون إضافة مزيد من الجنود على الأرض، “سيزداد المتطرفين المسلمين قوة وسيكسبون مجندين جدد”. بينما برر باراك أوباما، الذي جاء إلى منصبه بعد أن وعد بإنهاء الحرب في العراق وأفغانستان، “زيادة” عدد القوات الأمريكية المشاركة في الحرب الأفغانية من خلال إرسال 30 ألف جندي إضافي بأن هذا الأمر هو مسألة مبدأ: “سوف تدافع أمريكا عن . . . حقوق الإنسان، وستنحاز إلى نور الحرية والعدالة وإتاحة الفرص واحترام كرامة جميع الشعوب. هذا ما نحن عليه”.

وكان دونالد ترامب قد تعهد، كما فعل أوباما من قبل، في حملته الانتخابية بإخراج الولايات المتحدة “من أعمال بناء الأمة”. ولكن عندما طالب القادة العراقيون القوات الأمريكية بالانسحاب بعد أن أمر ترامب بقتل قائد عسكري إيراني رفيع المستوى أثناء وجوده في العراق (قاسم سليماني)، طغت على الرئيس طبيعته (كرجل أعمال) عندما كان يصف تواجد القوات الأمريكية في العراق وكأنه كان يتحدث عن مرتزقة مستخدماً في ذلك عبارات فجة، حيث قال: “لقد أنفقنا الكثير من المال في العراق”. لدينا قاعدة جوية باهظة الثمن هناك. وتكلفنا مليارات الدولارات من أجل إنشائها … لذا فلن نغادر إلا إذا دفعوا لنا ما أنفقناه فيها”.

وكان ترامب قد فاز بالرئاسة من خلال تعهده بإدارة البلاد كما يدير الأعمال التجارية. لذا فإنه سيكون فقط مجرد مفاوض حاذق، لا يتحرك وفق أيديولوجية أو استراتيجية كبرى، ولكن من خلال الحدس، سعياً وراء تحقيق الفوز في المعاملات التي يدخلها. وفي حقيقة الأمر، فقد أنجز ترامب وعده في هذا المجال، وربما أكثر من أي مجال آخر: فهو يمتلك تركيزاً فريداً على التعامل مع القضايا بمنطق الصفقات، وليس على أساس العلاقات؛ وخلاصة القول أنه لا يلقي بالاً لتحقيق أهداف طويلة الأجل أو لمراعاة أي من المبادئ الأساسية في القرارات التي يتخذها في هذه القضايا.

ففي منطقة الشرق الأوسط، كما هو الحال في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية، كان النهج الذي اتبعه ترامب يقوم على اعتقاد أن الشخص يتم الحكم عليه من خلال الصفقات التي يبرمها، وذلك وفق حسابات الفوز والخسارة. ويعتقد ترامب أنه يفوز لأنه يتعامل بمنطق الصفقة التجارية الخالصة دون التقيد بأي قواعد أو أيديولوجيات أو تقاليد قد تشكل عائقاً يحول دون إبرام الصفقات عند منافسيه.

لقد انقلب على حلفاء أمريكا من الأوروبيين لأنه اعتقد أن الناتو كان يحمّل الولايات المتحدة عبئاً أكبر من حصتها في كلفة الدفاع المشترك؛ وألغى الصفقات التجارية مثل اتفاق التجارة الحرة في أمريكا الشمالية والشراكة عبر المحيط الهادي؛ ثم ألغى الاتفاق النووي الإيراني بعد ذلك: كل ذلك لأنه يعتقد أن الولايات المتحدة كانت تعطي أكثر مما تأخذ في المقابل. وفرض أو هدد بفرض رسوم جمركية على الصين والاتحاد الأوروبي وتركيا والمكسيك، بحجة أنها توفر أرباحاً صافية للولايات المتحدة، على الرغم من أن العديد من التحليلات تقول إن ذلك تسبب في رفع الأسعار للمستهلكين الأمريكيين وكلف البلاد مئات الآلاف من فرص العمل. ويجادل ترامب بأن كوريا الشمالية يجب أن تنضم إلى المجتمع الدولي حتى تتمكن من تنفيذ إمكاناتها العقارية على شاطئ البحر. (حيث قال ذات مرة للصحفيين: “انظر يافتى إلى هذا المنظر”، “ألا يمكن أن يصير هذا مسكناً رائعاً؟”)

وقد بدأ الجدل الدائر حول اجراءات عزل ترامب عندما أراد حجب المساعدات عن أوكرانيا، ويعزى ذلك جزئياً إلى استيائه بشكل دائم من التقاليد الأمريكية المتمثلة في مساعدة الدول الأخرى وتقديم المساعدات الإنسانية والعسكرية والاقتصادية لها: “لماذا لاتدفع كل هذه الدول – لماذا لا يدفعون؟ لماذا يجب أن تدفع الولايات المتحدة دائماً؟”

هذا الموقف الذي يتبناه ترامب ليس موقفاً اتخذه عندما دخل في السياسة. ففي عام 1980، قدم ترامب واحدة من أكثر المقابلات الكاشفة التي أجراها، عند مقابلة مقدمة البرامج التليفزيونية الشهيرة رونا باريت، قائلاً إن السعي للفوز بالصفقات يمثل جوهر حياته: “أفكر في الأمر حرفياً على مدار 24 ساعة في اليوم، وأنا أستمتع به حقاً  … أنا أفهم أن الأمر كله لعبة … الأشخاص الذين يستمتعون بها هم فقط الأشخاص الذين يفوزون.” فترامب ينظر إلى الوجود على أنه معركة لإبرام أفضل الصفقات. حيث قال في ذلك الوقت: “إنني أنظر حقاً إلى الحياة على أنها اشتباك قتالي إلى حد ما”. وقال في كتابه الأول الأكثر مبيعاً إن إبرام الصفقات هو “فنه” الذي يجيده.

لا توجد نظرية موحدة حول تصرفات ترامب يمكنها أن تفسر كل استفزاز أو قرار متهور يتخذه. لقد دأب على أن يقول دائماً إن مهارته الأساسية ودوافعه هي أن يكون رجل استعراض. وهو يكافح من أجل تحقيق التوازن بين شغفه بكسب الاحترام ورغبته في كسب الأضواء، حتى عندما يتطلب ذلك تجنيب النخب والسلطات التي يسعى إلى كسب احترامها. لهذا السبب يتحدث عن توظيف “أفضل الأشخاص” كمساعدين له، لكنه غالباً ما يلجأ إلى المستشارين الذين يستحوذون على اهتمام وسائل الإعلام.

لكن بيت القصيد أن هاجس ترامب هذا يتخلل منهجه في الحكم، بما في ذلك موقفه الحالي تجاه بغداد: نحن نمتلككم. أنتم مدينون لنا. فقد قال ترامب على “واجه الأمة” العام الماضي: “لقد حصلنا على العراق”، “لقد أنفقنا ثروة كبيرة في بناء هذه القاعدة الرائعة. ولذلك فقد نحتفظ بها أيضاً” وقد استحوذت هذه الفكرة على تفكير الرئيس، وفي الثالث من يناير، غرد ترامب قائلاً: “لقد دفعت الولايات المتحدة العراق مليارات الدولارات سنوياً، لسنوات عديدة. هذا علاوة على كل ما قمنا به من أجلهم”.

وقال ج. ريتشارد شل، أستاذ أخلاقيات الأعمال في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، إن ترامب “يُحول القضايا المعقدة إلى أشياء يمكنه عدها وحسابها”. “فهو يسأل، “ما هي الأصول التي يمكن تقييمها هنا، وكيف يمكنني الحصول عليها؟” وعندما يتصور أن الفوائد المتبادلة غير متكافئة، فإنه يصعد الأمر على الفور ليصل إلى أعلى مستوى من الصراع يمكن أن تراه. ثم يشير إليه معاونوه، “لا ، لا ، لا”، فيتراجع عن موقفه. وقد قال شل يوم الثلاثاء إنه تراجع عن فصل العائلات على الحدود المكسيكية، وسوف يتراجع أيضاً في هذه الأزمة. ويوم الأربعاء، فعل ترامب ذلك تماماً، حيث قدم خطاباً محسوباً، مشيراً إلى أن “إيران تبدو وكأنها تتوقف” ونسعى إلى “العمل معاً” مع طهران بشأن “الأولويات المشتركة”.

ربما على عكس الحدس، فإن ميل ترامب الشديد إلى التفكير في مختلف الأمور وكأنها معاملات (تجارية) قد يجعله أقل عرضة للتورط في الحرب من الرؤساء الذين يتحركون بدافع الأيديولوجية بشكل كبير. وقال شل “بدأت العديد من الحروب لأن السياسيين كانوا يشعرون أنهم لا يستطيعون فقد ماء وجههم”. ويستمتع ترامب كثيراً بعدم إمكانية التنبؤ بسلوكه. فلم يقل أبداً، “كلامي مقدس بالنسبة لي، لا بد لي من سحب الزناد وبدء الحرب”.

إن قرار قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني دون توفر أي خطة واضحة لإدارة الانتقام الإيراني المحتوم هو نموذج للطريقة التي يعمل بها ترامب دائماً. فهو يفتخر بالعمل بسرعة وحسم، في اللحظة الآنية. ولا يريد أن يسمع الآراء والملابسات التي يمكن تقديمها له قبل أن يتخذ قراره أو عن الطريقة التي قد يغير بها قرار اليوم الخيارات المستقبلية.

ويعود موقف ترامب تجاه إيران إلى أزمة الرهائن في عام 1979، حيث كانت المرة الأولى التي يظهر فيها مستثمر عقارات شاب في نيويورك على شاشة التلفزيون الوطني ليبدي رأيه حول مسألة من قضايا السياسة الخارجية. لقد ركز فوراً على فكرة الحصول على نفط إيران: حيث قال ترامب في مقابلة مع باريت عام 1980: “إن هذا البلد يراوح مكانه ويسمح لدولة مثل إيران باحتجاز الرهائن الأمريكيين، وفي رأيي إن هذا أمر يثير الرعب”. فلو كانت الولايات المتحدة قد أرسلت قوات إلى إيران لإنقاذ الرهائن الأمريكيين، “أعتقد كنا سنصبح الآن دولة غنية بالنفط، وأعتقد أنه كان ينبغي علينا فعل ذلك”.

إن رغبة ترامب – وحتى شغفه – بالتركيز على المكاسب المالية الممكنة ثم اتخاذ تدابير متطرفة للفوز بالصفقة، أو بالأحرى، أن يُنظر إليه على أنه شخص يمكن أن يذهب إلى أبعد الحدود في سبيل ذلك، ليس بالأمر الجديد. هذه هي الطريقة التي بنى بها حياته المهنية، ووضع نفسه في موقف المحرض على تدمير المعالم التاريخية بعد أن وعد بعدم القيام بذلك، أو أنه يهدد بنقل المشردين إلى مبنى سكني راقي للضغط على المستأجرين للمغادرة – كل ذلك من أجل تحصيل أرباح أعلى وتحقيق صفقات أفضل.

وقال شل إن الأبحاث التي أجريت على المديرين التنفيذيين الذين يفضلون الصفقات على العلاقات التجارية الدائمة، وجدت أنك قد “تحصل على صفقات أفضل ولكن أقل عدداً” مع النهج الأكثر اندفاعاً، ولكنك “تحصل على الكثير من الصفقات، وتكون أكثر عدداً”، إذ أنها تستند إلى علاقات دائمة.

وفي اختياره لأعضاء حكومته ومستشاريه، مرّ على ترامب سلسلة من كبار المستشارين، وغالباً ما كان يشعر بالإحباط لأنه لم يعثر على أشخاص يعتقدون أنه يمكن الوثوق به. وبدلاً من ذلك، فإنه يركز على الشيء الوحيد الذي يمكنه قياسه دائماً – قيمة الصفقة. وكما قال ترامب في خطاب ألقاه عام 2004: “احترس من الناس، حتى [هؤلاء] المقربين منك، لأنه في النهاية، إذا كان الاختيار بينك وبينهم، فسيختارون عادة أنفسهم. . . . عليك أن تفكر في نفسك في العرض بمفردك”.

تنبع قوة ترامب الكبيرة – وفراغه المخيف – من نفس سمات شخصيته: إنه يعيش في اللحظة الآنية، وبالتالي فليس هناك ما يمنعه من اتخاذ إجراءات قد يخجل من اتخاذها قادة آخرون أكثر شجاعة (كونهم يفكرون في العواقب). لقد سمح له تركيزه على منطق المعاملات (التجارية) في التعامل مع مختلف القضايا بالاستفادة من “نظرية الرجل المجنون” لريتشارد نيكسون، وهي الفكرة القائلة بأن أي رئيس مستعد لأن يُنظر إليه على أنه قاسٍ ولا يمكن التنبؤ بقراراته وأنه حتى معتوه، وبذلك يمكنه أن يجبر العدو على تقديم تنازلات خشية التعرض لهجوم شرس. إن تهديده بقصف المواقع الثقافية الإيرانية، ثم التراجع بعد أن قال وزير دفاعه إنها ستكون جريمة حرب، يمر بسهولة بالنسبة لرئيس يهتم بشكل رئيسي بالفوز في اللحظة الآنية فقط ولا ينظر لما وراء ذلك. وعند الانتهاء من تلك الصفقة، ينتقل مباشرة إلى الصفقة التي تليها بصفحة بيضاء، على الأقل في ذهنه هو.

 

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d9%88%d8%a7%d8%b4%d9%86%d8%b7%d9%86-%d8%a8%d9%88%d8%b3%d8%aa-%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d9%85%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%a7%d8%b1%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%85%d9%86-%d9%8a%d8%af%d9%81%d8%b9-%d8%a3%d9%83%d8%ab%d8%b1/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M