أزمة سقف دين الحكومة الأمريكية تنذر بخطر عالمي

  • أحمد بيومي
  • محمد صبري

 

إذا كنت تتجول في ساحة ميدان التايمز في نيويورك بالولايات المتحدة سترى لوحة إعلانية تحمل رقما كبيرًا يقترب من 31 تريليون دولار، ويزيد بمعدل مليار دولار يوميًا تقريبًا؛ هذا الرقم هو الدين العام الأمريكي، ذلك الدين الهائل والذي يتخطى حجم الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي 150% يهدد قدرة وزارة الخزانة الأمريكية على دفع فواتير مختلف القطاعات الحكومية، وقد يصل إلى إخفاق واشنطن في سداد جزء من مستحقات فوائد تلك السندات، فهل يمكن للاقتصاد الأكبر بالعالم أن يصبح بلا نقود تقريبًا، وكيف تنظم الحكومة الأمريكية الدين العام.

سقف الديون

قبل الحديث عن احتمالية إخفاق الولايات المتحدة الأمريكية من عدمه، يجدر العلم أولًا أن عملية إدارة الدين الأمريكي تتم من خلال تحديد الكونجرس الحد الأقصى للقيمة التي يمكن للحكومة الأمريكية استدانتها، عادة ما تستدين الحكومة الفيدرالية الأمريكية من خلال إصدار سندات (أداة دين يتم بيعها للمستثمرين مقابل التعهد بسداد مبلغ فائدة محدد ثم رد قيمة المبلغ الأصلي بنهاية المدة)، جرى العرف أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتغطية الدين العام من خلال الاستدانة لسداد تلك الفوائد، ثم الاستدانة مجددًا لسداد الديون والفوائد الأقدم فيما يعرف اقتصاديًا باسم “تدوير الدين” “Debt Rolling”. وعليه، فإنه كلما استدانت الحكومة الأمريكية اقترب حجم الدين من سقف الديون الذي يضعه الكونجرس والذي لا يمكن للحكومة الأمريكية تجاوزه.

لكن لماذا تم وضع ذلك السقف؟ في عام 1917 وخلال الحرب العالمية الأولى، استخدمت الولايات المتحدة إصدار السندات لتمويل نفقات الحرب، لكن في ذلك الوقت كان الأمر يتطلب موافقة الكونجرس على إصدار كل سند، وهي عملية مرهقة ومكلفة للغاية، وهو ما يطرح احتمالية عدم قدرة الولايات المتحدة أو تأخرها في سداد نفقات الحرب.

ولتفادي ذلك الأمر، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر من عام 1917 قانون “Second Liberty Bond Act” يمكن ترجمته “قانون سندات الحرية الثاني”، بموجب ذلك القانون منح الكونجرس الحكومة الأمريكية الحق في إصدار سندات دون الرجوع إليه بقيمة 11.5 مليار دولار. كانت تلك هي البداية التي دفعت المشرعين للتفكير في وضع سقف للدين الأمريكي في عام 1939 بمبلغ 45 مليار دولار وهو السقف الأول للدين العام الأمريكي، وظلت الحكومة ملتزمة بذلك السقف لمدة 14 عامًا، لكن الاختراق الأول لسقف الدين العام حدث في تاريخ 1953 عندما كان ذلك السقف 275 مليار دولار.

ومنذ ذلك الوقت يتم تطبيق تلك السياسة وهي وضع سقف للدين الأمريكي لا يمكن للحكومة تجاوزه دون موافقة الكونجرس، لكن ذلك السقف لم يثن الحكومة الأمريكية عن الاستدانة، فكلما اقتربت الحكومة من الوصول لذلك السقف تسرع للتقدم إلى الكونجرس لرفع حد ذلك السقف مبررة أنه في حال عدم الموافقة ستتخلف الولايات المتحدة الأمريكية عن سداد ديونها أو جزء منها، أو سيتوقف الإنفاق في الولايات المتحدة الأمريكية بالكامل.

شهد العام 2021 المرة الأخيرة التي اصطدمت فيها الحكومة الأمريكية بسقف الدين ولجأت إلى الكونجرس، ففي سبتمبر من عام 2021 خاطبت وزيرة الخزانة الأمريكية “جانيت يلين” رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك “نانسي بيلوسي” برسالة مفادها أنه من المرجح أن تستنفد وزارة الخزانة تدابيرها النقدية والاستثنائية في أي وقت خلال شهر أكتوبر من عام 2021، وطالبت الكونجرس برفع سقف الديون وهو ما يمكّن الوزارة من الحصول على ديون جديدة تسدد بجزء منها الديون القديمة وفوائدها ثم استكمال خطة الإنفاق العام. في ذلك الوقت (سبتمبر 2021) كان إجمالي الدين العام الأمريكي 28.9 تريليون دولار، وكان الدين العام قد وصل إلى ذلك السقف، وهو ما دفع الحكومة إلى مخاطبة الكونجرس لرفع ذلك السقف.

لكن هل الأمر بتلك السهولة؟ بالطبع لا فالكونجرس الأمريكي يسيطر عليه الحزبان الديمقراطي والجمهوري وعادة ما يكون أحد هؤلاء الأحزاب في سدة الحكم وهو ما يعني أن الحزب الآخر يعارض قرارات الحزب الأول والحكومة، فعلى سبيل المثال استمرت النقاشات حول سقف الدين في البرلمان في عام 2021 لفترة تتجاوز الشهرين قبل التوصل إلى اتفاق سُمح به برفع سقف الدين إلى 31.4 تريلون دولار (رفع بقيمة 2.5 تريليون دولار)، مع توقعات بأن يكفي ذلك السقف حتى يوليو 2023، لكن المثير في الأمر هو أن وزيرة الخزانة طالبت في نوفمبر 2022، وحذرت من أنه في حال عدم موافقة الكونجرس فإن ذلك سيشكل تهديدًا كبيرًا على التصنيف الائتماني للولايات المتحدة ولسير العمل بالبلاد.

ضخامة الإنفاق وتكلفة الدين

كانت وزارة الخزانة الأمريكية قد كشفت في أكتوبر من نفس العام عن أن الدين العام تجاوز 31 تريليون دولار للمرة الأولى في التاريخ، أما في ديسمبر 2022 فنشرت وكالة بلومبرج تحليلًا أشارت فيه إلى أن الحكومة الأمريكية لم يتبق لها سوى 98 مليار دولار لتصل إلى سقف الديون البالغ 31.4 تريليون دولار، وهو ما يعني أن هناك احتمالية كبيرة أن يقوم الكونجرس برفع سقف الدين في الربع الأول من عام 2023.

ويعود السبب الأساسي وراء الوصول إلى ذلك السقف (31.4 تريليون دولار) بتلك السرعة إلى ضخامة الإنفاق الحكومة والذي بلغ 6.27 تريليون دولار. أما السبب الآخر والأهم فهو ارتفاع تكلفة الدين العام الأمريكي؛ إذ تسببت سياسات الفيدرالي الأمريكي المتسارعة في رفع أسعار الفائدة بحوالي 4.2% حتى نهاية عام 2022 -في محاولة منه لاحتواء التضخم- في رفع تكلفة خدمة الدين الأمريكي بشكل متسارع.

وأعلنت وزارة الخزانة في ديسمبر 2022 أن تكلفة خدمة الدين العام خلال شهري أكتوبر ونوفمبر فقط بلغت 103 مليارات دولار أمريكي، وهو ما يزيد على تكلفة خدمة الدين لنفس الشهرين في العام 2021 بنسبة 87%. وعليه ولسداد تلك الفوائد المرتفعة، استدانت الحكومة من السوق، وهو ما دفع الدين العام إلى الارتفاع بشكل متسارع ليصل إلى السقف قبل موعده المحدد، وهو ما دفع الحكومة إلى العودة إلى الكونجرس للمطالبة برفع السقف، لكن ماذا لو رفض الكونجرس رفع سقف الدين؟

سيناريوهات رفض الكونجرس

يمكن القول إن احتمالات أن يرفض الكونجرس طلب وزارة الخزانة برفع سقف الدين تبقى ضئيلة؛ بالنظر إلى تاريخ موافقات الكونجرس على الطلبات السابقة برفع سقف الدين، ولكن في الوقت نفسه فإن الكونجرس قد رفض رفع سقف الدين مرة واحدة من قبل وذلك في عام 1953، عندما اصطدم الدين بسقف الدين البالغ 275 مليار دولار.

في ذلك الوقت طلب الرئيس الأمريكي “أيزنهاور” من كل الوكالات الفيدرالية البدء في خفض النفقات في أسرع وقت، ثم لجأت الحكومة إلى استخدام احتياطيات البلاد من الذهب، لكن تلك الاحتياطيات لم تكف، وهو ما دفع الحكومة الأمريكية إلى التفاوض مع الكونجرس لمدة عام كامل قبل أن يوافق الكونجرس على زيادة سقف الدين بحوالي 6 مليارات دولار ليصل إلى 281 مليار دولار.

يمكن للحكومة الأمريكية أن تطبق كذلك بعض الإجراءات الاستثنائية التي يتمثل أولها في استرداد قيمة سندات الخزانة بحسابات مدخرات تقاعد الموظفين الفيدراليين (يمكن للخزانة الأمريكية شراء سندات تصدرها حسابات الموظفين الفيدراليين مقابل تحصيل عوائد، ويمكن لها استردادها قبل موعد استحقاقها). ويمكن للخزانة الأمريكية وقف بعض من مساهمتها في الصناديق الحكومية التقاعدية، وقد سبق لوزارة الخزانة أن استخدمت مثل تلك الإجراءات في عام 1985 للمرة الأولى، تلا ذلك استخدامها لحوالي 16 – 17 مرة أخرى.

لكن تلك الحلول لن تكفي احتياجات الخزانة الأمريكية ونفقاتها الضخمة في الوقت الراهن، وهنا يأتي الحل الأخير لذلك الموقف وهو التعديل الرابع عشر من الدستور الأمريكي والذي يسمح لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية بتجاهل سقف الدين والسماح لوزارة الخزانة بالاقتراض في حال رفض الكونجرس زيادة السقف، لكن دائمًا ما يُنظر إلى ذلك الحل على أنه الحل الأخير الذي يمكن استخدامه في أوقات الطوارئ.

آثار مدمرة عالميًا

بافتراض عدم موافقة الكونجرس على رفع سقف الدين في الربع الأول من عام 2023، واستنفاد الحكومة الأمريكية لكل البدائل السابق الإشارة إليها، فإن ذلك سيعني أن خزائن الحكومة ستصبح خالية من الإنفاق، وهو يعني تخلف الولايات المتحدة عن سداد: الفواتير، والأجور، والمعاشات، وفوائد ديونها محليًا وعالميًا. ومن ثم فإن ذلك يعني تخلف الولايات المتحدة الأمريكية عن سداد ديونها. وقد حدث ذلك بالفعل تاريخيًا مرة واحدة في عام 1979 بتخلف الحكومة الأمريكية عن سداد 122 مليون دولار في الموعد المحدد، لكنها سددتها لاحقًا في غضون ثلاثة أسابيع.

كانت النتائج العكسية لذلك التخلف هو رفع تكلفة الاقتراض الأمريكية بمقدار 0.6 %. لكن عالم اليوم يختلف حيث توقعت شركة “Moody ’s Analytics“ في تقريرها الصادر في سبتمبر 2021 أن تكون آثار التخلف الأمريكي عن سداد ديونها أو تكلفة ديونها مشابهة لآثار الكساد الكبير، حيث سينخفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة 4%، وسيفقد 6 ملايين مواطن وظائفهم، وسيصل معدل البطالة إلى حوالي 9%، وسيخسر المواطنون الأمريكيون حوالي 15 تريليون دولار من ثرواتهم بعد هبوط أسواق المال بحوالي 33%. ويمكن أن تستمر تلك الآثار لسنوات.

وأمام كل تلك الخسائر نقف أمام خيار واحد وهو موافقة الكونجرس الأمريكي على رفع سقف الديون لتكون هي المرة رقم 100 والتي ستحدث في الربع أو النصف الأول من العام الجاري 2023.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75160/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M