أسراب من الطائرات المُسيَّرة ذاتية التوجيه.. ومدفع بعيد المدى _ تقنيات حديثة تسعى الولايات المتحدة لتطويرها على خلفية النزاع الروسي الأوكراني

جيسون شيرمان

في إبان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، وتدخُّلها في شؤون منطقة حوض دونِيتس، أو ما يُعرف بإقليم دونباس، كان من الجليّ أن الجيش الروسي بات يعتمد على تقنيات وتكتيكات حربية جديدة، فضلًا عن تبنِّيه أساليب حديثةً في التنظيم العسكري، وهي التطورات التي كانت كفيلةً آنذاك بدفع الجيش الأمريكي إلى إعادة صياغة تصوراته حول إستراتيجيات الحرب الحديثة، واليوم، وفي حين تتلاعب موسكو بتوقعات القادة في الولايات المتحدة وأوروبا حول ما إذا كانت ستغزو أوكرانيا مرةً أخرى، تسعى وزارة الدفاع الأمريكية سعيًا حثيثًا للدفع بمشروعات تعكس ما استقر لديها من أولويات عسكرية على خلفية النزاع الدائر بين روسيا وأوكرانيا.

ومن هنا، تعكف الوزارة حاليًّا على تطوير عدد من التقنيات، ينطوي بعضها على مشروعات طموحة للغاية، حتى إنها تبدو وكأنها مقتبسة من إحدى روايات الخيال العلمي، مثل المشروع الذي يطمح إلى تشكيل أسراب من الطائرات المُسيَّرة ذاتية التوجيه، ومشروع آخر يتضمن تدشين مدفع خارق يبلغ مدى مقذوفاته نحو 1600 كيلومتر، ولعل المشروع الأكثر طموحًا هو ذلك الذي يسعى للجمع بين تقنيات الرادار والتواصل المتعارَف عليها، وأحدث تقنيات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، وذلك بهدف إنشاء أنظمة ذاتية التوجيه وقادرة على التنسيق بين عمليات عسكرية تدور في ساحات قتال مختلفة.

ويمكن القول بأن كثيرًا من هذه الجهود قد استمد شرارته الأولى من دراسة أجراها الجيش الأمريكي حول الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2014، وكانت روسيا قد أظهرت قدرتها خلال ذلك الغزو على نشر الحرب على نطاق واسع، يتخطى حدود ساحات القتال التقليدية؛ إذ أدارت روسيا الحرب عبر الفضاء السيبراني أيضًا، كما وَظَّفت أدوات الحرب الإلكترونية، واستخدمت المعلومات سلاحًا، وخَلُصت الدراسة الأمريكية إلى أنه في حال نشوب نزاع في المستقبل، فإن هذه القدرات الجديدة التي اكتسبتها روسيا قد تقترن بتقنيات مثل الأسلحة الروبوتية، والقذائف طويلة المدى التي تُطلِقها الصواريخ دقيقة التوجيه ضمن هجمات جوية أو هجمات تُنفَّذ من الفضاء، وذهب التقرير الناتج عن الدراسة إلى أن المحصلة النهائية لاستخدام هذه التقنيات قد تضع الولايات المتحدة في مرتبة أدنى من روسيا، إذا ما قورنت بها في عدة مجالات محورية، من بينها تقنيات التّصدّي بسلاح المدرعات، والمدفعية، وأنظمة الدفاع الجوي، والفضاء، وتقنيات الفضاء السيبراني، وفي هذا الصدد، علَّق مؤلفو التقرير بأن رأب الفجوة الناتجة عن التقدم الروسي سيتطلب من الولايات المتحدة أن تتأقلم مع “الواقع الجديد الذي تفرضه ساحة القتال بشكلها الحديث”، وإلّا كان مصيرها الهزيمة في ساحة القتال التقليدية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفكُّك حلف شمال الأطلسي، ويضع العالم على حافة صراع نووي.

ويقول الجنرال جيمس مِكونفيل، رئيس أركان الجيش الأمريكي: “إننا أمام نقطة تحول مهمة، ولنا منافسون إستراتيجيون لديهم جيوش ضخمة”، وأضاف الجنرال أن الجيش الأمريكي قد ركز خلال الفترة الماضية على عمليات مكافحة الإرهاب في أفغانستان والعراق، ولكن احتمالية الدخول في صراع مع روسيا -أو الصين، التي ترى وزارة الدفاع الأمريكية أنها تُمثِّل تهديدًا كبيرًا بالنسبة للجيش الأمريكي- تُحتِّم على الولايات المتحدة أن تُوجِّه تركيزها صوب مجموعة مختلفة من التقنيات العسكرية، ومن ثَمَّ، يُعلِّق مكونفيل قائلًا: “لكي نردع منافسينا الإستراتيجيين، علينا أن نُطوِّر قدرتنا على إدارة عمليات قتالية واسعة النطاق”.

العمليات القتالية متعددة المجالات

في نوفمبر الماضي، استضافت القيادة المعنية بتطوير تقنيات المستقبل لدى الجيش الأمريكي تجربةً ضخمةً تهدف إلى تحديث التقنيات الحربية بالجيش، فيما يُعرف بمشروع «بروجكت كونفرجنس 21» Project Convergence 21، وقد تضمنت الفعالية -التي انعقدت في ولاية أريزونا- عرض أكثر من 100 تقنية جديدة، تهدف جميعها إلى الدفع بمفهوم جديد لإستراتيجية القتال، وهو المفهوم الذي بزغ في أعقاب العمليات العسكرية الروسية في 2014، وصاغته وزارة الدفاع الأمريكية في مشروع شبكة قتالية أطلقت عليها اسم «شبكة القيادة والتحكم المشترك في جميع المجالات» (JADC2).

يهدف هذا المشروع التقني إلى إتاحة إمكانية التنسيق السريع بين عمليات القتال على جبهات متعددة؛ فعلى غرار تطبيقات خدمات النقل، التي تقوم طريقة عملها على جمع البيانات الخاصة بالموقع والمسافة وزمن الرحلة، ومن ثَمَّ تحديد أفضل الخيارات الملائمة للزبون والسائق، تهدف «شبكة القيادة والتحكم المشترك في جميع المجالات» إلى جمع البيانات القادمة عبر روافد الاستخبارات العسكرية الأميركية ووسائل المراقبة والاستطلاع، وتخزينها في قاعدة بيانات سحابية يمكن الوصول إليها عبر الإنترنت، ومن ثَمَّ الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات في معالجة البيانات لتحديد السلاح الأكثر ملاءمةً للتعامل مع هدف بعينه، وفي أفضل الأحوال، سيكون من شأن القدرة التنسيقية التي تتيحها هذه الشبكة أن تخلق قوةً قتاليةً واحدةً من قوات الجيش، وسلاح البحرية، والقوات الجوي، وقوات مشاة البحرية الأمريكية، بحيث يمكن لأي جهاز استشعار الاتصال بأي سلاح ضمن تكتُّل هذه القوات وإمداده بالبيانات، مثلًا، إذا رصد جهاز رادار على طائرة قتالية ما من طراز F-16 هدفًا مُعاديًا، فإن منظومة «شبكة القيادة والتحكم المشترك في جميع المجالات» ستُجري حسابات تُحدِّد في اللحظة نفسها تقريبًا ما إذا كانت غواصة، بحكم موقعها، هي الأداة الأفضل لمهاجمة ذلك الهدف عن طريق إطلاق صاروخ جوال مُخصَّص للهجوم البري، وهو القرار الذي كان اتخاذه سيستغرق ساعات -وربما أيامًا- من التنسيق بين القوات الجوية والبحرية في ظل التقنيات المستخدمة حاليًّا.

وتقول ميلاني مارلو، الباحثة غير المقيمة بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية: إن “الهجوم الكبير المحتمل أن تشنه روسيا على أوكرانيا خلال فصل الربيع القادم قد يكون بمنزلة دراسة حالة تُنبئنا بما ستبدو عليه الهجمات المتطورة ومتعددة المجالات”، وتضيف الباحثة: “إن اجتماع عوامل مثل [الطائرات بلا طيار]، والصواريخ الموجهة، والهجمات الإلكترونية، فضلًا عن وجود قوات على الأرض، سيمثل تحديًا كبيرًا”، ومن هنا، فإن الفكرة وراء منظومات مثل «شبكة القيادة والتحكم المشترك في جميع المجالات» تكمن في أنها قد تؤدي دورًا في مواجهة ذلك التحدي عن طريق إعانة القوات الأمريكية وحلفائها على تنسيق هجمات يمكن شنُّها بصورة متزامنة وعبر مجالات عديدة، أي برًّا وبحرًا وجوًّا، وفي الفضاء الخارجي، وعلى صعيد الفضاء السيبراني، وباستخدام أدوات الحرب الإلكترونية، وثمة تعويل على أن تشغيل المنظومة بهذه الطريقة قد يكون من شأنه إرباك منافسي الولايات المتحدة ممن لديهم قدرات قتالية مناظرة لها، مثل روسيا والصين، وذلك عن طريق وضعهم في مواجهة مع تحديات لا قِبَل لهم بمضاهاتها، يقول الجنرال مكونفيل: “إن ما نسعى إليه هو السرعة، والمدى الواسع، والتكامل في منظوماتنا بحيث نتفوق على منافسينا”، ويضيف: “إننا نبحث عن قدرات وميزات تمنحنا الأفضلية [في النزاع]، وجهودنا في ذلك مدفوعة بالعمل جنبًا إلى جنب… مع حلفائنا وشركائنا، كقوة مشتركة”.

أسراب من الطائرات المُسيَّرة

كشفت وزارة الدفاع الأمريكية في مطلع الشهر الجاري عن طيف من الأولويات الجديدة التي تهدف إلى دفع الابتكار قُدمًا فيما يخص 14 مجالًا من “المجالات التقنية ذات الأهمية المحورية”، ويَبرز الذكاء الاصطناعي والتوجيه الذاتي للأسلحة باعتبارهما اثنين من أهم هذه المجالات؛ ذلك أن المعرفة العلمية والبحثية في هذين المجالين تُعَد لازمةً لدعم منظومات الأسلحة المطلوبة للقتال في المناطق المؤمَّنة جيدًا، مثل منظومة أسراب الطائرات المُسيَّرة.

تقول هايدي شيو، وكيلة وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون الأبحاث والتقنية: إن اختراق مناطق النزاع المؤمَّنة جيدًا -وهو التحدي الذي سيقابله الجيش الأمريكي في حال الدخول في صراع مع الصين أو روسيا- يتطلب من واشنطن أن تعمل على تطوير فئة معينة من التقنيات، وتضيف شيو أن وزير الدفاع لويد أوستن سألها، في لقاء مبدئي العام الماضي، عن ماهية تلك التقنيات، وكان جوابها: “ينبغي أن تضمن تلك التقنيات توفير القدرة على الاختراق والغزو بمنظومات الاستخدام الواحد، ذات التكلفة المنخفضة، والتي لا تحتاج إلى وجود العنصر البشري”، (وتُعرف منظومات الاستخدام الواحد بأنها منظومات مُصمَّمة لاستخدامها في مهمات قصيرة الأمد؛ فأسراب الطائرات المُسيَّرة المذكورة هنا مثلًا ستدخل ساحة القتال على افتراض أنها لن تعود إلى المحطة التي انطلقت منها)، وتشرح شيو مقصدها فتضيف: “لكي نتمكن من فعل ذلك، أعتقد أننا نحتاج إلى منظومات ذكاء اصطناعي ومنظومات توجيه ذاتي يمكن الوثوق بأنها ستؤدي مهماتها في غياب التوجيه بالأقمار الصناعية عبر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)”، وتعبِّر شيو أيضًا عن رغبتها في المزاوجة بين الذكاء الاصطناعي والهندسة لإنتاج أساطيل ذاتية التوجيه من الطائرات الآلية، والمركبات البرية، وكذلك المركبات البحرية، سواء كانت مهيأةً للإبحار فوق سطح الماء أو تحته، وفي حال استطاعت كل تلك المنظومات أداء مهماتها دون تدخُّل بشري إلا في أدنى الحدود، حتى في البيئات التي لا تعمل فيها وسائل التوجيه بالأقمار الصناعية، فإن هذا سيعني أنها قادرة على أداء مهمات عديدة، مثل جمع المعلومات الاستخباراتية، والمراقبة والاستطلاع، وكذلك شن الهجمات على أهداف بعينها.

وتعتمد شيو في جهودها الجديدة على تقنيات قائمة بالفعل في هذا المجال، وهي من تطوير شركات أمريكية والجيش الأميركي، على سبيل المثال، أثبت الجيش الأمريكي أنه قادرٌ بالفعل على تطوير أسراب من الطائرات المُسيرة ضئيلة الحجم، التي أُنتِجت بطريقة الطباعة ثلاثية الأبعاد، وإطلاقها من طائرات مقاتلة، مما يساعد الطيارين في الطائرات المقاتلة على تحاشي المخاطر المصاحبة للمكوث فترات طويلة في المجال الجوي لمناطق مُعادية.

هجمات في العمق

كشف الجيش الأمريكي في مطلع يناير الماضي أنه يعتزم إجراء تجربة إطلاق مدفعي لاختبار قدرات نموذج لمدفع فائق القدرة، وذلك بحلول عام 2024، ومن المأمول أن ينجح هذا “المدفع بعيد المدى” في ضرب أهداف تقع على بُعد نحو 1600 كيلومتر، وهي مسافة أطول بكثير من المسافة التي عادةً ما يمكن للقذائف أن تقطعها؛ إذ إن مدى المدافع المستخدَمة حاليًّا لا يتجاوز 40 كيلومترًا.

ولقد كان أحد أهم الدروس المستفادة من الغزو الروسي لأوكرانيا في 2014 هو ذلك الدرس المتعلق بحاجة الجيش الأمريكي إلى التوسع في منظوماته الخاصة بالهجمات بعيدة المدى، وهو ما يحدث الآن بالفعل؛ إذ إن الجيش حاليًّا في طريقه لإدخال عدة منظومات جديدة للصواريخ بعيدة المدى بحلول 2023، غير أن المدفع بعيد المدى ما زال غير مُدرَج ضمن قائمة منظومات الأسلحة التي أقرَّها الجيش، ويصف قادة في الجيش الأمريكي المدفع الفائق بأن عليه “رهانًا كبيرًا” في خططهم المتعلقة بعلوم الأسلحة وتقنيات تطويرها؛ فهذا المدفع، وإن كان يبدو واعدًا، ما زال في حاجة إلى بلوغ مستوى مقبول من النضج التقني قبل أن يدخل خط الإنتاج بهدف استخدامه في عمليات عسكرية، وتقوم فكرة المدفع الفائق على استخدامه جنبًا إلى جنب مع سلاح جديد ابتكره الجيش، وهو «السلاح بعيد المدى المتجاوز لسرعة الصوت» Long-Range Hypersonic Weapon، الذي يعمل ضمن منظومة محمولة على شاحنات تطلق صواريخ موجهة بسرعات تفوق سرعة الصوت، ويُعتقَد أن المزاوجة بين هذين السلاحين سيكون من شأنها إرهاق الدفاعات الجوية للقوات المعادية، مهما بلغ تطورها ومهما بلغت كثافتها، مما يتيح للقوات الأمريكية فرصة اختراق المناطق التي تؤمِّنها تلك الدفاعات، وحتى إن بدَّل الجيش فكرته وقرر الاكتفاء بالمدفع الفائق دون الجمع بينه وبين سلاح آخر، فسيكون هذا القرار في صالحه؛ لأن المدفع يُعد بديلًا أرخص بكثير من الفاتورة الباهظة التي تُقدر بمئة وستة ملايين دولار عن كل قذيفة تطلقها منظومة السلاح بعيد المدى المتجاوز لسرعة الصوت.

وكان البرلمان الأمريكي قد وصف مشروع المدفع الفائق بأنه “فكرة مبتكرة”، ومن ثَمَّ، فقد سعى البرلمان لاستكشاف إمكانية تحقيق هذه الفكرة على أرض الواقع عن طريق إصدار توجيهات للأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب بإجراء تقييم مستقل لمشروع المدفع وتقديم تقرير حول إمكانية تطويره، ولم تُنشَر نتائج هذه الدراسة بعد، ولكن لجنة التقييم عرضت ملخصًا لها على قادة في الجيش، وقد قال مسؤولون رفيعو المستوى في قطاعات الجيش المختلفة إنهم متفائلون بها، وقال العميد جون رافرتي، مدير قيادة تقنيات المستقبل بالجيش، والمسؤول عن تطوير أحدث الصواريخ والمدافع بعيدة المدى: “إن الجهات المتخصصة التي نظرت في الأمر انتهت إلى أننا قادرون على تطوير هذا المدفع”، وأضاف: “لا شك أن أمامنا تحديات عديدة… ولكن الاستثمار في هذا السلاح ربما يكون المسار الأقل تكلفةً لإنجاز مهمة كهذه.

 

.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/reports/30347

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M