د. عبد الحسين شعبان
غالباً ما يرتبط الحديث عن الحرب الناعمة بالحرب الصلبة، وأحياناً تسمّيان «الدبلوماسية الناعمة»، و«الدبلوماسية الخشنة»، ومنهما يتفرّع مفهوما «الأمن الناعم» و«الأمن الصلب». وطريق الحرب الناعمة طويل ومتعرّج وبطيء، ولكنّه الأقل كلفة، بشرياً ومادياً ومعنوياً، وهي تستهدف كسب العقول والقلوب في الآن، والتأثير في الوجدان والسلوك.
وتمثّل الحرب الناعمة الجيل الرابع من الحروب. وعملت الولايات المتحدة على تطوير استراتيجياتها منذ سبعينات القرن الماضي، وخلال احتدام «الصراع الأيديولوجي»، ضدّ الاتحاد السوفييتي في فترة ما أُطلق عليه «الحرب الباردة».
وكان المفكّر الأمريكي، نعّوم تشومسكي، المعروف بمناهضته لسياسة الهيمنة الأمريكية، هو من لفت الانتباه إلى دور الحروب الناعمة التي تستهدف إجبار العدو على الرضوخ بوسائل غير حربية، في كتابه «صناعة الإذعان».
ويُعتبر جوزيف ناي أول من صكّ مصطلح «الحرب الناعمة» في عام 1990 في كتابه الموسوم «وثبة نحو القيادة»، ثم توسّع في تفسيره وشرحه وتطويره ليصبح نظرية كاملة في كتابه المعنون «القوة الناعمة».
وفي الحرب الناعمة فإن الخصم، أو العدو، يتخفّى بصورة ماكرة، أو مخادعة، وراء عناوين تبدو بريئة أحياناً، سواء بتعميم قيمه، أو تشويه صورة الآخر، وإضعاف معنوياته عبر إعلام مضلّل ودعاية سوداء، والهدف كسر شوكته وتحطيم مقاومته بوسائل غير عنفية، بدلاً من الإكراه بالعنف والوسائل الحربية.
الحرب الناعمة تستخدم جميع وسائل القوّة غير العسكرية، لاسيّما الجاذبية الثقافية لدولة ما، وقيمها السياسية ونظامها الاجتماعي، من خلال ثلاث دوائر أساسية: أولاها الدائرة الاقتصادية، أي قوّة الاقتصاد، وثانيتها القوّة العسكرية، فبقدر ما تحتاج القوّة الناعمة إلى وسائل غير عسكرية، فهي بحاجة إلى قوّة عسكرية تمثّل ردعاً، حتى وإن لم تُستخدم، لأن امتلاك القوّة يوازي استخدامها، وثالثتها القوّة الثقافية، بما فيها الفنون والآداب ونمط الحياة للتأثير في سلوك الآخر، سواء كان بصورة ظاهرة، أو مُضمرة.
وهكذا، فقوّة الحرب الناعمة ثلاثية الأبعاد مثل لعبة الشطرنج. وعلى من يريد تحقيق الفوز اللعب بالاتجاهات الثلاثة، وليس باتّجاه واحد، فقد فرضت العولمة سياقات جديدة بفعل التطوّر الهائل وغير المسبوق في وسائل الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام. يضاف إلى ذلك عدم قدرة السلاح النووي وحده على الردع، لأن استخدامه أمر يعود بالضرر على الجميع، بمن فيهم من يستخدمه.
وهكذا تغيّرت معادلات القوّة وموازين القوى، وأخذ دور الحرب الباردة الجديدة يزداد ويتّسع للتأثير في العقول، وأحياناً لنزع «شرعية»، أو فرضها، أو بناء «مشروعية»، أو حجبها، من خلال قلب الحقائق وخلط الأوراق وتحويل نقاط القوّة إلى نقاط ضعف، لاسيّما بالحروب السيبرانية والبيئية والفضائية.
ولكي تدار الحرب الناعمة بمهارة، لا بدّ من ابتكار وسائل جديدة لمخاطبة العقول وكسب القلوب، ورفع شعارات جديدة ومؤثّرة، على الصعد الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والفني، بما فيها نمط الحياة الذي يُراد تعميمه لتسويق وترويج وجهات النظر، وزرع الشك، وعدم اليقين بكلّ ما يخالفها.
وتقيم الدول الكبرى وأجهزتها صلات ومنصّات وبوابات دبلوماسية وثقافية ومراكز أبحاث ودراسات، ومشاريع اقتصادية وفنية وإعلامية ورياضية، ضمن مخططات آنية ومتوسّطة وبعيد المدى للتأثير في الآخر، سواء لنقض روايته، أو لاختراع رواية جديدة بتزوير وثائق واختلاق أكاذيب، تصبّ في نهاية المطاف للفوز في حربها الناعمة.
وتقوم الدول اليوم وبعض مراكز القوّة في الدول الكبرى وبعض البلدان النامية بمراجعة وتقييم القوّة الناعمة وتحديد المؤسسات التي تقوم بها، لإدراك منافسيها من جهة، ومزاياها من جهة أخرى.
ويبدو أن الحرب الناعمة ستكون لها الأولوية في ظلّ ثورة الاتصالات والمواصلات واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي، وهو أمر قد تكون نتائجه خطرة على البشرية، وقد لا تقلّ خطراً عن الحروب العظمى.
.
رابط المصدر: