أفريقيا في الصراع الروسي الغربي

رشا رمزي

 

بينما ينشغل العالم بالحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها التي أثرت على العالم كله؛ تنتشر قوات فاجنر الروسية في أفريقيا التي تعرضت مؤخرًا للعديد من الضربات الموجعة؛ إذ تعمل الجماعة شبه العسكرية الروسية على زيادة وجودها في أفريقيا الممتد من مالي إلى جمهورية أفريقيا الوسطى عبر الساحل. في حين أن الجيش الروسي غارق في حرب استنزاف مع أوكرانيا، فإن مجموعة فاجنر تعد نائبًا للتعبير عن مصالح موسكو الجيوسياسية في الدول الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية.

لكن لم يكن انتشار القوات الروسية في الدول الأفريقية أمرًا سهلًا؛ فقد تعرضت غير مرة لضربات كان آخرها القصف لقاعدة عسكرية في أفريقيا الوسطى تابعة لقوات فاجنر في نوفمبر الماضي، بعد شهور من الهجوم الاعلامي الغربي على وجودها واتهامها بالعديد من التهم.

فاجنر.. الهدف والتوقيت

منذ أن تولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السلطة عام 2012، عملت وزارة الدفاع الروسية دون إشراف برلماني مستقل، فحلت العلاقات الفردية محل البيروقراطية العسكرية والاستخبارية، وسمحت الشبكات الخاصة للدائرة المقربة من بوتين بالعمل في الظل والتشجيع على استخدام الجماعات شبه العسكرية والمرتزقة. فقام العقيد المتقاعد دميتري أوتكين بتأسيس جماعة فاجنر، مما يوفر صلة بين المجموعة وجهاز المخابرات العسكرية الروسية، وتصدرت عناوين الصحف العالمية لأول مرة عام 2014 بعد الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم بشرق أوكرانيا. يُعتقد أن مجموعة فاجنر يمولها يفغيني بريغوجين Yevgeny Prigozhin، وهو رجل أعمال أصبح قائدًا سيئ السمعة.[1]

ولسنوات، نفت مجموعة فاجنر أي صلة رسمية بالكرملين، ومع ذلك قام بريغوزين بتبادل التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي مع كبار المسؤولين العسكريين الروس. لكن من الواضح أن الكرملين قرر استخدام الجماعات شبه العسكرية والمرتزقة كنهاية لسياستها الخارجية الرسمية في المنطقة من الشرق الأوسط إلى أفريقيا. فاستراتيجية الكرملين واضحة ومباشرة حيث توفر المرتزقة إمكانية إنكار من قبل الحكومة، وتحقق أهدافًا استراتيجية محددة بموارد محدودة. لقد تغيرت عقيدة الحرب بالوكالة الروسية منذ الحقبة السوفيتية. واليوم، لا يمكنها الاعتماد على الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق لتزويدها بالقوات بالوكالة المطلوبة لشن حرب استكشافية، مثل الكوبيين في أنجولا، لذا تعد مجموعة فاجنر “استعراض قوة موسكو بثمن بخس”.

لماذا أفريقيا

انتشرت فاجنر في حوالي اثنتي عشرة دولة أفريقية كجزء من جهد روسي لإبراز القوة في القارة واستخراج موارد ثمينة. وارتبط نجاحها في التوغل في الدول الأفريقية بالعديد من الأسباب، بدءًا من تاريخ روسيا الطويل من المشاركة في أفريقيا ودعم العلاقات القوية مع العديد من البلدان الأفريقية، وعدم تحملها عبء الاستعمار والاستغلال الاقتصادي ما بعد التحرر. فمنذ صعود بوتين إلى السلطة، زادت روسيا من وجودها الاقتصادي والعسكري في أفريقيا. فمن مالي إلى السودان، تستفيد مجموعة فاغنر من مزيج: عدم الاستقرار السياسي، ووفرة الموارد الطبيعية والمعارضة المسلحة غير المؤثرة.

لذا نجحت مجموعة فاجنر في تعزيز الأهداف الروسية في القارة دون أن تحظى بنفس المستوى من الرفض مثل الوحدات العسكرية الروسية النظامية. إلى جانب تقديم الدعم؛ إذ لعبت فاجنر كمصدر للتسليح للأوليجاركيين المرتبطين ببوتين. فحسب بعض التقارير، على سبيل المثال في أفريقيا، تقدم فاجنر خدمات تدريب وتوريد المعدات العسكرية الروسية؛ مقابل العملة الصعبة والمعادن النفيسة التي تساعد الكرملين على تخفيف العقوبات الدولية.[2]

ففي جمهورية أفريقيا الوسطى، دافع مقاتلو فاجنر عن نظام فاوستن أرشانج تواديرا ضد هجمات المتمردين المتتالية على العاصمة بانجي، في المقابل، حصلت الشركات الروسية على امتيازات تعدين الماس والذهب التي تمتلك مخزونًا كبيرًا منهما، حيث بدأت المجموعة في دعم معركة الحكومة ضد الجماعات المتمردة عام 2017. وفي المقابل، اكتسب المستشارون الروس أذن الدولة في الأمور السياسية والاقتصادية. وفي السودان عام 2017، قدمت مجموعة فاجنر الدعم الأمني واللوجستي لحماية الرئيس السابق عمر البشير.[3]

وكذا الحال في موزمبيق الغنية بالغاز؛ حيث دعمت مجموعة فاجنر القوات الحكومية التي تقاتل المتمردين في شمال البلاد. قبل شهر من نشر فاجنر قواتها في سبتمبر 2019، وقعت موزمبيق اتفاقيات بشأن الموارد المعدنية والطاقة والدفاع مع روسيا. وفي مالي عام 2021، تعاقدت الحكومة مع مجموعة فاجنر لمحاربة التطرف في منطقة الساحل.[4]

العوائد السياسية

لم تقدم الدول الأفريقية مثل ليبيا والسودان وموزمبيق وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية العقود المربحة للموارد الطبيعية لروسيا فقط؛ بل أصبحت معبرًا لعودة روسيا إلى رقم صعب دوليًا. واكتسبت روسيا كذلك نفوذًا في القارة لأول مرة بعد انتهاء حقبة القطبية الثائية عندما انحازت الدول الأفريقية إلى جانب الغرب في المعركة بين الغرب وروسيا. فاستراتيجية روسيا هذه المرة متجذرة في السعي وراء الربح أكثر من الأيديولوجية. ويتعلق الأمر بكفاءة التكلفة والسياسة الواقعية الخام، والتي لا تولي اهتمامًا كبيرًا للأخلاق. وخاصة بعد أن غيرت الوحدات القتالية المرنة نتيجة الصراع السوري وقواعد اللعبة.[5]

فيما تمثل حالة مالي حالة مختلفة؛ فما أن طلبت الحكومة رسميًا من مجموعة فاجنر دعم نضالها ضد الجماعات الإرهابية، وتم التعاقد مع فاجنر؛ بعد فترة وجيزة من الوجود الروسي المتزايد في مالي، تمت الإطاحة بحكومة بوركينا فاسو المجاورة في يناير 2022 في انقلاب عسكري هو الخامس خلال عام في منطقة تُعرف باسم “حزام الانقلاب في القارة”.[6]

استجابة الغرب

لم يكن للغرب أن يقف ساكنًا وهو يرى تراجع النفوذ الغربي متمثلًا في طلب العديد من الدول الأفريقية من فرنسا الرحيل، بل استبداله النفوذ الروسي به، خصوصا أن الوافدين الجدد فعلوا أكثر في مواجهة المتمردين الجهاديين في أقل من عام مما فعلته فرنسا المستعمرة السابقة فيما يقرب من عقد. بدأ الامر في مالي وبوركينا فاسو وغيرها من الدول.

لذا بدأت الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة بتصنيف فاجنر على أنها “منظمة إجرامية عابرة للحدود”، ويرجع ذلك جزئيًا إلى دورها المتزايد في الحرب الروسية الأوكرانية، ونشرت العديد من التقارير التي تتهمها بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. وانتشرت المقالات والتقارير التي اتهمت فاجنر باستخدام أدوات الحرب “الهجينة”، بما في ذلك الدعاية والخداع والتكتيكات الأخرى غير العسكرية، ونشرها لزعزعة المصالح الغربية في القارة ووضع الدول وغيرها تحت نفوذ موسكو.

ونشرت المراكز البحثية تقارير عن تكثيف حملة تضليل روسية على وسائل التواصل الاجتماعي وحتى إنتاج أفلام تدعم وجود موسكو باللغات الروسية والمحلية الأفريقية والتي بثت رسالة دعائية واضحة “الشركة العسكرية الروسية هي آخر معاقل ضد الإرهابيين الإسلاميين المدعومين من قبل المرتزقة الغربيين”. ومن الأمثلة على ذلك فيلمان حديثان أُذيعا في روسيا وأفريقيا، وهما “Granite and Tourist”، اللذين تم تصويرهما في جمهورية أفريقيا الوسطى ودفعت تكاليفهما شركة روسية مملوكة لمؤسس فاجنر.[7]

ووجدت دراسة أجرتها منظمة غير حكومية بعنوان “النزاع المسلح” أن المدنيين استُهدفوا في أكثر من نصف أعمال العنف السياسي التي تورط فيها فاجنر في جمهورية أفريقيا الوسطى، و71٪ في مالي، حيث تم نشر المرتزقة الروس في أواخر عام 2021 لتعزيز الجيش بقيادة النظام مع انسحاب القوات الفرنسية. وفي تقرير أخر صدر في مايو 2022، ذكرت وجود قوات في جمهورية أفريقيا الوسطى أقر شهود العيان على أنهم روس؛ قاموا بضرب وتعذيب وقتل المدنيين منذ عام 2019. وقال إن القوات المرتبطة بروسيا في جمهورية أفريقيا الوسطى لم ترتدِ زيًا رسميًا وليس لديها مسؤول رسمي.

في الختام، لم يعد التنافس على النفوذ في الدول الأفريقية ما بين المعسكرين الغربي والروسي تنافسًا اقتصاديًا فقط، بل دخل مرحلة أخرى من الصراع، بداية من الدعاية السلبية وانتهاء بالتعرض بقوات وقصف مباشر؛ إذ من المعروف أن قوات الجماعات الارهابية لا تمتلك طائرات سواء طائرات حربية أو طائرات درون؛ يصبح هنا السؤال عمن المسؤول عن هذا القصف الذي تعرضت له القاعدة العسكرية التي تتمركز بها قوات لفاجنر في أفريقي الوسطى في نوفمبر 2022؟

وبإضافة تصريح السلطات في دولة أفريقيا الوسطى بأن هذه “الطائرة المجهولة” انطلقت من قاعدة عسكرية لدولة مجاورة؛ يثور السؤال هل تتحول أفريقيا لساحة حرب خلفية ما بين روسيا والمعسكر الغربي؟ وإلى أين سيقود هذا المسار.. هل ستقوم القوات الروسية باستهداف قوات الامم المتحدة المنتشرة في الدول الأفريقية وخاصة دول الساحل والصحراء!! الأمر الذي سيعرض المصالح الأفريقية للخطر بالتأكيد.


[1] Tatiana Stanovaya: Is Wagner Founder Yevgeny Prigozhin a Threat or Asset to Putin?, The Moscow Times (Moscow: 15th,. Feb., 2023)

[2] Alessandro Arduino: The Wagner Group in Africa Is Where the Rubber Meets the Road, The National Interest (Washington, DC: Nixon Center for Peace and Freedom, 10th., Feb., 2023)

[3] Alessandro Arduino: Wagner Group in Africa: Russia’s presence on the continent increasingly relies on mercenaries, The Conversation (Melbourne: 9th. Feb., 2023)

[4] Ibid.

[5] Zeinab Mohammed Salih in Khartoum and Jason Burke: Wagner mercenaries sustain losses in fight for CAR gold, Genocide Watch (New Jersey: 2nd. Feb 2023)

[6] Jared Thompson , Catrina Doxsee , and Joseph S. Bermudez Jr: Tracking the Arrival of Russia’s Wagner Group in Mali, CSIS  ( Washington, DC: Center for Strategic & International Studies,  2nd., Feb., 2022)

[7] Andres Schipani & Aanu Adeoye : How Russia’s propaganda machine is reshaping the African narrative, Financial Times (London: 9th., Feb. 2023)

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75616/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M