اختبار الصمود: المكاسب المحتملة من اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل

 تشهد منطقة شرق المتوسط التي تصاعدت أهميتها الجيوسياسية خلال العقد الماضي على خلفية اكتشافات الغاز الطبيعي وحجم الاحتياطات الكبيرة زخمًا في الآونة الأخيرة، حيث طرأ على المنطقة –خلال شهر أكتوبر 2022- تحولات نوعية يمكنها أن تؤثر في مختلف التفاعلات القائمة، خاصة أن تلك التحولات تمضي في اتجاهين متعارضين: الأول، يمكن أن يزيد من تفاقم الأوضاع ويُعيد التوتر لشرق المتوسط مرة أخرى بعد أجواء كانت تشبه ما يمكن وصفه بإعادة صياغة التحالفات والتوجه نحو مزيد من التهدئة في الإقليم. في حين ينصرف التحول الثاني في اتجاه يذهب لتسكين الخلافات ومحاولة تعزيز المكاسب عبر الاستغلال الأمثل لاحتياطات الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية لدول شرق المتوسط.

بعبارة أخرى، يمكن لاتفاق تركيا مع حكومة الدبيبة فيما يتعلق بالتنقيب عن الغاز الطبيعي والذي تم توقيعه في الثالث من أكتوبر أن يُعيد منطقة شرق المتوسط لمربع الاستقطاب وصراع المحاور الذي هدأت ملامحه خلال العامين الماضيين، خاصة في ظل التوترات الأخيرة بين اليونان وتركيا. من ناحية أخرى، تشكلت ملامح إيجابية لمعالجة نزاع بحري امتد لسنوات بين لبنان وإسرائيل عبر التوافق المعلن بين الجانبين بشأن ترسيم الحدود البحرية فيما بينهما والذي يُنظر إليه باعتباره تحولًا نوعيًا في طبيعة العلاقة بينهما نظرًا للمحاذير التي فرضتها العلاقات التاريخية بين البلدين على أية مساعٍ للتقارب.

ترتيبًا على ما سبق، يمكننا التعرض لاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل باعتباره التطور الأبرز، في ضوء جملة من التساؤلات المرتبطة بطبيعة الاتفاق، ومكاسب كل طرف من أطرافه، وصولًا للتحديات المحتملة التي قد تواجه الاتفاق وذلك على النحو التالي.

انفراجة صعبة

أعلنت لبنان وإسرائيل موافقتهما على ترسيم الحدود البحرية رغم عدم التوقيع رسميًا على الاتفاق، إلا أن المسودة المتداولة وردود الفعل الإيجابية من الطرفين تشير لأن منطقة شرق المتوسط على أعتاب مرحلة جديدة وانفراجة صعبة جاءت بعد سنوات من التعثر، وتشير عدة مصادر إلى أن التوقيع على الاتفاق سيتم نهاية أكتوبر الجاري في حقل سيقام في مقر قوات حفظ السلام الدولية “يونيفيل” في الناقورة بحضور لبنان وإسرائيل والوسيط الأمريكي وممثلين عن الأمم المتحدة، إلا أن ذلك قد يكون مستبعدًا خاصة أن التوافق بين البلدين في تلك القضية لا يعني عودة الدبلوماسية بينهما وتجاوز حالة عدم اليقين، وعليه قد لا يكون التوقيع على الاتفاق في شكله النهائي بنفس الطريقة المتبعة عند توقيع الاتفاقيات بين الدول.

وتعد الخلافات البحرية بين إسرائيل ولبنان واحدة من القضايا العالقة بين الطرفين والتي شهدت تعقيدًا كبيرًا، خاصة منذ اكتشاف إسرائيل للغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط، وما أعقبها من تطورات جعلت دول المنطقة تكثف جهودها للتنقيب عن الغاز الطبيعي، بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، من هنا اشتعل الخلاف البحري بين البلدين، مما أضفى بعدًا جديدًا للصراع الممتد بينهما منذ عقود.

وقد بدأت إرهاصات الخلاف على إثر التعارض الناجم عن اتفاقية ترسيم الحدود بين لبنان وقبرص عام 2007، واتفاق ترسيم الحدود بين قرص وإسرائيل عام 2010؛ إذ ضم الاتفاق القبرصي الإسرائيلي نقاطًا جاءت ضمن المناطق الاقتصادية الخالصة للبنان وفقًا لاتفاق ترسيم الحدود اللبناني القبرصي، وعليه تداخلت الحدود البحرية الشمالية التي ترى إسرائيل أحقيتها بها مع الحدود الجنوبية اللبنانية.

وتمحور الخلاف بين إسرائيل ولبنان على مساحة بحرية تقدر بنحو 860 كيلومترًا مربعًا تم تقسيمها إلى 10 “بلوكات”، وكان الخلاف حول “البلوك” رقم 9 هو الأكثر تعقيدًا، حيث تباينت وجهات نظر الطرفين حول طريقة ترسيم الحدود، إذ رأت إسرائيل أن رسم الحدود يجب أن يكون بزاوية 90 درجة متاخمة للحدود البحرية، في حين أكدت لبنان أن خط الترسيم يجب أن يتم كاستمرار مباشر للحدود البرية اللبنانية.

ولتقريب وجهات النظر بين الطرفين، عملت الولايات المتحدة الأمريكية على بحث جهود الوساطة ومحاولة تحقيق اختراق من شأنه أن يحد من التوترات بين الجانبين، إلا أن تلك المحاولات لم تؤتِ ثمارها، فخلال عام 2012 اقترح “فريدريك هوف” تقسيم 860 كيلومترًا المتنازع عليها، بحيث يتم منح لبنان نحو 500 كيلومتر، مقابل حصول إسرائيل على 360 كيلو مترًا، إلا أن هذه المبادرة التي عُرفت باسم “خط هوف” لم تجد قبولًا من الجانبين.

وفي عام 2018، وقع لبنان أول عقد للتنقيب عن الموارد الهيدروكربونية في مياهه بما في ذلك الجزء المتنازع عليه مع إسرائيل، وذلك عبر تحالف ثلاث شركات هي “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”نوفاتك” الروسية، للتنقيب في البلوكات 4 و9، وقد بدأ لبنان عمليات الحفر والتنقيب في فبراير 2020.

وعلى مدى عقد كامل، أخفق الوسطاء الأمريكيون (فريدريك هوف، وعاموس هوشستين، وديفيد ساترفيلد، وديفيد شينكر) في تحقيق أي تقدم في هذا الأمر، إلا أن هذه الوساطة قد عادت مرة أخرى بعد توقفها وذلك في أكتوبر 2020 تحت إشراف الأمم المتحدة، وذلك في مقر اليونيفيل في الناقورة جنوبي لبنان. وقد عُقد عدد من الجولات قبل أن تتوقف المباحثات في مايو 2021 على خلفية تباين المواقف، خاصة بعدما طرح الجانب اللبناني أحقيته بمساحة بحرية تُقدر بنحو 1430 كيلومترًا، ما قد صعب من عمليات التوافق وحل الخلاف.

إذ إن ذلك يعني اتساع مساحة الخلاف لنحو 2290 بدلًا من 860 كيلومترًا، وعليه فلم تبقَ المحادثات مقصورة فقط على الخط 23 وفقًا للخريطة التي أرسلتها لبنان عام 2011 للأمم المتحدة، بل امتدت للمطالبة اللبنانية بأجزاء من حقل كاريش والتي تعرف بالخط 29، وقد استمر الخلاف حول رؤية لبنان بأن مياهها الاقتصادية تصل للخط 29 ومن حقها استغلال أية ثروات في تلك المنطقة، مقابل الرفض الإسرائيلي لهذا الطرح.

رغم ذلك لم تصدق لبنان على المرسوم الذي يقضي بضم الخط 29 لحدودها البحرية، كما لم يتم إيداعه في الأمم المتحدة، ما تم النظر إليها وقتها على أنه محاولة لبنانية لامتلاك أوراق مساومة في التفاوض مع إسرائيل، كما أظهر رغبة لبنان في عدم الوصول إلى طريق مسدود في هذه القضية، ففي حال قام لبنان بالتصديق على الخط 29 فإن ذلك كان سيعقد الأمر ويؤزمه أكثر مما كان عليه، من هنا يرى البعض أن لبنان أراد أن يجعل الباب مفتوحًا أمام المفاوضات، الأمر الذي تحقق فيما بعد على خلفية الاتفاق الأخير بين الطرفين.

وفي يونيو 2022، اقترح الجانب اللبناني خلال زيارة الوسيط الأمريكي “موس هوكشتاين” لبيروت صيغة لحل وسط قامت بالأساس على تخلي لبنان عن مطالبها في الخط 29 وبعض الأجزاء من حقل كاريش مقابل أن تتنازل إسرائيل عن مساحة تقدر بنحو 80 كيلومترًا جنوب الخط 23، الأمر الذي يضمن للبنان حيازتها حقل “قانا” الذي سيصبح وفقًا للمقترح ضمن مياهها الإقليمية.

مكاسب عديدة 

أبدت الأطراف الرئيسية المنخرطة في المفاوضات قدرًا كبيرًا من التفاؤل بمجرد الإعلان على الوصول لتوافق مشترك، حيث وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي “يائير لابيد” الاتفاق بأنه إنجاز تاريخي سيعزز أمن إسرائيل ويضمن استقرار حدودها الشمالية. على المنوال ذاته، اعتبر الرئيس اللبناني “ميشيل عون” أن النسخة النهائية للاتفاق مرضية وتستجيب لمطالب لبنان وتحافظ على ثروته الطبيعية. كما وصف الرئيس الأمريكي الذي بادر بإجراء اتصال هاتفي بكل من “يائير لابيد” و”ميشيل عون” الاتفاق بأنه اختراق تاريخي في الشرق الأوسط.

ويدور جوهر الاتفاق على ما يمكن تسميته حقل مقابل حقل، حيث سمح الاتفاق بحيازة إسرائيل حقل كاريش مقابل اعترافها بأحقية لبنان بحقل “قانا” مع الحصول على تعويض مالي من خلال تسوية لاحقة قد يتم التوصل إليها بين إسرائيل وشركة “توتال” الفرنسية باعتبارها المشغلة للحقل.

وفي هذا السياق، تظهر عدد من المكاسب المباشرة لمختلف الأطراف المنخرطة في المفاوضات، ما يمكن النظر إليها في ضوء ما يلي:

  • المكاسب الأمريكية، ينظر للاتفاق بين لبنان وإسرائيل في ضوء نجاح الدبلوماسية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، خاصة أن تحقيق التوافق بين الطرفين ظل معقدًا لسنوات كبيرة، من هنا يمكن أن يخدم توقيت الاتفاق الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط، حيث كثفت جهودها بشكل ملحوظ خلال هذا الملف بهدف تأكيد حضورها النشط في المنطقة، والعمل على تجنب أية اشتباكات عسكرية في ظل التلويح باستخدام القوة العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، حيث إن نجاح المفاوضات والتوصل لاتفاق يمكن أن يؤدي لاستعادة دور الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط فاعل في قضايا الاشتباك والأزمات في الشرق الأوسط، ما قد يحد من شكوك حلفائها بشأن قدرتها على تعزيز الاستقرار في المنطقة، في ظل استراتيجيتها الرامية لتوجه نحو آسيا، الأمر الذي تستهدف من خلاله استعادة ثقة حلفائها في المنطقة، والتأكيد على استمرار الشرق الأوسط ضمن محاور الحركة الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.
  • المكاسب اللبنانية، يُعول الطرف اللبناني في المقام الأول على المكاسب الاقتصادية المحتملة من الاتفاق البحري مع إسرائيل، خاصة في ظل الظروف والأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، وعليه يمكن أن يمهد الاتفاق الطريق أمام لبنان لبدء استكشاف حقول غاز طبيعي، ومن ثم الحصول على عائدات اقتصادية والتعامل مع أزمة الكهرباء في البلاد، رغم ذلك تظل المكاسب السريعة على المستوى الاقتصادي مرهونة بجملة من الاعتبارات، من بينها حجم الاحتياطات التي يمكن أن تتوفر في حقل قانا، والمدى الزمني اللازم لإنتاج الغاز من الحقل، علاوة على الاحتياجات المحلية من الغاز. وفي هذا الإطار، تشير التقديرات إلى أن احتياطات الحقل تقدر بما يعادل 3 مليارات دولار، الأمر الذي لا يؤدي لحلحة الوضع الاقتصادي ما لم يتم اكتشاف مزيد من الاحتياطات أو الحقول الجديدة.
  • المكاسب الإسرائيلية، تمكنت إسرائيل من حصد عدد من المكاسب ذات الأبعاد المختلفة، حيث تنظر الأوساط الإسرائيلية للاتفاق باعتباره اعترافًا من لبنان بإسرائيل على الرغم من أن المفاوضات تمت بصورة غير مباشرة، خاصة أن الاتفاق يعتبر الأول في ظل أجواء الحرب وعدم اليقين التي تسيطر على العلاقة بينهما منذ عام 1948، كما أنه يحد من الاشتباك أو الاحتكاك العسكري بين إسرائيل وحزب الله، الأمر الذي يسمح لإسرائيل بإجراء أعمال التنقيب عن الغاز في حقل كاريش دون التفكير في حسابات التصعيد التي لوح بها حزب الله في أوقات سابقة، يضاف لذلك العوائد الاقتصادية المتمثلة في حصول إسرائيل على تعويض قدره 17% من عائدات الغاز المحتمل اكتشافها في حقل قانا. كما يعزز الاتفاق الموقف الإسرائيلي الرامي لتعزيز الاندماج الإقليمي واختبار فرص السلام الاقتصادي في تحقيق ذلك.
  • المكاسب الأوروبية، رغم أن انعكاسات الاتفاق ستحتاج وقتًا طويلًا، إلا أن الدول الأوروبية لا تزال تعول بصورة كبيرة على استقرار منطقة شرق المتوسط ضمن محاور حركتها للبحث عن بدائل من شأنها أن تقلل من الاعتماد على الغاز الروسي، حيث برزت الدول المنتجة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط (مصر، وإسرائيل) كأحد البدائل أمام أوروبا، لما يتوفر لدى المنطقة من احتياطات تقدر بنحو 340 تريليون قدم مكعب، وعلى الرغم من أن ما تم اكتشافه منذ 2009 حتى الآن يتراوح ما بين 78 إلى 83 تريليون قدم مكعب، إلا أن الاتحاد الأوروبي ينظر لشرق المتوسط كبديل مستقبلي موثوق فيه.

من هنا جاء الإعلان عن توقيع الاتفاق الثلاثي بين مفوضية الاتحاد الأوروبي ومصر وإسرائيل في يونيو 2022 بهدف استغلال ثروات المنطقة لزيادة صادرات الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا بعد تسييله في محطات الإسالة المصرية، حيث تشير التقديرات لقدرة إسرائيل ومصر على تصدير نحو 30 مليار متر مكعب سنويًا خلال السنوات المقبلة في ظل توسيع التعاون وزيادة الاكتشافات، كما يتوقع الاتحاد الأوروبي استيراد 7 مليارات متر مكعب من الغاز المسال من مصر خلال عام 2022 على أن تصل إلى 10 مليارات متر مكعب 2023، ويمكن أن تزداد تلك الكميات وسط استمرار حالة الاستقرار في شرق المتوسط والابتعاد عن المواجهات والاشتباك بين أطرافه.

اختبار الصمود

في الأخير، رغم التوافق بين الطرفين بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، إلا أن صمود الاتفاق يظل موضع اختبار خاصة في ظل الاتجاهات الإسرائيلي المعارضة للاتفاق حيث قدمت مجموعات يمينية طعونًا قانونية على الاتفاق، معتبرة أنه يمثل تنازلًا من قبل إسرائيل عن حقوقها وسيادتها، من ناحية أخرى وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “بنيامين نتنياهو” الاتفاق بأنه “استسلام تاريخي” للعدو، وأشار إلى أنه قد لا يلتزم به إذا شكل الحكومة المقبلة في الانتخابات البرلمانية الشهر المقبل. علاوة على الإشكاليات المتعلقة بالمسار القانوني اللازم لإدخال الاتفاق حيز التنفيذ، حيث ترى أن هناك انتقادات في الداخل الإسرائيلي حول أن الاتفاق لم يطرح للتصويت في البرلمان.

يضاف لذلك إمكانية الانقلاب على الاتفاق من قبل حزب الله الذي ينظر إليه على أنه مجرد تفاهم وليس اتفاقًا، مما يعني أن احتمالية الرجوع عنه والعودة للتصعيد يظل قائمًا، لكن إذا تم ذلك فلن يكون على المدى القصير، فقد يحدث ذلك في حال تمكنت لبنان من تحقيق اكتشافات كبيرة ومجزية تجاريًا في حقل قانا، كما لا ينفصل موقف حزب الله من الاتفاق عن الحسابات الإيرانية بشكل عام، خاصة في ظل الترقب لإحياء الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن والذي قد يصبح حاكمًا لموقف حزب الله، سواء من استمرار التهدئة أو التصعيد. رغم ذلك يرجح على الأقل في الوقت الراهن أن يتم تجاوز كافة العقبات أمام الاتفاق في ظل رغبة الأطراف الرئيسية في إتمام الصفقة ودخولها حيز النفاذ.

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/21354/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M