اشارات ايجابية: تمديد اتفاقية تصدير الحبوب والأمن الغذائي العالمي

بسنت جمال

 

وافقت روسيا على تمديد صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود لمدة 60 يومًا فقط حتى الثامن عشر من مايو 2023 مع التأكيد على عدم التمديد مرة أخرى إلا عقب إحراز تقدمًا ملموسًا بشأن ضمان سلاسة واستدامة تصدير الأغذية والأسمدة الروسية والتي رغم عدم استهدافها بالعقوبات بشكل صريح إلا إنها قد تأثرت سلبًا بالقيود المفروضة على خدمات التأمين واللوجستيات والتحويلات البنكية. وقد أثارت الخطوة الروسية حفيظة أوكرانيا نظرًا لكون الاتفاق يُنص على التمديد التلقائي لمدة 120 يومًا. ويُعتبر ذلك التجديد الثاني للاتفاقية التي تم توقيعها في الثاني والعشرين من يوليو 2022 برعاية تركيا والأمم المتحدة لمدة 120 يوماً حتى 19 نوفمبر 2022، قبل أن يتم تمديد الاتفاق في 17 نوفمبر لمدة 4 أشهر أخرى.

ارتدادات إيجابية

أرسل تمديد اتفاقية تصدير الحبوب إشارات إيجابية للأسواق العالمية نظرًا لدرء المخاوف المتعلقة بإمكانية عدم صمود الاتفاق لاسيما عقب تعليق موسكو مشاركتها فيه أواخر أكتوبر الماضي. وترتكز أهمية هذا الاتفاق بالنسبة للاقتصاد العالمي في استحوذ روسيا وأوكرانيا على نحو 27% من التجارة العالمية للقمح، و23% للشعير، و14% للذرة، وفقاً لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد”. ويُمكن استعراض تأثير تمديد هذا الاتفاق على الأمن الغذائي العالمي على النحو الآتي:

• استقرار أسعار السلع الغذائية: عززت اتفاقية تصدير الحبوب من استقرار أسعار الغذاء حيث بلغ مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء نحو 129.8 نقطة خلال فبراير 2023 منخفضًا بنحو 0.8 نقطة على أساس شهري، وبحوالي 29.9 نقطة مقارنة بالمستوى القياسي الذي سجله في مارس 2022، بما يُعد الانخفاض الشهري الحادي عشر على التوالي بدعم من تراجع مؤشرات أسعار الزيوت النباتية ومنتجات الألبان، إلى جانب انخفاض أسعار الحبوب، وهو ما يُبينه الشكل أدناه:

الشكل 1- مؤشر منظمة “الفاو” لأسعار الأغذية العالمية (نقطة)

Source: FAO Food Price Index

ومن المتوقع أن يستمر مؤشر “الفاو” في التراجع خلال الشهور المقبلة في حال استقرار الإمدادات الغذائية خاصة في ظل انخفاض العقود الآجلة للقمح فور الإعلان عن تمديد الاتفاقية، ورغم ذلك، إلا أن مستويات أسعار المواد الغذائية لا تزال مرتفعة مقارنة بمستويات ما قبل الحرب وما قبل الجائحة، حيث كانت الأسعار أعلى بنسبة 45% من متوسط العقدين الماضيين. وعلاوة على ذلك، لا تزال هناك مخاوف بشأن استقرار أسعار الغذاء في المستقبل بفعل المخاطر المناخية واضطرابات الإمدادات والقيود المفروضة على الصادرات، وارتفاع تكاليف الطاقة، وضعف الطلب العالمي على الغذاء.

• استمرار تدفق الإمدادات الغذائية إلى الأسواق العالمية: ساهمت اتفاقية حبوب البحر الأسود منذ توقيعها في وصول نحو 23 مليون طن من الحبوب والمواد الغذائية إلى 45 دولة مما أدى إلى التخفيف من حدة انعدام الأمن الغذائي ومخاطر زيادة الفقر والجوع العالميين، واحتلت الذرة المركز الأول كأكثر الحبوب المشحونة يليها القمح وزيت عباد الشمس، وهو ما يُمكن إيضاحه من الرسم الآتي:

الشكل 2- توزيع الحبوب المشحونة في إطار المبادرة (%)

Source: UNCTAD, A TRADE HOPE The impact of the Black Sea Grain Initiative.

يتبين من الرسم أعلاه أن نسبة الذرة من إجمالي شحنات الحبوب البالغة 23 مليون طن سجلت نحو 49%، ومن ثم جاء القمح بنسبة 28%، وزيت عباد الشمس بنحو 5%، فيما وصلت نسبة الشعير إلى 4.3%، لتحتل باقي الحبوب نسبة الـ 14% المتبقية، وهو ما يدلل أن المبادرة قد ساهمت في ضمان وصول السلع الغذائية الاستراتيجية إلى الأسواق العالمية.

• تعزيز الأمن الغذائي للاقتصادات الناشئة: قد يُسفر تمديد اتفاقية الحبوب عن دعم أوضاع الأمن الغذائي في الدول الهشة بأفريقيا والشرق الأوسط التي تعاني من جملة من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، حتى في حالة استفادتها من استقرار أسعار الحبوب العالمية بشكل غير مباشر –رغم وجود عقبات أمام تحقيق هذه الاستفادة كتراجع أسعار الصرف وارتفاع معدلات التضخم المحلية- نظرًا لكون الوجهات الأساسية لشحنات الحبوب كانت الصين وإيطاليا وإسبانيا وتركيا وهولندا، مما يعني أن صادرات الحبوب تصل في الغالب إلى الدول الغربية وليس الدول الأفريقية والشرق أوسطية.

عقبات ماثلة

يواجه استمرار اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود مجموعة من العقبات خاصة في ظل تمديد الاتفاقية لمدة شهرين فقط وليس أربع شهور كما متفق عليه، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو الآتي:

• مخاوف دولية: يعكس قرار روسيا الأخير بانها لن تتوان في توظيف الأدوات الاقتصادية كتسليح الغذاء واستغلال قدراتها التصديرية وإمكانية انسحابها من الاتفاقية لتحقيق مصالحها الخاصة الهادفة لتخفيف الضغوطات الناجمة عن العقوبات الاقتصادية كضمان تصدير الأسمدة والمنتجات الزراعية الروسية بسلاسة، واستئناف إمدادات الآلات الزراعية، وإزالة العقبات أمام تأمين السفن وتعامل البنوك مع نظام المراسلات البنكية “السويفت”.

واتصالًا بذلك، عززت الشروط الروسية المخاوف الدولية المتعلقة باحتمالية رفض موسكو تمديد الاتفاقية بعد انتهاء المدة المحددة كما حدث أكتوبر 2022 ردًا على سلسلة من الهجمات الأوكرانية بواسطة طائرات من دون طيار على سفن روسية في خليج سيفاستوبول المُطل على شبه جزيرة القرم، قبل أن تعلن لاحقاً استئناف مشاركتها في الاتفاق، وهو أمر من شأنه أن يضيف المزيد من الوقود إلى أسعار الغذاء العالمية خاصة في ظل ارتفاع تكلفة التأمين على السفن نظراً لارتفاع المخاطر المرتبطة بالإبحار في البحر الأسود في ظل استمرار الحرب.

• اتساع فجوة الصادرات: رغم مساهمة المبادرة في زيادة صادرات الحبوب إلى البلدان النامية والأقل نموًا منذ اطلاقها يوليو 2022 وحتى مارس 2023 بأكثر من الضعف مقارنة ببداية الحرب، إلا أنها لا تزال تواجه العديد من العقبات فيما يتعلق بقدرتها على تأمين احتياجاتها من الغذاء لأسباب محلية ترجع إلى تراجع القدرة على تحمل تكاليف استيراد السلع بضغط من تراجع قيمة العملات الناشئة مما زاد من صعوبات استيراد المواد الغذائية الأساسية وأدى إلى انحسار فوائد انخفاض الأسعار الدولية، إلى جانب الأسباب العالمية المتمثلة في تباطؤ عملية تفتيش السفن والسماح بإجراء ما يتراوح من 5 إلى 6 عمليات تفتيش يوميًا مما أدى إلى تزاحم السفن في الموانئ، وهو ما نفته موسكو في العديد من المناسبات مؤكدة إرسالها عمليات التفتيش بصورة منتظمة ومستمرة بموجب اتفاقية الحبوب، وهي عوامل أدت جميعها إلى اتساع فجوة الصادرات الغذائية للدول النامية بين المستويات المسجلة قبل الحرب الأوكرانية ونظيرتها الحالية، كما يُبين الرسم الآتي:

الشكل 3- تطور صادرات القمح للدول النامية خلال 2021 و2022

Source: UNCTAD, A TRADE HOPE The impact of the Black Sea Grain Initiative.

 يوضح الرسم السابق أن صادرات القمح بلغت 18.2 مليون طن متري خلال عام 2021 أي قبل قيام الحرب الأوكرانية، مقابل نحو 2.8 مليون طن متري تم تصديرها بعد الحرب خلال الفترة التي تسبق إطلاق مبادرة الحبوب من يناير إلى يوليو 2022 لترتفع إلى 3.7 مليون طن متري بين شهري أغسطس وديسمبر من نفس العام، مما يعني أن صادرات القمح للدول النامية بلغت نحو 6.5 مليون طن متري خلال 2022 بفجوة تبلغ حوالي 11.7 مليون طن متري مقارنة بعام 2021.

• تسارع إنتاج الوقود الحيوي: من الممكن أن يقوض ارتفاع إنتاج الوقود الحيوي من مساهمة اتفاقية تصدير الحبوب في تعزيز الأمن الغذائي العالمي رغم فوائده البيئية؛ إذ تتجه الكثير من الدول لاستخدام الحبوب -خاصة الذرة- في إنتاج الوقود الحيوي بدلًا من سد احتياجات السكان الغذائية، ويدلل على ذلك توقعات وكالة الطاقة الدولية المتعلقة بارتفاع الطلب العالمي على الوقود الحيوي بنسبة 20% خلال الفترة 2022-2027 مرتكزًا بشكل شبه كامل في الاقتصادات المتقدمة، وهو ما قد يضر بوضع الأمن الغذائي في نظيرتها النامية ويقوض قدرتها على شراء المواد الغذائية بسبب تراجع العرض العالمي للغذاء وارتفاع الأسعار. وبناء على ذلك، يتعين على الحكومات تحقيق التوازن بين مكافحة التغيرات المناخية عن طريق الابتعاد عن النفط والديزل وبين ضمان استقرار الإمدادات الغذائية العالمية.

حاصل القول إن تمديد اتفاقية تصدير الحبوب لمنتصف المدة المتفق عليها من قبل الأطراف الدولية أرسل إشارات متفائلة للأسواق العالمية بشأن حرص الدولتين المتحاربتين، روسيا وأوكرانيا، على ضمان تدفق الإمدادات الغذائية واستقرار أسعارها بما سيعزز أوضاع الأمن الغذائي للدول المتقدمة والنامية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر إلا أن تلك الإشارات رغم تفاؤلها قد تخللها بعض من الحذر والمخاوف العالمية نظرًا لاحتمالية لجوء روسيا إلى تسليح الغذاء من جديد، وعدم قدرة المبادرة على رفع مستوى الصادرات الغذائية لمستويات ما قبل الحرب.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33449/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M