الأمر النووي: قراءة في طلب بوتين وضع قوات الردع في حالة تأهب

أحمد عليبة

 

أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزيرَ الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة بوضع قوات الردع النووي في حالة تأهب قصوى بعد ما اعتبره بوتين “تصريحات عدوانية من دول حلف شمال الأطلسي”. على الجانب الآخر، بدا أن هناك تباينًا في القراءة الغربية لهذه التصريحات، تنوعت ما بين الاستخفاف بعدم القدرة على تحميلها وتشغيلها، والتعامل الجدي الذي يتطلب الحذر والجاهزية. ويمكن القول إن الانقسام على هذا النحو هو السياق الطبيعي في ظل تطور المعركة وتطوير الأطراف لقواعد الاشتباك. فبعدما كان المتصور أن القوى الغربية تسعى إلى مواجهة التصعيد العسكري الروسي بسلاح العقوبات الاقتصادية التصاعدية، ومعركة دبلوماسية في مجلس الأمن ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفرض حظر على المنصات الإعلامية الروسية المختلفة؛ اتجه حلف الناتو إلى توجيه دعم عسكري لأوكرانيا يراهن من خلاله على إحباط العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا ولا سيما كييف، بالتوازي مع تعزيزات عسكرية لدول الحلف في شرق أوروبا. وفي المقابل، انتقل بوتين إلى أقصى مدى من التلويح بالقوة النووية.

وفي ضوء محاولة قراءة “الأمر النووي” الذي أعطاه الرئيس بوتين لقيادته العسكرية، هناك العديد من التساؤلات، منها: لماذا انتقل بوتين إلى هذه المرحلة؟ وهل من الوارد بالفعل المغامرة باستخدام أسلحة الدمار الشامل في هذه الحرب؟ وهي تساؤلات لا يزال من الصعوبة بمكان الإجابة عنها بشكل قاطع، فلا يزال من المبكر التنبؤ بسيناريوهات هذه الحرب وتداعياتها على المدى المتوسط على الأقل. لكن هناك عدة نقاط من الأهمية بمكان وضعها في الاعتبار في سياق التطور الخاص بـ”الأمر النووي”، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

أولًا: في ضوء خبرات الحروب بشكل عام، ولا سيما بين القوى الكبرى والعظمى في العالم، من الخطأ الاستخفاف بتصريحات القادة العسكريين، مهما كانت تنطوي على درجة من الخطورة أو الخطر، خاصة إذا ما كان هذا الأمر صادرًا عن أعلى مستوى عسكري، يمثل القائد الأعلى للجيوش الروسية، خاصة وأن “قوات الردع النووي” تعمل مباشرة تحت إمرة الرئيس، وهو ما يعني أن كلًا من وزير الدفاع ورئيس الهيئة العسكرية لا يمكنهما تحريك قوات الردع النووي بدون “أمر نووي” مباشر من القائد الأعلى وفقًا للتسلسل الهيكلي الخاص بهذه القوات وليس مجرد التسلسل القيادي، وبالتبعية بمجرد إعطاء أمر الجاهزية فإن القوات تكون في حالة تأهب. ويمكن القول إن قوات “الردع النووي” في حالة انتشار ما قبل التأهب، فهناك 11 قوة روسية بقوام 60 ألف جندي موزعة على تشكيلات عسكرية مختلفة تشكل قوام القوة الصاروخية (SRF)، منها القوات الجوية (تمتلك ما بين 60 – 70 قاذفة)، بالإضافة إلى حالة الانتشار مثل الغواصات المنتشرة في مواقع مختلفة، ومدمرات الأسطول البحري الروسي، مع الوضع في الاعتبار أن القدرات الصاروخية الحديثة مثل (سارمات، كينجال، تسيركون) خصصت لاختراق المنظومات الدفاعية الأمريكية. إضافة إلى وجود إشارات أيضًا حول قدرات نوعية جديدة في مجال الدرونز البحري التي تعمل تحت السطح يمكن تحميلها نوويًا بقدرة 2 ميجا طن يمكن إطلاقها من غواصات تحت عمق كبير.

ثانيًا: أيضًا لا يمكن الاستخفاف بـ”الأمر النووي” لدولة تمثل قوة عظمى نووية، وهي الأكثر حيازة لأسلحة الدمار الشامل. بل يمكن القول إن ما هو معلن بشكل رسمي حول ترسانة القدرات النووية الروسية هي مسألة تقديرية، والمتوقع أن القدرات الفعلية أكثر مما يمكن الإعلان عنه، وهي مسألة تخضع في جانب منها للسرية، والجانب الآخر أن كافة الترتيبات التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي من اتفاقيات لم تحدّ من الناحية الفاعلية من استمرار تعزيز القدرات النووية، ليس فقط على الجانب الروسي، وإنما بالنسبة للولايات المتحدة، بما يمكن أن يطلق “سباقات التسلح النووي الصامت”، فبفرض أن روسيا التزمت باتفاقيات مثل (INF) في السابق أو (START) ثم (NEW STSRT) التي جددها الرئيس الأمريكي بايدن بعد وصوله البيت الأبيض؛ فهناك تقديرات أمريكية في الدوائر الرسمية بأن روسيا انتهت بالفعل من تحديث كامل ترسانتها النووية الموروثة عن الاتحاد السوفيتي، مضافًا إليها ترسانة صاروخية هائلة يمكن تحميلها بمئات الرؤوس النووية.

على الجانب الآخر، هناك مؤشرات واضحة تعكسها التقديرات نفسها بأن الولايات المتحدة على أعتاب (العصر النووي الثالث) في ظل إدماج الطفرة التكنولوجية الهائلة في الأسلحة النووية، وإنتاج قنابل تكتيكية نووية ذكية، بل ونقل المئات منها (480) إلى القواعد الأوروبية، وبالتالي ستضاعف القدرات النووية في أوروبا ثلاث مرات، ومن المتوقع في الأسابيع المقبلة أن يطرح بايدن رؤية الإدارة بشأن مراجعات تقييم الوضع النووي (NBR) والدفاع الصاروخي (MDR)، وهي الرؤية التي سيكون لها اعتبار هام في هذا الصدد.

ثالثًا: صحيح أن التقديرات الاستراتيجية بدأت بالتدريج تأخذ “الأمر النووي” على محمل الجد، حتى وإن كانت هناك تفسيرات عديدة حول تلك القفزة في سياق تطور المعركة في أوكرانيا، ما بين التقدم والتراجع؛ لكن الأهم من ذلك هو مقاربة القرار الاستراتيجي والأمر النووي، وهو ما ينطوي على إشكاليات شديدة التعقيد، فمهما كانت هناك قدرات نووية فإن المسألة لا تتوقف على ميزان القدرات، ففي الأخير الضربة النووية الأولى ستغير العالم وليس فقط المعركة الحالية. كذلك فإن الجوانب الفنية المتعلقة بالمسألة النووية، لا تتوقف فقط على عامل “الأمر النووي”، وإن كانت تعني تحريكًا متقدمًا للرسائل النووية المتبادلة بين كافة الأطراف منذ سنوات، كما تعني تأهب الطرف المقابل ورفع درجة الردع المضاد. بالإضافة إلى ذلك، هناك اعتبارات جيوسياسية أيضًا بالنظر إلى موقع بيلاروسيا في الحرب الحالية، والتي طالبت بأن تكون جزءًا من مسرح التأهب النووي الروسي، لكن أي تحرك في مسرح الانتشار على هذا النحو مشروط بنشر أسلحة نووية مقابلة في بولندا، ثم مرحلة “أمر الإطلاق” وهي المرحلة الأخيرة للتسلسل.

رابعًا: هناك مراجعات متتالية لتقييم الحالة النووية للقوى التي تمتلك هذه القدرات، لكن في الوقت ذاته هناك “العقيدة النووية”، وفي مرات عديدة أشار بوتين من منطلق هذه العقيدة إلى أن استخدام السلاح النووي يرتبط بحالة التهديد الوجودي لروسيا، أو أي من حلفائها، وبالتالي: إلى أي مدى يمكن تقدير روسيا لحالة التهديد الوجودي؟ فهل المسألة تتوقف على نشر أسلحة نووية على حدود أوروبا الشرقية، وهو ما تكرس بدءًا من عام 1997 وهو عام محوري في بدء توسع حلف الناتو لضم دول أوروبا الشرقية التي كان العديد منها تحت مظلة الاتحاد السوفيتي. كما تتوقف -وهو اعتبار هام للغاية- على مدى عقلانية القرار الاستراتيجي في تسلسل “الأمر النووي” من حالة الانتشار إلى الجاهزية وصولًا إلى “أمر الإطلاق”. ومن الناحية الاستراتيجية أيضًا هناك اعتبار آخر خاص بالدافع الاستراتيجي لاتخاذ القرار. وفي هذا السياق، يمكن العودة إلى حالة 1962 (أزمة الصواريخ الكوبية) التي وصلت إلى المرحلة الأخيرة ما قبل التسلسل تقريبًا، لكن لم تصل إلى مرحلة الصدام النووي بناء على قرارات عقلانية اتخذها الطرفان الروسي والأمريكي.

خامسًا: من المتصور أن الأمر “الأمر النووي” كخطوة روسية متقدمة لن يكون التراجع عنها بلا مقابل، حتى وإن كان من غير الوارد استخدام السلاح النووي بالنظر إلى تبعاته الخطيرة على الأمن الدولي، الأمر الذي يستدعي ضرورة إعادة النظر في ترتيبات الأمن الدولي ما بعد هذه الخطوة، وبالتالي فإنه يجب الوضع في الاعتبار أن روسيا لا تهدف الآن إلى ترتيبات ما بعد معركة “كييف” على اعتبار أن المسالة تتعلق بالحرب الأوكرانية، وإنما أكثر اتساعًا في النظام الدولي بشكل عام.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18722/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M