الناتو وأوكرانيا: إعادة تشكيل الناتو لمواجهة التحدي الروسي والصيني

  • محمود قاسم
  • حسين عبدالراضي

 

يُعزز التصعيد الراهن بين روسيا وأوكرانيا من اهتمام القوى الغربية بالتركيز على استحداث استراتيجيات جديدة، وتطوير قدراتهم الشاملة للتعاطي بشكل فعال مع التهديدات المتنامية من القوى الصاعدة شرقًا (روسيا والصين). وتسعى دوائر ومراكز الفكر الغربية في طرح رؤى وبرامج لإعادة تقييم المخاطر الناشئة، وصياغة منهجيات مُقترحة لتعزيز قدرات أوروبا والولايات المتحدة للتصدي لها. وفي هذا السياق، أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) تقريرًا بعنوان “الناتو وأوكرانيا: إعادة تشكيل الناتو لمواجهة التحدي الروسي والصيني”، والذي تضمن عرضًا شاملًا للمشهد الروسي-الأوكراني المتأزم، والحاجة للتنسيق بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي بالوقت الراهن، للاستعداد للتصدي للتحدي الروسي الصيني المتنامي.

التحالف الأطلسي ضرورة لا اختيار

أوضح التقرير أن التحالف الأطلسي أمر لا مفر منه، وأن فكرة استبداله بالخيار الأوروبي غير مجدية، فقد يكون الاتحاد الأوروبي مفيدًا في بناء المؤسسات المدنية لكن ليست لديه قدرة جماعية للتعامل مع الاستراتيجية وتخطيط القوة وإنشاء قدرات عسكرية فعالة بطرق تنافس روسيا، كما لا يوجد لدى الاتحاد الأوروبي تاريخ حقيقي في التخطيط العسكري أو القيادة، إذ إن الأمن الغربي يحتاج إلى تحالف عسكري فعال، يتجاوز الكلمات والخطابات والاجتماعات.

وأشار الكاتب إلى أن اللوجستيات والإنفاق العسكري يؤكد أنه لا يوجد خيار أوروبي حقيقي للاستقلال الدفاعي، حيث إن أية جهود لإنشاء هيكل عسكري أوروبي يستثني الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا ودولًا أخرى من خارج الاتحاد الأوروبي يستبعد قدرًا هائلًا من الأموال المتاحة حاليًا للأمن الغربي، حيث بلغ الإنفاق العسكري للولايات المتحدة خلال عام 2021 نحو مليار دولار، وهو ما يمثل 69٪ من إجمالي الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء في الناتو البالغ 1174.2 مليون دولار. يُضاف لذلك ما توفره الولايات المتحدة الأمريكية من قدرات عسكرية وقتالية وبحرية، فضلًا عن قدرات الفضاء والقيادة والسيطرة وغيرها من القدرات المتطورة.

كما لفت التقرير إلى صعوبة التنبؤ بحدود التحرك والعمل العسكري الذي قد تتخذه روسيا تجاه أوكرانيا، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية والناتو غير مستعدين لمواجهة تحد عسكري روسي، حيث ارتكبت واشنطن خطأ كبيرًا عبر تركيزها على تقاسم الأعباء دون تطوير القوات والعمل على تصحيح أوجه القصور في القوات الأوروبية، كما أنها أهدرت ما يقرب من نصف عقد في ظل إدارة ترامب من خلال التركيز على حصص الإنفاق على مستوى الناتو، مثل الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء كنسبة مئوية من الناتج القومي الإجمالي، وتجاهل الحاجة إلى قوات عسكرية وطنية فعالة وقابلة للتشغيل المتبادل بشكل كامل، حيث إن ما يهم هو القوات العسكرية لدولة ما وقدرتها الفعلية على الردع والدفاع وليس إجمالي إنفاقها.

دوافع تحسين القدرات

طرح التقرير أن حلف الناتو والاتحاد الأوروبي لديهما أسباب وجيهة للعمل معًا على تدشين خطط وطنية أوروبية تسهم في مُعالجة الضعف الهيكلي للمساهمات العسكرية لأعضاء الحلف، وهو ما يستدعي إجراء مجموعة من التحسينات الاستراتيجية على معادلة الأمن الأوروبي. وتتضمن توسيع استراتيجية “الناتو 2030″، والعمل في قمة “الناتو 2021” على تطوير خطط لمعالجة نقاط الضعف الرئيسية في القوات العسكرية الوطنية والمساهمات الوطنية في الناتو، بالإضافة إلى استئناف تخطيط القوة الذي يركز على الفعالية العسكرية من خلال التدريبات الرئيسية، وتقييم تلك القوة دوريًا بواقعية، وتحسين إمكانية التشغيل البيني للقوات.

وفسّر الكاتب ضرورة التعامل مع دور وقدرة القوات العسكرية الوطنية الأوروبية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي السابق؛ كون انهيار الأخير قاد لتغير كبير بالمناطق الجغرافية التي يجب على الناتو أن يباشر فيها دفاعًا أماميًا، وأن العضويات الجديدة بالحلف أبرزت مجالات ضعف جديدة لهياكله؛ كونها لا تزال تعتمد على الأسلحة السوفيتية، وليست قادرة على التشغيل المتبادل مع دول الناتو الأخرى. ناهيك عن إجراءات تخفيض القوة التي اعتمدتها دول الحلف بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وكون البديل الأوروبي لحلف الناتو غير عملي.

وأكد التقرير أن عملية مراجعة وتقييم قوة الجيوش والأفرع الرئيسية في القوات الأوروبية ضرورة لتحسين القدرة العسكرية الفعلية، بدلًا من إجمالي الإنفاق والإنفاق كنسب مئوية من الناتج المحلي الإجمالي؛ إذ لا تقدم المراجعة الكمية المؤشرات الواقعية لتلك القوة، فهي لا تُظهر المستويات المختلفة للفشل في الحفاظ على مستويات فعالة من الجاهزية والاستدامة، أو تبني التكتيكات والتقنيات الجديدة، والمشاكل الحرجة في العديد من الجوانب الرئيسية للتشغيل البيني. كما ألمح كوردسمان لأهمية الحفاظ على تخفيضات القوة الأوروبية، رغم خطورة هذه التخفيضات؛ إلا أن تفكك القوات المسلحة السوفيتية أدى إلى تخفيضات كبيرة في القوات الروسية التي تجاوزت التخفيضات الموصوفة في القوات الأوروبية لحلف الناتو.

حدود الاشتباك

استعرض التقرير الموقف الراهن وحدود قدرات القوة العسكرية لدول الناتو، ودولتي المواجهة (روسيا-والصين)، بالإضافة لقدرات الدول المُحتمل انخراطها بشكل أو بآخر حال تصاعد الاشتباك بين الجانبين كأوكرانيا وبيلاروسيا. ووفقًا لبيانات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، قدم الكاتب قراءة كمية في القوات العسكرية لكل الأطراف، وركّز على تناول القدرات المملوكة لدول حلف الناتو بالاعتماد على تقسيمها إلى مجموعة من الأجنحة، بحيث يضم كل جناح الدول التي تشترك في الموقع الجغرافي، بالإضافة لمستويات مُتقاربة من المحددات التشغيلية.

وعلى صعيد الجناح الشمالي، أوضح كوردسمان أن أيسلندا وجرينلاند تلعبان دورًا مهمًا في دعم الدفاع عن المحيط الأطلسي، والطرق البحرية عبر القطب الشمالي، لكنهما يعتمدان بشكل كبير على القوات الأمريكية. فيما تشترك النرويج بحدود مع روسيا، وهي معزولة نسبيًا عن القوى الأوروبية الأخرى في الناتو باستثناء الدنمارك، ولها علاقات وثيقة مع دولتين “غير منحازتين”: السويد وفنلندا. كما أن دول البلطيق تشترك في حدود مشتركة مع روسيا، وليست لديها خبرة عسكرية سابقة، لذلك يعتمد أمنهم بشكل كبير على المخاطر التي قد تواجهها روسيا في مواجهة القوى الأوروبية الأخرى والولايات المتحدة.

وبالنسبة للمنطقة الوسطى، أكد التقرير أن دول الناتو تحرز تقدمًا مهمًا في بعض المجالات، وتعمل على تحسين قدرة القوات من أمريكا الشمالية والمناطق الخلفية في أوروبا على الانتشار في أي أزمة، وأن بولندا قوة رئيسية في الدفاع عن هذه المنطقة الوسطى، وفي ردع القوات البرية والجوية التقليدية لروسيا. وعلى صعيد الجناح الجنوبي الجديد، يُرجح أن تختار روسيا استخدام القوات البرية لمهاجمة المنطقة الوسطى أو الاعتماد على قدرات الضربات التقليدية بعيدة المدى والدقة الصاروخية لترهيب أو إجبار دول الجناح الجنوبي على الامتثال لها.

أما على صعيد الجناح الأدرياتيكي، فيرى الكاتب أنها لا تمتلك خبرة كقوة قتالية، ولديها محدودية في القدرات الدفاعية محدودة، بالإضافة إلى قدرات هامشية للغاية للتعامل مع قدرة الضربات الدقيقة بعيدة المدى المتنامية لروسيا. أما جناح البحر المتوسط، فيمكنهم لعب دور رئيسي في حفظ السلام ومكافحة الإرهاب، وإيطاليا لديها قدرة كبيرة على عرض القوة للحرب منخفضة الكثافة. علاوة على ذلك، يمتلك كل طرف الموارد اللازمة للعب دور أكثر نشاطًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​وشمال إفريقيا.

نحو احتواء التحدي الروسي-الصيني

قدّم التقرير مجموعة من الإجراءات لصانع القرار الأوروبي، تهدف إلى تعزيز القدرة الشاملة للناتو والاتحاد لمواجهة المخاطر الناشئة عن الطموحات الروسية والصعود الصيني، ومن أبرزها:

  • تنسيق عمليات التطوير والتحديث بين واشنطن ودول الناتو: عبر تحديد القدرات الأمريكية عالميًا وما يمكن أن يعود بفائدة مباشرة على أوروبا وجميع الحلفاء الآخرين والشركاء الاستراتيجيين، وفي ضوء ذلك وضع أولويات التطوير والتحديث لدول الحلف تضمن قابلية التشغيل البيني والتوحيد القياسي، والتركيز على النطاق الكامل للقدرات العسكرية بدلًا من مجرد التركيز على أعداد القوات الرئيسية ومنصات الأسلحة. مع مراعاة ألا يطالب الناتو كل دولة ببذل نفس الجهد في عبء الإنفاق، والاستناد إلى الحقائق الوطنية والسياسية والاقتصادية في هذا السياق.
  • التقييم الواقعي لقدرات الردع والدفاع بالناتو دوريًا: كونها الطريقة الوحيدة للتحقق من هذه القدرات، والنظر في السيناريوهات الرئيسية، وتقديم تقييمات حقيقية لتوازن القدرات، استنادًا إلى عدم منطقية الاحتفاظ بأسرار بين دول التحالف، وأن إعداد تقييم للتوازن الأمني ومستويات الردع والقدرات الدفاعية يُعد خطوة حاسمة في تبرير الجهود الدفاعية المناسبة وكسب الدعم العام الصحيح، فضلًا عن كونه وسيلة لتثقيف الناخبين والشخصيات السياسية، وهو أمر بالغ الأهمية في إظهار أن الردع كافٍ لمنع الصراع الفعلي والحد منه.
  • التركيز على الحاجة الأوسع عبر الأطلسي للتنافس مع الصين: تأسيسًا على حاجة الولايات المتحدة وأوروبا لاستيعاب حقيقة أن الصين تبرز كقوة عظمى استبدادية جديدة، وقوة عسكرية واقتصادية أكبر بكثير من روسيا، وحاجة أوروبا لإدراك أن واشنطن ستحتاج لتحويل بعض الموارد لتحقيق ذلك، وضرورة الاهتمام بالبنية الأمنية الهشة الناتجة عن تخفيضات القوة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، ناهيك عن حاجة أوروبا وواشنطن للنظر إلى ما وراء البعد العسكري، وإدراك أن تركيز الصين على دمج التنمية العسكرية والاقتصادية على حد سواء، هو ما جعلها منافسًا مباشرًا لهما في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية والصناعة والتأثير العالمي.
  • اعتماد الناتو كمنصة رئيسية للتعاون في التعامل مع كلٍّ من الصين وروسيا: يرى الكاتب أن الناتو هو أفضل منتدى محتمل لتقييم التوازن بين القدرات الغربية وجيشي روسيا والصين، وغيرها من تهديدات خارجية أخرى؛ إذ يستند إلى أن محاولة تشكيل النهج الأكثر فاعلية تجاه روسيا مع اتباع ثلاثين نهجًا مختلفًا تجاه الصين يكاد يضمن الفشل في إيجاد التوازن الصحيح وتنفيذ التسويات والتغييرات الصحيحة، وأن بذل جهد مشترك لمخاطبة كل من روسيا والصين يمكن أن يخفض الارتباك والتوتر المتبادلين بشأن الحاجة إلى التغيير.

بالنظر في التقرير، يتضح أن إعادة تشكيل حلف شمال الأطلنطي التي قصدها التقرير في إطار مواجهته روسيا والصين، هي محاولة تشكيل بيئة محيطة معادية لهاتين الدولتين وتضخيم التحدي الذي يمثلانه، ولم يصدر هذا التصور كنتاج للأزمة الأوكرانية في حد ذاتها بقدر ما عكست التوجه العام لدول الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

فقد عكس التقرير أن المشكلة العملية في كيفية عمل الولايات المتحدة وأوروبا معًا لإيجاد التوازن الصحيح تكمن في مواجهة التحدي من كل من الصين وروسيا، ومناقشة المستويات النسبية للجهود التي يجب على الولايات المتحدة وأوروبا تخصيصها للقوتين العظميين، والتركيز على التهديدات الإضافية المطروحة. ومعالجة هذا يجب أن تأتي بالتركيز على دبلوماسية منتظمة تتصل بالأبعاد الاقتصادية والمدنية للمنافسة مع روسيا والصين، كونها تقل خطورة عن الأبعاد العسكرية فيما يمكن تسميته بمنافسة “المنطقة البيضاء” التي يجب معالجتها من خلال الوسائل المدنية.

إن ما أكده التقرير أن الحلف العسكري لا يتجه لاستخدام الأداة العسكرية مع الدولتين الممثلتين (روسيا والصين) لتحدي الهيمنة الغربية بقيادتها الأمريكية، وأكد أيضًا تحسُّب الولايات المتحدة للعمل المنفرد ضد أي منهما، وأن الناتو هو الإطار الرئيسي لأية مواجهة محتملة في هذا السياق، وأن الهدف الحقيقي هو استنزاف قوى الدولتين في مواجهات فرعية وقضايا متعددة؛ لكن يجب على الناتو أن يدرس سلوك الدولتين كل في فلكه، ولا يبني تقديراته على تحليلات متحيزة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18714/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M