الاتحاد الأوروبي و«الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا»: خطوة جديدة لتعزيز الشَّراكات والنفوذ

  • يَنْظرُ كل الشركاء الأوروبيين إلى مشروع «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» بوصفه فرصة كبرى لتعزيز العلاقات الاقتصادية، وخدمة مصالحهم الجيوسياسية، لكنَّ هناك أسباب وتطورات قد تُولِّد مواقف متضاربة، وتَختبِر قدرة العلاقات الأوروبية البينية على الصمود. 
  • إذا أمكن تنفيذ مشروع الممر الاقتصادي، فإن المصالح الاقتصادية الفعلية أو المُحتملة للدول الأوروبية في الخليج سوف تتوسّع. وفي المقابل، سيُصبح الخليج أكثر أهمية باعتباره مركزَ ربط بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.
  • ستظل العلاقات السياسية والأمنية القائمة بين أوروبا ومنطقة الخليج مُهمّة، حتى لو ظل مشروع الممر الاقتصادي مُجمّداً أو توقّف العمل به بين الفينة والأخرى. وستُشكّل نتائج ما بعد حرب غزة الجداول الزمنية والأشكال ومستوى النوايا الحسنة والتوقّعات المُستقبليّة وهوية المستثمرين في مشروع الممر الاقتصادي. 
  • سيؤدي تنفيذ مشروع الممر الاقتصادي إلى زيادة نفوذ أوروبا إلى جانب نفوذ الصين. وقد يؤدّي تواصُل التفاعل وارتفاع مستويات التعلّم بين الدول المُشاركة، بسبب المشروع أيضاً، إلى تحسين التعاون وفرص إبرام الصفقات في المجالات التي كان انخراط القوى الأوروبية فيها محدوداً.

 

تَعهَّدت حكومات الإمارات والسعودية والاتحاد الأوروبي والهند وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، في 9 سبتمبر 2023، بالعمل معاً من أجل إقامة «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» (IMEC).

 

يتكون الممر من قسمين منفصلين: القسم الشرقي، وهو خط ملاحي بحري واصِل بين الهند والإمارات، والقسم الشمالي المتضمن الشق البري الواصل بين دول الخليج وأوروبا. ويتضمن الممر شبكة للسكك الحديد توفر عند اكتمالها شبكة لدعم ممرات النقل البحري والبري القائمة حالياً، وبالتالي تمكين البضائع والخدمات من التنقل بين الهند والإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وأوروبا. كما يتضمن المشروع كابلاً للكهرباء، وخط أنابيب للهيدروجين النظيف، وكابلاً لنقل البيانات بسرعة فائقة.

 

أهداف الاتحاد الأوروبي ومصالحه

يعتزم الاتحاد الأوروبي ضخ نحو 300 مليار يورو خلال الفترة 2021-2027 في استثمارات بمشاريع خارجية في مجال البنية التحتية من خلال مشروع “البوابة العالمية”. وظهر مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” في سياق تنافس جيو-اقتصادي قوي في مجال البنية التحتية. ويُنظَرُ إلى المشروع على أنه خطوة مفيدة للتوصل إلى إعادة توازن تدريجي في العلاقات التجارية والاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والصين. كما يوفر المشروع بديلاً لممرات الشرق-الغرب الأخرى، بما في ذلك الجسور البرية والبحرية التي تشكل جزءًا من “مبادرة الحزام والطريق” الصينية. ويهدف “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” إلى إعادة تشكيل وتعزيز حركة تجارة البضائع والطاقة والخدمات بين الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط والهند.

 

وتظل أوروبا ثالث أهم شريك تجاري للهند. ويدرك صُنّاع القرار في أوروبا دور المحيط الهندي كساحة استراتيجية في حال حدوث أي طارئ بين الولايات المتحدة والصين في المحيط الهادئ. لذلك يُنْظَرُ إليه على أنه أحد ركائز استراتيجية أوروبا الأوسع في منطقة الهندي-الهادئ (الإندو-باسيفيك). وتتحمل البنية التحتية مسؤولية معظم إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة وتكاليف التكيف مع آثار تغير المناخ على مستوى العالم، لذلك يستخدم الفاعلون في أوروبا مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” لتشجيع أهداف الاتحاد الأوروبي في مجال المناخ والطاقة المتجددة.

 

البُعد الصيني

برز الاستقلال الاستراتيجي، كفكرة قوية في الاتحاد الأوروبي، في عهد إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، لكنَّ إخفاق سياسات الاتحاد الأوروبي في حماية الأعمال الأوروبية المشروعة في إيران من العقوبات الأمريكية الثانوية، ومسار الحرب الروسية-الأوكرانية منذ عام 2022، أظهر لصُنّاع القرار في الاتحاد الأوروبي الدور الرئيس الذي تؤديه الولايات المتحدة في الجغرافيا السياسية الأوروبية وموقفها تجاه الصين.

 

وظهر مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” في خضم هذا الإدراك في أوساط الكثيرين من صُنّاع القرار الأوروبيين. وهناك طيف من الآراء في الاتحاد الأوروبي حول ضرورة ونطاق ومجالات التركيز والأثر المحتمل للسياسات التي تحد من الاعتماد الاقتصادي على الصين. ويُعد إطار ماكسويل بسلر الذي يتضمن أربعة فاعلين[1] مفيداً في هذا المجال بالرغم من أنه مُصمَّم للولايات المتحدة.

 

لكنَّ دعاة الفصل التام بين الاتحاد الأوروبي والصين في مجالي التكنولوجيا والاقتصاد غير ظاهرين في صناعة السياسة بالاتحاد الأوروبي. ويُشكِّل من يعتبرون صعود الصين تهديداً خطيراً، وأن الأعمال بين الاتحاد الأوروبي والصين لعبة صفرية، أقلية في صناعة السياسة بالاتحاد الأوروبي، لكنَّهم يحظون ببعض الحضور في المؤسسات الأمنية. ويهيمن الوسطيون الذين يقبلون بصعود الصين وفرض قيود على الأعمال التي تنطوي على حساسية في مجال الأمن القومي على التجارة وصناعة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. ويحتفظ دعاة التعاون الذين يطالبون بانخراط معتدل بوجودٍ لهم في قطاعات الأعمال والإعلام وبعض دوائر صناعة السياسة في مجال التجارة.

 

وعكست استراتيجية الأمن الاقتصادي التي صدرت عن المفوضية الأوروبية في 20 يونيو 2023 تفاعلات سابقة مع الولايات المتحدة وتقييمات لمصالح الاتحاد الأوروبي. وأشارت الاستراتيجية إلى أن الاتحاد الأوروبي يرغب في منع وتخفيف المخاطر المتصلة بمرونة سلاسل الإمداد والبنية التحتية الحيوية والمخاطر المتعلقة بتسريب التكنولوجيا وعسكرة الترابط الاقتصادي أو الإكراه الاقتصادي.

 

ويبدو أن هذه الاستراتيجية تشير ظاهرياً إلى اصطفاف وثيق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكنَّ المصالح ومسارات الترابط والمصالح ووجهات النظر تختلف داخل الاتحاد الأوروبي. وبحسب مجلس العلاقات الخارجية الألماني، فإن الاعتماد المفرط على الصين يُعد موضع اهتمام لألمانيا بشكل خاص وليس أوروبا. ويمر جزءاً كبيراً من التجارة غير المباشرة بين دول الاتحاد الأوروبي والصين عبر ألمانيا في الوقت الذي تظل فيه الرغبة في الصين كبيرة لإقامة مزيد من الأعمال.

 

وتُعَد خسارة الاتحاد الأوروبي أكبر من الولايات المتحدة في حال محاولة دول الاتحاد تخفيف حدة المخاطر الناجمة عن تعاملها مع الصين، حيث إن الشركات الصينية ما زالت من بين أكبر الموردين للسلع إلى أوروبا، وتمتلك حضوراً قوياً في البنية التحتية الأوروبية، بما في ذلك ميناء بيرايوس اليوناني، الذي يُعد جزءًا من مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”. وقد لا تحذو الشركات الأوروبية بالضرورة حذو حكوماتها في محاولة تخفيف حدة المخاطر الناجمة عن التعامل مع الصين وإعادة الإنتاج إلى الأراضي الأوروبية. وتُعد قدرة الحكومات الأوروبية على استخدام الحوافز المالية أو برامج الاستثمار العامة لإقناع الشركات محدودة مقارنة مع قدرة الحكومة الأمريكية. كما أن معاقبة الشركات الأوروبية بسبب تعاملها مع الصين سيؤدي إلى إضعاف الاقتصاد الأوروبي، وقد يقنع الشركات بمغادرة دول الاتحاد الأوروبي.

 

وتُعَد الصين ثاني أكبر شريك تجاري لأوروبا بعد الولايات المتحدة، حيث تجاوز حجم التجارة الثنائية 850 مليار دولار عام 2022. في المقابل بلغ حجم التجارة الثنائية بين الهند وأوروبا 90 مليار دولار فقط. وهناك إدراك في أوساط الحكومات الأوروبية بأن اقتصادات جنوب شرق آسيا قد تتحول إلى مراكز للعبور أو التغليف للسلع الصينية، الأمر الذي سيزيد من صعوبة تعقب هذه السلع في طريقها إلى دول الاتحاد الأوروبي. وقد يتمكن الاتحاد الأوروبي بالنسبة للكثير من السلع الحيوية مثل أشباه الموصلات والمواد الخام الحيوية تخفيف المخاطر من التعامل مع الصين، غير أن الاتحاد لن يحقق الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي من الولايات المتحدة أو الفاعلين الآخرين.

 

وستتواصل عملية التدقيق في تعاملات الاستثمارات القادمة إلى دول الاتحاد الأوروبي، إذ من المرجح حدوث تدخلات من جانب واشنطن في الحالات الحساسة مثل عرقلة الصادرات إلى الصين من جانب شركة “أيه أس أم أل” الهولندية التي تعمل في مجال تصنيع آلات تصنيع الرقائق. لكنَّ الوسطيين يهيمنون على صناعة السياسة في الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أن التكتلات الاقتصادية والسياسية في الاتحاد تختلف عنها في الولايات المتحدة. وقد يحظى القبول بالتعددية القطبية والتركيز على إضافة قيمة إلى الاقتصاد والأمن في الاتحاد الأوروبي بدلاً من الدخول في لعبة صفرية مع الصين دعماً كبيراً على المديين المتوسط والبعيد في مقاربات الاتحاد تجاه مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”.

 

مواقف متضاربة

يَنْظرُ كل الشركاء الأوروبيين إلى مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” بوصفه فرصة كبرى لتعزيز العلاقات الاقتصادية، وخدمة مصالحهم الجيوسياسية. لكنَّ عدداً من الأسباب المحتملة قد تُولِّد مواقف متضاربة، وتختبر قدرة العلاقات الأوروبية البينية على الصمود. ولعل فرصة تعزيز البُعد البحري بالنسبة لإيطاليا يشكل أكثر أهمية منه بالنسبة لألمانيا. أمّا بالنسبة لفرنسا فإن علاقات صناعتها الدفاعية مع دول الخليج وحساسيتها للردود السلبية من جانب مصر تجاه مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” تختلف عن موقف ألمانيا، والتي قد يختلف تناغمها تجاه رد تركيا عن رد إيطاليا.

 

وقاد الصراع القائم بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية إلى خلافات داخلية كبرى في أوساط المؤسسات التابعة للاتحاد الأوروبي والأجهزة داخل الحكومات الوطنية في دول الاتحاد. ووصف نائب المستشار الألماني روبرت هابيك دعم ألمانيا لمصالح إسرائيل واليهود الأوروبيين بأنه ليس مجرد سياسة خارجية، بل يعادل سبب الدولة الألمانية في الوجود. في المقابل جاءت الردود من جانب فرنسا أو إيطاليا أقل توحداً في أرجاء الطيف السياسي، وتُولي اهتماماً أكبر لعلاقاتها مع العالم العربي. وعند المستويات الحالية للصراع وحتى في حال تصاعد الصراع على المستوى الإقليمي فإن بناء الثقة وتنفيذ مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” شهد حالة من الجمود، بل التأجيل لبعض الوقت.

 

لكنْ بشكل عام فإن مصالح الكثير من الدول الأوروبية وجهات التمويل العامة ستشهد حالة من الاصطفاف الكافي مع مشروع مثل “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”. ومن المرجح أن يتمثل المتغير المهم في طيف الآراء في أوساط الفاعلين في قطاع الأعمال الأوروبي وجهات التمويل الخاصة خلال البيئة الإقليمية ما بعد الصراع.

 

التحدّيات والعقبات 

يُعدّ نطاق الممر الاقتصادي بين الهند بالشرق الأوسط وأوروبا أضيق نسبياً من مُبادرة الحزام والطريق، لكن تكامل وسائط النقل المُختلفة وإدارة الأطراف المختلفة المشاركة فيه سيُمثّل تحدياً. وهو يتألّف من نقاط ربط برية وبحرية، لكنه سيفتقر إلى الطرق السريعة والسكك الحديدية التي تمتد إلى آلاف الكيلومترات كنقاط ربط برية عبر تضاريس مُتنوّعة مثل المناطق الجبلية في اليونان والمناطق الصحراوية في الخليج. والسكك الحديدية هي أكثر وسائل نقل البضائع البرية كفاءةً، ولكنها يجب أن تتوافق فنياً من حيث التشغيل مع الموانئ، وهي مُعقّدة من حيث الإنشاء. وقد تكتسب خطوط الشحن والطرق البحرية والموانئ ذات سعة النقل الأكبر في بعض الأحيان أولوية أكبر من خطوط السكك الحديدية البرية في سيناريوهات التخطيط. كما أن بعض هذه التحدّيات ستُعزِّز تضارب المواقف بين الفاعلين الأوروبيين. ولكي يكون هذا الممر قادراً على المُنافسة من حيث الأعمال، ولجذب التجارة بعيداً عن الطرق الحالية، سيتعيّن تبسيط أو ضمان التقارب الجزئي على الأقل بين الأنظمة القانونية والسياسات وبروتوكولات النقل والإجراءات الجمركية واللوائح والضرائب ومنهجية إدارة الوقت على طول هذا الطريق. ولابد من إنشاء آلية تنفيذ فعّالة بين البلدان المُشاركة بالمشروع، وسيُحاول الاتحاد الأوروبي بنشاط تشكيلها باعتباره أحد طرفي هذا الممر.

 

إن الوضع المالي العام في الاتحاد الأوروبي في موقف أضعف من أن يُسهم في إطلاق المشروع. وبوسع الاتحاد الأوروبي أن يوعز إلى بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير بتقديم ضمانات وإصدار سندات مُخصّصة لهذه الغاية. ومع ذلك، من غير المعروف ما إذا كان حجم التجارة في المنطقة سيكون كافياً لدعم كلٍّ من الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا ومُبادرة الحزام والطريق معاً أو الممرات الأخرى. وقد يكون من السهل التقليل من مقدار تكاليف التحميل والتفريغ ذات الصلة، والوقت في كل ميناء على طول الطريق ورسوم العبور في المُستقبل. وقد يجد العديد من المُموّلين من القطاع الخاص أن تكلفة المشروع وتعقيده وطول عمره باهظة، وسيكونون مُتردّدين في أن يلتزموا بالاستثمارات عند مستويات عدم اليقين المُرتبطة بالصراع.

 

اقرأ ايضاً:

 

مُقاربات الاتحاد الأوروبي

طُرِحت مُبادرة “البوابة العالمية” (Global Gateway) من خلال الجمع بين الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد مع مؤسساتها المالية والإنمائية. كما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تعبئة القطاع الخاص من أجل الاستفادة من الاستثمارات. وهو يعتمد على الأدوات المالية الجديدة في الإطار المالي مُتعدّد السنوات للاتحاد الأوروبي 2021-2027، لاسيما أداة الجوار والتنمية والتعاون الدولي (NDICI) – أوروبا العالمية، وبرنامج المُساعدة قبل الانضمام (IPA III)، والجزء الرقمي والدولي من صندوق ربط أوروبا (Connecting Europe Facility)، وأيضاً برنامج إنتيريج للتعاون (Interreg)، وصندوق استثمار أوروبا (InvestEU)، وبرنامج هورايزون يوروب (Horizon Europe)، وهو برنامج البحث والابتكار في الاتحاد الأوروبي.

 

وتتمثّل المرحلة التالية من الممر الاقتصادي بين الهند بالشرق الأوسط وأوروبا في العمل بشكل جماعي لإنشاء كيانات تنسيقية لوضع مجموعة كاملة من المعايير التقنية والتصميمية والتمويلية والقانونية والتنظيمية ذات الصلة. واستناداً إلى الدروس المُستفادة من مُبادرة الحزام والطريق الصينية، يرى الفاعلون الأوروبيون أنه من المُهم الاهتمام بتقوية آليات الشفافية بين الدول المشاركة بالمشروع، وبذل العناية اللازمة وإعطاء الأولوية للاستدامة، وتعزيز مُمارسات الحكم الرشيد لتجنّب شراك الديون. وسيحاول الفاعلون الأوروبيون الانخراط في إنشاء أنظمة مالية فعّالة، وتنسيق اللوائح المصرفية، والأطر لتحويل العملات، ومن المُحتمل أن يُشجّعوا كذلك على تطوير المراكز المالية المحليّة والإقليمية على طول الممر، وتعزيز التعاون بين البنوك المركزية والمؤسّسات المالية للمشاركين بالمشروع، وتعزيز الامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي (FATF).

 

مع ذلك، أدّى اندلاع الصراع بين إسرائيل و”حماس” إلى تحويل التركيز على الطاقة والاهتمام بها في الاتحاد الأوروبي. وقد جاء الصراع في وقتٍ كان العديد من المسؤولين في الاتحاد الأوروبي مشغولين بإعداد وثائق المرحلة النهائية من المفوضية الأوروبية الحالية. وظهرت انقسامات كبيرة بين الدول الأعضاء ومؤسّسات الاتحاد الأوروبي ودوائره فيما يتعلّق بنهج السياسة الأوروبية الصحيح. وتُغذّي هذه الانقسامات أيضاً المخاوف الأمنية بين الجاليات اليهودية الأوروبية، والحملات والقوى المؤيدة للفلسطينيين في الدول الأوروبية، والمخاوف بشأن صورة الاتحاد الأوروبي في الجنوب العالمي. وتنظر الحكومات الوطنية إلى الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا باعتباره أداة لتعزيز الشراكات الاقتصادية والنفوذ. وبينما يُعدّ الأمن القومي اختصاصاً على مستوى الدول الأعضاء، فإن سياسة التجارة الدولية هي اختصاص على مستوى الاتحاد الأوروبي. ومن المُتوقّع، وبخاصةٍ في المرحلة الأولى ما بعد الصراع، أن يطغى دور حكومات فرنسا وألمانيا وإيطاليا على دور الفاعلين في الاتحاد الأوروبي في العديد من القضايا المُحدّدة.

 

استبعاد تركيا

في الوقت الحالي، هناك رغبة محدودة أو معدومة لإشراك حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مشروع الممر الاقتصادي. وبرزت اليونان التي كانت ذات يوم مؤيّدة للفلسطينيين بوصفها مؤيّداً قوياً لإسرائيل التي تشترك معها في مصالح الطاقة والعلاقات الدفاعية وعدم الثقة في السياسة التركية الحالية. واُستخدِمَت السفن العسكرية الألمانية والفرنسية في شرق البحر الأبيض المتوسّط لحماية المصالح الأوروبية.

 

وفي فترة ما بعد الصراع، أو في مرحلة ما بعد أردوغان، قد تتغيّر المُقاربات الأوروبية إزاء هذه القضية. وستدعم بعض مراكز الفكر الأوروبية ترك خطة عمل مشروع الممر الاقتصادي مفتوحة للتمدّد وضم الفاعلين الإقليميين الآخرين في أوقات أكثر ملاءمة. ووفقاً للاتحاد الدولي لوكلاء الشحن (FIATA)، وبسبب العديد من التحدّيات سيحتاج مُشغّلو الوسائط المُتعدّدة في قطاع النقل إلى كل ممر مُمكن في العالم للحد من أوقات الانتظار وارتفاع التكاليف. وقد يكون خفض التصعيد في شرق البحر الأبيض المتوسط أو المصالح الاقتصادية بمنزلة نقطة دخول للمفاوضات حول هذه القضية. ومع ذلك، فإن اندلاع صراع إقليمي أكثر حدةً مُرتبط بالصراع بين إسرائيل و”حماس” من شأنه أن يؤجّل هذه الخيارات في المُستقبل المنظور.

 

علاقة أوروبا بمنطقة الخليج

جاءت القوة المُتنامية للقوى المتوسّطة الحجم وقرارها بعدم الانحياز إلى الولايات المتحدة أو روسيا في الحرب بمنزلة إنذار للاتحاد الأوروبي حول حدود قوته الناعمة. ويُمثّل الممر الاقتصادي بين الهند بالشرق الأوسط وأوروبا جُهداً ملموساً من قبل الاتحاد الأوروبي لتوفير استثمارات في البنية التحتية بالشراكة مع الفاعلين غير الغربيين، والذي غالباً ما يُقرّر نشاطهم وتعاونهم مدى نجاح هذا المشروع. وإذا أمكن تنفيذ هذا المشروع، فإن المصالح الاقتصادية الفعلية أو المُحتملة للدول الأوروبية في الخليج سوف تتوسّع. بالإضافة إلى ذلك، سيُصبح الخليج أكثر أهمية باعتباره مركزَ ربط بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، وستكون العلاقات الخليجية-الهندية عامل مساومة رئيس في علاقات الخليج مع الاتحاد الأوروبي.

 

وسيظل مُعارضو مشروع الممر مُتيقّظين لاستغلال أية فرص سانحة لتصوير المُشاركين فيه بشكل سلبي. إن الحروب الثقافية بين النُخب الثقافية والسياسية الأوروبية، وعلى سبيل المثال تلك المُتعلّقة بتغيُّر المناخ وسياسات الطاقة، وسياسات الهوية المُتعدّدة الجوانب والسياسة الخارجية النسوية، تُمثّل الأساس للأحكام والسياسات الرمزية لصنّاع القرار الأوروبيين. وستظل الرسالة القائلة بأن الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا هو مشروع مُتعدّد الوسائط مُهمّة كذلك فيما يخص الثقافات والحضارات والدول القومية.

 

وستظل العلاقات السياسية والأمنية القائمة بين أوروبا ومنطقة الخليج مُهمّة، حتى لو ظل المشروع مُجمّداً أو توقّف العمل به بين الفينة والأخرى. ومع ذلك، فإن نتائج ما بعد الصراع الحالي [في غزة] ستُشكّل الجداول الزمنية والأشكال ومستوى النوايا الحسنة والتوقّعات المُستقبليّة وهوية المستثمرين في مشروع الممر الاقتصادي. وإذا نُفِّذَ المشروع، فقد تنخرط الدول الأوروبية بمرور الوقت بشكل أكثر نشاطاً في تبادل المعلومات والتعاون الاستخباراتي والتعاون الأمني، والمُناورات العسكرية المُشتركة. ومع ذلك، ستواصل الولايات المتحدة أداء دور قيادي في تعزيز الإطار الأمني للممر.

 

ويُمكن للتحوّلات السياسية والاقتصادية أن تُعيد تشكيل العلاقات للأفضل أو للأسوأ. وستكون الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وتشكيل المفوضية الأوروبية الجديدة والموافقة عليها، والانتخابات الأمريكية في عام 2024، معالم مُهمّة في هذا الصدد. كما أن سعي الأحزاب الرئيسة في المملكة المتحدة لإعادة تقويم العلاقات مع أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والاصطفاف الصيني الكبير مع مصر التي تسيطر على قناة السويس، والتحوّلات الكبيرة في اقتصادات الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الهند أو الصين، ستكون أيضاً مُحرّكات للتغيير.

 

وإذا نُفِّذَ مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، فسيؤدي ذلك إلى زيادة نفوذ أوروبا إلى جانب نفوذ الصين. وقد يؤدّي تواصُل التفاعل وارتفاع مستويات التعلّم بين الدول المُشاركة بسبب المشروع أيضاً إلى تحسين التعاون وفرص إبرام الصفقات في المجالات التي كان انخراط القوى الأوروبية فيها مُتخلّفاً عن الركب. ويُمكن لدول الخليج في تفاعلها مع الاتحاد الأوروبي مواصلة تنفيذ المشروع ليس فقط باعتباره مشروعاً ثابتاً، ولكن بوصفه منصّةً مفتوحةً توفّر للعديد من الفاعلين المزيد من الخيارات لاستراتيجياتها الاقتصادية والجيوسياسية.

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/alaitihad-al-uwrubiy-wa-almamar-alaiqtisadi-bayn-alhind-walsharq-alawsat-wa-uwruba

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M