بحلول ذكرى بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، وفي خضم تنامي الاتهام الغربي بشأن تقديم الصين دعم عسكري لروسيا في حربها الجارية هناك، أعلنت الصين يوم الرابع والعشرين من فبراير 2023 عن تقديم “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية”. وسبق هذا المقترح كشف بكين عن تفاصيل “مبادرة الأمن العالمي” والتي سبق وأن طرحها الرئيس الصيني “شي جين بينج” في أبريل 2022، أثناء إلقائه كلمته في حفل افتتاح المؤتمر السنوي لمنتدى بوآو الآسيوي، ولكن دون الكشف عن تفاصيلها أو بنودها.
سبق الكشف عن مقترح التسوية ومبادرة الأمن العالمي جولة خارجية لكبير الدبلوماسيين الصينيين، ورئيس مكتب لجنة الشئون الخارجية باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني “وانغ يي”، والتي اشتملت زيارة فرنسا، وإيطاليا، والمجر، وألمانيا، وروسيا، بهدف مناقشة خطة الصين للسلام في أوكرانيا، وذلك بغرض تفعيل الدبلوماسية الصينية في حل الأزمة التي جعلت بكين هي الأخرى في محل اتهام متزايد من قبل الغرب ارتباطًا بعلاقتها الوثيقة مع روسيا. ومن هنا يتضح مدى الترابط بين مقترح التسوية ومبادرة الأمن العالمي، حيث تسعى الصين عبرهما إلى التأكيد على أنها شريكة في إرساء السلام العالمي، وذلك على عكس بعض الدول الأخرى التي تسهم في “تأجيج الحرب وصب الزيت على النار”.
تُثير المبادرات المطروحة مؤخرًا من جانب الصين تساؤلًا حول الدافع الذي طُرِحت على أساسه. بمعنى آخر، هل تم طرح مقترح السلام الأخير لتسوية الأزمة في أوكرانيا، أم أنها بداية لانخراط صيني أكثر فاعلية بالأزمات العالمية الراهنة يمكِّنها من طرح نفسها كبديل موثوق به عن الولايات المتحدة؟.
مبادرات السلام الصينية خلال عام الحرب
منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، عمدت الصين إلى الدفع بفكرة التزامها الحياد وعدم انحيازها لطرف على حساب آخر، وأن الشاغل الوحيد للصين هو دفع الأطراف المتصارعة (ليس فقط في الأزمة الأوكرانية وإنما في أي أزمة عالمية أو إقليمية أخرى) للحوار والتفاهم وتسوية الصراع، وذلك على نقيض موقف الولايات المتحدة (سواء في الصراع الأوكراني أو إزاء أي صراع آخر) والتي تسعى عبر تحركها إلى ترسيخ الأحادية واستمرار تأجيج الخلافات والصراعات ما بين الدول.
وبناءً عليه، نجد استمرار الصين في التأكيد على ما تُردده دومًا بشأن ثوابت سياستها الخارجية، حيث ضرورة الالتزام بما يقره القانون والعرف الدوليان من مفاهيم ومبادئ لتكون هي أساس العلاقات بين الدول؛ وذلك بغرض تحقيق غاية التعايش السلمي، وتعزيز التنمية المشتركة والدعوة إلى بناء عالم متناغم يسوده السلام الدائم والرخاء المشترك.
أولًا- الموقف الصيني الرسمي من الأزمة الأوكرانية:
دار الموقف الصيني الرسمي من الأزمة الأوكرانية المعلن عنه داخل المحافل الدولية وفي التصريحات الرسمية الصادرة عن مختلف القيادات الصينية حول ضرورة احترام سيادة وسلامة أراضي جميع البلدان، واحترام أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وحتمية أخذ الشواغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان على محمل الجد، ومعالجة مخاوف جميع الأطراف، والسعي لتحقيق الأمن المشترك، ودعم جميع الجهود لحل الأزمة سلميًا، حيث يُعتبر الحوار والتفاوض السبيل الوحيد القابل للتطبيق لحل الأزمة الأوكرانية.
يُعبر ما تقدم عن وجهة النظر الصينية الرسمية حيال كيفية تسوية أي صراع دولي أو إقليمي، ولكن ما يعد جديدًا مع الأزمة الأوكرانية هو تفسيرها للصراع. بحسب التصريحات الصينية الرسمية، فإن تاريخ وسياق القضية الأوكرانية معقدان، فهي ليست اندلاع تراكم طويل الأمد للصراعات الأمنية الأوروبية فحسب، ولكنها أيضًا نتيجة تفكير الحرب الباردة ومواجهة الكتلة. ولحل الأزمة الأوكرانية، ينبغي الحفاظ على سيادة أوكرانيا وأمنها، واحترام مخاوف روسيا الأمنية المشروعة، والدفاع عن السلام والاستقرار في أوروبا والبلدان الأخرى. وبهذا المعنى، فإن الصين لا تحمّل روسيا وحدها مسئولية ما حدث في أوكرانيا، بل تحمّل الغرب أيضًا، ولا سيما الولايات المتحدة؛ مسئولية ما آلت إليه الأمور، وذلك لأن الغرب تجاهل باستمرار المخاوف الأمنية لروسيا.
ثانيًا- مبادرة الأمن العالمي:
مع استمرار الحرب في أوكرانيا، يبدو أن القيادة الصينية قد اتجهت إلى إعادة تنشيط مبدأ “المبادرة” الذي سبق وأرسته من قبل عبر طرح مبادرة التشارك في بناء “الحزام والطريق”، ومبادرة إنشاء “بنك الاستثمار الآسيوي للبنى التحتية”، والدعوة إلى بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية ودفع تغيير نظام الحوكمة العالمية، ومبادرة “التنمية العالمية”. فخلال كلمته بمنتدى بوآو الآسيوي، قدم الرئيس الصيني مبادرة تدعو إلى الالتزام بستة قواعد رئيسية لحماية الأمن العالمي وتحقيقه. تتمثل في: أولًا، الالتزام برؤية الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، والعمل معًا للحفاظ على السلام والأمن العالميين. ثانيًا، الالتزام باحترام سيادة ووحدة أراضي جميع البلدان، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، واحترام الخيارات المستقلة لمسارات التنمية والأنظمة الاجتماعية التي يتخذها الناس في مختلف البلدان. ثالثًا، الالتزام بالتمسك بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ورفض عقلية الحرب الباردة، ومعارضة الأحادية وسياسات التحالفات والمواجهة بين التكتلات. رابعًا، الالتزام بأخذ الشواغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان على محمل الجد، والتمسك بمبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، وبناء هيكل أمني متوازن وفعال ومستدام، ومعارضة السعي لتحقيق الأمن على حساب أمن الآخرين. خامسًا، الالتزام بالحل السلمي للخلافات والنزاعات بين الدول من خلال الحوار والتشاور، ودعم كل الجهود التي تؤدي إلى التسوية السلمية للأزمات، ورفض المعايير المزدوجة، ومعارضة الاستخدام التعسفي للعقوبات الأحادية. سادسًا، الالتزام بالحفاظ على الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية، والعمل على حل النزاعات الإقليمية والتحديات العالمية مثل الإرهاب وتغير المناخ والأمن السيبراني والأمن البيولوجي.
هكذا كان الإعلان المبدئي للمبادرة، والتي بحسب وزير الخارجية الصيني “تشين قانغ” قد لاقت ترحيبًا ودعمًا من قبل أكثر من 80 دولة ومنظمة إقليمية.
وفي يوم الحادي والعشرين من فبراير 2023، نشرت وزارة الخارجية الصينية البنود التفصيلية لهذه المبادرة، والتي عكست الرؤية الصينية لما ينبغي أن تكون عليه التفاعلات الدولية. ففي ظل ما يواجهه المجتمع الدولي من مخاطر وتحديات متعددة مرتبطة باستمرار جائحة COVID-19، وتصاعد الأحادية والحمائية بشكل كبير، وتشابك التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية، واستمرار العجز في السلام والتنمية والأمن والحكم في الازدياد، يتحتم أن يكون دعم السلام والأمن العالميين وتعزيز التنمية والازدهار العالميين هو السعي المشترك لجميع البلدان.
تهدف مبادرة الأمن العالمي إلى القضاء على الأسباب الجذرية للنزاعات الدولية، وتحسين حوكمة الأمن العالمي، وتشجيع الجهود الدولية المشتركة لتحقيق المزيد من الاستقرار واليقين في عصر متقلب ومتغير، وتعزيز السلام الدائم والتنمية في العالم.
يستند مضمون المبادرة على تشابك التزامات ستة رئيسية، وهي ذات الالتزامات التي أوضحها الرئيس الصيني سابقًا. ولتحقيق هذه الالتزامات، أبدت الصين استعدادها لإجراء تعاون أمني ثنائي ومتعدد الأطراف مع جميع الدول والمنظمات الدولية والإقليمية في إطار مبادرة الأمن العالمي، وتعزيز التنسيق الفعال للمفاهيم الأمنية وتقارب المصالح. وفي هذا الصدد، حددت الصين 20 نقطة قالت إنها تمثل المجالات ذات الأولوية للتعاون، مثل المشاركة في صياغة برنامج جديد للسلام، ودعم جهود الأمم المتحدة لتعزيز منع الصراع، والتسخير الكامل لهيكل بناء السلام لمساعدة الدول في مرحلة ما بعد الصراع في بناء السلام، ودعم دور أكبر للأمم المتحدة في شئون الأمن العالمي، والتمسك بحزم بالإجماع على أنه “لا يمكن الانتصار في حرب نووية ولا يجب خوضها أبدًا”، ودعم جهود الدول الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط وبلدان أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي وجزر المحيط الهادئ لحل أزماتهم السياسية والأمنية والاقتصادية والبيئية، بالإضافة إلى التعاون في حماية الغذاء العالمي وأمن الطاقة، ودعم التعاون بين الدول في التصدي لتغير المناخ والحفاظ على سلاسل التوريد والصناعة المستقرة.
ثالثًا- الإعلان عن “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية”:
ارتباطًا بما طُرح بالمبادرة، أعلنت وزارة الخارجية الصينية لاحقًا عن “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية”، والذي يتضمن 12 بندًا لإنهاء الأزمة.
بحسب الوثيقة، تتفق الرؤية الصينية لتسوية الأزمة سياسيًا مع كثير من المبادئ ومجالات التعاون ذات الأولوية التي جاءت ضمن مبادرة الأمن العالمي، حيث التأكيد مجددًا على ضرورة احترام سيادة جميع الدول، والتقيد الصارم بالقانون الدولي المعترف به عالميًا؛ والتخلي عن عقلية الحرب الباردة، وضرورة الالتزام بالمصالح والشواغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان وعدم السعي وراء أمن بلد ما على حساب الآخرين؛ عدم استخدام السلاح النووي أو التهديد باستخدامه أو خوض حرب نووية، إلى جانب المحافظة على سلامة محطات الطاقة النووية؛ وقف الأعمال العدائية والعقوبات الأحادية واستئناف محادثات السلام. هذا بالإضافة إلى ضرورة حل الأزمة الإنسانية عبر تشجيع ودعم جميع التدابير التي تؤدي إلى تخفيف الأزمة الإنسانية، وذلك عبر اتباع مبادئ الحياد وعدم الانحياز وعدم تسييس القضايا الإنسانية.
اشتملت بنود مقترح التسوية أيضًا على عدد من المقترحات التنفيذية والتي تضمنت دور محوري للصين في تنفيذها. حيث تناول المبدأ التاسع من المقترح بند تسهيل تصدير الحبوب عبر تنفيذ مبادرة حبوب البحر الأسود التي وقعتها روسيا وتركيا وأوكرانيا والأمم المتحدة بشكل كامل وفعال وبطريقة متوازنة. وفي هذا الصدد، أشارت الصين إلى مبادرة التعاون بشأن الأمن الغذائي العالمي التي اقترحتها من قبل باعتبارها حلًا عمليًا لأزمة الغذاء العالمية.
فيما أشارت الصين في البند الحادي عشر من الرؤية إلى أهمية الحفاظ على استقرار الصناعة وسلاسل التوريد، إلى جانب التزام جميع الأطراف بالحفاظ بجدية على النظام الاقتصادي العالمي الحالي ومعارضة استخدام الاقتصاد العالمي كأداة أو سلاح لأغراض سياسية، الأمر الذي يحمل في طيه تأكيد على رفض سياسة العقوبات الاقتصادية التي ينتهجها الغرب حيال روسيا.
وفي البند الثاني عشر من الوثيقة، دعت الصين إلى تشجيع إعادة الإعمار بعد الصراع. وارتباطًا بهذا، أعلنت الصين عن استعدادها لتقديم المساعدة والقيام بدور بناء في هذا المسعى.
وبالرغم مما تكشفه التصريحات وما جاء بتفاصيل المبادرات من حياد صيني إيجابي إلى حد ما لصالح روسيا؛ وهو ما تبدو ملامحه بشكل أكثر وضوحًا في رفض العقوبات على روسيا، ومسئولية الغرب عن اندلاع هذه الحرب، تعكس هذه المبادرات عن رغبة صينية في إرساء دور أكبر داخل الأزمة. فبالنظر إلى الموقف الصيني السابق من أزمة شبه جزيرة القرم 2014، يتضح تخلي الصين عن نهج الاكتفاء بإدلاء تصريحات محايدة، وإنما يكشف التطور الراهن عن تحول صيني يستهدف تحقيق انخراط أكبر بالأزمة، يمهد إلى تحقيق اختراق صيني سياسي بالأزمات العالمية الراهنة، الأمر الذي يثير التساؤل حول دوافع هذا التغيير.
ما وراء الاستدارة الصينية
يشير توقيت طرح مبادرة الأمن العالمي ومقترح تسوية الأزمة الأوكرانية إلى وجود العديد من الأسباب الدافعة نحو إرساء هذا التغيير، والتي يمكن ملاحظتها فيما يلي:
. التأكيد على دور الولايات المتحدة المزعزع للاستقرار: تشير التحركات الصينية المرتبطة بطرح مبادرة الأمن العالمي ومقترح التسوية في أوكرانيا إلى وجود سعي صيني نحو تقديم دور بديل عن الولايات المتحدة. فعلى خلاف الولايات المتحدة المتمسكة بعقلية الحرب الباردة والتي تمخض عنها هيمنتها الأحادية للنظام الدولي، تقدم الصين نفسها على الصعيد الدولي بأنها الدولة التي لم تبدأ حربًا أو احتلت شبرًا واحدًا من أرض أجنبية، علاوة على كونها الدولة الوحيدة التي أدرجت التنمية السلمية في دستورها، والوحيدة أيضًا من بين الدول الخمس الحائزة للأسلحة النووية التي تعهدت بعدم البدء باستخدام الأسلحة النووية. تؤكد الصين أيضًا على أن تنميتها الداخلية لا يمكن تحقيقها إلا في بيئة دولية سلمية وهادئة، وهو ما يتطلب أن تعيش الصين في سلام مع الدول الأخرى، وأن تسعى إلى التعاون المربح للجانبين مع بقية العالم، وأن ما تحتاجه الولايات المتحدة هو التخلي عن سيطرتها على الهيمنة والسعي إلى التعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين مع الدول الأخرى على أساس احترام السيادة ووحدة الأراضي.
وبالتزامن مع نشرها لتفاصيل مبادرة الأمن العالمي، نشرت وزارة الخارجية الصينية تقريرًا عن “مخاطر الهيمنة الأمريكية”، والذي يأتي ضمن سلسلة من التقارير التي يتم نشرها على موقع وزارة الخارجية وكذا على المواقع الإعلامية الصينية الرسمية تتحدث عن الدور الأمريكي الأحادي العالمي وما يحمله هذا الدور من انعكاس سلبي على حالة الاستقرار والتنمية العالمية، كما أن بعض تلك التقارير يتطرق أيضًا إلى المشكلات الاقتصادية والمجتمعية داخل الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، تحدثت تقارير عن حالة التفاوت الاقتصادي في الثروة في الداخل الأمريكي وما يرتبه الأمر من اضطرابات اجتماعية وتراجع لحالة حقوق الإنسان هناك، هذا إلى جانب وجود تقارير أخرى تتحدث عن قضايا العنف المسلح وتعاطي المخدرات داخل المجتمع الأمريكي.
. الفصل بين أوكرانيا وتايوان: ترفض الصين الجدل الدائر حول احتمالية تكرار السيناريو الأوكراني في تايوان، أو مقارنة الحالة الأوكرانية مع تايوان. تعتبر الصين تايوان جزء لا يتجزأ من أراضيها، وأن الجانبين عبر مضيق تايوان يشتركان في نفس الجذور التاريخية والثقافية وينتميان إلى نفس الصين، وذلك على عكس الأزمة الأوكرانية، والتي تعبر عن خلاف ما بين بلدين وهما روسيا وأوكرانيا. وبالتالي فإن مسألة تايوان هي شأن داخلي للصين بالكامل، وأن إعادة التوحد مع البر الرئيسي للصين هو مستقبل تايوان، وليس الاعتماد على وعود القوى الخارجية. وأخيرًا، فإن مخطط استخدام تايوان لاحتواء الصين محكوم عليه بالفشل. وبناءً عليه، وفقًا لما تقدم بمقترحات السلام الصينية، لا ينبغي للمجتمع الدولي التعامل مع الأزمة التايوانية مثلما يتعامل مع الأزمة في أوكرانيا. كما ينبغي على القوى المتعاونة مع تايوان التوقف عن تقديم دعم عسكري أو سياسي للجزيرة من منطلق ضرورة احترام سيادة ووحدة الأراضي الصينية.
. التأكيد على موقفها المحايد من الأزمة الأوكرانية: تسعى الصين عبر مقترحاتها إلى التأكيد على حيادها وعدم احيازها لأي طرف ضد الآخر، بل والتأكيد على أن شراكتها مع روسيا تستند إلى ثلاثة اعتبارات رئيسية وهي: لا تحالف ولا مواجهة ولا استهداف لأي طرف ثالث.
من ناحية أخرى، فإن الهجوم الروسي، وما لحق به من ضم روسي لأراضٍ أوكرانية، يتعارض مع مبادئ السياسة الصينية القائمة على وحدة وسلامة الأراضي، ومن ثم يمكن القول بأن التحرك الروسي قد أضر بما تروجه الصين عن مبادئها وقيمها التي هي أداة رئيسية من أدوات سياستها الخارجية.
لقد اندلعت الحرب في أوكرانيا بعد أيام من البيان الروسي الصيني والذي أكد على “شراكة بلا حدود” بين الطرفين، وهو ما اُفترِض معه علم- ومن ثم موافقة- الصين على التحرك العسكري الروسي. وعلى الرغم من نفي بكين رسميًا معرفتها المسبقة بالخطط الروسية، فقد أكدت على أنه لا ينبغي تحميل روسيا المسئولية الكاملة عن الأزمة الراهنة، إذ يتحملها الغرب الذي تجاهل باستمرار المخاوف الأمنية الروسية، وعدم التزامه بمبدأ عدم تجزئة الأمن الذي ينص على أن أمن دولة ما لن يتحقق على حساب أمن الدول الأخرى، هذا فضلًا عن استمرار التدخل الأمريكي الذي سيؤدي إلى استمرار اشتعال الصراع.
وبشكل عام، فإن للصين مصلحة اقتصادية وسياسية كبيرة في حل سريع للحرب الروسية الأوكرانية. تتمتع الصين بعلاقات قوية مع روسيا وأوكرانيا، وهي أكبر شريك تجاري لكلا البلدين، كما تعد روسيا وأوكرانيا مُكوِّنين أساسيين في برنامج البنية التحتية للحزام والطريق، بالإضافة إلى ما توفره أراضيهما من قنوات لتجارة الصين مع أوروبا، ويهدد الصراع المستمر بعرقلة هذه التدفقات التجارية، ومشاريع الحزام والطريق الطموحة. من ناحية أخرى، تريد الصين إنهاء هذا الصراع بطريقة مناسبة للجميع؛ فكلما طال أمد الحرب زاد تنشيط التحالف الغربي حول فكرة المواجهة القائمة على القيم بين الشرق والغرب؛ ما يجعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تحالف أوثق مع زيادة الميزانيات العسكرية حول العالم. هذا الأمر ليس جيدًا للصين التي تفضل الحفاظ على العلاقات الاقتصادية المربحة مع الغرب، وتركيز مواردها على التنمية المحلية.
. إعادة تعزيز العلاقات مع أوروبا: يتمثل أحد الأهداف الصينية من طرح مبادرات من شأنها المساهمة في تسوية الأزمات في رغبة بكين إعادة تقوية العلاقات مع أوروبا، والتي تأثرت اقتصاديًا خلال انتشار جائحة كوفيد 19، ومن بعدها سياسيًا نتيجة اندلاع الحرب في أوكرانيا، لاسيما في ظل عدم اتساق الموقف الصيني والأوروبي إزاء هذه الحرب، حيث رفض الصين تنفيذ المطالبات الأوروبية المتعلقة بإدانة روسيا، وامتناعها عن وصف الهجوم على أنه غزو روسي لأوكرانيا والالتزام بالوصف الروسي بكونها “عملية عسكرية خاصة”، وكذا ما نشهده مؤخرًا من تصاعد للاتهام الأمريكي وتحذير بعض المسئولين الأوروبيين بشأن احتمال توجيه الصين دعم عسكري واقتصادي لروسيا من شأنه إطالة أمد الصراع.
لقد فرض عام من الحرب على الصين ضرورة للعمل في اتجاه إعادة تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول الأوروبية، والتي تعد مكون هام في إطار التنافس الصيني مع الولايات المتحدة، هذا فضلًا عن كونها شريك اقتصادي لا غنى عنه بالنسبة للصين، فقد كانت الكتلة أكبر شريك تجاري للصين لمدة 15 عامًا على التوالي، وتستفيد الصين من التجارة مع اتحاد أوروبي متكامل. وبحسب كبير الدبلوماسيين الصيني “وانغ يي”، فقد تجاوز حجم التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي 800 مليار دولار أمريكي للمرة الأولى خلال عام 2021، كما أجرى خط السكة الحديد السريع بين الصين وأوروبا أكثر من 15000 رحلة شحن، بزيادة 29%على أساس سنوي، ولعب دورًا نشطًا في تعزيز التعاون الدولي ضد كوفيد-19، وضمان استقرار الصناعة وسلاسل التوريد، وتسهيل الانتعاش الاقتصادي العالمي.
وبناءً عليه، كان من المهم بالنسبة للصين إبراز جهودها الهادفة نحو تسوية سياسية للحرب، وتأكيد توافقها مع الجانب الأوروبي بشأن رفض استخدام روسيا للأسلحة النووية، الأمر الذي يفسر جولة “وانغ يي” الأوروبية السابقة لإعلان مقترح التسوية، والتي تم التأكيد فيها على محورية التنسيق والتعاون الصيني الأوروبي في ظل ما نتج عن الصراع في أوكرانيا من عدم استقرار إقليمي ودولي.
. تأكيد الدور السياسي والأمني العالمي للصين: ترتبط التحركات الخارجية للصين بما تقتضيه أهداف السياسة الداخلية، والتي ترتكز حول تحقيق تنمية شاملة متكاملة تحقق نهضة حقيقية للشعب وللدولة الصينية. ومن ثم، بعد نجاح مبادرتها الاقتصادية العالمية “الحزام والطريق”، طرح الرئيس الصيني “تشي جين بينغ” في سبتمبر 2021 “مبادرة التنمية العالمية”، الهادفة إلى توجيه التنمية العالمية نحو مرحلة جديدة من النمو المتوازن والمنسق والشامل في مواجهة الصدمات الشديدة لجائحة (كوفيد-19).
وفي أبريل 2022، قدم الرئيس الصيني عبر مبادرة الأمن العالمي رؤية لتحقيق الأمن المشترك وبناء نظام دولي قائم على التعددية الحقيقية، والفوز المشترك للجميع، ولتكون هذه المبادرة بديلًا عن رؤية الذي لا يزال متشبثًا بعقلية الحرب الباردة والأحادية، ويمارس “المعايير المزدوجة” باسم القواعد، بما أدى إلى تقويض الأمن العالمي.
لقد اكتفت الصين خلال السنوات السابقة بتعظيم حضورها ومشاركتها الاقتصادية الدولية، وتنحية المشاركة السياسية والأمنية العالمية جانبًا. ولكن تشير مبادراتها الأخيرة إلى وجود توجه جديد للصين يتحقق فيه شكل من التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني، بما يسهم في ترسيخ صورة الصين كقوى كبرى قادرة على التأثير والحركة العالمية بشكل تكاملي. يمكن القول إن الصين منذ إدراك وضعها كدولة كبرى في النظام الدولي، استفادت من تجربة الهيمنة الأمريكية وممارساتها كقطب أوحد في النظام الدولي؛ فالصين في تعاملها الدولي تسعى إلى تحقيق الحضور الدولي، لكن دون فرض القوة، كما تسعى إلى نشر الثقافة والقيم الصينية التي تعمل على الإشراك وعدم النبذ أو التمييز، وتبحث في تعاملاتها بشكل دائم عن أرضية مشتركة للعلاقات دونما اللجوء إلى سياسة اليد العليا أو فرض الرأي أو العقوبات.
. طمأنة محيطها الآسيوي: عبر ما طرحته مبادراتها من إعادة للتأكيد على المبادئ الحاكمة للسياسة الخارجية الصينية، تسعى بكين إلى التأكيد على عدم تشكيل صعودها أي تهديد أو خطر داخل محيطها الآسيوي، وإنما يمثل فرصة للتعاون والتنمية المشتركة. لقد حملت مبادرة الأمن العالمي تأكيد صيني على ضرورة الأخذ بميدأ “الأمن غير القابل للتجزئة” من خلال التعاون في بناء هيكل أمني متوازن ومستدام، ومعارضة بناء الأمن القومي على أساس انعدام الأمن في البلدان الأخرى. وبذلك ترسل الصين رسائل طمأنة إلى محيطها الإقليمي بشأن عدم توجهها نحو تحقيق أمنها على حساب الدول الآخرى بالمنطقة، لاسيما تلك التي تجمعها معها نزاعات حدودية إقليمية، على سبيل المثال النزاع حول بحر الصين الجنوبي، وميل بعض دول النزاع نحو إبرام اتفاقيات أمنية جديدة مع الولايات المتحدة. ففي يناير 2023، توصلت الولايات المتحدة إلى اتفاق مع الفلبين بشأن السماح للقوات الامريكية باستخدام 4 قواعد إضافية هناك، ليصل بذلك إجمالي القواعد الأمريكية بالفلبين إلى تسعة قواعد.
كما أنها بذلك تقدم وجهة نظرها في التحالفات متعددة الأطراف الناشئة في المنطقة، كتحالفي “أوكوس” المبرم بين استراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وتحالف الحوار الأمني الرباعي QUAD المبرم بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، والتي تسعى إلى إضعاف وتحجيم التحرك والتأثير الصيني داخل المنطقة.
ليس هذا فحسب، أعادت مبادرة الأمن العالمي التأكيد على الاهتمام الصيني باهتمامات ومطالب دول جزر المحيط الهادئ، وهو ما تزامن مع تنامي الحضور الأمريكي بهذه المنطقة والهادف إلى ضمان احتواء الحركة الاقتصادية والأمنية الصينية. فعلى سبيل المثال: افتتح سلاح مشاة البحرية الأمريكية قاعدة جديدة في غوام في يناير 2023، بهدف إيواء حوالي 5000 من مشاة البحرية المكلفين باكتشاف ومكافحة التهديدات في المنطقة، والذين –وفقًا لعدد من التحليلات- سيكونون أساسيين في حالة نشوب صراع مع الصين. كما تخطط الولايات المتحدة لنشر المزيد من الأصول العسكرية الأمريكية في استراليا، إلى جانب توقيعها لمذكرات تفاهم مع جزر مارشال وبالاو وولايات ميكرونيزيا الفيدرالية بشأن المساعدة الأمريكية المستقبلية لهذه الدول الثلاث، الواقعة في المحيط الهادئ، والتي تسعى الولايات المتحدة إلى إبعادهم عن مدار الصين.
استثمار حالة الميل الدولي نحو الاعتماد على التعددية كنهج حاكم للنظام الدولي: لقد أبرزت الحرب في أوكرانيا وجود اتفاق بين الصين والعديد من الدول حول العالم إزاء ضرورة الأخذ بالتعددية القطبية كنهج لإدارة النظام الدولي، وأن مبادئ كالبراجماتية وإعلاء المصلحة الوطنية باتوا هما المحددين الحاكمين للعلاقات الدولية. فعلى الرغم من اتفاق غالبية الدول على إدانة روسيا في الأمم المتحدة، فإن العديد منهم في الوقت نفسه رفض سياسة العقوبات الغربية أو كل ما من شأنه عزل روسيا عن النظام الدولي. فعلى سبيل المثال، صوتت 141 دولة لصالح قرار إدانة روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، فيما عارض القرار 5 دول وامتنعت 35 دولة عن التصويت، فيما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار “تعليق عضوية الاتحاد الروسي في مجلس حقوق الإنسان”، بموافقة 93 دولة ومعارضة 24 وامتناع 58 دولة عن التصويت. الأمر الذي يوضح اتساع نطاق رفض السياسات الغربية التي من شأنها عزل روسيا عن تفاعلات النظام العالمي. وبناءً عليه، فقد أكدت المبادرات والمقترحات الصينية الأخيرة على التوجه الدولي الراهن، بما يضمن توسيع شبكة حلفاءها حول العالم، الذين يتفقون معها في ضرورة الخروج من دائرة الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة.
وختامًا، ما يزال من المبكر قياس نجاح أي من المقترحات الصينية الأخيرة، ولا سيما مقترح التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية، وذلك في ظل عدم تحقق الإجماع الدولي بشأنه. ففي بداية الأزمة الأوكرانية، كان يُنظر إلى الصين باعتبارها الوسيط الوحيد القادر على حل الأزمة، ولكن مع استمرار الصراع، وحياد الصين المناصر لروسيا إلى حد كبير، تباينت ردود الفعل الغربية إزاء الطرح الصيني، والذي نظر إليه من جانبهم باعتباره فقط إعلان مبادئ، تتوافق فيه الرؤية الغربية للصراع مع بعض من بنودها، وقد يكون هذا التوافق بمثابة الأرضية المشتركة التي يمكن العمل في إطارها مع الصين. وعلى أي حال، سيتبين من نتائج قمة الرئيسين الصيني والروسي المرتقبة في موسكو الربيع المقبل، واستجابة الرئيس الصيني لمطلب الرئيس الأوكراني بالعمل معه في شأن ما طُرح من مقترح للتسوية، مدى الاستعداد الصيني للانخراط في مسار تسوية الأزمة الأوكرانية.
ومع ذلك، تؤكد المقترحات الصينية على وجود رغبة من جانب بكين للمشاركة بشكل عملي بالأزمة الأوكرانية، قد تمهد لها مشاركات وثقل أكبر بأزمات دولية أخرى، تستطيع من خلالها منازعة الدور العالمي للولايات المتحدة. ولا يعني هذا الرغبة الصينية في إنهاء الدور الأمريكي العالمي، حيث تدرك الصين تكلفة القيادة التي تحملتها الولايات المتحدة، ولكن ما ترغب فيه الصين هو تنمية وتوسيع نطاق حضورها الدولي، والتعاطي مع الأزمات دون تحمل تكلفتها استنادًا إلى مبدأ المشاركة والحوار. ففي سبيل تحقيق مبادرة الأمن العالمي، قد تدعو الصين دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا للمساهمة معها في تنفيذ مبادرتها، الأمر الذي يمكِّن الصين من أن تصبح متغيرًا مهمًا في تسوية النزاعات الدولية، ومن ثم المشاركة في إرساء أسس الأمن العالمي بما قد يؤدي لاحقًا إلى تعدد واتساع نطاق المساحات التي ينبغي على الولايات المتحدة احتواء الصين فيها، بما قد يسهم في تشتيت انتباه الولايات المتحدة جزئيًا عن محيط الصين الإقليمي.
.
رابط المصدر: