مرحلة “رمادية”: هل اتفقت إيران والغرب على “الخطوط الحمراء”؟

د. محمد عباس ناجي

 

لم تصل المفاوضات التي أُجريت بين إيران والدول الغربية، خلال الفترة من أبريل 2021 إلى سبتمبر 2022، إلى نتيجة تذكر. لكنها أيضًا لم تنتهِ إلى أزمة مستحكمة. صحيح أن كل طرف ما زال حريصًا على التمسك بشروطه ومقاربته الأساسية للصفقة التي كانت محتملة. لكن الصحيح أيضًا أن أيًا منهما لم يعلن فشل الخيار الدبلوماسي تمامًا.

هنا، يمكن القول إن الأزمة بين إيران والدول الغربية حول الاتفاق النووي وصلت إلى المرحلة الرمادية. فلا هي تراجعت بفعل الوصول إلى صفقة، ولا هي تفاقمت بفعل الإعلان عن فشلها. وقد بدا ذلك جليًا في مؤشرات رئيسية أربعة:

الأول، تأكيد وزير الخارجية الأمريكي أنطونيو بلينكن، في 21 فبراير 2023، على أن “الكرة في ملعب إيران للتوصل إلى اتفاق”، مضيفًا: “ما زلنا نعتقد أنه فيما يتعلق بالبرنامج النووي، فإن الطريقة الأكثر فاعلية واستدامة للتعامل مع هذا التحدي هي الدبلوماسية. ولكن في هذه اللحظة، فإن هذه الجهود مؤجلة لأن إيران ببساطة لا تشارك بطريقة مجدية”. ويعني ذلك مباشرة أنه ما زال هناك تعويل أمريكي على إمكانية الوصول إلى اتفاق جديد مع إيران، رغم اتساع نطاق الخلافات بين طهران وواشنطن حول العديد من القضايا والملفات، وكان آخرها الدعم العسكري الذي تقدمه الأولى إلى روسيا في الحرب الأوكرانية.

والثاني، عزوف الاتحاد الأوروبي خلال اجتماعه في 23 يناير 2023، عن تنفيذ توصية البرلمان الأوروبي بإدراج الحرس الثوري الإيراني، إلى جانب فيلق القدس وبعض الكيانات والشخصيات الإيرانية، على قائمة التنظيمات الإرهابية الأوروبية.

وقد عزا مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل- الذي طرح مشروع اتفاق على إيران والدول الغربية في أغسطس الماضي لم يصل إلى نتيجة- ذلك إلى ضرورة اتخاذ إجراءات استباقية قبل تحويل هذه التوصية إلى خطوة تنفيذية على الأرض، منها إصدار حكم من إحدى محاكم الدول الأوروبية يدين الحرس الثوري.

والثالث، مسارعة واشنطن إلى نفي مشاركتها في الهجوم الذي تعرضت له منشأة عسكرية في أصفهان، في 28 يناير 2023، بواسطة ثلاث طائرات من دون طيار من طراز “كوادكوبتر”، حيث ألمحت إلى أن جهاز “الموساد” الإسرائيلي ربما يكون هو المسئول عنه.

والرابع، تجنب الدول الغربية التعليق على التقارير التي أشارت، في 19 فبراير 2023، إلى اكتشاف يورانيوم مخصب بنسبة 84% في المفاعلات الإيرانية، وهي التقارير التي اعتبرت إيران أنها “تشوه الحقائق”، مؤكدة أنها لا تحاول التخصيب بنسبة أعلى من 60%.

خيارات محدودة

هنا، يمكن القول إنه رغم الخلافات المتعددة والمتصاعدة بين إيران والدول الغربية، إلا أنها اتفقت على شيء واحد، وهو إبقاء أزمة الاتفاق النووي في المرحلة الرمادية، طالما أنه لم يتم الوصول إلى صفقة خلال مرحلة التفاوض، وذلك بهدف تجنب الوصول بالتصعيد إلى مرحلة لا يمكن التراجع عنها.

وربما يكشف ذلك عن الخيارات المحدودة التي تواجه كلا الطرفين في المرحلة الحالية، والتي تدفعه إلى التمسك بعدم تجاوز “الخطوط الحمراء” على الأقل في المرحلة الحالية. ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:

تشابك الأزمات التي تواجه إيران: يمكن القول باطمئنان إن إيران لم تواجه هذا الكم والمستوى من الأزمات الداخلية والخارجية في أي وقت مضى مثلما تبدو في الوقت الحالي. إذ ما زالت الأزمة التي فرضتها الاحتجاجات الداخلية التي اندلعت في 15 سبتمبر 2022 قائمة حتى الآن، حيث لم تنجح السلطات الإيرانية في إنهائها، على غرار ما حدث في الاحتجاجات السابقة التي اندلعت في أعوام 2009 و2017 و2019.

ويُضاف إلى ذلك بالطبع، الضغوط التي فرضتها الاختراقات الأمنية التي تعرضت لها في الفترة الماضية، والصراع القائم بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية، فضلًا عن تداعيات العقوبات الاقتصادية التي ما زالت تنتج أزمة اقتصادية حادة لم تنجح الإجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة في احتوائها، وبدا ذلك جليًا في الانهيار الكبير للعملة الإيرانية، حيث وصل الدولار إلى أكثر من 500 ألف ريال في نهاية فبراير 2023.

ومن هنا، فإن إيران ربما لا ترى أن الوقت يبدو مناسبًا للرد على تعثر المفاوضات النووية وعدم وجود سبيل، على الأقل حتى الآن لرفع العقوبات الأمريكية، عبر الوصول إلى المرحلة التي تمتلك فيها القدرة التكنولوجية على إنتاج القنبلة النووية، خاصة فيما يتعلق بالوصول بمستوى تخصيب اليورانيوم إلى 90%.

تجنب المغامرة بالانخراط في حرب: رغم كل الإجراءات التصعيدية التي تتخذها إيران، والتأكيدات المستمرة من جانب المسئولين الإيرانيين على الجهوزية لمواجهة أي عمل عسكري قد تتعرض له، إلا أن ذلك في مجمله لا ينفي في الوقت ذاته أن إيران تبدو حريصة على تجنب هذا الخيار. ففضلًا عن أنها دائمًا ما تتبع من الآليات ما يجعلها بعيدة عن الانخراط في حرب مباشرة، فإنها في الوقت نفسه تستعيض عن ذلك بتبني سياسة “الحرب بالوكالة” عبر إدارة عمليات التصعيد مع خصومها من خلال المليشيات الموالية لها في دول الأزمات وبعيدًا عن أراضيها.

وربما كان الاستثناء الوحيد الذي حدث منذ انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية، هو المواجهة المحدودة التي نشبت مع الولايات المتحدة الأمريكية، في الفترة من 3 إلى 8 يناير 2020، عندما قامت الأخيرة بشن عملية عسكرية في بغداد أدت إلى اغتيال القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، وردت عليها إيران بشن ضربات صاروخية على قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية. وكان لافتًا أن الدولتين حرصتا عقب كل ضربة على توجيه رسائل عبر طرف ثالث تفيد أنهما ليستا معنيتين بتوسيع نطاق المواجهة.

وهنا، فإن إيران تدرك تمامًا أن هذا الاحتمال قد يكون واردًا بقوة في حالة ما إذا اتجهت إلى الخيار الأصعب وهو تخصيب اليورانيوم بنسبة 90%. صحيح أن هذه الخطوة لن تكون كافية لإنتاج القنبلة النووية، باعتبار أن هناك مكونات أخرى ما زالت إيران في حاجة إليها وقد تستغرق مزيدًا من الوقت، إلا أن الصحيح أيضًا أن تبني إيران هذه الخطوة يعني أن وصولها إلى مرحلة إنتاج القنبلة أصبح مسألة وقت فقط.

اللافت أيضًا أن تجنب الانخراط في حرب، على الأقل مؤقتًا، قد يكون خيارًا غربيًا أيضًا. فلا الدول الأوروبية تبدو معنية في الوقت الحالي، وربما في أي وقت، بالمغامرة بالانخراط في مثل هكذا مواجهة، خاصة في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، ولا الولايات المتحدة الأمريكية متحفزة لتكرار ما قامت به من تجارب في المنطقة ثبت فشلها وأنتجت في النهاية مفاعيل عكسية، إلا إذا كانت، وفقًا لرؤيتها، مضطرة إلى ذلك، وهو اضطرار مرتبط بتوافر شروط معينة ربما لم تتبلور بعد وفقًا لهذه الرؤية، رغم حرصها حاليًا على التلويح بالخيار العسكري في مواجهة إيران.

وربما يفسر ذلك -إلى حد كبير- أسباب حرص واشنطن على نفي التقارير التي أشارت إلى أن سلاح الجو الأمريكي، وقوة جوية تابعة لدولة أخرى، قاما بشن هجوم على منشأة عسكرية في أصفهان، في 28 يناير 2023. إذ أن هذه الخطوة، في حالة حدوثها، كان من شأنها أن تغير كل الحسابات، بما فيها إبقاء التصعيد حول الاتفاق النووي في المرحلة الرمادية.

صعوبة الوصول إلى صفقة حاليًا: بقدر ما تحاول الدول الغربية عدم إيصال التصعيد مع إيران إلى مرحلة “اللا عودة”، عبر إعلان “وفاة” الاتفاق النووي رسميًا، فإنها أيضًا لا ترغب في الوصول إلى صفقة حاليًا. إذ ربما يمكن القول إن هذا التوقيت هو الأسوأ لهذه الخطوة في رؤية هذه الدول، وذلك لاعتبارات عديدة.

أهم هذه الاعتبارات أن إيران تواصل تقديم دعم عسكري لروسيا لمساعدتها في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، فضلًا عن أنها تتبنى سياسة قمعية في التعامل مع الاحتجاجات الداخلية، إلى جانب أنها أقدمت على إعدام نائب وزير الدفاع الأسبق على رضا أكبري الحاصل على الجنسية البريطانية.

وبالتالي، فإن الخيار الأكثر توافقًا مع المصالح والحسابات الغربية في الوقت الحالي قد يكون “إبقاء الوضع على ما هو عليه” إلى حين تبلور ظروف، في مرحلة لاحقة، قد تكون مواتية بشكل أكبر للوصول إلى صفقة، أو إعلان قرار أخير بشأن المفاوضات والاتفاق.

لون آخر

مع ذلك، قد لا يمكن الحفاظ على تلك المرحلة الرمادية إلى ما لا نهاية. فهناك تطورات متسارعة ما زالت تفرض نفسها على الساحتين الإقليمية والدولية، باتت إيران والدول الغربية منخرطة فيها بشكل مباشر، بداية من الحرب الأوكرانية، مرورًا بالتصعيد في بعض دول الأزمات، على غرار العراق وسوريا، وانتهاءً بمواصلة تطوير البرنامج الصاروخي، على نحو انعكس في إعلان إيران، في 25 فبراير 2023، عن تطوير صاروخ كروز يصل مداه إلى 1650 كم.

كما لا يمكن تجاهل العامل الإسرائيلي، حيث تبدو إسرائيل متحفزة لتبني خيارات أكثر تصعيدًا في التعامل مع إيران، كما بدا من المناورات الأخيرة فضلًا عن الهجمات المستمرة على المواقع الإيرانية في سوريا وآخرها في دمشق في 20 فبراير 2023، خاصة أن المرحلة الرمادية الحالية لا تتوافق مع حساباتها الحالية. وربما يفسر ذلك أسباب إمعانها في مواصلة شن هجمات ضد منشآت عسكرية ونووية داخل إيران، على غرار هجوم أصفهان الأخير، وهي كلها متغيرات لا يمكن معها استبعاد أن تتحول المرحلة الحالية من “الرمادي” إلى لون آخر.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32997/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M