الترف في القرآن _ تأملات قرآنية من الآية الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين من سورة سبأ

بهاء النجار

 

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)

التأمل الأول :
من مهام الرُسُل صلوات الله عليهم أجمعين هو الإنذار ، فينذرن الناس ويحذرونهم من الحساب يوم الحساب ، بل وحتى من عقوبات الدنيا وسوء المعيشة ، خاصة ما جاء في الرسالة الخاتمة للرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وآله التي تضم منهاجاً حياتياً متكاملاً يشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري فضلاً عن الجانب الروحي ، وتهتم بالفرد والمجتمع على سواء .
ومثل هذا الاهتمام وهذه التغطية الشاملة لا يروق لمن أُترِفَ على حساب الجور والظلم الذي لا ينصف الناس ويتعامل معهم على سواء ، لذا يكفرون بهذا المنهج الرسالي ، كُفراً نظرياً كعموم الكفار وكُفراً عملياً كما هو حال من ينتمي الى الإسلام شكلاً .

التأمل الثاني :
هناك نظرة يمكن اعتبارها سلبية تجاه المترفين ، باعتبار أن المترفين هم أبرز من يعلن عن كفره بما أُرسِل به المنذِرون من المرسلين ، والحقيقة أن هذه النظرة صحيحة على أن لا يُفهَم أن المقصود من المرتفين هم الأغنياء عموماً ، فليس كل الأغنياء كافرين فضلاً عن إعلانهم للكفر ، فهناك الكثير من الأغنياء قد بذلوا كثيراً من أموالهم من أجل العقيدة والدين ، فالغنى في حد ذاته لا يتعارض مع الإيمان ولكن ينبغي أن يُحمى ويُحصَّن بالزهد الذي يجعل ما يملكه المؤمن فِداءاً للدين ، أما إذا لم يتحلَّ المؤمن (الغني) بالزهد فيمكن أن يكون من المترفين المعارضين لكل إنذار سماوي .

التأمل الثالث :
يمكن تعريف المترفين عموماً بأنهم الذين يعلنون كفرهم وعدم إيمانهم بما أُرسِل به المنذِرون من قبل الله تعالى ، سواء كان هؤلاء المنذِرون أنبياء أو أوصياء أو علماء وصلحاء مع حفظ الاختلاف بين تكليف كلٍ منهم ، فالترف الذي تمتع به المترَفون ليس بالضرورة الغنى والثروة والسلطة وما شابه ، بل هو كل ما تميل إليه النفس الأمارة بالسوء وترفض سلبه منها ، فتميل مثلاً الى البخس بالميزان وترفض دفع الحقوق الشرعية لتعظيم مواردها المالية مهما قلّت ، كما تميل الى الحصول وظيفة مميزة بأي وسيلة حتى لو كانت بطرق غير مشروعة – فضلاً عن الحصول على منصب مهما كان صغيراً ، وترفض تأدية واجباتها الوظيفية تجاه مرؤوسيها ، وهكذا .
لذا من الطبيعي أن يكفر المترفون بالرسل المنذِرين لأنه يسلبهم ترفهم .

التأمل الرابع :
يمكن تعريف المترفين عموماً بأنهم الذين يعلنون كفرهم وعدم إيمانهم بما أُرسِل به المنذِرون من قبل الله تعالى ، سواء كان هؤلاء المنذِرون أنبياء أو أوصياء أو علماء وصلحاء مع حفظ الاختلاف بين تكليف كلٍ منهم ، فالترف الذي تمتع به المترَفون ليس بالضرورة الغنى والثروة والسلطة وما شابه ، بل هو كل ما تميل إليه النفس الأمارة بالسوء وترفض سلبه منها ، فتميل مثلاً الى البخس بالميزان وترفض دفع الحقوق الشرعية لتعظيم مواردها المالية مهما قلّت ، كما تميل الى الحصول وظيفة مميزة بأي وسيلة حتى لو كانت بطرق غير مشروعة – فضلاً عن الحصول على منصب مهما كان صغيراً ، وترفض تأدية واجباتها الوظيفية تجاه مرؤوسيها ، وهكذا .
لذا من الطبيعي أن يكفر المترفون بالرسل المنذِرين لأنه يسلبهم ترفهم .

التأمل الخامس :
من المعلوم لدى الجميع أن طريق المرسلين ومن يقوم مقامهم ويؤدي دورهم هو طريق ذات الشوكة ، طريق مليء بالصعاب لأن ثمنه الفوز برضا الله تبارك وتعالى والجنة والنجاة من النار ، فلا يتوقع أحدٌ ممن يتبع الرسل حقاً أنه سيكون مُترفاً ومرتاحاً ، وإذا كان كذلك فليُراجع حساباته ، فهو إما قاصر أو مقصّر ، باعتبار الدنيا دار عمل ، فبهذا الطريق يريد الله سبحانه أن يُحقّ الحق بكلماته – من الرسل ككلمة الله المسيح بن مريم عليهما السلام – ويقطع دابر الكافرين الذين يعلنون كفرهم بما أُرسِل به المنذِرون ليحافظوا على تَرفِهم وهو طريق غير ذات الشوكة .

التأمل السادس :
ربما يظن البعض أن الرسالة السماوية ترفض الترف أو تعاديه وبالتالي يكون كفر المترفين هو ردة فعل على نظرة رسالة السماء ، وهذا الظن يمكن أن يتغير إذا عرفنا أن رسالات الرسل تتعامل مع الحياة بواقعية ولا تريد إيهام الناس بأمور مزيفة ، فالمرسلون يحذرون الناس وينذرونهم بأن لا مجال للكسل في هذه الحياة ، بل حتى من يُتعارَف على أنه مُترَفٌ ( كالأغنياء والحكام وغيرهم ) فهُو في الحقيقة مبتلى ، فما على الغني من واجبات تجاه دينه وأمته تختلف عن واجبات الفقير ، وكذلك الأمر بالنسبة الى الحاكم ، وهكذا بالنسبة للعالم والجاهل ، والسليم والمريض ، فكل إنسان من وجهة نظر السماء مبتلى بواجبات تجاه ربه ودينه ومجتمعه ، وبالتالي لا ترى رسالة السماء وجوداً للترف ، لكنّ المترفين يريدون أن يعيشوا وهماً اصطنعوه ليرضوا أنفسهم الأمارة بالسوء فكفروا بالمنذرين من الرسل .

التأمل السابع :
إن الترف يكون أحياناً ترفاً فكرياً وهو لا يناسب الزخم العملي الذي جاء به المنذِرون من الرسل في رسالاتهم السماوية ، فالتوجهات والنظريات الفكرية إن لم يكن لها تطبيقاً عملياً ينفع الناس في الدنيا والآخرة فهي خواء ومضيعة للوقت والجهد والمال ، لذا فإن إنذار الرسل يمكن أن يشمل هذا النوع من الترف الذي لا فائدة منه ، لكنّ المترفين الذين يبحثون عن إرضاء أنفسهم لا يعنيهم ضياع وقت الآخرين ولا يهمهم مدى انتفاع الناس من فكرهم ، المهم عندهم أن يبرزوا ويشير إليهم الآخرون ليوهموا أنفسهم بأنهم مفكرون ، وبالتالي فأي إنذار لهم وتحذير سيواجه بالرفض منهم .

التأمل الثامن :
ربما هناك إجماع على أن الإنسان العملي يواجه معارضة ( مباشرة أم غير مباشرة ، معلنة أم غير معلنة ) من قبل غير العمليين ، والذين يُصطلَح عليهم بالمنظّرين الذين لا يفكرون بمدى قدرة نظرياتهم على التطبيق ، وهؤلاء يمكن اعتبارهم من المترفين لأنهم لا يريدون مواجهة الواقع وإنما يريدون أن يكونوا حبيسي كتبهم وأقلامهم ومكتباتهم ، وينتظرون الثناء والإطراء من الآخرين ، وهؤلاء طبعاً غير المنظرين الذين يضعون النظريات التي تسبق أي إجراء عملي كخطوة أولى من خطوات التخطيط .
والرسل المنذرون جاءوا بمنهاج عملي يخدم البشرية في الدنيا والآخرة ، لذا نرى مواجهتهم من قبل المترفين الذين قد يمتلكون أحياناً منهاجاً عملياً لكنه يقتصر على الجانب الدنيوي ويهمل الجانب الأخروي .

التأمل التاسع :
أحياناً يُتهَم الرساليون المنتمون الى الرسل المنذرين بأنهم مُنظِّرين بعيدين عن الواقع ، وبالتالي فهم مترفون ، وهذا يكون صحيحاً إن كانوا يكفرون بما أُرسِل به المنذِرون ، أما إذا كانوا سائرين على نهج الرسل فهم غير مترفين والإتهام باطل .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإن من أبرز المبادئ الرسالية هو ( أن الغاية لا تبرر الوسيلة ) ، هذا يعني أن على الرساليين تحقيق الغايات النبيلة بوسائل نبيلة ، وهذا يستلزم عملاً دؤوباً متميزاً ومتواصلاً ، ولو كانوا مترفين للجأوا الى ما لجأ إليه المترفون الحقيقيون الذي يبررون الوسائل الخبيثة لتحقيق غاياتهم ، وهذا شكل من أشكال الترف لأنهم يرون في تقليص الوسائل بالنبيلة فقط يتطلب جهداً وعناءاً وهذا ما لا يروق لهم .

التأمل العاشر :
يبدو أن من دواعي الترف امتلاك الأموال والأولاد الكثيرة ، وهذا لا يعني – كما بينّا سابقاً – أن كل من يمتلك أموالاً وأولاداً كثيرة فبالضرورة أنه مُترَفٌ يكفر بما أُرسِل به المنذِرون ، وبالتالي فإن القيد هو هذا الكفر في التمييز بين من يملك أموالاً وأولاداً كثيرة ، فالإنذار يكون من العذاب الذي يلحق بمن استغل الأموال والأولاد بظلم او قتل او نهب او خداع او تضليل او غش او غيرها ، والإيمان بهذا الإنذار يجعل الأموال والأولاد غير مفيدة في الترف فيلجأون الى الكفر إعتقاداً منهم بأنهم غير مُعذَّبين ، أو ربما لخداع أنفسهم بذلك ، لأن ما يقومون به مخالف للفطرة الإنسانية ، إلا أن يكونوا قد قضوا على هذه الفطرة .

 

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M