الجمود والتعطيل: مبادرة «باتيلي» ومأزق التسوية السياسية في ليبيا

  • يوحي الطرح الأوّلي لمبادرة المبعوث الأممي الخاص في ليبيا، عبدالله باتيلي، بأن هدفها الأساسي هو توسيع دائرة المشاركة في مسار الحل السياسي للأزمة الليبية، لتشمل أطرافاً أخرى من أصحاب المصلحة، ونزع احتكار الأطراف الحالية للأزمة والسيطرة على مسار التسوية ومخرجاتها.
  • إثر طرحه مبادرته، أظهر باتيلي حرصه على تجنُّب الاتهامات المتوقعة له حول السعي لتمرير حلول مفروضة من الخارج؛ وفي نفس الوقت أبدا تشبُّثه بالدعم الدولي لموقفه، في مواجهة الاتهامات التقليدية التي يلجأ إليها بعض الأطراف الليبية لتسويغ مواقفهم المتصلبة.
  • في ظل المؤشرات المبكرة على احتمالية فشل مبادرة باتيلي، سواء لجهة صعوبة عقد الاجتماع الخماسي، أو صعوبة التوصل إلى توافقات تنهي المسائل العالقة في حال انعقاد الاجتماع، ظهر ما يُشير إلى أن باتيلي قد يتجه نحو الدعوة إلى ما يشبه “المؤتمر الوطني العام”، عبر تفعيل المسار التشاوري حتى لو لم ينعقد الاجتماع الخماسي.
  • على الرغم من تواضع فرص إنهاء الانسداد السياسي في ليبيا، إلا أن مجرد استمرار العملية السياسية، وعدم فقدان المكتسبات المتحققة، وتحجيم قدرة الأطراف المحلية على خلط أوراق المشهد؛ كلها أهداف تظل ذات أولوية، بغض النظر عن توافر شروط تحقيق تسوية نهائية للأزمة الليبية حالياً.

 

كُشِف في 23 نوفمبر 2023 عن مبادرة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، الرامية إلى كسر الجمود الذي تعاني منه عملية التسوية السياسية في هذا البلد. لكن المبادرة سرعان ما واجهت اعتراضات عديدة، بشكل يوحي بتواضع حظوظ جهود باتيلي لإحياء مسار الحل السياسي للأزمة الليبية عبر مبادرته الأخيرة.

 

مضامين المبادرة

وفق النص المنشور على الموقع الإلكتروني للبعثة الأممية في ليبيا، تتمثل أهم ملامح مبادرة باتيلي ومضامينها في النقاط الآتية:

 

  • تهدف المبادرة إلى إشراك عدد كبير من الأطراف الليبية في مسار التسوية، سواء أكانوا فاعلين مؤسسيين/رسميين، من قبيل مجلس النواب ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية (حكومة طرابلس)، والمجلس الرئاسي؛ أو فاعلين غير رسميين، مثل الأحزاب السياسية، والأطراف العسكرية والأمنية الفاعلة، والشيوخ والأعيان، والمكونات الثقافية واللغوية، والأكاديميون وممثلو الشباب والنساء والمجتمع المدني.

 

  • يعد الفاعلون الرسميون “قلب المبادرة” والمخولين بالتفاوض، للتوصل إلى توافقات نهائية حول القضايا الخلافية التي تحول دون إجراء الانتخابات؛ في حين أن الفاعلين غير الرسميين، والذين لم يتم تسميتهم بشكل محدد، سيجري التواصل معهم من قبل المبعوث الأممي في إطار تشاوري، بغرض عرض وجهات نظرهم على الفاعلين المؤسسيين الذين لديهم صلاحية التوصل إلى نتائج نهائية وملزمة.

 

  • تتمثل آلية العمل في أن يُسمي الأطراف المؤسسيين الخمسة ممثلين لهم، على أن يلتقي هؤلاء الممثلون في اجتماع تحضيري (لم يُحدَّد موعد انعقاده ومكانه بعد)، للتباحث حول موعد اجتماع قادة المؤسسات الخمس ومكانه، وجدول الأعمال والقضايا الخلافية التي سيتباحث بشأنها القادة، لتحقيق هدف رئيس، يتمثل في تمكين المفوضية الوطنية العليا للانتخابات من تنظيم الانتخابات، وفق قانونيّ الانتخابات الصادرين عن مجلس النواب في أكتوبر الماضي.

 

  • التشديد على الطابع الوطني لعملية التفاوض، التي “يقودها الليبيون ويملكون زمامها”، وأن دور المبعوث الأممي يقتصر على تيسير هذه العملية، وفق ولاية البعثة الأممية، مع مناشدة المجتمع الدولي تقديم الدعم اللازم لباتيلي في الاضطلاع بمهامه.

 

وفي ضوء ما تقدم، يمكن إبداء عدد من الملاحظات بشأن مضامين هذه المبادرة:

 

  • يأتي الكشف عن الملامح الرئيسة للمبادرة بعد نحو تسعة أشهر من الإعلان عنها للمرة الأولى خلال إحاطة باتيلي المقدمة إلى مجلس الأمن فبراير الماضي؛ علماً بأن المبادرة في ملامحها الأخيرة تختلف بشكل واضح عن المسمى الرئيس لها في طرحها الأول، وفي الإشارات المتتالية إليها خلال الإحاطات والتصريحات الإعلامية اللاحقة؛ فالمبادرة منذ البداية قُدِّمَت تحت توصيف “لجنة تسييرية عليا” يشارك فيها مختلف الفاعلين من أصحاب الشأن، في حين أنها في صورتها النهائية أصبحت أقرب إلى اجتماع واحد بين الفاعلين الرسميين، مع وجود اجتماعات أخرى على هامش الاجتماع الرئيس؛ ومن ثم فإنّ الآلية النهائية حصرت التأثير الفعلي على مخرجات التفاوض في القيادات الرئيسة، التي من المعلوم عدم رغبتها في مغادرة المشهد، وأنها المستفيد من إطالة أمد الفترة الانتقالية؛ بينما كان يوحي الطرح الأوّلي للمبادرة بأنها تهدف إلى توسيع دائرة المشاركة، لتشمل أطراف أخرى من أصحاب المصلحة، ومن ثمَّ نزع احتكار الأطراف الحالية للأزمة والسيطرة على مسار التسوية ومخرجاتها. ويمكن تفسير التراجع عن فكرة اللجنة لصالح عقد اجتماع واحد، فيما يشبه مؤتمر قمة، بأن المسألة لا تتعلق بتدشين مسار جديد للتسوية، لكن الهدف هو تجاوز عقبات محددة لتحقيق هدف محدد، في حين أن العمل وفق آلية اللجنة سيفتح الباب أمام المزيد من تبديد الوقت، فضلاً عن صعوبة جمع القادة الخمسة بشكل متكرر.

 

  • يمكن تفسير الاقتصار على المؤسسات الخمس باعتباره يهدف لإحداث التوازن بين معسكريّ الصراع الليبي من جهة، ومنع التداخل بين المسارات من جهة أخرى. فبالنسبة لمسألة التوازن، يمكن النظر إلى المؤسسات الخمس وفق صيغة 2+2+1، حيث يُمثَّل شرق ليبيا بمجلس النواب والقيادة العامة، والمنطقة الغربية عبر حكومة طرابلس ومجلس الدولة، بالإضافة إلى المجلس الرئاسي الذي يُتعامَل معه بوصفه مؤسسة محايدة ومنفتحة على مختلف الأطراف. كذلك، فإن اختيار هذه المؤسسات تحديداً يعكس الرغبة في تمثيل الأطراف الأكثر تأثيراً؛ فمثلاً لا يمكن النظر إلى حكومة أسامة حماد في شرق ليبيا باعتبارها طرفاً سياسياً له إرادة مستقلة عن مجلس النواب أو القيادة العامة، لاسيما مع عدم الاعتراف بها دولياً؛ كما أن تمثيل القيادة العامة لم يُقابله تمثيل طرف عسكري من المنطقة الغربية، وذلك لمنع تداخل هذا المسار مع المسار العسكري عبر لجنة 5+5.

 

  • حرص باتيلي على التشديد على مسألة أن قانونيّ الانتخابات الصادرين عن مجلس النواب، واللذينِ تسلمتهما رسمياً مفوضية الانتخابات، يمثلان السقف الذي سيجري تحته التفاوض، من دون العودة للوراء إلى مرحلة الطعن في شرعية القوانين القائمة؛ مُستعيناً بالإشارة إلى قرار مجلس الأمن رقم 2702 لسنة 2023، الذي يحيط علماً بالقانونين؛ وأن ليبيا للمرة الأولى، منذ الفشل في إجراء انتخابات ديسمبر 2021، أصبح لديها إطار قانوني ودستوري للانتخابات. في حين أن المبادرة تنص على أن اجتماع القادة الخمسة يهدف لمناقشة المسائل العالقة التي تُمكِّن من إجراء الانتخابات.

 

وثمة غموض واضح هنا بشأن إمكانية وجود تعارُض بين الإقرار بالقانون وبين حدود إلزامية أية مخرجات يُتوافَق عليها. ولمزيد من التوضيح، فإن تجربة السنوات الماضية، وحتى الأشهر القليلة الماضية، تشير إلى أن أي نقاط يُتوافَق عليها يجري التنصل منها من قبل أحد الأطراف لاحقاً بذرائع عدة، لاسيما مع انفراد مجلس النواب أحياناً بإقرار تعديلات معينة من دون الرجوع إلى أطراف التفاوض. وما يزيد من هذا الغموض، تعويل باتيلي خلال المبادرة، وخلال الإحاطة الأخيرة أكتوبر الماضي، على حُسن نية أطراف التفاوض في حل المسائل العالقة؛ فيما يعني أن التوافقات المطلوبة حول تعديل بعض البنود في القانونين ستظل أقل إلزامية من أن تَجُبّ الصيغة الحالية بشكل تلقائي، وهو ما يفتح الباب لمجلس النواب للتنصل من أي توافق يجري التوصل إليه، أو تكرار الممارسات السابقة بشأن إجراء تعديلات بشكل منفرد. ولعل المزية الوحيدة في هذه الوضعية هي ضمان الاحتفاظ بالحد الأدنى من المكاسب المتحققة، مُمثلة في القوانين الحالية، والمحصَّنة بقرار مجلس الأمن.

 

ردود الأفعال على المبادرة

تباينت ردود أفعال الأطراف المعنية بالصراع الليبي إزاء المبادرة، واستندت المواقف الرافضة لها إلى أسباب ودوافع مختلفة في تسويغ رفضها. ويمكن استعراض أبرز المواقف على النحو الآتي:

 

حكومة الدبيبة: أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة، في 28 نوفمبر، عن قبوله المشاركة في الاجتماع المزمع. غير أن تفاصيل الموقف، وما أبداه من تحفظات، يعكس جوهرياً وجهة نظر متحفظة إزاء تفاصيل المبادرة، حيث أكد الدبيبة أن الاجتماع يجب أن يركز على “الوصول إلى أساس قانوني دستوري لانطلاق العملية الانتخابية ونجاحها”، وهو بهذا المعنى يفترض أن الأساس القانوني والدستوري القائم، والمحصَّن بقرار مجلس الأمن، غير موجود، وهذا يتعارض صراحةً مع ما حرص باتيلي على التشديد عليه في مبادرته، وأن النقاشات ستجري تحت سقف الاعتراف بالقانونين الصادرين عن مجلس النواب، من دون منح المجتمعين صلاحية تفوق القوة الإلزامية لهذين القانونين، ولكن فقط التمتع بـ”حُسن النية” اللازم لحل المسائل العالقة. كما جدد الدبيبة رفضه المعتاد لأي نقاش بشأن تشكيل حكومة جديدة قبل الانتخابات، مُقترحاً فكرة بديلة تتمثل في تشكيل هيئة عليا تشرف على إجراء الانتخابات، تشارك فيها كل الأطراف الأمنية والعسكرية من جميع مناطق ليبيا.

 

مجلس النواب: خلال افتتاح جلسة مجلس النواب في 28 نوفمبر، أعلن رئيسه عقيلة صالح معارضته مشاركة حكومة الدبيبة في الاجتماع الذي دعت إليه المبادرة، بوصفها حكومة منتهية الصلاحية، داعياً إلى مشاركة حكومة حماد المكلفة من مجلس النواب بدلاً عنها. كما شدد صالح على أن القوانين الانتخابية الصادرة عن المجلس لا يجب أن تخضع للنقاش، وأن البند الوحيد الذي يجب أن يكون على جدول أعمال الاجتماع هو تشكيل حكومة جديدة مصغرة ومحددة المهام للإشراف على إجراء الانتخابات؛ وأن تُشكَّل الحكومة بتزكية من المجلسين (النواب والدولة)، وأن مجلس النواب هو الذي يمنحها الثقة.

 

ويمكن إبداء ملاحظتين بخصوص موقف صالح من المبادرة: الأولى، تأكيده أن القوانين الانتخابية نهائية ونافذة المفعول؛ ويعني ذلك عملياً تحفُّظ المجلس على البند الرئيس الذي يمثل الهدف من طرح المبادرة؛ والثانية، إشارته إلى اتفاقه مع رئيس مجلس الدولة على الاجتماع قريباً، لبحث مسألة تشكيل الحكومة، التي يرى صالح أنها يجب أن تكون البند الرئيس لاجتماع المبادرة، ما يعني تمسُّكه بالمسار الثنائي للمفاوضات لحسم مسألة الحكومة، ومن ثمَّ التعامل مع اجتماع المبادرة بوصفها إجراءً هامشياً يأتي في المرتبة الثانية بعد المسار الثنائي للمجلسين.

 

حكومة حماد: يمكن القول بأن الموقف الصادر عن حكومة الاستقرار المكلفة من مجلس النواب، برئاسة أسامة حماد، هو أكثر المواقف الرافضة تشدداً في لغة الخطاب، فلم يُكتفَى برفض المبادرة فقط، استناداً إلى عدم تمثيل حكومة حماد ضمن الاجتماع، لكن يُلاحظ هنا أمرين آخرين: أولهما، أنَّه لم يُتحفَّظ فقط على تمثيل حكومة الدبيبة، لكن التحفظ طال أيضاً مشاركة المجلس الرئاسي في الاجتماع؛ والأمر الثاني، أن الانتقاد طال نزاهة المبعوث الأممي، فبعد التشكيك في إرادته و”مدى قدرته على اتخاذ القرارات الصائبة”، نُوشِدَ الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تعيين مبعوث أممي جديد “وفق معايير الحياد والكفاءة ونزاهة الذمة”.

 

مجلس الدولة: لم يصدر عن مجلس الدولة أي موقف معارض للمبادرة، لكن التصريحات الصادرة عن رئيسه محمد تكالة، خلال زيارته إلى موسكو، تعكس تماهياً مع موقف حكومة الدبيبة فيما يتعلق بالإطار التشريعي للانتخابات، إذ أكد تكالة ضرورة التوافق على القوانين الانتخابية أولاً. وعلى الرغم من أن هذا الموقف يتسق مع مضمون المبادرة، غير أن التصريحات السابقة لتكالة تعكس عدم اعترافه بدستورية القانونين الصادرين عن النواب، نظراً لما يراه خرقاً للتعديل الدستوري الثالث عشر.

 

تجدر الإشارة إلى أن ثمة مصلحة مشتركة بين مجلسيّ الدولة والنواب، تتمثل في العودة إلى المسار الثنائي للمباحثات، وتهميش أي مسارات ثانية، بما فيها المسار الخاص بالمبادرة؛ لذا فعلى الرغم من تقارُب موقف مجلس الدولة مع حكومة الدبيبة بشأن الموقف من القوانين الانتخابية، إلا أن تكالة على الأغلب سيتجاوب مع مسعى عقيلة صالح لعقد اجتماعات ثنائية لبحث قضايا أخرى، مثل تشكيل الحكومة أو إعادة ملف المناصب السيادية للواجهة مرة أخرى، لاسيما مع ظهور مؤشرات على توتر العلاقة بين الصديق الكبير، محافظ المصرف المركزي، وعبد الحميد الدبيبة.

 

المجلس الرئاسي: أكد محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي، أثناء استقباله لباتيلي في 4 ديسمبر، أن استراتيجية المجلس تتمثَّل في الحياد الإيجابي لإنجاح الحوار السياسي؛ كما تعكس لقاءات المنفي مع المسؤولين الدوليين مؤخراً التركيز على كيفية إنجاح المبادرة، وحشد الدعم الكافي لها.

 

القيادة العامة للجيش الليبي: لم تصدر حتى الآن تصريحات رسمية عن قيادة الجيش في بنغازي بخصوص الموقف من المبادرة، غير أن ثمة تقارير إعلامية، صادرة عن تليفزيون “المسار” الموالي لمعسكر شرق ليبيا، استناداً إلى مصادر غير معلومة داخل القيادة العامة، تشير إلى معارضة قوات حفتر للمبادرة، لاسيما مع استبعاد حكومة حماد من المشاركة.

 

عمداء البلديات: أصدر عمداء 56 بلدية ليبية (أغلبها في الشرق والجنوب) بياناً رافضاً لمبادرة باتيلي، حيث اتهم الموقعون على البيان المبعوث الأممي بـ”الانحياز لطرف بعينه، لمؤازرته في اغتصاب السلطة”. كما أعلن عمداء 20 بلدية من الغرب لاحقاً تضامنهم مع البيان. وعلى الرغم من أنهم لا يمثلون طرفاً في الاجتماع الخماسي، إلا أن موقف البلديات سينعكس على الأغلب على مجريات العمل على المسار التشاوري الذي يعتزم باتيلي من خلاله إشراك مكونات المجتمع من أعيان وأحزاب ومجتمع مدني، إلخ.

 

السفراء الغربيون: أصدر سفراء خمس دول غربية، هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، في 23 نوفمبر بياناً مشتركاً لدعم باتيلي في دعوته للأطراف المؤسسية للاجتماع المشترك، مُعلنين إلتزامهم بتقديم الدعم اللازم لإنجاح هذا الجهد. واللافت، تركيز البيان على دعم الجانب الخاص بجمع الأطراف المؤسسية سوياً، من دون أي إشارة إلى المسار التشاوري الخاص بإشراك المكونات الاجتماعية والقوى السياسية أصحاب المصلحة.

 

وبشكل عام، يبدو باتيلي نفسه غير متفائل بفرص نجاح المبادرة في تحقيق أهدافها؛ فبعد طرحها بأيام، نشرت مجلة “جون أفريك” الفرنسية حواراً مع باتيلي، عبّر خلاله عن إحباطه تجاه الطبقة السياسية في ليبيا، مُتهماً القادة الليبيين بأنهم “لا يريدون حلاً لأزمة بلادهم، وبعدم الرغبة في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة”.

 

معضلتا التدخُّل والتراكم

ثمة معضلتين تعاني منهما عملية التسوية السياسية في ليبيا، بشكل يحد من فاعلية جهود المبعوث الأممي الحالي عبد الله باتيلي: تتصل أولاهما بحدود الضغوط الخارجية الممارسة في الملف الليبي وطبيعتها؛ وتتعلق المعضلة الثانية بتراكُم عمل المبعوثين الأمميين. وعند النظر إلى مبادرة باتيلي، يظهر بوضوح تأثير كل معضلة، بشكل قد يحد من إمكانية نجاح المبادرة في صيغتها الحالية.

 

1. معضلة التدخل: تتمثل في التعارض بين مراعاة الحساسية الليبية لمسألة التدخلات الدولية وبين فاعلية عملية التسوية، التي تتطلب بدورها ضرورة إلزام الأطراف المحلية بتجاوز مصالحهم الضيقة وتغليب المصلحة الوطنية المشتركة. إذ تشير تجربة السنوات الماضية إلى أن المحطات القليلة التي شهدت تقدماً في عملية التسوية كانت مرتبطة بتمتع الوسيط الأممي بصلاحيات كبيرة نسبياً، وفق ما يظهر، مثلاً، في تجربة تولي ستيفاني ويليامز، القائم بأعمال المبعوث الأممي عقب استقالة غسان سلامة، الإشراف على عملية التسوية؛ وهو ما أفضى وقتها إلى حدوث اختراق في عملية التسوية، سواء لجهة توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، أو إفراز مجلس رئاسي جديد وحكومة موحدة (وقتها) للمرة الأولى منذ 2014. وفي المقابل، تشهد ولاية المبعوث الحالي ظاهرة متكررة، تتمثل في اتهام بعض الأطراف له بمحاولة فرض إرادة خارجية على الليبيين؛ فضلاً عن توجيه انتقادات حادة اللهجة أحياناً، على نحوٍ لم يحصل بنفس الكيفية مع أي من المبعوثين السابقين.

 

وإثر طرح المبادرة الحالية (وفق نصها المنشور)، أظهر باتيلي حرصه على تجنُّب الاتهامات المتوقعة له حول السعي لتمرير حلول مفروضة من الخارج؛ وفي نفس الوقت أبدا تشبُّثه بالدعم الدولي لموقفه، في مواجهة الاتهامات التقليدية التي يلجأ إليها بعض الأطراف المحلية لتسويغ مواقفهم المتصلبة. وتُنبئ المواقف المبكرة التي ظهرت رداً على مبادرته بأن تلك المعضلة ستخيّم بظلالها على عملية التسوية خلال الفترة المقبلة، وفي شكلٍ قد يحدّ من حظوظ نجاح المبادرة في كسر الجمود القائم. وكان من اللافت هنا، إشارة باتيلي في حواره المشار إليه مع مجلة “جون أفريك”، إلى أن “حجة التدخل الخارجي وسيلة مناسبة للمسؤولين الليبيين لإخفاء إخفاقاتهم”.

 

وفي تقديرنا أن الإشارة إلى هذه المعضلة لا تتعارض مع الإقرار بأسبقية العوامل الموضوعية الخاصة بالتوازنات الدولية، وأن وجود توافق دولي يظل هو العامل الأكثر أهمية في إلزام الأطراف المحلية بالتوصل لتسوية ما؛ غير أن تأثير هذه المعضلة يظهر في هامش المناورة الذي تسعى الأطراف الليبية إلى توسيعه نحو أقصى درجة ممكنة، بشكل قد يطيح بالمكتسبات القليلة المتحققة حتى الآن، سواء فيما يتعلق باتفاق وقف إطلاق النار المهدد بالانهيار، أو تمسُّك بعض الأطراف بموقفها الرافض للقانونين الانتخابيين رغم تحصينهما بقرار مجلس الأمن، وصولاً إلى المطالبة بتعيين مبعوث جديد، بما يعني إضاعة مزيد من الوقت في بناء اتفاق إقليمي ودولي حول تسمية المبعوث الجديد، والوقت الذي سيحتاجه هذا المبعوث في بلورة رؤية جديدة يمكن من خلالها البناء على ما تحقق من مكتسبات، مع تجاوز قصور الاقترابات المستخدمة سابقاً.

 

لذلك، فإنَّه مع التسليم بعدم نضج الشروط الدولية التي تسمح بالتوصل إلى تسوية نهائية، إلا أن التساهل الدولي مع تلاعب الأطراف المحلية بمبدأ “رفض التدخل الخارجي” قد لا تقتصر تداعياته على تجميد الصراع أو شراء الوقت، لكنه قد يُفضي إلى الرجوع خطوات للوراء وفقدان بعض المكتسبات المتحققة، مما سيُصعِّب الأمور ويزيد من التعقيدات الفنية لاحقاً عند نضج الشروط الدولية للتسوية؛ هذا فضلاً عن إتاحة الفرصة لبعض الأطراف المحلية لخلط الأوراق، بشكل ربما يتجاوز سقف “تجميد الصراع”، ويصل إلى عودة المواجهات المسلحة على نطاق واسع.

 

2. معضلة التراكم/الانقطاع: يقصد بها حدوث انقطاعات في عمل المبعوثين الأمميين، على رغم وجود أرضية مشتركة يمكن البناء عليها بشأن بعض جوانب العمل. وفيما يتعلق بمبادرة باتيلي، لاسيما المسار التشاوري مع الأطراف غير المؤسسية، يظهر بعض جوانب التشابه مع الجهود التي قامت بها البعثة تحت قيادة المبعوث السابق غسان سلامة ضمن مسار الملتقى الوطني الجامع؛ فعلى مدار أربعة أشهر خلال 2018، انعقدت 77 جلسة تشاورية مع مختلف مكونات المجتمع الليبي في 43 بلدية وفي دول المهجر أيضاً، وتم بلورة الأفكار محل التوافق في مختلف جوانب عملية التسوية، وجُمِّعَت في تقرير شامل، لا يزال متاحاً على الموقع الإلكتروني للبعثة.

 

هذه التوافقات، وبحكم شموليتها واتساع طائفة الأطراف الليبية المشاركة في بلورتها، من الناحية الكمية والنوعية، تُمثِّل العمل المنهجي الأهم الذي يمكن اعتباره ممثلاً لصوت مكونات المجتمع، بشكل يمكن توظيفه والبناء عليه في تحجيم قدرة أطراف الصراع على ممارسة مزيد من المناورة والتعطيل، فضلاً عما يمثله من اختصار للوقت والجهد المبذول.

 

وفي ظل المؤشرات المبكرة التي ظهرت حتى الآن على احتمالية فشل مبادرة باتيلي، سواء بالنسبة لصعوبة عقد الاجتماع الخماسي، أو صعوبة التوصل إلى توافقات تنهي المسائل العالقة في حال انعقاد الاجتماع، ظهرت تسريبات صحفية تفيد باتجاه باتيلي نحو الدعوة إلى ما يشبه “المؤتمر الوطني العام”، عبر تفعيل المسار التشاوري حتى لو لم ينعقد الاجتماع الخماسي. وهنا يمكن استدعاء تجربة المؤتمر الوطني الجامع تحت قيادة غسان سلامة؛ فبعد بلورة مخرجات اللقاءات التشاورية ضمن تقرير نهائي وفق ما سبقت الإشارة، كانت الجهود ماضية نحو عقد ملتقى وطني جامع في غدامس منتصف أبريل 2019، يشارك فيه مختلف الفاعلين على المستوى الوطني، للخروج بنتائج نهائية تنهي الأزمة السياسية؛ غير أن هذه التحضيرات كانت متزامنة مع وجود مؤشرات واضحة على الانزلاق نحو مواجهات مسلحة، وهو ما انتهى بالفعل إلى اندلاع حرب طرابلس.

 

واليوم يتخذ الصراع الليبي مساراً شبيهاً، حيث انسدت أغلب مسارات الحوار السياسي، وتراكمت المؤشرات التي تنذر باحتمالية انهيار اتفاق وقف إطلاق النار. وفي هذا الإطار، قد لا يكون المسار التشاوري، المزمع عقده، كافياً لوقف التدهور القائم وكبح السيناريوهات غير المرغوبة، والخروج من أزمة الانسداد السياسي، وأن ثمة حاجة لتحصين مخرجات هذا المسار بقرار من مجلس الأمن، وإلزام الأطراف المؤسسية بالعمل بتلك المخرجات.

 

استنتاجات

مع تراكم المؤشرات التي تفيد بسعي أطراف الصراع الليبي نحو إفشال مبادرة المبعوث الأممي عبدالله باتيلي، يبدو أن أقصى سقف للتوقعات هو نجاح باتيلي في جمع القيادات الخمسة في اجتماع موحد، من دون أي مؤشرات تفيد بإمكانية حلحلة الأزمة في اجتماع واحد، تظل فرص انعقاده ضعيفة رغم ذلك.

 

وعلى الرغم من تواضع فرص حل الانسداد السياسي، إلا أن استمرار العملية السياسية في حد ذاته، وعدم فقدان المكتسبات المتحققة، وتحجيم قدرة الأطراف المحلية على خلط أوراق المشهد؛ كلها أهداف تظل ذات أولوية، بغض النظر عن توافر شروط تحقيق تسوية نهائية للأزمة الليبية خلال المرحلة الراهنة.

المصدر :https://epc.ae/ar/details/featured/-mubadarat-bathily-wamaziq-altaswia-alsiyasia-fi-libya

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M