الحركات المسلحة والأمن في إفريقيا

تعتمد الحركات المسلحة في إفريقيا على المواجهات العسكرية من خلال تبني حرب العصابات مما انعكس بشكل سلبي على الأمن والاستقرار في القارة وجعل الكثير من المناطق تعاني البؤس والفقر وغياب التنمية.

تشهد الدول الإفريقية، وتحديدًا منطقتي الساحل والصحراء والبحيرات العظمي، مشهدًا أمنيًّا بالغ التعقيد (غيتي).

تختلف الحركات المسلحة في قارة إفريقيا في خلفياتها؛ حيث تعمل الجماعات تحت شعارات ومطالب مختلفة منها السياسية والأيديولوجية والعرقية؛ لذا نجد أن هناك العشراتِ من الحركات المسلحة التي تنشط في القارة عقب استقلال الدول الإفريقية من الاستعمار، وغالبًا ما تعتمد الحركات المسلحة على المواجهات العسكرية من خلال تبني حرب العصابات، وهو ما انعكس بشكل سلبي على الأمن والاستقرار في إفريقيا، وجعل الكثير من المناطق تعاني من البؤس والفقر وغياب التنمية.

أولًا: قراءة تاريخية لفهم الحركات المسلحة في إفريقيا

يعتبر القرن التاسع عشر قرن التوسع الاستعماري في القارة الإفريقية التي تسابقت إليها البلدان الأوروبية لكسب الأراضي واستغلال مواردها لخدمة مشروع الثروة الصناعية. ومن أجل تخفيف حدة الصراع بينها، عقدت الأمم الأوروبية مؤتمر برلين الشهير الذي انتظمت بعده الحركة الاستعمارية في القارة الإفريقية(1).

وبعد أن سيطرت القوى الاستعمارية على إفريقيا انطلق عدد من حركات التحرر الوطنية التي أسستها نخبة من المثقفين الأفارقة المشبعين بأفكار التحرر الوطني والديمقراطية، وقد شهدت المستعمرات الإفريقية تحولات جذرية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أسفرت عن استقلال العديد من البلدان الإفريقية مطلع الستينات(2).

وبعد أن نالت الدول الإفريقية استقلالها من الاستعمار، نشأت وتشكلت حركات مسلحة مطلبية، وتطورت في بعض الأحيان إلى حركات مسلحة تنادي بحق تقرير المصير. ومعلوم أن هناك عددًا من العوامل والأسباب التي أسهمت في انتشار الحركات المسلحة في إفريقيا، ويبقى من أهمها غياب الحكم الرشيد، وضعف هياكل الدول وأجهزتها، وانهيار بنياتها السياسية والاقتصادية، فضلًا عن ضعف قدراتها على استدامة الاستقرار المعزز بالصراع على السلطة والثروة، والانقسامات العرقية والإثنية. كل هذه الأسباب وغيرها قد جعلت الاعتماد على المقاربة الأمنية أمرًا غير فاعل للقضاء على ظاهرة انتشار الحركات المسلحة في إفريقيا، وينبغي الالتفات إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية(3).

تنقسم القارة الإفريقية من الناحية الجيوسياسية إلى عدة مناطق أمنية، وباستثناء منطقة شمال إفريقيا التي غالبًا ما يتم ربطها بالشرق الأوسط سيما أنها تنفصل عن باقي القارة بالصحراء الكبرى التي تشكِّل مع ما يجاورها منطقة الساحل، فإذا استثنينا هذه المنطقة المذكورة فسنكون أمام وسط إفريقيا؛ حيث توجد أربعة أنظمة أمنية إقليمية: منطقة خليج غينيا إلى الغرب، ومنطقة حوض بحيرة تشاد إلى الغرب الأوسط، ثم منطقة البحيرات العظمى في الوسط، ثم شرق إفريقيا الذي تحتوي على المنطقة الفرعية المعروفة باسم القرن الإفريقي، وأخيرًا هناك نظام الأمن الجنوب إفريقي(4).

وتشكِّل كل منطقة من المناطق الأربع نظامًا أو مجمعَ أمن إقليمي يمكن تعريفه بأنه “مجموعة من الدول المرتبطة ارتباطًا وثيقًا، بحيث لا يمكن حسبان الاعتبارات الأمنية للأنظمة المختلفة بمعزل عن بعضها البعض، ومعنى ذلك أن الأمن في إفريقيا مترابط بين تلك المناطق إلى جانب تجانسه بين دولها”(5).

ثانيًا: عوامل ودوافع نشأة الحركات المسلحة في إفريقيا

تعود حالة الصراع في إفريقيا إلى أسباب تاريخية متجذرة ويمكن توضيحها فيما يلي:

  1. البعد القبلي والإثني

إن التعددية العرقية هي السمة التي تميز الدولة المعاصرة، إلى درجة يصعب معها الحديث عن دولة تتمتع بتجانس سكاني كامل. وقد برزت هذه الظاهرة إلى الوجود بداية بسبب تفكك الإمبراطوريات الضخمة التي كان تضم شعوبًا مختلفة في الأعراق وأممًا متباينة في الأديان ومتعددة في اللغات ومتنوعة في الثقافات، فتحللت تلك الإمبراطوريات إلى وحدات أصغر لم تتطابق فيها الحدود السياسية مع الواقع الإثني، فانقسمت جماعة عرقية واحدة إلى عدة وحدات سياسية. وعلى عكس ذلك تمامًا ضمت الدولة الواحدة في داخلها جماعات مختلفة أشد الاختلاف وأعراقًا متباينة أشد التباين؛ إلى درجة تلاشت فيه كل القواسم المشتركة من لغة أو دين أو عرق؛ مما قاد إلى صراعات حادة بين هذه الجماعات؛ بحيث تريد كل منها أن تكون ثقافتها أو دينها أو لغتها هي المسيطرة، وترفض هيمنة الجماعات الأخرى عليها(6).

وهذا التعدد جعل الصراعات المسلحة القائمة على الأصل العرقي أو الثقافة أو الدين أو اللغة مصدرًا للحروب كحالة دولة السودان مثلًا؛ حيث شهد السودان حربًا هي الأطول في إفريقيا بين الحكومة المركزية والحركة الشعبية لتحرير السودان (1956-2002). وبعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيروبي، استطاع جنوب السودان أن يحقق الانفصال بعد أن اختار المواطنون ذلك في استفتاء حق تقرير المصير، باعتبار أن الشماليين يتحدثون اللغة العربية ويدينون بالإسلام بينما الجنوبيون يتحدثون اللغات المحلية الإفريقية ويدينون بالمسيحية، فضلًا عن انفصال أريتريا عن إثيوبيا سنة 1993(7).

ويعتبر التنوع الإثني أحد أهم سمات الدول الإفريقية، وتتعدد مظاهر ذلك التنوع سواء على المستوى القبلي أو الديني وأيضًا اللغوي، فالقارة الإفريقية تحتوي على 33% من إجمالي لغات العالم، وهو ما شكَّل أزمة هوية داخل الكثير من الدول الإفريقية نتيجة ممارسات الدولة الإقصاء ضد إثنية معينة أو قومية، أو رغبة الأخيرة في الانفصال كما حدث في إقليم الكاميرون الناطق بالإنجليزية، ومن شواهده أيضًا أزمة شمال مالي المعروفة بأزمة الأزواد، وأيضًا أزمة إقليم كازامانس بجنوب السنغال المطالب بحق تقرير المصير لعرقية السيرير(8).

  1. غياب الحكم الرشيد

سعت الأنظمة الحاكمة في إفريقيا بعيد الاستقلال إلى ترسيخ جذورها في السلطة عبر فرض سياسة الحزب الحاكم الواحد؛ مما أطاح بأحقية القوى السياسية الأخرى في المشاركة السياسية، فتم تغيبب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات، وهو ما أسهم في تآكل شرعية تلك الأنظمة بفعل ممارسات العنف والقمع والاستبداد. وفضلًا عن ذلك انتشر الفساد وصار السمةَ الرئيسيةَ لمؤسسات الدولة المختلفة؛ مما ألقى بتداعياته على التنمية المستدامة والقطاع الاقتصادي، وهو ما آل إلى عجز الدول الإفريقية عن توفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، فتصاعدت المطالب الشعبية المنادية بإزاحة الأنظمة الحاكمة(9).

وما يميز الأنظمة الإفريقية في الغالب هو تغول السلطة التنفيذية وعلى رأسها الحاكم؛ حيث احتكرت هذه السلطة جميع أوراق اللعبة السياسية فضلًا عن وضع اليد على المنافع والمغانم، وهو ما يعني بمعنى من المعاني ترسيخ مبدأ “صواب رأي الحاكم”، أي عدم أحقية الاعتراض على القرارات السياسية التي تتخذها السلطة التنفيذية؛ الأمر الذي يؤدي إلى حالة من الخلط المؤسسي بغية إضعاف المؤسسات التشريعية والقضائية وعدم قيامها بوظائفها الدستورية، لتصبح السلطة التنفيذية وعلى رأسها الحاكم هي المنوط بها التشريع والتنفيذ ومحاسبة المعارضين له(10).

كما نلاحظ اختفاء مظاهر الديمقراطية؛ حيث إن التغييرات السياسية التي تشهدها الدول الإفريقية تقتصر على ما يمكن تسميته “ديمقراطية الصندوق الانتخابي”، أي ما يحدث عن انتخابات تعددية في ظاهرها غير أن نتائجها محسومة في البداية للحزب الحاكم وتوريث المناصب. وقد ساعدت هذه الحالة على حدوث أعمال عنف سواء بانقلاب عسكري أو اغتيال أو حرب أهلية؛ مما يعزز بدوره من موجة الصدامات القبلية داخل الدولة بغية التغيير المؤسسي؛ لذا نجد أن الأنظمة الحاكمة تتسم بالسلطوية والاستبدادية وفي الوقت ذاته يقوم الرئيس والنافذون بخدمة مصالح القبيلة التي ينتمون إليها، دون النظر إلى المكونات الاجتماعية الأخرى، عطفًا على ذلك تتمركز الخدمات والتنمية في العاصمة وهو ما يعني تكريس إهمال الأطراف(11).

  1. البعد العقائدي

تشهد الدول الإفريقية، وتحديدًا منطقتي الساحل والصحراء والبحيرات العظمي، مشهدًا أمنيًّا بالغ التعقيد. فوفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2021، يعتبر إقليم الساحل ضمن أكثر المناطق عنفًا في العالم؛ حيث شكَّلت الوفيات بالإقليم نسبة (35%) من إجمالي حالات الوفاة الناجمة عن العمليات الإرهابية في العالم، الأمر الذي يعكس ترديًا بالغًا للأوضاع الأمنية.

ويمكن الجزم بأن المحفز الرئيسي وراء توغل التنظيمات الإرهابية وانتشارها بضراوة داخل الدول الإفريقية، منبثق بالأساس من حالة التشظي القبلي الذي هيأ المناخ لتحول تلك الدول إلى بيئات حاضنة للإرهاب.

إن الصراع على الموارد الطبيعية وتصاعد المواجهات بين القبائل المختلفة، يرجع بالأساس لحرمان ممنهج لبعض القبائل من الحصول على حصتها من الموارد، وأيضًا حرمانهم من المشاركة السياسية، أو أن يصبح لهم دور على الصعيد المالي والاقتصادي. كما يلعب البعد الديني دورًا أيضًا في الصدامات القبلية؛ فعلى سبيل المثال أدت المواجهات الدامية بين الرعاة ذوي الغالبية المسلمة والمزارعين ذوي الغالبية المسيحية في منطقة الحزام الأوسط بنيجيريا إلى مواجهات عنيفة؛ مما أسهم في توغل جماعة بوكو حرام في المنطقة التي أصبحت من أهم مراكز نفوذ هذه الجماعة(12).

ومما يعزز من دموية تلك الصراعات؛ حالة الانفلات الأمني التي تواجهها البلاد، وهي ناتجة عن سيولة انتشار الأسلحة الخفيفة، فوفقًا لتقارير صادرة عن جهات أمنية كينية يوجد ما يزيد عن ستمئة ألف قطعة سلاح غير مرخص بالبلاد؛ الأمر الذي عزز من انتشار العنف المسلح، وأدى إلى عجز المؤسسات الأمنية عن احتواء الأوضاع. ولهذه الأسباب نجد تكرارًا لسيناريوهات الانقلابات العسكرية، كما حدث في دول مثل مالي والنيجر وإفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وغينيا.

إن النزاعات المحلية والصدامات القبلية ذات الطابع الديني تزداد بشكل واضح في ظل وجود حكومات مركزية هشة غير قادرة على صهر مكونات المجتمع وإدارة التنوع الديني، ناهيك عن ضعف المؤسسات وانعدام عدالة التوزيع ونفاذ المواطن إلى الخدمات الضرورية؛ الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تطور المنافسة على الموارد، وتحولها لصراعات وصولًا لحروب أهلية دامية ذات أبعاد عقيدية كما حدث بين جماعتي “السيليكا” و”أنتي بلاكا” المسلحتين في جمهورية إفريقيا الوسطى(13).

  1. البعد الخارجي

على الرغم مما سبقت الإشارة إليه من عوامل ومتغيرات وثيقة الصلة بالبيئة الداخلية للدول الإفريقية فإن الصراعات الأهلية في القارة تشكلت أيضًا بفعل العديد من المتغيرات والعوامل المرتبطة بالبيئة الخارجية للقارة. ويتمثل أقدم العوامل الخارجية في ظاهرة الاستعمار الأوروبي الذي وضع بذور الحروب الأهلية في إفريقيا سواء من خلال النشأة المصطنعة للدول الإفريقية أو من خلال السياسات الاستعمارية المتبعة في المستعمرات الإفريقية السابقة(14).

ويبقى الصراع الإثني مرتبطًا في كثير من الحالات بالتدخل الخارجي؛ حيث يتم من خلال هذا التدخل تأجيج الخلافات وتعزيز الصدامات بين القبائل المختلفة بواسطة نخب محلية وإقليمية، مقابل حصولها على مكتسبات مادية للتغطية على ما تقوم به دول أجنبية من جني أرباح خيالية من أعمال النهب والسرقة للموارد الأولية في الدول الإفريقية مثل الماس والعاج وغيرهما.

وما نشهده من انفلات الأمني في بعض البلدان الإفريقية وانشغال الأجهزة الأمنية في مواجهة المحتجين كما يحدث في إقليم شرق الكونغو الديمقراطية، يمكن فهمه من خلال ما كشفت عنه بعض التقارير من اتفاق بين نخب سياسية محلية وبين النسخة الإفريقية من تنظيم داعش المتمركز ببعض دول شرق إفريقيا. وقد نتج عن ذلك أن تنظيم داعش قام باستقطاب مواطني الإقليم وتأجيج مشاعر الغضب ضد النظام السياسي، ودفعهم لمواجهات مع الأجهزة الأمنية، مقابل تسهيل النخب مهمة استنزاف التنظيم للموارد الطبيعية وبيعها، وحصول هؤلاء على حصتهم من الأرباح، ويعد هذا النمط من الأنماط الأكثر شيوعًا(15).

لقد لعبت العوامل الإقليمية والدولية دورًا مهمًّا ليس فقط في نشوب الصراع بليبيريا مثلًا وإنما في تطوره وإطالة أمده؛ إذ لولا دعم ليبيا وبوركينا فاسو وكوت ديفوار المشترك للرئيس الليبيري السابق، تشارلز تايلور، وفي الجانب الآخر تراجع الدعم الأميركي لغريمه، سامويل دو، لما تمكن الأول من الانتصار على الثاني؛ حيث كان يمكن أن يقوم سامويل دو بسحق التمرد الذي قاده تايلور، كما فعل من قبل مع كوينكبا لولا؛ حيث تراجع التأييد الإقليمي والدولي له، وفي مقابل دعم غينيا لبعض الفصائل المعارضة لتايلور، وهو ما أسهم في تمكين هذه الفصائل من تحقيق انتصارات كبيرة ضده(16).

ولابد هنا أن نشير إلى ما ينتشر في إفريقيا الوسطى من شبكات مركَّبة من الكيانات المسلحة التي تعمل في ظل الحرب بالوكالة لصالح نظام الرئيس تواديرا، مثل قوات فاغنر الروسية، وجماعات قبلية محلية موالية لفرنسا، بالإضافة إلى قوات من جمهورية الكونغو الديمقراطية والقوات الرواندية التي تقاتل جنبًا إلى جنب الجيش الحكومي.

وقد دفعت الحربُ بالوكالة أيضًا مجموعات أجنبية أخرى مثل جيش الرب الأوغندي والعديد من الحركات التي تنتشر في شرق الكونغو الديمقراطية للانخراط في التفاعلات العنيفة في إفريقيا الوسطى كمصدر من مصادر الريع المادي بالنسبة لهم، فضلًا عن الفاعلين الآخرين من المنظمات الفاعلة والمتورطة في تهريب الموارد الطبيعية، بما في ذلك الذهب والماس وتهريب الأسلحة.

وتعمل مجموعة من اللاعبين الدوليين على التمكين لهذه الشبكات الإجرامية التي تخلق حالة من عدم الاستقرار والصراع، من أجل الاستفادة من تهريب مزيد من الماس والذهب لهذه الشبكات الإجرامية الدولية(17).

ثالثًا: آثار الحركات المسلحة على الأمن في إفريقيا

تعاني القارة الإفريقية حاليًّا خليطًا من الصراعات والنزاعات المسلحة، معظمها داخلي، وذلك بسبب الصراع على السلطة أو الثروة أو كلتيهما معًا، إضافة إلى انتشار الصراعات العرقية والقبلية، وكذلك التمدد اللافت لتنظيمات إرهابية في مناطق واسعة من شمال ووسط القارة ومنطقة الساحل.

وتنمو الحركات المسلحة في عدد من الدول الإفريقية في بيئات جاذبة؛ حيث لم تستطع السلطات المتعاقبة، منذ حقبة الاستقلال والتحرر من الاستعمار أن تثبِّت وتوطد دعائم الدولة القوية، وهو ما سمح بانتشار أسرع للجماعات المسلحة التي تستغل ضعف الأنظمة السياسية وعوامل التهميش الاقتصادي والسياسي والصراعات القبلية والإثنية، وتعقيد التركيبة الاجتماعية وتداخلاتها، وتوسع أطر التداخل بين الدين والقبيلة والأيديولوجيا والإثنية، تستغل كل هذا للانتشار والتوسع.

كل ذلك وغيره يتطلب دراسة ظاهرة الإرهاب في إفريقيا في سياقات مغايرة لأساليب الفهم التقليدي، فأنشطة الحركات المسلحة لا تقتصر على تنفيذ الأجندة الدينية والسياسية؛ إذ تتقاطع مع تعقيدات التركيبة القبلية وفشل سياسات الاندماج الاجتماعي، أي غياب أو عدم قدرة الحكومات على تحديث البناء المجتمعية(18).

وسنحاول هنا الوقوف على ثلاثة آثار سلبية مرتبطة بهذه الصراعات:

أولًا: الأثر السياسي

تترتب على النزاعات المسلحة عدة آثار سلبية على الأوضاع السياسية داخليًّا وكذلك للدول المجاورة لها، ومن بين هذه الآثار نجد امتداد مخاطر التدخل الدولي إلى دول الجوار، فالدول التي تعاني من النزاعات المسلحة غالبًا ما تتعرض إلى التدخل الدولي، خاصة في حالة وجود انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، الأمر الذي يؤثر حتمًا على أمنها وأمن الدول المجاورة لها، ويشكِّل ضغطًا غير مباشر على أنظمتها وتوجهاتها وربما يسهم في انهيار أنظمة الحكم أو الدولة(19).

كما نلاحظ التداعيات الأمنية كانتشار السلاح والجماعات الإرهابية، فضلًا عن تنامي الصراعات القبلية والطائفية والفكر الانفصالي، وأيضًا هناك تداعيات اقتصادية سببها تراجع دور الدولة الاقتصادي بالنسبة لتلك للدول المعتمدة على الاقتصاد الريعي، والذي يعتبر المورد الأساسي والوحيد لتمويل الميزانية العامة، أضف إلى ذلك تأثير الانقسام السياسي وزيادة معدلات البطالة وانتشار ظاهرة الفساد العام(20).

وفضلًا عن زيادة انتشار العنف والفقر، إلى جانب ذلك عجز الدولة عن السيطرة على المنافذ الحدودية فإن هذا الأمر ينعكس على الدول المجاورة لها، ولهذه الأسباب ومن أجلها تتخوف دول الجوار من تداعيات التدخلات الدولية.

ومن بين الآثار الأخرى التأثير السلبي على نسيج العلاقات الدولية بين حكومات الجوار؛ حيث تعتبر النزاعات المسلحة القائمة في الدول الإفريقية مصدرَ تأثيرٍ وتوترٍ أمني في القارة الإفريقية، ناهيك عن تأثير ذلك على النظام السياسي القائم في الدول المجاورة؛ حيث تؤدي النزاعات المسلحة إلى التأثير ولو بصفة غير مباشرة على النظم السياسية القائمة في الدول المجاورة لها، بحيث تستغل الأطراف المتنازعة الاختلالات الكامنة في بنية الهيكل السياسي والاجتماعي في الدول، خاصة في حالة وجود اضطهاد للأقليات العرقية والحزبية متبوعة بموجات متتابعة من العنف السياسي ضدها، مما يؤدي إلى الانهيار(21).

ثانيًا: الأثر الأمني

إن الآثار الأمنية لا تقل أهمية وخطورة عن الآثار السياسية، ومن بين الآثار الأمنية تدفق الأشخاص والسلاح عبر الحدود؛ حيث يعتبر تدفق السلاح من أخطر الآثار السلبية الأمنية على الدول المجاورة للدولة التي تعاني من النزاعات المسلحة، خاصة تدفق الأسلحة الخفيفة منها؛ نظرًا لخصوصياتها المتمثلة أساسًا في سهولة الحصول عليها ونقلها إلى أطراف الصراع(22).

ويشكل انتشار السلاح تجارة رابحة في المناطق غير المستقرة أمنيًّا في القارة الإفريقية، ولهذا الانتشار دور كبير في تقوية الجماعات المسلحة؛ حيث إن نشاط العديد منها في تزايد مستمر نتيجة انتشار الأسلحة وتهريبها عبر الحدود؛ الأمر الذي يشكِّل تهديدًا أمنيًّا على دول الجوار. وقد شكَّل ذلك تهديدًا حقيقيًّا على أمن حدود الدول المجاورة؛ مما يجعل هذه الأخيرة تلجأ إلى تشديد الرقابة على حدودها خوفًا من تجارة وتهريب الأسلحة والبشر والمخدرات(23).

إضافة إلى ذلك، نلاحظ تدفق اللاجئين والنازحين بأعداد يصعب التحكم فيها، وتؤدي هذه النزاعات أيضًا إلى استغلال الوضع الأمني غير المستقر ومحاولة السيطرة عليه من طرف صعوبة التحكم في الحدود وكثرة تدفق الأسلحة بالإضافة إلى تجارة وتهريب البشر والمخدرات؛ حيث يصعب تحديد العلاقة بين المخدرات؛ إذ أصبحت تجارة وتهريب البشر والمخدرات التي تقودها شبكات التهريب مصدرًا للخطر على الدول الإفريقية التي تعاني من صراعات، خاصة التي لها ارتباط بأطراف خارجية. وتعتبر هذه الجرائم من أهم التحديات الخطيرة التي تهدد كيان وأمن الدول والإفريقية(24).

ثالثًا: الأثر الاقتصادي

لا يخفى مدى التأثير السلبي لهذه النزاعات على اقتصادات الدول الإفريقية، ومن أبرز التأثيرات ظاهرة اللاجئين الذين يفرون من ويلات هذه النزاعات وبأعداد كثيرة مخترقين حدود دول الجوار. فهذه الحشود من اللاجئين بإمكانها أن تسبِّب زعزعة واستقرار أمن الدولة المستقبِلة، لكنها أيضًا ستكون عبئًا على اقتصادها المنهك أصلًا. فكثرة اللاجئين والنازحين تدفع الدول المستقبِلة لهم إلى توفير المأوى والأكل والشرب، وفي حالة استحالة توفير ذلك لهم يؤدي إلى نشوب عنف وصراعات على الغذاء والمياه والسكن بين اللاجئين، وأيضًا بينهم وبين المواطنين الأصليين من جهة. ومن جهة أخرى يتحتم على الدولة المستقبلة للاجئين أن توفر لهم مخيمات للإقامة، وكل المستلزمات والخدمات الضرورية التي يحتاجونها من أكل وشرب وصحة وتعليم، بالإضافة إلى توفير الأمن لهم باعتبارهم خاضعين لسيادتها؛ الأمر الذي يشكِّل عبئًا يختلط فيه فيه الاقتصادي بالأمني(25).

وتتضاعف معاناة الدولة المستقبلة للاجئين في حالة نقص إمكانياتها وعدم تحكمها في الوضع؛ مما يسبِّب معاناة للاجئين ويؤدي إلى تردي أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والصحية كانتشار الأمراض المعدية والفتاكة كالسيدا والكوليرا ونقص المياه الصالحة للشرب..إلخ. وقد تأثر اقتصاد معظم الدول الإفريقية المجاورة للدول التي شهدت النزاعات المسلحة بشكل سلبي مسببة لها خسائر معتبرة(26). فضلًا عن تدمير كل المكونات الاقتصادية في الدولة التي تعاني منها سواء كانت زراعية أو صناعية أو تجارية، مما يسبب ندرة في المواد الغذائية في هذه الدولة ويؤدي إلى غلاء أسعارها، الأمر الذي يدفع المهربين إلى محاولة تهريب المواد الغذائية من الدول المجاورة لتغطية العجز الذي تعاني منه، وهو ما ينعكس سلبيًّا على الدول التي تم تهريب هذه المواد منها، ويتسبب في ارتفاع أسعار هذه السلع وندرتها(27).

وحيث إن معظم الدول التي تعاني من عدم الاستقرار الأمني -نتيجة الصراعات المسلحة- تنتشر فيها كل الأمراض المعدية بسبب انهيار منظومتها الصحية وعدم توفرها على بيئة صحية ونقص في الأدوية وغيرها من المشاكل الصحية فإنها تظل معرضة لانتشار الأمراض فتنتقل هذه العدوى ومختلف الأمراض إلى الدول المجاورة بسبب دخول الأفراد المصابين(28).

ويمكن للنزاعات المسلحة التأثير على مناخ الأعمال للدول الجوار؛ إذ لا تتوقف آثار هذه النزاعات على التدفقات الاستثمارية والمبادلات التجارية في الدول التي جرت على أراضيها تلك الصراعات، بل تتعدى إلى الدول المجاورة لها؛ حيث تؤدي النزاعات المسلحة إلى تقليص حجم المبادلات التجارية بين الدولة التي تعاني من هذه النزاعات والدول المجاورة لها.

ومن مظاهر ذلك توقف الأنشطة التجارية وتوقف المؤسسات المصدِّرة لنشاطها التجاري بسبب تخوف الدولة المجاورة من تهريب الأسلحة، وهو ما يجعلها تتخذ تدابير أمنية صارمة قد تصل إلى حد غلق الحدود، إضافة إلى تقليص الاستثمارات بين هذه الدول نتيجة لعدم توافر ضمانات للمستثمرين لحماية مصالحهم الاقتصادية، فلا شك أن المناخ السياسي الذي يغلب عليه طابع عدم الاستقرار والاضطراب يكون مناخًا غير ملائم لنمو وجذب الاستثمارات الأجنبية(29).

خاتمة

ستظل مسألة الحركات المسلحة والأمن من القضايا المعقدة التي تنعكس على وحدة وتماسك الدول الإفريقية، وتغرق الكثير من الدول في أتون حروب أهلية مستمرة رغم بعض المساعي من التكتلات الإقليمية مثل الإكواس والسادك والإيغاد ومبادرة الاتحاد الإفريقي المرتبطة بإسكات البندقية.

إلا أن تقاطع المصالح داخليًّا وبعض القوى الإقليمية قد عزز من دوافع وعوامل استمرار حضور الحركات المسلحة في المشهد السياسي للعديد من الدول الإفريقية؛ لذا لا نتوقع بأي حال من الأحوال أن تتلاشى ظاهرة الحركات المسلحة في إفريقيا ما لم تتم معالجة الأسباب الجوهرية المرتبطة بظهورها مثل غياب المواطنة وانعدام العدالة الاجتماعية فضلًا عن التداول السلمي للسلطة.

المصدر :https://studies.aljazeera.net/ar/article/5787

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M