يعد مالك بن نبي من جهة المنهج، أحد أبرز المفكرين في المجال العربي المعاصر، الذي اتخذ من الحضارة الوحدة الأساسية في منهجه لدراسة وتحليل قضايا ومشكلات العالم الإسلامي، التي جعل منها موضوعا لحقله الدراسي في جميع أحاديثه وكتاباته ومؤلفاته، التي أطرها وعرف عنها بعنوان: (مشكلات الحضارة).
وكشف ابن نبي عن هذه المسألة، حين فارق بينه وبين ابن خلدون، على أساس أن ابن خلدون اتخذ من الدولة الوحدة الأساسية في التحليل التاريخي والعمراني، في حين أنه اتخذ من الحضارة أساسا في منهجه التحليلي، وحسب قوله: وهكذا لم نجد فيما ترك ابن خلدون غير نظرية عن تطور الدولة، في حين أنه كان من الأجدى لو أن نظريته رسمت لنا تطور الحضارة، التي كنا نستطيع أن نجد فيها ثروة من نوع آخر، غير ذلك الذي أثرانا به فعلا، إذ لم تكن عبقرية ابن خلدون بعاجزة عن أن ترسم لنا ذلك التطور في صورة منهج قائم بذاته.
ومن أبرز النصوص التي أوضح فيها ابن نبي اتخاذه الحضارة وحدة أساسية في تحليل المشكلات، النص الذي يعتبر فيه أن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، وحسب قوله (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها. وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي، والحضارات المستقبلة، إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن).
وعلى هذا الأساس ظل ابن نبي يربط جميع المشكلات بدرجاتها الصغيرة والكبيرة في المجتمعات العربية والإسلامية، وعلى أقسامها الثقافية والاجتماعية، والتربوية وحتى السياسية والاقتصادية، ومنها مشكلة النظافة والنظام وغيرها، يربطها بمشكلة الحضارة بوصفها تمثل جوهر وأساس المشكلات، التي تتأثر منها، وتتفرع عنها، وتتصل بها، سائر المشكلات الأخرى.
وأراد ابن نبي من هذا المنهج، أن يلفت النظر إلى ضرورة التفريق بين جانب الأصل وجانب الفرع في المشكلات، لكي لا يتم الانشغال بجانب الفرع من المشكلات بحثا وعلاجا، بعيدا عن الالتفات لجانب الأصل، الذي ينبغي أن يتجه إليه ويتركز الانشغال والاهتمام، وهذه هي الطريقة المجدية والفعالة في نظر ابن نبي في التعامل مع مشكلات العالم الإسلامي، وفي معالجتها.
ولا يبعد أن يكون ابن نبي قد استفاد من بعض المفكرين الأوروبيين المعاصرين، الذين سبقوه في الالتفات لهذا المنهج، وتحديدا من اثنين من المفكرين الذين اعتنوا بدراسة الحضارات فكرة وتاريخا، والذي يعرفهم ابن نبي معرفة جيدة، وهما المفكر الألماني أزوالد شبنجلر (1880-1936م) صاحب الكتاب الشهير (تدهور الغرب)، والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889-1975م) صاحب كتاب (دراسة التاريخ).
وعن هذا المنهج في رؤية شبنجلر يمكن العودة إلى النص الذي يقول فيه إذا ما أردنا أن نكتشف الشكل الذي يريد لها القدر، قدر الحضارة الغربية أن تتبدى منجزة ومكتملة فيه، علينا أولا أن نعرف بوضوح ما هي الحضارة، وما هي ارتباطاتها بالتاريخ المنظور، وما علاقتها بالحياة وبالروح وبالطبيعة وبالفكر، وما هي أشكال مظاهرها.
وعن رؤية توينبي لهذا المنهج يتحدد في قوله: إن المجتمعات الأعظم اتساعا في الزمان والمكان من الدول القومية، أو دول المدن المستقلة، أو أية جماعة سياسية أخرى، هي المجالات المعقولة للدراسة التاريخية، فالمجتمعات لا الدول هي الوحدات الاجتماعية التي يجب أن يعنى بها دارسو التاريخ.
هذه بعض القسمات الكاشفة عن نمط علاقة ابن نبي بفكرة الحضارة، العلاقة التي أضفت ملامح التميز على خطابه الفكري، وشجعت على دراسته والعناية به.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/37809