سباق مع الزمن لتفادي الأسوأ: مستقبل الجنيه المصري في ظل التحديات الراهنة

  • تصاعدت التحديات التي يواجهها الاقتصاد المصري في ظل التباين الواضح في سعر صرف العملة المصرية بين السوق الرسمية والسوق الموازية، وزيادة الفجوة التمويلية، وتنامي معدلات التضخم منذ بداية عام 2024.
  • سيكون اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي حول برنامج الإصلاح الاقتصادي، وإمكانية توسيع نطاقه وتمويله، والنموذج المعتمد لتحرير سعر صرف الجنيه، محورياً في تحديد وجهة الاقتصاد المصري خلال الشهور المقبلة.
  • تتجه الحكومة المصرية لإصدار سندات توريق  بضمان إيراداتها المستقبلية بالدولار، في محاولة لجذب سيولة سريعة بالعملة الصعبة، إلا أن نجاحها في ذلك سيتوقف على الجدارة الائتمانية للأصول التي ستصدر عملية “توريقها” بضمانها.
  • يُتوقَّع أن تعتمد الحكومة المصرية خفضاً تدريجياً لقيمة الجنيه مقابل الدولار، على أن يسبق ذلك الحصول على جزء من التمويل المتاح لمصر ضمن برنامج صندوق النقد الدولي بعد أن تُرفَع قيمته، لتصل إلى مستويات تتراوح بين 7 و8 مليارات دولار. 

 

يمر الاقتصاد المصري بمرحلة حرجة منذ نهاية عام 2023، وقد تصاعدت التحديات التي يواجهها مع بداية عام 2024 في ظل التبايُن الواضح في سعر صرف العملة المصرية بين السوق الرسمية التي يتداول فيها الجنيه بمستويات أقل من 31 جنيهاً لكل دولار أمريكي، والسوق الموازية التي لامست حدود الـ 70 جنيهاً لكل دولار أمريكي، في الوقت الذي شهدت معدلات التضخم وارتفاع الأسعار زيادة واضحة منذ بداية عام 2024. وقد تزامن ذلك مع الضغوط الناجمة عن تزايد معدلات الديون المصرية، وزيادة الفجوة التمويلية في ظل تعثُّر برنامج الطروحات وتراجُع العائدات من العملة الأجنبية، سواء تلك المتأتية من تحويلات العاملين بالخارج أو السياحة أو قناة السويس، على خلفية الحرب في غزة، والاضطرابات الجيوسياسية في المنطقة، وتهديدات أمن الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

 

وفي هذا السياق، مددت بعثة صندوق النقد الدولي[1] زيارتها لمصر، والتي بدأت بنهاية الأسبوع الثالث من يناير 2024، لبحث موقف المراجعات المتأخرة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي والشروط المطلوبة من الصندوق لصرف الشرائح الجديدة وتمديد الاتفاق أو توسيع حجم التمويل المرتبط به. وفي مطلع فبراير الجاري، قال الصندوق إنه اتفق مع مصر على عناصر السياسة الرئيسة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في البلاد، مُشيراً إلى أن الحكومة المصرية أكدت التزامها باتخاذ إجراءات سريعة إزاء الجوانب الأساسية للبرنامج الإصلاحي.

 

ولما كان سعر صرف الجنيه المصري يمثل أحد أهم الشروط التي تتفاوض مصر عليها حالياً مع صندوق النقد الدولي بهدف تمديد برنامج الإصلاح الاقتصادي الممول من الصندوق وزيادة قيمته، لتوسيع عملية جمع التمويل وسد الفجوة التمويلية، فإن هذه الورقة تحلل وضع سعر صرف الجنيه المصري في المشهد الاقتصادي الراهن، وتستكشف التوقعات المستقبلية له.

 

محددات الوضع الاقتصادي في مصر على المدى القريب

يعتمد تطور الوضع الاقتصادي المصري خلال الشهور المقبلة على عدد من المحددات، يرتبط معظمها بمحورية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي حول المراجعات الخاصة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، وإمكانية توسيع نطاق البرنامج وتمويله، وكذا النموذج الذي سيتم تبنيه لتنفيذ تحرير سعر الصرف، سواء أكان نموذجاً حراً مَرناً أم مُداراً تدريجياً. وتتمثل هذه المحددات في الآتي:

 

  • حدود توسيع نطاق برنامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي: تجري مصر حالياً محادثات مع صندوق النقد الدولي لمضاعفة قيمة برنامج الإصلاح الاقتصادي، والتي تبلغ حالياً 3 مليارات دولار، لتصل لحدود من 6 إلى 10 مليارات دولار، على رغم أن مصر لم تحصل من القرض الأساسي سوى على الدفعة الأولى وقدرها 347 مليون دولار عند الموافقة على برنامج الدعم في ديسمبر 2022، في حين تأخرت المراجعتان الأولى والثانية عن موعدهما المقرر بسبب الشروط المتعلقة بتحرير سعر صرف الجنيه وتسريع عملية الطروحات الحكومية.

 

  • مستقبل سعر صرف الجنيه: إذ يرتبط سعر الصرف بموقف برنامج الإصلاح الاقتصادي والاتفاق مع الصندوق على كيفية إدارة عملية التعويم خلال الفترة المقبلة؛ ففي الوقت الذي تجاوزت فيه السوق الموازية مستويات السوق الرسمية بأكثر من الضعف، فإن حسم وضع سعر الصرف أصبح ضرورة حتمية وملحة من أجل استقرار أوضاع الاقتصاد والاستثمار في مصر خلال الفترة المقبلة.

 

  • المخاطر الأمنية والجيوسياسية المؤثرة في الاقتصاد المصري: فقدتأثر الاقتصاد المصري بتداعيات الحرب في غزة وتذبذب وضع السياحة وواردات الغاز الطبيعي، إلى جانب الاضطرابات الأمنية في مدخل البحر الأحمر ما أثر في النشاط الملاحي عبر قناة السويس.

 

  • مدى ملائمة الخطط والاستراتيجيات الحكومية الجديدة للوضع الاقتصادي، والقدرة على تسويقها في أوساط المستثمرين والدول الشريكة: فقد طرحت الحكومة المصرية عبر مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء وثيقة للتوجهات الاقتصادية الأساسية التي سيُعمَل عليها لحل أزمة الاقتصاد المصري حتى عام 2030، ويظهر من هذه الوثيقة الاعتماد على أدوات وآليات جديدة لسد الفجوة التمويلية، إلا أنها قد لا تناسب الوضع الاقتصادي المصري، مثل “التوريق”، حيث تتجه الحكومة المصرية لإصدار سندات توريق[2] بضمان إيراداتها المستقبلية بالدولار، في محاولة لجذب سيولة سريعة بالعملة الصعبة تساعدها في الخروج من الأزمة الحالية، ما يعني أنها ستجمع ديوناً دولارية بضمان نسبة من مصادر إيراداتها المستقبلية من العملة الصعبة مثل الصادرات وإيرادات السياحة وقناة السويس وتحويلات العاملين بالخارج والاستثمار الأجنبي المباشر، وتدرس الحكومة “توريق” ما بين 20% و25% من مصادر إيرادات مصر الدولارية، لكن يبقى هذا الحل مؤقتاً ولا يمثل حلاً جذرياً لمواجهة نقص السيولة في مصر، كما يخلق تحدياً مرتبطاً بتوفير مصر موارد دولارية مستقبلية تكفي لتوفير احتياجاتها، بالإضافة إلى سداد قيمة السندات عند استحقاقها في ظل المشكلات الحالية في الاقتصاد المصري والعالمي. كما أن بعض إيرادات مصر الدولارية الحالية تواجه تحديات، مثل انخفاض تحويلات العاملين بالخارج بشكل ملموس، ما يُصعِّب من إمكانية الاعتماد عليها، فيما تواجه إيرادات قناة السويس تحديات ترتبط بالاضطرابات في منطقة البحر الأحمر، لذا فإن نجاح مصر في “توريق” بعض مصادر إيراداتها الدولارية سيتوقف على الجدارة الائتمانية للأصول التي ستصدر مصر عملية “توريقها” بضمانها.[3]

 

الخطط والإجراءات الحكومية 

اتخذت الحكومة المصرية خلال الربع الرابع من عام 2023 مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى تخفيض التفاوت الواضح في السوق بين سعر الصرف الرسمي والموازي، ومواجهة الضغوط التضخمية، ارتبطت تلك الإجراءات والخطط بالتمهيد لتعديل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وكانت أهم تلك الإجراءات، الآتي:

 

  • التوسُّع في البحث عن آليات جديدة لتوفير العملة الأجنبية: أكد وزير المالية المصري أن الحكومة تدرس إصدار سندات بالروبية الهندية والدرهم الإماراتي، ما يعني طرح سندات في الأسواق الخليجية لأول مرة، وكذلك عقد اتفاقية لمنع الازدواج الضريبي وطرح سندات بالعملة المحلية في بورصة هونج كونج، ضمن خطط الوزارة لتنويع مصادر وأدوات التمويل والعملات. كما تعتزم الحكومة المصرية إطلاق مبادرة جديدة لبيع العقارات بالدولار للمصريين بالخارج والأجانب ضمن مساعيها لسد الفجوة الدولارية، وقررت أيضاً مدّ مبادرة استيراد السيارات للمقيمين بالخارج 3 أشهر إضافية. ومن المتوقع أن يصل مجموع ما حققته المبادرة نحو ملياري دولار في مرحلتيها الأولى والثانية، فيما اشترطت الحكومة المصرية على الأجانب المعفيين من الحصول على الإقامة استخراج “بطاقة التسجيل” اعتباراً من يونيو 2024 نظير رسوم مستحقة تُحصِّلها الدولة المصرية باعتبارها شرطاً للحصول على الخدمات التي تُقدِّمها.

 

  • تشكيل المجلس الوطني لتوطين التكنولوجيا الخاصة بتصنيع الرقائق الإلكترونية، وذلك ضمن مساعي الحكومة لتوطين الصناعات الفائقة التي يمكن أن تمثل أساساً لزيادة الاستثمارات الأجنبية، لكن هذه الصناعة تحديداً تستغرق وقتاً طويلاً لإنجاز البنية اللوجستية والفنية لها، أي أن الأمر سيحتاج سياقاً زمنياً ملائماً لإتمام عملية التوطين والاسهام في دعم الاقتصاد المصري.

 

مؤشرات الاقتصاد المصري خلال الربع الرابع من 2023

في ظل سيطرة التوقعات المتشائمة على مستقبل برنامج الإصلاح الاقتصادي، يمكن رصد أبرز المؤشرات الإيجابية بالتوازي مع التنبيه لأهم المؤشرات السلبية والمخاطر المرتبطة بها، على النحو الآتي:

 

1. المؤشرات الإيجابية

من أبرز المؤشرات الإيجابية المتحققة خلال الربع الرابع من 2023، وبداية عام 2024 ما يلي:

 

  • تحقيق طفرة في إيرادات بعض القطاعات الاقتصادية؛ فقد زادت إيرادات مصر السياحية 8% خلال عام 2023 على أساس سنوي لتصل إلى نحو 13.2 مليار دولار، وارتفعت أعداد السائحين الوافدين إلى مصر خلال عام 2023 بنسبة 27.4% مقارنة بالعام السابق، مُسجلةً بذلك أعلى مستوى لها، رغم التوترات التي شهدتها المنطقة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2023. ومن ناحية أخرى، حققت صادرات مصر من الصناعات الغذائية ارتفاعاً قياسياً خلال عام 2023، إذ زادت بقيمة 602 مليون دولار، وبنحو 14 %، لتبلغ حوالي 5.1 مليار دولار، مقارنة بحوالي 4.5 مليار دولار عام 2022.

 

  • انتعاش سوق المال؛ حيث حقق مؤشر البورصة المصرية الرئيس (إي جي إكس 30) أكبر مكاسب سنوية له منذ عام 2016، ليُنهي آخر تعاملات عام 2023 على صعود. ويعد المؤشر الرئيس للبورصة حالياً في منطقة السوق الصاعدة لعام 2024، مع ارتفاع مكاسبه منذ بداية العام إلى 21.9%، حيث يتطلع المستثمرون إلى الأسهم بهدف التحوط من ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة الجنيه.

 

2. المؤشرات السلبية

من أبرز المؤشرات السلبية المتحققة خلال الربع الرابع من 2023، وبداية عام 2024 ما يلي:

 

  • تخفيض توقعات نمو الاقتصاد: فقد خفض صندوق النقد الدولي توقعاته مجدداً لنمو الاقتصاد المصري، وتوقع الصندوق بنهاية يناير 2024 أن تحقق مصر نمواً بمعدل 3% للسنة المالية 2023-2024 التي تنتهي في 30 يونيو 2024، بما يمثل انخفاضاً قدره 0.6 نقطة مئوية عن تقرير أكتوبر 2023، ويعد هذا التخفيض هو الثاني على التوالي.

 

  • تراجُع معدلات الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس على خلفية التداعيات الأمنية والجيوسياسية لحرب غزة: أكدت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد UNCTAD) أن حركة الملاحة التجارية بين أوروبا وآسيا والعابرة من قناة السويس المصرية، تراجعت خلال الشهرين الأخيرين بنسبة 42%، ويأتي التراجع الكبير في السفن العابرة للبحر الأحمر على خلفية الهجمات الحوثية على بعض السفن العابرة، وأيضاً الضربات الأمريكية على مواقع إطلاق الصواريخ الحوثية، ما دعا السفن لاتخاذ طرق بديلة أو تأجيل بعض الرحلات، وتمثل حركة الملاحة في قناة السويس المصرية من 12% إلى 15% من إجمالي حركة الملاحة العالمية، وقد توقعت وكالة “فيتش” تراجع عائدات مصر من السياحة وقناة السويس إلى 12.7 مليار دولار، و9 مليارات دولار على التوالي، خلال السنة المالية الحالية 2024/2023، وسط توقعات باستمرار الصراع في غزة واضطرابات البحر الأحمر. ونبَّهت فيتش إلى أنها “قد تخفض توقعها إلى نحو 11 مليار دولار و7.5 مليار على التوالي إذا استمر التعطيل طوال النصف الأول من عام 2024”.

 

  • تراجُع إيرادات بعض القطاعات الإنتاجية التي تعتبر مصدراً للنقد الأجنبي: حيث تراجعت تعاقدات تصدير القطن المصري منذ بداية الموسم التصديري الجاري بنحو 51%، لتهبط إلى 22.8 ألف طن مقارنة بنحو 46.7 ألف طن في الفترة نفسها من الموسم الماضي، وتراجعت صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 51.8% على أساس سنوي في عام 2023 لتصل إلى 3.52 مليون طن، وانخفضت التحويلات الرسمية المصرية خلال الربع الأول من العام المالي 2024/2023 بنسبة 29.2% على أساس سنوي، مقارنة بالفترة نفسها من العام المالي 2023/2022، وتتضمن التحويلات الرسمية المصرية تحويلات الحكومة، إلى جانب تحويلات المصريين العاملين في الخارج التي تعد أهم الموارد الرسمية للدولار لمصر، والتي سجلت تراجعاً خلال الفترة الأخيرة إثر حدوث أزمة في توافر النقد الأجنبي وتداول سعر الدولار في السوق الموازية للعملة بما يفوق ضعف السعر الرسمي في البنوك المصرية.

 

  • تزايُد التقلبات في أسواق الذهب والمعادن نتيجة تفاوت سعر الصرف، والإقبال على شراء الذهب بوصفه مصدراً للقيمة خلال الفترة الأخيرة.

 

توقعت وكالة “فيتش” تراجع عائدات مصر من قناة السويس إلى 9 مليارات دولار خلال السنة المالية الحالية 2024/2023 (Anadolu via AFP)

 

  • سحب بعض الاستثمارات من السوق المصرية بسبب وضع سعر الصرف: فمثلاً، أعلنت مجموعة الشايع الكويتية التي تملك نحو 90 علامة تجارية عالمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن إغلاق 60 متجراً لعلامات تجارية شهيرة وتقليص أعمالها في مصر بسبب أزمة الجنيه. ومن ناحية أخرى، تراجعت قيمة استثمارات صندوق الثروة السيادي النرويجي في الأسهم المدرجة بالبورصة المصرية بنسبة 30% نهاية عام 2023 لتسجل 134.7 مليون دولار مقارنة بـ192.4 مليون دولار في 2022.

 

  • تفاقُم الوضع السيئ للسندات الحكومية المصرية: حيث أكد بنك جي.بي مورجان أن مصر ستُستَبعَد من سلسلة مؤشراته للسندات الحكومية للأسواق الناشئة اعتباراً من 31 يناير 2024، على خلفية صعوبات تتعلق بقابلية تحويل النقد الأجنبي، ويعني خروج مصر من مؤشرات بنك جي. بي. مورجان مواجهة الحكومة المصرية لصعوبات كبيرة في طرح سندات جديدة في الأسواق الدولية أو داخلياً بالدولار، وستلجأ الحكومة إلى مضاعفة الفائدة لتعويض المستثمر الأجنبي على مخاطر عدم قدرته على تحويل أمواله للخارج، واضطراره لتحويل العملة من الداخل إلى الخارج على أساس سعر الصرف السائد في السوق السوداء. من ناحية أخرى، توقعت مؤسسة ستاندرد أند بورز استمرار تدهور أوضاع السيولة بالعملة الأجنبية لدى البنوك المصرية، حيث بلغ عجز صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك التجارية 15.8 مليار دولار في نوفمبر 2023، فيما خفَّض سيتي بنك توصيته بشأن السندات المصرية المقومة بالدولار التي أصدرتها مصر في أكتوبر 2023 إلى “الوزن السوقي”، بعد أن كان قد أوصى بزيادة وزن هذه السندات العام الماضي، مع توقع بزيادة كبيرة في أسعار الفائدة خلال الأشهر القليلة المقبلة.

 

  • تبايُن أرقام ومؤشرات التضخم الرسمية مع الزيادات المتتالية للسلع في الأسواق: إذ قفزت أسعار المواد الغذائية بنسبة 2.1% في ديسمبر2023 على أساس شهري، وبنسبة 60.5% على أساس سنوي، مع تحسُّن محدود وطفيف في بيانات التضخم الأساسي الذي انخفض إلى 34.2% على أساس سنوي في ديسمبر 2023 من 35.9% في نوفمبر 2023. ومن المتوقع أن يتسارع التضخم مرة أخرى إذا سمحت الحكومة بانخفاض قيمة الجنيه المصري على نطاق واسع، وقد رفعت الحكومة أسعار تذاكر المترو وشرائح الكهرباء وتذاكر القطارات، بالإضافة إلى رفع شركات الاتصالات تسعيرة خدماتها، وواجه الحديد والأسمنت زيادات أيضاً.

 

  • محدودية الأدوات التي يملكها البنك المركزي المصري لزيادة السيولة الدولارية حالياً في ظل تزايد معدلات استحقاق الديون، حيث سيُصدِر البنك المركزي المصري أذون خزانة دولارية بقيمة مليار دولار في بداية فبراير 2024 وسط أزمة غير مسبوقة للجنيه، ويأتي الإصدار الجديد في ظل استحقاق أذون خزانة صدرت قبل عام بقيمة مليار دولار كان العائد عليها 4.9%، فيما سيتجاوز العائد على الإصدار الجديد نسبة 5% كما حدث في إصدار أذون دولارية بقيمة 850 مليون دولار بداية يناير 2024.

 

  • تركيز وثيقة التوجهات الاقتصادية للدولة المصرية للفترة من 2024 إلى 2030 على استبدال الدين قصير الأجل بديون طويلة الأجل دون التطرق لخطط أو آليات سداد تلك الديون.

 

  • تزايُد الهجمات السيبرانية على بعض الشركات العاملة في مصر، ومن أهمها شركة “فوري”.

 

الجنيه المصري: الوضع الراهن والخيارات المستقبلية

يعاني سعر صرف الجنيه المصري من أزمة غير مسبوقة تتمثل في الارتفاع الكبير للفارق بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازية، ويمكن توضيح مؤشرات وضع الجنيه الحالي، والخيارات المستقبلية على التحو الآتي:

 

1. مؤشرات الوضع الحالي للجنيه المصري

  • استنزاف الاحتياطيات الأجنبية لتمويل العجز الكبير في الموازنة العامة، والإخفاق في التحوّل إلى نظام صرف أكثر مرونة، والاعتماد المفرط على تدفقات المحافظ الاستثمارية المتقلبة.
  • غياب الرؤية الواقعية للحكومة في التخطيط لسعر صرف الجنيه وعدم ربطه بمتغيرات السوق الموازية، حيث أكدت الحكومة في وثيقة توجهات الاقتصاد المصرية أنها تخطط لتسجيل سعر صرف للجنيه مقابل الدولار يصل إلى نحو 36.8 جنيهاً في المتوسط خلال الفترة 2024-2028، ويتوقع معظم المحللين أن تنفذ مصر ما سيكون رابع خفض لقيمة العملة منذ أوائل عام 2022 خلال الربع الأول من 2024، لكن بعض رجال الأعمال المصريين أكدوا أن مصر تحتاج إلى أكثر من مجرد تعديلات تدريجية لحل الأزمة، وأن أي محاولة لحل ازدواجية سعر الصرف من خلال طرح الدولار بسعر أقل من السوق السوداء لن تنجح، في حين يذهب بعض المحللين إلى أن “ما يحدث للجنيه لا يعدو إلا أن يكون تعاملات قليلة لخلق إقفالات مصطنعة لقيمة الدولار تماماً كما يحدث مع الأسهم قليلة السيولة”، وأن الأزمة تكمُن في السيولة الدولارية وبمجرد حلها جزئياً ستتوقف القيم الكبيرة التي وصل لها سعر صرف الدولار مقابل الجنيه، لذا فإن التخفيض المرتقب لقيمة الجنيه قد يكون أقل من المتوقع، وقد يتحقق في وقت متأخر عما يتوقعه بعض المحللين.
  • ارتفاع كبير في قيم العقود الآجلة للدولار، حيث تتداول العقود الآجلة غير القابلة للتسليم لأجل 12 شهراً عند 63 جنيهاً للدولار في الأسواق الدولية، في حين تشير تعاملات شهادات الإيداع الدولية إلى تسعير الدولار ضمنياً فوق مستوى 70 جنيهاً.
  • تجاوز الفارق بين سعر الصرف في السوقين الرسمية والموازية المعدلات المعتادة، حيث يتداول الدولار عند 70 جنيهاً في السوق الموازية، بفارق أكثر من 125% عن سعره الرسمي المستقر عند 30.95 جنيه منذ مارس 2023، وهو فارق غير مسبوق.
  • تسببت أزمة شُحّ العملة الصعبة التي تعاني منها مصر في ظهور 4 مستويات مختلفة لسعر صرف الدولار أمام الجنيه، تتمثل في السعر الرسمي في البنوك، والسوق الموازية، وسوق الذهب، وشهادة إيداع (GDR) لبنك CIB في بورصة لندن، ما يعني صعوبة في أعمال الشركات والتجار وحياة المواطنين على حدٍّ سواء.
  • تحوُّل سوق التحويلات الخاصة بالمصريين في الخارج من مصدر مهم للدولار الرسمي إلى قيادتها للسوق الموازية عبر تحويلات المصريين في الخارج للدولار في دول الخليج دون أن يتم إدخاله لمصر، وتُحدَّد أسعار السوق الموازية حسب أسعار هذه التحويلات.

 

2. الخيارات المستقبلية

تنبني الخيارات المستقبلية التي ستعتمد عليها الحكومة المصرية بالنسبة لسعر صرف الجنيه مقابل الدولار على عدد من المحددات والعوامل، أبرزها الآتي:

 

  • قدرة الحكومة المصرية على النجاح في الحصول على جزء من تمويل برنامج صندوق النقد قبل إتمام عملية التعويم من عدمه، حيث تخطط الحكومة للحصول على التمويل لإنعاش الأسواق قبل اتخاذ قرار التعويم وإتاحة السيولة الدولارية المناسبة التي تمكنها من التحكم في السوق الموازية وتوفير احتياجات المستوردين من العملة الصعبة.
  • حجم التمويل الذي سيُضاف لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، إذ تخطط مصر لرفع قيمة برنامج الإصلاح الاقتصادي من 3 مليارات دولار لتصل لحدود من 6 إلى 10 مليارات دولار.
  • حدود التعاطي مع الشروط المطروحة من صندوق النقد الدولي.
  • قدرة الحكومة على مواجهة معدلات التضخم المرتفعة والمتوقعة في حال تحرير سعر الصرف بشكل كامل، سواء على مستوى الغضب الشعبي أو الحاجة لإجراءات لمواجهة الغلاء، وتخفيف الأعباء عن الفئات الفقيرة.
  • طول مدة دورة اتخاذ القرار الخاص بتوسيع تمويل القرض، حيث لا يعد توقيع اتفاقية على مستوى الموظفين كافياً لتدفق الأموال والبدء في تسليم القرض، إذ يجب أن يحصل الاتفاق على موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، ويتضح من جدول أعمال المجلس أن الاجتماع القادم سيكون في السابع من فبراير 2024.
  • قدرة الحكومة على استعادة المصادر الدولارية المهمة للسوق الرسمية، وعلى رأسها تحويلات العاملين في الخارج، ويرتبط ذلك بالقضاء على السوق الموازية بشكل نهائي.
  • التداعيات الاقتصادية للأزمات الأمنية في المنطقة على المصادر الدولارية للقطاعات الإنتاجية المختلفة للاقتصاد المصري وعلى رأسها قناة السويس.

 

وفي إطار المحددات والعوامل السابقة، فإن الخيارات المتاحة للحكومة المصرية ستكون كالآتي:

 

الخيار الأول: خفض تدريجي لقيمة الجنيه مقابل الدولار، ليبدأ الخفض بقيم تتراوح من فوق مستوى 40 جنيهاً للدولار، وهو مستوى أقل من السوق الموازية، على أن يسبق الخفض الحصول على جزء من التمويل المتاح لمصر ضمن برنامج الصندوق بعد أن تُرفَع قيمته، لتصل إلى مستويات من 7-8 مليارات دولار، وفي هذه الحالة سيكون رهان الحكومة المصرية على قدرة السيولة الدولارية المطروحة على معالجة الخلل في السوق، مع جذب تمويلات إضافية بعد الثقة التي ستصل للأسواق نتيجة لاستمرار اتفاق الصندوق، لكن يبقى التحدي مرتبطاً بقيم التضخم المرتبطة بعملية الخفض، ومدى قدرة السيولة الدولارية على معالجة الخلل في السوق، وعودة المصادر الدولارية الأساسية للسوق الرسمية من عدمه.

 

الخيار الثاني: تحرير كامل للجنيه مقابل الدولار، ليبدأ الخفض بمستويات أسعار السوق الموازية، وذلك للحصول على أقصى زيادة ممكنة في تمويل برنامج صندوق النقد الدولي، والتي قد تصل إلى 10 مليارات دولار، والعمل على ضبط سوق الصرف وتحسين أوضاع الاستثمار، لكن ذلك سيواجه بتحدي القيم التضخمية المؤلمة التي يمكن أن تنتج عن عملية التحرير الكامل، خاصةً في ظل عدم إمكانية السيطرة على سوق الصرف في حال اُتُّبِعَ نمط سعر الصرف المرن.

 

الخيار الثالث: الإبقاء على الوضع الحالي لسوق الصرف، وعلى سعر الصرف الرسمي حتى منتصف عام 2024، مع إمكانية الاستمرار في التفاوض مع صندوق النقد حول صرف الشرائح وزيادة قيمة تمويل برنامج الإصلاح، واتخاذ إجراءات لزيادة السيولة الدولارية عبر الطروحات بهدف السيطرة على التضخم، وعدم الخضوع لمنطقة السوق الموازية لسعر الصرف، لكن ذلك سيُفاقِم من خطورة الوضع الاقتصادي في ظل الزيادات المستمرة لسوق الصرف الموازي، وصعوبة دخول استثمارات جديدة في السوق المصري.

 

ويُعد الخيار الأول الأكثر ترجيحاً في ظل عدم قدرة الحكومة المصرية على التحرير الكامل لسعر الصرف، نتيجة لعدم جاهزية سوق الصرف لهذا الأمر، بالإضافة لعدم قدرة الحكومة المصرية على التعامل مع القيم التضخمية المرتفعة للتحرير الكامل، كما أن الإبقاء على الوضع الحالي يمثل مخاطرة أكبر.

 


[1] تعمل بعثة الصندوق مع الحكومة المصرية على مراجعة مؤشرات الاقتصاد المصري، ومناقشة خطة الحكومة الاقتصادية حول كيفية إدارة سعر الصرف، من خلال تطبيق سعر صرف مرن، والتعامل مع ارتفاع فاتورة مخصصات دعم الطاقة. كما أن برنامج مصر مع الصندوق كله يحتاج إلى المراجعة، لأن المعطيات التي بُني عليها تغيَّرت، نتيجة عوامل عدة مثل حرب غزة وأزمة البحر الأحمر وتأثيرهما على الاقتصاد المصري. 

[2] تساعد سندات التوريق (أوراق مالية قابلة للتداول) الدول والشركات في تدبير السيولة بضمان أصول من الممكن توريقها، مثل العقارات أو غيرها.

[3] اعتمدت بلدان كثيرة على إصدار سندات التوريق للحصول على سيولة، لكن التوريق كان مُحركاً رئيساً للأزمة المالية العالمية في 2008، من طريق تحويل الرهن العقاري في ذلك الوقت إلى أدوات مالية أشبه بالسندات، وهو ما أودى بالعديد من المؤسسات المالية الكبرى في شتى أنحاء العالم إلى هاوية السقوط عندما انفجرت فقاعة العقارات في الولايات المتحدة.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/mustaqbal-aljunayh-almisri-fi-zili-altahadiyat-alrahina

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M