الرؤية الكونية لإسلامية المعرفة قراءة في تأصيلات العلامة الإمام محمد باقر الصدر

أحمد عبد الله أبو زيد العاملي

 

ينظر هذا البحث في إسلاميّة المعرفة من وجهة نظر المفكّر الإسلاميّ الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر الذي تميّز بقدرة قلّ نظيرها على التجديد في مختلف القضايا المرتبطة بالواقع العقائديّ والفكريّ للإنسان المسلم في واقعنا المعاصر.

مهّد الباحث لدراسته بتقديم إضاءة إجماليّة على موضوعين غالبًا ما كانا محلّ غموض والتباس في الحقل المعرفيّ الإسلاميّ المعاصر وهما: إسلاميّة المعرفة وأسلمة العلوم. وقد انتهى البحث إلى ضرورة التمييز بين هذين الموضوعين على أساس أنّ بحث إسلاميّة المعرفة يعتني بشكل مباشر بالقضايا المرتبطة بالرؤية الكونيّة التي يحملها الإنسان المسلم في تفسيره للكون والحياة، ولا يُشكّل موضوع أسلمة العلوم إلاّ فرعًا من فروعه. وفي الوقت الذي تصبّ أسلمةُ العلوم اهتمامَها على مجال البحث عن أصول إسلاميّة لما انتهى إليه الفكر الغربيّ في مجال العلوم الإنسانيّة، أو ـ بتعبير أكثر دقّة ـ على مجال عرض هذه المعطيات على الأسس المرتضاة إسلاميًّا، تركّز إسلاميّة المعرفة جلَّ جهدها على تكوين نظرة فاحصة عن هذه الأسس وتقديم تصوّر واضح حول المنهج الذي يجب اعتماده من أجل التمكّن من استخراج هذه الأصول.

«المحرّر»


يسعى هذا البحث إلى بيان عدّة مسائل:

الأولى: تحرير محلّ النزاع، والتمييز بين موضوعين مهمّين: إسلاميّة المعرفة القائمة بالدرجة الأولى على تقديم رؤية كونيّة حول العلاقة التي تحكم مثلّث: المبدأ، الإنسان والطبيعة، وبين أسلمة العلوم التي يُمكن اعتبارها موضوعًا فرعيًّا بالنسبة إلى إسلاميّة المعرفة.

الثانية: استعراض الرؤية الكونيّة المتميّزة التي بثّها الإمام محمّد باقر الصدر في مختلف كتبه ومحاضراته وموقع القرآن الكريم على هذه الخارطة، وبيان منهجه الفقهيّ الراقي القائم على ما بات يُعرف بـ (فقه النظريّة)، وهذه كلّها مباحث اعتبرها منظّرو إسلاميّة المعرفة من صميم مباحثها. ويُمكن اختزال نتائج هذا المجال بما بالآتي:

1 ـ تُعنى إسلاميّة المعرفة بالدرجة الأولى بتحديد رؤية (الأنا) الكونيّة بمعزل عن الآخر.

2 ـ تُعنى إسلاميّة المعرفة بالدرجة الثانية بتحديد موقف (الأنا) من الآخر على ضوء الرؤية الكونيّة المتقدّمة.

الثالثة: محاولة استنباط موقف الشهيد الصدر من أسلمة العلوم بالتحديد، حيث لاحظنا أنّه فكّك بين أربعة عناصر: المذهب، الأحكام (القانون)، المفاهيم والقيم، وأوضح أنّ وظيفةَ العلومِ الرئيسيّةَ هي التفسير. وقد انتهينا على ضوء ذلك إلى عدّة نتائج:

1 ـ يجب أن تتّجه أسلمة العلوم في الرتبة الأولى إلى اكتشاف المذهب في أيّ مجال تبحث فيه، وذلك عبر دراسة الأحكام وأخذ المفاهيم والقيم بعين الاعتبار أثناء عمليّة الاكتشاف والاستنباط.

2 ـ أنّ الأفكار العلميّة وإن كانت نابعة من قواعد فكريّة عادةً ـ وهي التي يُمكن أن تقابل ما يُعرف في أسلمة العلوم بـ(الباراديغم) ـ بحيث إذا كانت القاعدة فاسدة كانت الفكرة كذلك، إلاّ أنّها في بعض الحالات غير مستنبطة من القاعدة استنباطًا، وإنّما صيغت بنحوٍ لا يُعارض القاعدة، وهذا لا يستلزم بطلانها.

3 ـ أنّ الحديث عن علم إسلاميّ ـ علم اقتصاد إسلاميّ، علم اجتماع إسلاميّ، علم نفس إسلاميّ، علم تربية إسلاميّ ـ لا معنى له إلاّ في مجال اكتشاف المذهب الاقتصاديّ والاجتماعيّ والنفسيّ والتربويّ؛ لأنّ الإسلام لا يُعني بتقديم تفسير للواقع كما هو المفترض في وظيفة العلوم، وإنّما يحدّد مذهبه ويرسم مفاهيمه وقيمه.

4 ـ أنّنا إذا جوّزنا ـ لأيّ سبب من الأسباب ـ نسبة العلوم التفسيريّة إلى الإسلام، فإنّ الحديث عن العلم يقع ـ برأي الشهيد الصدر ـ بعد استنباط المذهب الإسلاميّ وتطبيقه؛ لأنّ وظيفة العلم هي تقرير السبيل السليم لتطبيق المذهب، أو دراسة الخلل الحاصل في التطبيق بعد وقوعه.

5 ـ أنّ الإسلام وإن نأى بنفسه عن اتّخاذ موقف خاص في مجال العلوم التي لا تقوم على مذهب معيّن، من قبيل العلوم الطبيعيّة الصرفة وبعض العلوم الإنسانيّة ذات الصبغة الصناعيّة المعزولة عن قاعدة فكريّة، إلاّ أنّ مشاركة المسلمين في سباق المعرفة تُكسب كيان الإسلام ـ الأمّة ـ قيمةً حضاريّة خاصّة.

الفصل الأوّل

مدخل إلى إسلاميّة المعرفة وأسلمة العلوم

يأخذ هذا المقال على عاتقه بيان موقف الإمام محمّد باقر الصدر من موضوعٍ مهمٍّ شغل الساحة الفكريّة الإسلاميّة في العقدين الأخيرين، وهو الموضوع الذي بات يُعرف بإسلاميّة ـ أو أسلمة ـ المعرفة.

وحيث إنّ تحرير محلّ النزاع وبيان هويّة المسألة المبحوث عنها أمرٌ ضروريٌّ لا محيص عنه ـ خاصّة أنّ الموضوع المشار إليه لم يدخل بعدُ وبالحدّ الوافي في القاموس الثقافيّ للجمهور المسلم ـ، كان حريًّا بنا أن نقدّم لموضوعنا بمقدّمة موجزة تضعنا في أجواء البحث وبيئته، لنقف قبل أيّ شيء على أبرز مفاهيمه ومفاصله، الأمر الذي سيعيننا في مرحلة لاحقة على اكتشاف موقف الشهيد الصدر من هذا الموضوع المهمّ في مختلف مفاصله وجوانبه.

ثمّة أسباب عامّة متّفق عليها تكاد تشكّل الإطار الوسيع الذي ولدت في رحمه مسألة إسلاميّة المعرفة، وهي تتمثّل بشكل رئيس في الأزمة التي عاشها الإنسان المسلم إثر انسحاب الإسلام عن الساحة بعد هيمنة المستعمر الغربيّ على بلاد المسلمين، وهو الذي استولى بدايةً على مقدّرات المسلمين وثرواتهم، ثمّ ما لبث أن مارس هيمنته على فكرهم وثقافتهم، ليستغني في كثيرٍ من محطّات المرحلة المعاصرة عن الهيمنة العسكريّة المباشرة، مكتفيًا بالهيمنة الثقافيّة التي وجد أنّها تؤمّن له ـ على المدى الطويل ـ حاجاته السياسيّة والاقتصاديّة، وتحافظ له في الوقت نفسه على ماء وجهه وتعفيه من المساءلة أمام مفاهيم الديموقراطيّة التي غزا باسمها بلاد المسلمين.

ومن الطبيعي أن تكون لهذه الأزمة جذور أبعد من مرحلة الاستعمار، تبدأ ـ كما أرّخ لها البعض ـ بانفصام القيادة إلى فكريّة وسياسيّة[2] في القرون الهجريّة الأولى، ولكنّ تفاقم هذه الأزمة ظلّ كُمُونيًّا إلى أن تعاظم بشكل جدّي بعدما شُرّعت أبواب العالم الإسلاميّ أمام فكر الغرب وثقافته في أواسط القرن الثامن عشر الميلاديّ[3].

إثر تراجع الإسلام وانحساره عن الساحة وتقدّم الاستعمار على حسابه تنوّعت ردود فعل المسلمين تجاه هذا الواقع الجديد الذي كانت بيادقه تتحرّك بإرادة المستعمر، وإذا استثنينا من حديثنا الشريحة المتماهية مع الوضع الجديد المندمجة في بوتقته، فإنّ من الطبيعيّ ـ من ناحية سيكولوجيّة ـ أن يُقابل الرافضون لعمليّة الاندماج هولَ الحملة بالانكفاء على ذاتهم والتشبّث بكلّ ما يرتبط بتراثهم ويعزّز وجودهم ويُبرز هويّتهم، وهذا ما لم نزل نعايشه في ساحتنا الفكريّة والثقافيّة إلى يومنا هذا.

إلاّ أنّ الساحة الإسلاميّة لم تخلُ من قادة كبار آمنوا برسالتهم الإسلاميّة ودافعوا عنها بيدهم وعقلهم، فتصدّى بعضهم لجنود المستعمر في ساحات الصراع العسكريّ، بينما تفرّغ آخرون لمقارعة الاستعمار في ساحة الفكر والمعرفة.

وتنامت بالتدريج محاولات التحرّر من براثن المستعمر في المجالين السياسيّ والثقافيّ، ولمعت في الساحة الإسلاميّة شخصيّات عدّة شكّلت بسلسلتها غير المنقطعة تيّارًا متمايزًا عُرف بتيّار الإصلاح أو التجديد، الذي حمل ضمن أهمّ مرتكزاته لواءَ النهوض بواقع الأمّة الإسلاميّة في المجالين السياسيّ والثقافيّ لترقى إلى المسؤوليّة التي فرضتها الأوضاع الجديدة.

ومن الضروريّ أن ننبّه هنا إلى أنّ دعاة الإصلاح والتجديد ـ على اختلاف مدارسهم الفكريّة وتنوّعها ـ لم يتّفقوا على المزاوجة بين الجانبين السياسيّ والثقافيّ، بل تباينت وجهات النظر تجاه مسألة الحكم، فبينما تبنّى بعضهم ضرورةَ الرقيّ بالإسلام إلى مرحلة الحكم ليتمكّن من الإشراف من موقع القوّة على تطبيق دساتير الإسلام وتسييل مفاهيمه ونظريّاته في المجتمع الإسلاميّ، أولى آخرون اهتمامهم الكامل أو الأوفر بالنهوض بالفكر والثقافة والتربية، باعتبار أنّ الحكم لا يعدو كونه ثمرة من ثمار معايشة الإسلام في وعي المسلمين وعواطفهم في مرحلة سابقة. هذا إذا اكتفينا بهذين التيّارين وأهملنا التيّار الذي لا يعتقد أساسًا بالإسلام منظومةً للحكم والإدارة، بل يقتصر دوره على التربية والتثقيف.

والذي يهمّنا من هذا التقديم أنّ المسلم الذي كُتبت له النجاةُ من الانزلاق مع التيّار الاستعماريّ الجارف والسلامةُ من التماهي مع أطروحته لم يسلم على كلّ حال من أزمة العجز التي عاشها وهو يواجه المارد الغربيّ بأطروحته وثقافته الغازية، فتملّكه شعورُ العجز والإحباط والانكفاء. وبدل التفكير في سبل إعادة النهوض، توجّهت شرائحُ من هذه الأمّة إلى تعظيم التراث وتهويله في محاولةٍ لتعويض الشعور بالعجز وردم هوّة التكافؤ بينها وبين الثقافة الوافدة، فتعاظمت المشكلة من ناحية أخرى، واستحالت عثرةً في طريق المصلحين الذين كتب لهم أن يواجهوها لاحقًا خارج حلبة الصراع مع المستعمر.

ومع ذلك فإنّنا لا نريد أن نوحي خطأً بأنّ الاستعمار الغازي ينفرد في تحمّل مسؤوليّة تخلّف المسلمين وانكفاء الإسلام عن ميادين الحياة؛ لأنّ مشكلة الانحسار هذه قد تُعزى ـ في جزء كبيرٍ منها، بل ربما الأكبر ـ إلى المسلمين أنفسهم، وإلى عوامل ضعفٍ داخليّة بمعزل عن عنصر التدخّل الخارجيّ، ولكنّ الأزمة التي ولّدها الاستعمار قد هيّأت ـ على ما يبدو ـ الفرصة المؤاتية لمراجعة الحساب والتفكير في إعادة النهوض.

وفي نصٍّ يسجّل فيه تقسيمه الرباعيّ للمراحل التي عاشتها الأمّة الإسلاميّة، يسجّل الدكتور فهمي جدعان تحفّظه على الفكرة الأخيرة، رابطًا «الأزمنة الحديثة العربيّة» بابن خلدون لا بمدافع نابليون، فيقول: «ومن شأن هذا التقدير أن يقرّ في الأذهان فكرةً تبدو لي صادقةً تمامًا، وهي أنّ الأزمنة الحديثة العربيّة تبدأ مع ابن خلدون بالذات، لا مع مدافع نابليون التي يقال عادةً إنّها أيقظت مصر والعالم العربيّ من السبات العميق الذي كان يلفّهما. والمبدأُ النظريّ في هذه المسألة أنّ المراحل الثقافيّة الاجتماعيّة التي مرّ بها تاريخ الإسلام والعرب إلى عصرنا الراهن ترتدّ إلى أربع مراحل أساسيّة هي: 1 ـ مرحلة التنوير الدينيّ وبناء الحضارة. 2 ـ مرحلة التوقّف الحضاريّ والتوازن. 3 ـ مرحلة اختلال التوازن والانحطاط. 4 ـ مرحلة اليقظة والنهوض »[4].

وقد احتلّت المرحلة الأولى برأيه القرون الهجريّة الأربعة الأولى، وذلك مع ظهور الإسلام وتوسّع حضارته مع احتلال الآداب والفنون والعلوم الدينيّة والفقهيّة والكلاميّة والفلسفيّة والطبيعيّة مكانة مرموقة. وفي المرحلة الثانية التي يقف في قلبها الماورديّ توقّف التوسّع الحضاريّ وبدت فيها صورة الدنيا والآخرة مكتملة متوازنة أو مدعوّة إلى الحفاظ على مركّب واضح من الاكتمال والتوازن. وفي المرحلة الثالثة التي تبدأ مع الغزّالي تختلّ الصورة التي رسمها الماورديّ وتبدأ الأمور ـ مع القرن السادس ـ بالاتجاه نحو الاضمحلال من خلال ركود الفعاليّات الاجتماعيّة النشطة لصالح النزعات الصوفيّة المنعزلة عن العالم الخارجيّ. وتبدأ المرحلة الأخيرة مع ابن خلدون الذي وضع حدًّا لحالة الانحطاط الفكريّ الحضاريّ، وشكّل بدايةً لمرحلة الوعي الذي أصبح الهمّ الأكبر لمن جاء بعده. وقد تزامنت ظاهرة ابن خلدون مع استعمار الغرب للشرق الذي ولّد حالةً من التوتّر الثقافيّ والعقليّ النامي باستمرار، والذي ما زال فيه البحث عن الذات وتحديد الهويّة الشاغل الأكبر إلى أيّامنا الراهنة.

ومع قطع النظر عن السبب الحقيقيّ الذي دقّ نواقيس النهضة، سواءٌ أكان داخليًّا بفعل استيقاظ المسلمين أنفسهم بأنفسهم، أم خارجيًّا بفعل حوافر خيول الغازي، أم مركّبًا من الاثنين، فإنّ القرون الأخيرة شهدت ـ باتّفاق الجميع ـ تحرّكًا نحو إعادة النهوض وتحديد الهويّة.

وإذا بقينا مع المرحلة التي بدأ فيها احتكاك المسلمين بالحضارة الغربيّة الوافدة، فإنّ بالإمكان تقسيمها ـ بحسب الدكتور علواني ـ إلى ثلاث مراحل[5]:

1 ـ مرحلة الصدمة الأولى والانبهار المباشر، وهي المرحلة التي زلزل فيها المسلمون عن مواقعهم الفكريّة والثقافيّة، وفقدوا ثقتهم بفكرهم الإسلاميّ وثقافتهم الموروثة، وخيّل لهم أنّ الفكر الإسلاميّ عاجزٌ عن بناء حضارة.

2 ـ مرحلة التقاط الأنفاس واستقرار النفوس، وهي التي بدأ المسلمون فيها بمراجعة مواقفهم والنظريّات الغربيّة، حيث بدأ الإسلام ينفذ من جديد إلى العقول والقلوب المسلمة، فبرزت مقولات من قبيل: ديموقراطيّة الإسلام واشتراكيّته، وحقوق العمّال والمرأة في الإسلام… إلخ.

3 ـ مرحلة الصحوة الإسلاميّة واكتشاف الذات والوعي بها. وهي المرحلة التي بدأت فيها الصحوة من كابوس الاستلاب الفكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ، والتي تميّزت بتأكيدها على تميّز الإسلام عن الأنظمة الغربيّة التي كان المسلمون منبهرين بحضارتها.

انبعاث أطروحة إسلاميّة المعرفة:

إنّنا وإن لم نكن بصدد التأريخ لولادة مصطلح (إسلاميّة المعرفة) أو (أسلمة المعرفة)، إلاّ أنّ من الواضح أنّ هذا المصطلح قد اقترن بنشأة المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ الذي تبنّى هذه الأطروحة وروّج لها بشكل مركّز، وأصدر بهذا الصدد ورقته المعروفة (إسلاميّة المعرفة.. المبادئ العامّة، خطّة العمل، الإنجازات)، والتي أوضح من خلالها مبادئه وأهدافه وخطوات عمله. وقد ألقي الجزء الأكبر من مهمّة صياغة هذا المشروع على عاتق الدكتور إسماعيل الفاروقي، ولا زالت صيغة إسلاميّة المعرفة بالصورة التي قدّمها الدكتور الفاروقي عام 1982م ـ كما يعتقد بعض الباحثين ـ أَقْوَمَ الصياغات التي يمكن أن توجّه جهود إسلاميّة المعرفة[6]، ومن هنا رأينا أنّ من المناسب اتّخاذها أساسًا للمقارنة في دراستنا هذه.

ولكن ليس من الإنصاف أن نعتبر انطلاقة المعهد العالميّ انطلاقًا للفكرة نفسها؛ لأنّه عبّر في الحقيقة عن الخطوة العمليّة لحلم علاج الأمّة من أمراضها، والتي عاشتها الحالة الإسلاميّة بشكل قويّ منذ مطلع القرن العشرين، وتأصّلت في النصف الثاني منه.

ومن هنا فإنّنا إذا ألقينا نظرة عابرة على الأعداد السبعينيّة لمجلّة (المسلم المعاصر)، والتي ساهمت ـ بلا شكّ ـ في انبعاث فكرة المعهد العالميّ، فسنلاحظ حضور فكرة إسلاميّة المعرفة بمعنونها وإن غابت العناوين، هذا فضلًا عن حضورها بالعنوان بمقالاتها الثمانينيّة[7]، ويكفي أن نلقي نظرة على الأعداد العشرة الأولى لنلاحظ مجموعة من العناوين المندرجة في هذا السياق.

وقد ذكر بعضُ من أرّخ للفكرة أنّ كتابات السيّد حسين نصر في أواخر الخمسينات اشتملت على أنّ كلّ معرفة ليست إسلاميّة يُمكن أن تدمج في المنظور الإسلاميّ للعالم وتصبح إسلاميّة[8].

وعلى كلّ حال، فقد كانت فكرة المعهد قد بدأت مع ثلّة من الشباب المسلم في الغرب، الذين جمعتهم وحدة الهمّ إلى التنادي لعقد ندوة موسّعة في أوروبا عام 1976م جمعتهم بثلاثين عالمًا من علماء العالم الإسلاميّ المعروفين، وقد انبثق عن هذا اللقاء تأسيس المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ الذي لا زال فاعلًا في هذا المجال إلى يوم كتابة هذه السطور، وقد عقد المعهد مؤتمره الأوّل حول إسلاميّة المعرفة عام 1982م في باكستان[9].

وقد تحدّدت الغاية المنشودة للمعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ من خلال «العمل في المجال الفكريّ والثقافيّ الإسلاميّ، والمساهمة في إنماء المعرفة الإسلاميّة وإعادة بناء كيانها ومناهجها وإعطائها الأولويّة التي تستحقّها في هذه المرحلة كشرط ضروريّ مسبق لإنجاح الجهود الإسلاميّة في إعادة البناء ومتابعة المسيرة. والغاية تقديم تصوّرات متكاملة للمعرفة ومصادرها الإسلاميّة»[10].

وقد اختصر المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ في ورقته التأسيسيّة المبادئ الأساسيّة التي يجب تفهّمها وتمثّلها ومراعاتها إطارًا ومنطلقًا وأساسًا للفكر الإسلاميّ والمنهجيّة الإسلاميّة وللعمل والممارسة الإسلاميّة الحياتيّة: التوحيد، وحدة الخلق (النظام الكونيّ، الخليقة، تسخير الخليقة للإنسان)، المعرفة ووحدة الحقيقة، وحدة الحياة (الأمانة الإلهيّة، الخلافة، الشموليّة)، وحدة الإنسانيّة، تكامل الوحي والعقل، الشموليّة في المنهج والوسائل[11].

ثمّ لخّص المعهد أهداف خطّته بالآتي: توعية الأمّة على الأزمة الفكريّة؛ تحديد معالم العلاقة بين قصور الفكر الإسلاميّ وقصور منهجيّته من ناحية، وبين غياب الأمّة ومؤسّساتها ونظمها وتخلّفها علميًّا وثقافيًّا وحضاريًا من ناحية ثانية، وبين ذلك القصور وبين ضعف الأمّة وفشل جهودها في التحرّر والتقدّم من ناحية أخرى؛ تفهّم طبيعة أزمة الفكر الإسلاميّ المعاصر وأسبابها وسبل مواجهتها؛ العمل على تجديد فكر الأمّة وتجديد طاقاته وتطوير مناهجه؛ العمل على تأصيل شموليّة المنهج الإسلاميّ في ميدان الدراسات الاجتماعيّة والإنسانيّة؛ تمكين الفكر الإسلاميّ من استيعاب التراث الإسلاميّ والعلوم الحديثة؛ تقديم الأبحاث والدراسات والكتب المنهجيّة بقصد إرساء أسس العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة الإسلاميّة؛ إعداد الكوادر العلميّة اللازمة لريادة مجالات إسلاميّة المعرفة[12].

أمّا خطوات العمل اللازمة لتحقيق الأهداف المتقدّمة فتتلخّص بالآتي: التوعية، بلورة منطلقات الفكر الإسلاميّ ومفاهيمه ومناهجه، التمكّن من التراث وتمكين المثقّف المسلم من أصول الفكر الإسلاميّ ونفائس التراث[13].

وقد تعرّضت أطروحة الفاروقي لنقد من قبل بعض الباحثين، وقد اعتمد أسلوب النقد الهازئ، وقد طُرح تساؤل مفاده أنّه هل هذه العمليّة هل هي أسلمة للمعرفة أم تغريب للإسلام؟ باعتبار أنّها ـ بالصورة التي قُدّمت بها ـ قد أخذت بعيدة عن فكرة في غاية الأهميّة، وهي أنّ إبستمولوجيّة العلم الغربيّ هي التي صاغت العالم الحديث، في حين إنّه يجب على أيّ برنامج خاصّ بأسلمة المعرفة أن يراعي هذا الأمر الأساسيّ. وبعد التأكيد على بطلان القول بعدم اشتراك العلوم الاجتماعيّة والعلوم الطبيعيّة، أكّد الناقد ـ الدكتور ضياء الدين سردار ـ على أنّ من المسلّم به أمور:

1 ـ أنّ الإدراك الحسّيّ لا يعتبر مفهومًا حياديًّا بقدر ما تخضع بنيته لكلٍّ من التصنيفات اللغويّة ومواقف الملاحظين العقليّة ومصالحهم.

2 ـ أنّ التصنيفات التي نظّمت عن طريق التجربة وعرفت بدورها بوصفها تشريعات للحقيقة وللشرعيّة تعكس قيم ومصالح مجموعات مختلفة في أوقات مختلفة من التاريخ.

3 ـ لا يتلقى الإنسان الحقيقة بوصفها معطى غير مؤوّل، بل بوصفها شيئًا توسَّطَه أو بناه الباراديغم (النمط الفكريّ).

وبما أنّه لا بدّ أن يخضع الباحث لهذا الباراديغم، فلا يكون لإنتاجه أيّ قيمة خارج إطاره، فكيف يُتاح للباحث المسلم أن يعمل خارج إطار هذا الباراديغم ويركّب علومه في الوقت نفسه مع علوم الباحثين الاجتماعيّين الغربيّين؟![14] ولهذا اعتبر الدكتور محمّد فاروق النبهان أنّ المعارف العلميّة الغربيّة لا يُمكن أن تكون أساسًا لإنتاج معرفة إسلاميّة؛ لأنّها نشأت في ظلّ مجتمع غربيّ له ظروفه وبيئته وقيمه وحضارته الخاصّة[15].

وقد لخّص بعضهم هذه الباراديغمات بالآتي: (1) الدنیویّة أو الإخلاد إلی الأرض. (2) العقلانيّة المفرطة. (3) عقدة استعلاء الغرب على بقيّة الأجناس. (4) البراغماتيّة المطلقة واستبعاد الأخلاق. (5) دراسة العلوم الاجتماعيّة على أساس العلوم الطبيعيّة[16].

كما تعرّضت هذه الأطروحة ـ وبعيدًا عن الفاروقي نفسه ـ إلى نقد قسّم اتّجاهات أسلمة العلوم إلى ثلاثة اتّجاهات:

الاتِّجاه الأوَّل: وهو الاتجاه المعتدل وأخطر هذه الاتّجاهات، والذي يدعو أصحابُه إلى الاستعانةِ بالقواعد الفقهيَّة والمنهجيَّة الأصوليَّة وتطبيقها في العلوم الاجتماعيَّة وعرْض نَتائج العلوم الاجتماعيَّة على عُلَماء الدِّين، وإقامة جسر بينهما.

الاتّجاه الثاني: اتّجاه يغلب عليه صِفةُ السطحيَّة والوصوليَّة.

الاتّجاه الثالث: وهو الاتّجاه الذي تطرَّف إلى الحدِّ الذي دعا فيه إلى نقد التراث ومراجعة الدِّراسات التي بُنِيت على القرآنِ والسُّنة وتجديدها، مع استِبعاد مفاهيمِ الحقِّ والباطل، والإيمان والكُفر.

ثمّ حسب الناقد أنّ هذه الاتّجاهات الثلاثة تتّسم بسمة الاستعلاء على الكتاب والسنّة، وتكمن خطورتها بأنّها توحي بأنّ الشريعة لم تتمّ، وأنّها تعتبر معاندةً للشرع ومضاهاة للشارع، إلى غير ذلك من مظاهر الخطورة[17].

ساحات التأصيل المعرفيّ والمشكلات التي ينبغي علاجها:

اعتبر بعض الباحثين أنّ من المشكلات الأساسيّة التي كان لها دورٌ بارز في قطع شرايين الإمداد الفكريّ لشجرة المعرفة والشخصيّة الحضاريّة الإسلاميّة وبتر جذور النماء في أصولها: مشكلة علاقة العقل بالنقل، وتربّع الفقه ـ المستند إلى عنصر النقل ـ على كرسيّ توليد المعرفة والثقافة الإسلاميّة وتقديم البدائل الحضاريّة الإسلاميّة للأمّة في مواجهة أعدائها[18]. ولهذا جاء في اقتراح الدكتور أبو سليمان أن يكون العمل على ثلاثة محاور:

1 ـ تصحيح علاقة العقل بالوحي في الفكر الإسلاميّ.

2 ـ إعادة رسم وفهم مجال المعرفة والاجتهاد ودور الفقيه في الصورة الجديدة للمعرفة، والتفرقة بين الاجتهاد والإفتاء في الفكر الإسلاميّ المعاصر.

3 ـ إعادة بناء خطّة منهج التربية والتعليم الإسلاميّ بحيث تنتهي ازدواجيّة المعرفة العقليّة والاجتماعيّة والذبذبة القانونيّة، وازدواجيّة القيادة السياسيّة والفكريّة[19].

ويُمكننا ونحن نلاحظ أطروحات الدكتور العلواني على سبيل المثال ـ وهو أحد المشاركين الأساسيّين في هذا المشروع ـ أنّه وزّع مسؤوليّة التأصيل المعرفيّ على ساحتين[20]:

الساحة الأولى: ساحة المنهج؛ فإنّ للمسلم منهجًا خاصًّا في استقاء معارفه يختلف عن منهج الإنسان الغربيّ الذي ينطلق من الفروض ويصل إلى عقيدته عبر عمليّة الفرض والحذف. وقد اعتبر أنّ المسلم يمتلك مصدرين لاستقاء المعرفة:

الوحي: الشامل للقرآن والسنّة؛ ففي الموارد التي حدّد فيها الوحي موقفه من مختلف الملفّات والموضوعات بشكل مباشر ليس للمسلم أن يستقلّ وينتهج منهج الفرض والحذف الذي ينتهجه الغربي.

العقل: وهو المصدر المعرفيّ الذي يلي المصدر الأوّل في المساحات التي لم يحدّد فيها الوحي موقفه بشكل مباشر. وبطبيعة الحال ليس المرادُ استقلالَ العقل بالمصدريّة في مقابل الوحي، بل الاحتكام إلى العقل في ممارسة الاجتهاد لتحديد الموقف الوحيانيّ؛ ولهذا فالمجتهد ينسب رأيه الاجتهاديّ إلى الشريعة ويعتبر الموقف الذي خرج به معبّرًا عن موقفها.

الساحة الثانية: ساحات الملفّات؛ حيث إنّنا ـ بعد تحديدنا للمنهج ـ نواجه ملفّات كثيرة جدًّا وشائكةً ساخنةً يتوجّب علينا أن نقوم بتحديد الموقف منها، من قبيل معضلة العقل والنقل، السببيّة، التأويل، الجبر والاختيار، التقليد والاجتهاد…

وقد حدّد الدكتور العلواني في كتاب آخر له قواعد الإنتاج المعرفي في إطار إسلاميّة المعرفة ومنظورها، وهي: (1) إعادة بناء الرؤية الإسلاميّة المعرفيّة القائمة على مقوّمات التصوّر الإسلاميّ الصحيح وخصائصه؛ (2) إعادة فحص وتشكيل وبناء قواعد المنهجيّة الإسلاميّة على ضوء المنهجيّة المعرفيّة القرآنيّة؛ (3) بناء منهج للتعامل مع القرآن باعتباره مصدرًا للمنهاج والشرعة والمعرفة؛ (4) بناء منهج للتعامل مع السنّة النبويّة المطهّرة بالاعتبار السابق؛ (5) إعادة دراسة التراث الإسلاميّ وفهمه وقراءته قراءة نقديّة تحليليّة معرفيّة تخرجنا من دائرة الرفض المطلق أو القبول المطلق أو الانتقاء العشوائيّ؛ (6) بناء منهج للتعامل مع التراث الإنسانيّ المعاصر[21].

وقد حضرت في كتابات الدكتور العلوانيّ وغيره فكرةٌ تعتبر في صميم بحث إسلاميّة المعرفة، وهي فكرة (الجمع بين القراءتين). ويُقصد من القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون. وتقوم فكرة الجمع بينهما على أنّ الكون يمثّل كتاب الله تعالى المادّيَّ المجسّم، بينما القرآن الكريم هو الكتاب المنزل، وفي كلّ واحد من الكتابين مؤشّرات تهدي إلى الكتاب الآخر، ولهذا على الإنسان أن يقرأ في كتاب الكون ليهتدي إلى القرآن الكريم، ويقرأ في الكتاب الآخر ـ القرآن الكريم ـ ليهتدي إلى الكون. ويؤكّد أصحاب هذا الاتّجاه على ضرورة الجمع بين القراءتين، وأنّ التطوّر إذا كان في كتاب الكون وحده ـ كتطوّر الفراعنة مثلًا ـ فهو خطأ، وكذلك حال التطوّر في قراءة كتاب الوحي بمعزل عن الواقع وكتاب الكون[22].

ويستند هذا الفريق ـ أو يستشهد أو يأنس ـ إلى الآية الكريمة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[23]؛ إذ تدلّ على أمرين بقراءتين؛ ولكلٍّ منهما معناها المراد بها[24]. ومن هنا عَنَتْ إسلاميّة المعرفة ـ في ما عَنَته ـ الربط بين الدين والعلم، بين الوحي والكون، بين الغيب والشهادة[25].

تنوّع مصطلحات أم تنوّع مفاهيم؟!

يقرّر الدكتور جمال الدين عطيّة أنّه قد دارت مناقشات حول مختلف المصطلحات التي استخدمت في مجال إسلاميّة المعرفة:

1 ـ فعبّر بعض الباحثين بـ(الأسلمة) ترجمةً لكلمة (Islamization)، ويعبّر هذا المصطلح ـ كما هو واضح من تركيبته اللغويّة ـ عن حركة وعن عمليّة تغيير شيء من وضعٍ إلى آخر.

2 ـ بينما ايتعمل بعض آخر كلمة (إسلاميّة) ترجمةً لكلمة (Islamism)، ويعبّر هذا المصطلح عن حالة ثابتة يصل إليها الموضوع بحيث يصبح مذهبًا.

3 ـ التأصيل الإسلاميّ ـ أو التوجيه الإسلاميّ ـ للعلوم الاجتماعيّة، وهو المصطلح الذي درجت عليه جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة.

4 ـ المدرسة الإسلاميّة، وهو المصطلح الذي فضّله الدكتور يوسف القرضاوي[26].

وقد عرّف التأصيل الإسلاميّ للعلوم الاجتماعيّة بأنّه «تأسيس لتلك العلوم على ما يلائمها في الشريعة الإسلاميّة من أدلّة نصّيّة أو قواعد كلّيّة أو اجتهادات مبنيّة عليها. وبذلك تستمد العلوم الاجتماعيّة أسسها ومنطلقاتها من الشريعة الإسلاميّة، ولا تتعارض في تحليلاتها ونتائجها وتطبيقاتها مع الأحكام الشرعيّة، ولا يعني بذلك بطبيعة الحال أن تدخل العلوم الاجتماعيّة في إطار العلوم الشرعيّة، وإنّما المهمّ ألّا تتعارض معها»[27].

لكن هل تعتبر هذه المصطلحات عناوين مختلفة لمعنون واحد، أم أنّ تنوّعها يعبّر عن تنوّع المعنونات والمفاهيم؟!

لسنا في هذا المقال بصدد الدخول بشكل مفصّل في هذا الموضوع، ولكنّه موضوع من الأهمّيّة بمكان. ونحن نعقد هذه المقدّمة أساسًا لتحرير محلّ النزاع. ومن هنا نقول ـ على نحو الاختصار: إنّنا إذا لاحظنا مختلف الكتابات التي تناولت الموضوع فسنواجه ـ بلا شكّ ـ تنوّعًا في المفاهيم المطروحة، أو على الأقلّ: تنوّعًا في مستوى الطموح، وليس الاختلاف اختلافًا في التعبير اللفظيّ فحسب. وإذا كان مشروع المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ هو المشروع الأساس في مجال إسلاميّة المعرفة، فإنّ الورقة التأسيسيّة التي أعلن من خلالها عن انطلاقة مشروعه لم تحدّد بشكلٍ كافٍ موقفها ممّا يُمكن أن يختلط مع أصل المشروع، وهو مسألة أسلمة العلوم بالمعنى السلبيّ الذي يقع الإسلام فيه موقع المتأثّر لا المؤثّر.

ففي حين نلاحظ أنّ (إسلاميّة المعرفة) ـ بالمعنى الذي لخّصناه سابقًا، والذي جاء في المشروع التأسيسيّ للمعهد العالميّ ـ يُعنى أوّلًا بتجلية اقتدار الإسلام وشموليّته وقدرته على قيادة الحياة من موقع القويّ، نلاحظ أنّ (أسلمة العلوم) جاءت على لسان أحد أصحاب مشروع المعهد نفسه لتعبّر عن معنىً أقلّ رونقًا مرتبطًا بالجانب الميدانيّ أكثر من ارتباطه بالجانب التنظيريّ؛ فقد عرّف الدكتور إسماعيل الفاروقي ـ في مشاركته في المؤتمر الدوليّ الأوّل عن أسلمة العلوم المنعقد بإسلام أباد سنة 1982م ـ أسلمة العلوم بأنّها «إعادة صياغة العلوم في ضوء الإسلام.. وإعادة صياغة المعلومات وتنسيقها وإعادة التفكير في المقدّمات والنتائج المتحصّلة منها وتقويم الاستنتاجات التي انتهى إليها، وإعادة تحديد الأهداف، على أن يكون كلّ ذلك بطريقة تجعل فروع المعرفة المختلفة تثري التصوّر الإسلاميّ وتخدم أهداف الإسلام»[28].

وقد عرّفت (أسلمة العلوم) أيضًا بأنّها إقامة العلاقة الصحيحة بين الإلهيّ والإنسانيّ في العلوم والمعارف وفق منهجيّة إسلاميّة رشيدة تلتزم معايير الوحي، وتتمثّل مقاصده وقيمه وغاياته اعتمادًا على كتاب الوحي وكتاب الكون[29].

وربما يلتئم مع هذا المعنى ما ورد في مشروع التأصيل الإسلاميّ للعلوم، الذي ينبغي حمله على معنى إخضاع هذه العلوم للأصول الإسلاميّة الثابتة، أي القرآن الكريم والسنّة، لا على معنى ردّ هذه العلوم إلى أصولها الإسلاميّة،؛ باعتبار أنّه قد لا يكون لكثير منها أصلٌ إسلاميّ[30].

صحيحٌ أنّ أسلمة العلوم ليست ـ كما يقول الدكتور قرضاوي ـ تزيينًا للكتاب بآية أو رواية[31]، إلاّ أنّها لا تعبّر ـ بالمعاني الأخيرة ـ عن مستوى القوّة الذي تجلّى في الورقة الأساسيّة للمعهد العالميّ، بل لا تعدو كونها لازمًا من لوازم المشروع أو تجلّيًا من تجليّاته، ولا تعبّر عن سعة الطرح وقوّته.

ومقصودنا من هذا التمييز هو أنّنا إذا بقينا مع إسلاميّة المعرفة بالمعنى الواسع الذي لخّصناه في بداية هذا المقال، فقد تكون «إعادة صياغة العلوم في ضوء الإسلام» أو «إقامة العلاقة الصحيحة بين الإلهيّ والإنسانيّ في العلوم وفق منهجيّة إسلاميّة» أو «التأصيل الإسلاميّ للعلوم الاجتماعيّة» خطوةً من خطوات المشروع أو مظهرًا من مظاهره، ولكنّها لا تعبّر ـ في نهاية المطاف ـ عن سعة الأطروحة وشموليّتها، ولا تعكس مركز القوّة المتجلّي فيها، فتكون إسلاميّة المعرفة أكثر أصالةً من أسلمة العلوم وتأصيلها، ولعلّ الضيق المنعكس في تعريف (أسلمة العلوم) ناجمٌ عن ضيق مفهوم (العلم) وعدم شموله لكلّ ما تشمله (المعرفة) الواردة في تعريف (إسلاميّة المعرفة).

هذا إذا قطعنا النظر فعلًا عن الموقف من (أسلمة العلوم) نفسها؛ فقد نتبنّى المعنى الوسيع لإسلاميّة المعرفة ونرفض المعنيين الأخيرين لأسلمة العلوم، ولا ملازمة بين الأمرين؛ لأنّهما لا يعبّران عن لازمين من لوازم المشروع بالمعنى المنطقيّ للكلمة، وهذا بحثٌ لا يسعنا الدخول فيها في هذه العجالة.

إذًا، نكاد نميل إلى أنّ أسلمة العلوم إن لم تكن مباينةً لإسلاميّة المعرفة، فإنّها تعبّر عن خطوة ميدانيّة من خطواتها وفرع من فروعها، ولا تعبّر عن شموليّة طرحها. إنّ إسلاميّة المعرفة تُعنى بالدرجة الأولى بالأنا بعيدًا عن الآخر، بخلاف أسلمة العلوم التي تركّز بشكل رئيس على صورة الآخر في عين الأنا، أو كيف تبدو الأنا بلباس الآخر.

الفصل الثاني

إسلاميّة المعرفة عند الإمام محمّد باقر الصدر

مشروعيّة البحث:

قبل تحديد موقف الإمام محمّد باقر الصدر من إسلاميّة المعرفة، علينا بدايةً أن نجيب عن تساؤل قد يطرأ على ذهن القارئ، وهو السؤال عن معنى هذا التحديد أساسًا؛ إذ لو كانت إسلاميّة المعرفة قد انطلقت في أوائل الثمانينات، أي بعد استشهاد الصدر سنة 1980م، فما هو مبرّر البحث عن موقفه من مسألة تأخّر ظهورها عنه زمانيًّا؟

ولسنا بحاجة هنا إلى الإطالة في تبرير خطوتنا هذه؛ لأنّ المشاريع الفكريّة لا تولد بصورة دفعيّة بحيث يُمكن التأريخ لها بنحوٍ حدّيّ، وإذا كان بإمكاننا تحديد التأريخ الدقّي لمشروع إسلاميّة المعرفة باعتباره مشروعًا تمّ الإعلان عنه في مكان وزمان محدّدَين، إلاّ أنّ الفكرة التي جاء المشروع ليعبّر عنها قد سبقته بولادتها التدريجيّة، وقد كانت ـ ابتداءً من الخمسينات على أقلّ تقدير ـ حاضرة في وجدان الحركات الإسلاميّة بمختلف أطيافها وانتماءاتها وممثِّلةً أحدَ همومها.

وعلى هذا الأساس، لم يكن من الغريب أن يكون الشهيد الصدر قد تعرّض في كتاباته ومختلف آثاره لجوانب هذه الفكرة بعيدًا عن إطارها التنظيميّ الذي ولد مع الإعلان عن مشروع المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ بالذات سنة 1982م.

إضافةً إلى أنّ فكر الشهيد الصدر الإبداعيّ ـ بطبيعته ـ فكرٌ سابقٌ لزمانه في كثيرٍ من مجالاته، بحيث قد يعيش همًّا لم تعشه الأمّة في زمانه، وإنّما استيقظت عليه لاحقًا.

المرحلة التي ينتمي إليها الشهيد الصدر:

إنّ من المنطقيّ أن يتأخّر جوابنا عن سؤال المرحلة التي ينتمي إليها الشهيد الصدر إلى آخر البحث، وذلك ريثما تتبيّن لنا معالم أطروحته. لكن بإمكاننا أن نمنح أنفسنا استثناءً منطقيًّا ونستعجل الخطى معتمدين على التصوّرات الأوّليّة التي يمتلكها معظم المثقّفين العرب حول فكر الشهيد الصدر ونضاله.

ومن هنا، فإنّنا إذا بقينا مع التقسيم الثلاثيّ الذي اقترحه الدكتور العلوانيّ، فلن نكابد العناء قبل أن نصنّف الشهيد الصدر ضمن المرحلة الثالثة التي تلت مرحلة استقرار النفوس وبروز جانب المقارنة بين الإسلام والغرب، وهي مرحلة الصحوة واكتشاف الذات والوعي بها.

ويكفينا في هذا الصدد أن نلاحظ ضمير الجمع المتّصل الذي صدّر به الشهيد الصدر عددًا من مشاريعه التي لخّصها في كلمة واحدة تكاد تكون غائبة عن ذهنيّة قارئيه، وهي تعبير (كتابُنا) الذي جاء في مقدّمة كتابه (فلسفتنا)[32]. وقد شمل (كتابُنا) مشروع (فلسفتُنا) و(اقتصادُنا)، وكذلك مشروع (مجتمعُنا) الذي جاء التبشر به في (فلسفتنا) و(اقتصادنا)[33]، وربما (رسالتنا) الذي ظهر في فترة متاخمة وبصورة مقالات متفرّقة في مجلّة (الأضواء) عام 1960م. وتعكس هذه العناوين ـ بما تعبّر عنه من معنونات ـ محتوى المرحلة الثالثة بشكل واضح، وهو كسر طوق الاستلاب واستعادة الهويّة السليبة. وهذا بالتحديد ما جعل الشهيد الصدر يحلّ في تونس بعد القرآن الكريم بوصفه قائدًا أيديولوجيًّا[34].

مهمّة البحث وطابعه وأسئلته:

1 ـ على أساس ما تقدّم سنقوم ـ مراعاةً لمحدوديّة الفرصة المتاحة لهذه الأوراق ـ بتحديد مهمّتنا باستنطاق تراث الشهيد الصدر استهداءً بالمفاصل الأساسيّة لأطروحة إسلاميّة المعرفة بالصيغة التي وردت في إعلان المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، وبالتالي فإنّنا لن نخوض في كافّة زوايا البحث الوارد في أطروحة المعهد إلّا لممًا، لا لأنّ المعهد يحتكر حقّ النطق باسم الأطروحة، بل لأنّه المروّج الأساس لها من ناحية، ولضيق الفرصة من ناحية أخرى.

2 ـ أمّا طابع البحث: فلكثرة ما وقفنا عليه في تراث الشهيد الصدر ممّا يرتبط بالموضوع ـ حتّى يُمكن تصنيف مجلّد كامل في هذا الصدد ـ فإنّ طابع البحث سيكون استشرافيًّا، ولن نمارس فيه التحليل وعرض مختلف وجهات النظر؛ لأنّ مساحة البحث لا تكفي فعلًا لتلخيص رؤى الشهيد الصدر فضلًا عن تحليلها.

إضافةً إلى أنّنا سنحدّد مهمّتنا في عرض رؤى الشهيد الصدر والمنهج الذي قدّمه، دون أن نقدّم دراسة تحليليّة في المنهج والمادّة على حدٍّ سواء؛ فالهدف إذًا هو عرض المنهج لا دراسته.

إطلالة على نظرة الشهيد الصدر الكونيّة إلى ثالوث: المبدأ، الإنسان والطبيعة يقرّر الشهيد الصدر في تمهيد (فلسفتنا) أنّ دراسة أيّ مبدأ من المبادئ تبدأ بدراسة ما يقوم عليه من عقيدة عامّة عن الحياة والكون وطريقة فهمهما؛ لأنّ مفاهيم كلّ مبدأ عن الحياة والكون تشكّل البنية الأساسيّة لكيان ذلك المبدأ[35].

ومن هنا فإنّنا سنحاول في ما يأتي تلخيص أهمّ مفاصل عقيدته في الحياة والكون وطريقته في فهمهما، وذلك ضمن نقاط نحاول فيها التأطّر بنصوصه وطريقته في عرض هذه الرؤى:

طبيعة الإنسان هي أساس المشكلة

يعتقد الشهيد الصدر أنّ من أهمّ ظواهر الكون ظاهرة الاختيار لدى الإنسان؛ فهو كائنٌ مختارٌ هادفٌ يعمل من أجل هدف يتوخّى تحقيقه بذلك العمل، وترتبط مواقفه العمليّة بأهداف يعيها ويتصرّف بموجبها، وهذا يفترض ضمنًا أنّه في مواقفه العمليّة هذه ليس مسيّرًا وفق قانون طبيعيّ صارم؛ لأنّ ذلك خُلف كونه هادفًا يعمل من أجل هدف يعيش في داخله، والترابط بين المواقف العمليّة والأهداف هو القانون الذي ينظّم ظاهرة الاختيار لدى الإنسان.

أمّا كيف ينشأ الهدف؟ فإنّ كلّ إنسان يحدّد أهدافه وفقًا لما تتطلّبه مصلحته وذاته من حاجات، وهي حاجات تحدّدها البيئة والظروف الموضوعيّة التي تحيط به، والتي تحرّكه عن طريق الإثارة والإيحاء بتبنّي أهداف معيّنة، وهذه الإثارة ترتبط بإدراك الإنسان لما يكمن في موقف عمليّ معيّن من مصالح يدرك الفرد أنّها مصالح له بالذات.

وقد اعتبر الشهيد الصدر أنّ هذه المصالح على قسمين: مصالح على المدى القصير تعود بالنفع غالبًا على الفرد الهادف العامل نفسه، ومصالح على المدى الطويل تعود بالنفع على الجماعة، وكثيرًا ما تتعارض مصالح الفرد ومصالح الجماعة. ثمّ فرّع على ذلك حقيقتين في غاية الأهمّيّة:

الأولى: أنّ الإنسان لا يتحرّك غالبًا من أجل المصلحة لقيمها الإيجابيّة، بل بقدر ما تحقّق له من نفع خاصّ.

الثانية: أنّ خلق الظروف الموضوعيّة لضمان تحرّك الإنسان وفق مصالح الجماعة شرط ضروريّ لاستقرار الحياة ونجاحها على المدى الطويل.

هنا بالتحديد بات بإمكاننا تحديد المشكلة التي يواجهها الإنسان في هذه الحياة، وهي مشكلة التناقض الذي يواجهه بين ما تفرضه سنّة الحياة واستقرارها من سلوك موضوعيّ واهتمام بمصالح الجماعة، وبين ما تدعو إليه نوازع الفرد واهتمامه بشخصه من سلوك ذاتيّ واهتمام بالمنافع الآنيّة الشخصيّة[36].

النبوّة هي الحلّ الذي يقدّمه الدين:

بعد أن أشرنا بإيجاز إلى أصل المشكلة، فإنّ من الطبيعيّ أن نتّجه إلى الحديث عن الحلّ الذي يضعه الإسلام؛ إذ لا بدّ من صيغة تحلّ هذا التناقض وتخلق تلك الظروف الموضوعيّة التي تدعو إلى تحرّك الإنسان وفق مصالح الجماعة، وتتمثّل هذه الصيغة في النبوّة بوصفها القانون الذي وُضع ربانيًّا لحلّ هذه المشكلة، وذلك من خلال تحويل مصالح الجماعة والمصالح الكبرى إلى مصالح للفرد على مداه الطويل، ويحقّق ذلك عن طريق إشعار الإنسان بالامتداد بعد الموت، وبذلك تعود مصالح الجماعة مصالحَ للفرد نفسه على هذا المدى الطويل[37].

وقد اعتبر الشهيد الصدر في (اقتصادنا) أنّ الدين هو صاحب الدور الأساس في حلّ المشكلة الاجتماعيّة، وذلك عن طريق تجنيد الدافع الذاتيّ لحساب المصلحة العامّة. فما دامت الفطرة هي أساس الدوافع الذاتيّة التي نبعت منها المشكلة، فلا بدّ أن تكون قد جُهّزت بإمكانات لحلّ المشكلة أيضًا؛ لئلّا يشذّ الإنسان عن سائر الكائنات التي زُوّدت فطرتها جميعًا بالإمكانات التي تسوق كلّ كائن إلى كماله الخاص. وليست تلك الإمكانات التي تملكها الفطرة الإنسانيّة لحلّ المشكلة إلّا غريزة التديّن والاستعداد الطبيعيّ لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام. ومن هنا كانت الفطرة تملي على الإنسان دوافعه‏ الذاتيّة التي تنبع منها المشكلة الاجتماعيّة الكبرى في حياة الإنسان (مشكلة التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقيّة العامّة للمجتمع الإنسانيّ)، ولكنّها في الوقت نفسه تُزوّده بإمكانيّة حلّ المشكلة عن طريق الميل الطبيعيّ إلى التديّن، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفّق بين المصالح العامّة والدوافع الذاتيّة، وهذا الدين الذي فُطرت الإنسانيّة عليه يتميّز بكونه دينًا قيّمًا على الحياة وقادرًا على التحكّم فيها وعلى صياغتها في إطاره العام[38].

ويقول الشهيد الصدر في موضع آخر إنّه لكي يكون التنظيم الاجتماعيّ بمستوى يمكّنه من حلّ المشكلة والحدّ من الدوافع الخاصّة وحماية المصالح الموضوعيّة للمجتمع فلا بدّ أن يُربَط بجهة قادرة على تكييف الدوافع الخاصّة وتطويرها بشكل يتّفق مع المصلحة الاجتماعيّة، وهذه الجهة لا يمكن أن تتمثّل إلاّ في الدين[39].

وبالنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى سنلاحظ أنّ الشهيد الصدر قد اعتبر في مواضع أخرى من كتبه أنّ صيغة الحلّ هذه تتألّف من عنصرين:

العنصر الأوّل: هو النظريّة المتمثّلة في المعاد يوم القيامة.

العنصر الثاني: عبارة عن ممارسة تربويّة معيّنة للإنسان على أساس تلك النظريّة.

ومن هنا اعتبر النبوّة والمعاد واجهتين لصيغة واحدة يتمثّل فيها الحلّ الوحيد لذلك التناقض الشامل في حياة الإنسان، وتشكّل الشرط الأساس لتنمية ظاهرة الاختيار وتطويرها في خدمة المصالح الحقيقيّة للإنسان[40].

العنصر الأوّل: النظريّة المتمثّلة في المعاد يوم القيامة:

أمّا في ما يرتبط بالعنصر الأوّل فبإمكاننا الاستفادة ممّا صدّر به الشهيد الصدر كتابه (فلسفتنا) عندما تناول بالحديث المشكلة التي تشغل بال الإنسان المسلم في الوقت الراهن، وهي مشكلة النظام الاجتماعيّ التي تتلخّص في محاولة تحديد النظام الذي يصلح للإنسانيّة وتسعد به في حياتها الاجتماعيّة[41]، وقدّم تفسيرًا للمشكلات العديدة التي تواجه الحلّ الذي تقدّمت بها المذاهب الفكريّة المعاصرة (الرأسماليّة والشيوعيّة). ثمّ قام بتوضيح جوهر الحلّ الذي وضعه الإسلام، مقرّرًا أنّه لو كان الإنسان في هذا الكوكب من صنع قوّة مُدبِّرة مهيمنة عالمة بأسراره وخفاياه وقائمة على تنظيمه وتوجيهه، فمن الطبيعيّ أن يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوّة الخالقة. وإذا كانت حياتنا بداية حياة خالدة تنبثق عنها، فمن الطبيعيّ أن تنظّم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها، وتقام على أسس القِيَم المعنويّة والمادّيّة معًا.

ومن هنا اعتبر الشهيد الصدر أنّ مسألة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه ليست مسألةً فكريّة خالصة منسلخة عن الحياة ليصحّ فصلها عنها، بل هي مسألة تتّصل بالعقل والقلب والحياة جميعًا[42]؛ ولهذا انتهى ـ بعد سجال مع الرأسماليّة والشيوعيّة حول حلولهما المقترحة ـ إلى أنّ السبيل الوحيد لانتشال الإنسان من مشكلة التصادم المادّيّ هي تطوير المفهوم المادّيّ للإنسان عن الحياة بعد أن كان السبب وراء ما ضجّت به الحياة البشريّة من أنواع الشقاء وألوان المآسي هو النظرة المادّية إلى الحياة وإقامة المصلحة الشخصيّة مقياسًا لكلّ فعّالية ونشاط، فجعل الإسلامُ الإنسانَ يؤمن بأنّ حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال، وأنّها إعدادٌ له إلى عالم لا عناء فيه، ونَصَبَ له مقياسًا خُلُقيًّا جديدًا في كلّ خطواته وأدواره متمثّلًا برضى الله تعالى[43].

ولكي يوحّد الدين بين المقياس الفطريّ للعمل والحياة (حبّ الذات) وبين المقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة ليضمن السعادة والرفاه والعدالة (وهو المقياس الذي تتوازن فيه مفاهيم القيم الفرديّة والاجتماعيّة)، كان لا بدّ من التأكيد على مفهومين هما: الفهم المعنويّ للحياة: أي تركيز التفسير الواقعيّ للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح كمقدّمة تمهيديّة إلى حياة أخرويّة. والتربية الخُلُقيّة للنفس: أي التعهّد بتربية أخلاقيّة خاصّة تعنى بتغذية الإنسان روحيًّا وتنمية العواطف الإنسانيّة والمشاعر الخُلُقيّة فيه. ومن هنا خلص الشهيد الصدر إلى أنّ «الميزة الأساسيّة للنظام الإسلاميّ تتمثّل في ما يرتكز عليه من فهم معنويّ للحياة، وإحساس خُلُقي بها»[44]، وقد أعاد التأكيد على هذه الأفكار في كتاب (المدرسة الإسلاميّة)[45].

العنصر الثاني: حكومة الأنبياء وتربية الإنسان على أساس نظريّة المعاد والحياة الأخرى:

عندما ننتقل إلى الحديث عن العنصر الثاني يُمكننا استحضار أفكاره المبثوثة في مختلف أثاره لنكمل رسم هذه اللوحة، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن مجموعة من النقاط:

النقطة الأولى: تحديد نظرة الإنسان إلى الكون: بين ثلاثيّة الصيغة ورباعيّتها:

إنّ من الأصول الموضوعيّة لهذا البحث الإيمان بوجود خالقٍ لهذا الكون، وبهذا يخرج الحديث عن استدلالات الشهيد الصدر على الباري تعالى عن مديات هذه الأوراق التي تبدأ رحلتها خارج هذا الإطار.

يتعرّض الشهيد الصدر في محاضراته حول أئمّة أهل البيت عليهم السلام لفكرة تأسيسيّة بإمكاننا وضعها في قاعدة الهرم المعرفيّ الذي بناه، وهي ترتبط بنظرة الإنسان إلى هذا الكون؛ حيث قرّر أنّ الإنسان يُمكن أن ينظر إلى الكون بإحدى نظرتين، وسنقوم بعكس ترتيب هاتين النظرتين:

النظرة الأولى: أن ينظر إلى الكون بوصفه أصيلًا فيه، وهذا يستدعي أن يتصرّف بعيدًا عن أيّ مسؤوليّة يُمكن أن تنشأ من جهة أصيلة، وبهذا سيعيش بعيدًا عن المساءلة التي قد تفرضها تلك الجهة.

النظرة الثانية: أن ينظر إلى الكون بوصفه مملكةَ مليكٍ مقتدر يُراقب من وراء الستار. وتستتبع هذه النظرة عدّة أمور:

أوّلًا: أن يُدرك الإنسان ويشعر أنّه ليس أصيلًا في هذا الكون، وأنّ دوره فيه هو دور الخليفة لا الأصيل، وأنّ عليه أن يقوم بأعباء الأمانة.

ثانيًا: أن يتصرّف الخليفة وفق رغبات المستخلِف ويستوحي أوامره منه ويكون رهن أمره.

ثالثًا: أن يتصرّف تصرّف من يترقّب يوم الحساب؛ لأنّ المسؤوليّة تستلزم حسابًا وعقابًا.

رابعًا: أن يعيش ـ تبعًا لإيمانه بالحساب والعقاب ـ الأهداف الكبيرة التي تتجاوز وجوده المحدود.

خامسًا: أن يعيش ـ تبعًا لمعايشته الأهداف الكبيرة ـ القيمَ الخُلُقيّة ويتعامل مع محيطه على أساسها[46].

لقد أعاد الشهيد الصدر صياغة هذه الفكرة التي عرضها في محاضراته حول أئمّة أهل البيت( في محاضراته حول عناصر المجتمع في القرآن الكريم؛ حيث تحدّث عن ضرورة تحديد العناصر التي يتكوّن منها المجتمع، ليتسنّى لنا بعد ذلك دراسة طبيعة العلاقة القائمة بينها. وقد انتهى إلى وجود ثلاثة عناصر: الإنسان، الطبيعة والعلاقة القائمة التي تحكم هذه العناصر.

هنا يقف الشهيد الصدر عند الطرف الثالث المتمثّل بالعلاقة، مفترضًا أنّ الصيغة التي تصاغ فيها هذه العلاقة تارةً تكون ثلاثيّة وأخرى رباعيّة. وقد عمد هنا إلى العنصر الثاني في المجتمع المتمثّل بالإنسان وفكّكه إلى (الأنا) و (الآخر)؛ لأنّ أصل المشكلة التي نحن بصدد معالجتها إنّما نشأت من تضارب المصالح الذاتيّة للفرد مع المصالح الفرديّة للفرد الآخر أو المجموعيّة للمجتمع، وبالتالي فمن المنطقيّ أن نعمد إلى عنصر الإنسان ونفكّكه إلى (الإنسان) و (الإنسان الآخر)، دون حاجة إلى تفكيك هذه العنصر بعدد أفراد الإنسان؛ لأنّنا لا نتحدّث عن تضارب مصلحة الإنسان مع مصالح فردٍ آخر بعينه، وإنّما المشكلة مع نوع الآخر مع قطع النظر عن أفراده.

الصيغة الثلاثيّة للعلاقة: وهي الصيغة التي تنظّم علاقة الإنسان بالإنسان الآخر وبالطبيعة؛ فهي علاقة ممتدّة بين ثلاثة عناصر.

الصيغة الرباعيّة للعلاقة: وهي الصيغة التي تفترض إلى جانب هذه العناصر الثلاثة عنصرًا رابعًا متعاليًا عن المجتمع نفسه، ولكنّ المجتمع مرتبطٌ به في الوقت نفسه، وهذا الطرف الرابع هو المبدأ المفيض لهذا الكون.

ومن الطبيعيّ أن تُصاغ أهداف الإنسان التي تحرّكه في دائرة اختياره وفق الصيغة التي يختارها عن الكون والحياة، وهذا ما يشكّل مدخلًا لمعالجة النقاط الآتية[47].

النقطة الثانية: ضرورة كون منبع الحلول أعلى من منشأ المشكلة (المثل الأعلى الحقيقيّ):

إنّ من البديهيّ ـ على ضوء ما وصلنا إليه ـ أن لا تكون الجهة التي بيدها الحلّ جزءًا بنفسها من المشكلة ذاتها، وهذا أمرٌ بديهيٌّ وفي غاية الوضوح، وهو ما سجّله الشهيد الصدر في مقال له حول (مفهوم تاريخيّ للإنسانيّة) حيث قال: «وهنا يصبح من الضروريّ قيام حكومة تحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه، وتقف في وجه الاتّجاه الجديد إلى الصراع والنزاع، ولا يمكن أن تنبثق هذه الحكومة الهادية من نفس المجتمع الإنسانيّ؛ لأنّ مصدر المشكلة لا يمكن أن يضع لها الحلّ. وهكذا يجي‏ء دور حكومة الأنبياء بوصفها العلاج الوحيد للمشكلة»[48].

وهذا ما ينقلنا إلى فكرة أخرى يطرحها الشهيد الصدر في محاضراته حول سنن التاريخ؛ حيث يقرّر أنّ لدينا ثلاثة أنواع من المنابع ـ أو المثل العليا ـ التي يُمكن أن يستمدّ منها الإنسان قيمه ومثله، وهي على التوالي: المثل الأعلى المنخفض، المثل الأعلى المحدود، والمثل الأعلى الحقيقيّ.

ويقصد الشهيد الصدر من الأوّل: المثل الأعلى الذي يستمدّ تصوّره من الواقع نفسه ويكون منتزعًا من الواقع الذي تعيشه الجماعة البشريّة[49]. ومن الثاني: المثل الأعلى المنتزع من طموح الأمّة وتطلّعها إلى مستقبلها المحدود[50]، ومن الثالث: المثل الأعلى المطلق غير المحدود الذي يرتفع ـ على الرغم من وجوده العينيّ ـ عن الواقع المادّيّ[51].

وبينما يواجه الاستمداد من المثل العليا المنخفضة والمحدودة مصيرًا قاتمًا لا مجال للتعرّض لتفاصيله هنا[52]، نجد أنّ المثل الأعلى الحقيقيّ يمتاز بأنّه يمدّ الإنسان بقدرتين على التغيير: كمّيّة من ناحية مقدار الحركة تجاه هذا المثل، وكيفيّة من ناحية إزكاءِ الارتباطِ بهذا المثل المطلق شعورَ المسؤوليّة لدى الإنسان المرتبط به[53].

النقطة الثالثة: انصباب عمليّة التربية والتغيير على الفكر والإرادة ودور المشاعر:

إذا اتّضح الدور الذي يلعبه الدين في اتّكائه على الفطرة من أجل حلّ المشكلة الاجتماعيّة التي تولّدها الفطرة نفسها، فسيكون من الطبيعيّ أن يتركّز الحلّ عند الشهيد الصدر في ما عبّر عنه بـ (المحتوى الداخليّ للإنسان) الذي اعتبره الأساس في التغيير الاجتماعيّ[54]، وهو مصطلح أخذ من اهتمامه حيّزًا واسعًا في مختلف كتاباته، ولهذا نجده حاضرًا لديه في (فلسفتنا)[55] و (المدرسة الإسلاميّة)[56] و (المدرسة القرآنيّة)[57] وفي محاضراته حول أهل البيت([58] ومختلف مقالاته[59]. وقد عبّر في محاضراته الأخيرة حول سنن التاريخ بأنّ هذا المحتوى مكوّن من فكر وإرادة[60]، بينما عبّر في مقالات سابقة له حول أسس الدستور الإسلاميّ بالأفكار والمشاعر[61]، ربما لأنّ المشاعر هي وقود الإرادة ومصدر تموينها.

وعلى هذا الأساس فإنّ تربية المربّي ـ أو المثل الأعلى الحقيقيّ ـ للإنسان تقوم على أساس صقل فكره وشحن إرادته ومشاعره. وستأتي مزيد إشارات لقيام الدعوة الإسلاميّة على العاطفة لدى حديثنا عن خصائص النظام التربويّ الذي وضعه المثل الأعلى الحقيقيّ للإنسان.

النقطة الرابعة: استدعاءُ التربيةِ هيمنةَ المربّي على المربّى:

بعد هذا يقرّر الشهيد الصدر في محاضراته حول أئمّة أهل البيت أنّ الإسلام قد جاء بالدرجة الأولى لتربية الإنسان، لا لتعليمه وتثقيفه، وهذا يستدعي أن يكون المربّي مهيمَنًا على الإنسان المربّى؛ لأنّ باب التربية ـ بحسب الصدر ـ هو «باب الهيمنة» التي كلّما اتّسع نطاقها كانت أنجح وأجدى.

وحيث إنّ النظرة إلى الإنسان يجب أن تكون بوصفه فردًا من هذا المجتمع، فهذا يتطلّب أن تُمارَس الهيمنة على العلاقات الاجتماعيّة، وذلك من خلال تزعّم الرسالة للمجتمع من خلال الجهة التي تمثّلها[62].

أمّا مظاهر هذه الهيمنة، فهذا ما أوضحه الشهيد الصدر بكلمة مختصرة في تمهيد كتابه (فلسفتنا) عندما تحدّث عن وظيفة الدولة الإسلاميّة التي تأخذ على عاتقها مهمّة هذه الهيمنة؛ فقد اختصر الشهيد الصدر هذه المظاهر بقوله: «فالدولة الإسلاميّة لها وظيفتان: إحداهما تربية الإنسان على القاعدة الفكريّة وطبعه في اتّجاهه وأحاسيسه بطابعها، والأخرى مراقبته من خارج وإرجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عمليًّا»[63].

فوظيفة الدولة تتلخّص إذًا في التربية والمراقبة، وهما العنصران اللذان تناولهما الشهيد الصدر في محاضراته حول أهل البيت تحت عنوان (تعميق الرسالة) و (القضاء على الانحراف)[64]، وقد أسّس لهما بشكل أعمق وممنهج في كرّاس (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) عندما تحدّث عن خطّي الخلافة والشهادة.

أ ـ خطّ الخلافة في الإنسان: فبعد تأكيده على أنّ استخلاف الله تعالى للإنسان الذي ورد الحديث عنه في القرآن الكريم يطال كلّ ما للمستخلِف من شؤون ومنها الطبيعة، يؤكّد الشهيد الصدر في الكرّاس المذكور على أنّ هذا الاستخلاف يعني عدّة أمور عبّر عنها بـ (ركائز خطّ الخلافة):

أوّلًا: انتماء البشريّة كلّها إلى محور واحد، وهو المستخلِف.

ثانيًا: إقامة العلاقات الاجتماعيّة على أساس العبوديّة المخلصة لله تعالى.

ثالثًا: تجسّد روح الأخوّة العامّة في كلّ العلاقات الاجتماعيّة بعد استواء بني البشر في علاقتهم بالجهة الأصيلة.

رابعًا: أنّ الأمانة ـ التي هي استئمانٌ ـ تستدعي من المستخلَف أن يتصرّف على ضوء المسؤوليّات التي تفرضها تبعيّته للجهة المستخلِفة.

ثمّ ختم بأنّ حركة الإنسان المحدود لمّا كانت باتّجاه المبدأ المطلق تعالى، فهذا يعني أنّه في حركة دائمة نحو هذا المطلق، وخلص إلى أنّ على الجماعة التي تتحمّل مسؤوليّة الخلافة أن توفّر لهذه الحركة الكادحة والمستمرّة الشروطَ الموضوعيّة لنموّها، كما عليها أن تصيغ العلاقات الاجتماعيّة على أساس ركائز الخلافة التي تحدّثنا عنها[65].

ب ـ خطّ الشهادة: وإذا كان استخلاف الجماعة البشريّة يفتح الباب أمام الإنسان للتنكّب عن خطّ المسؤوليّة المرسوم له، فقد وضع الله تعالى خطًّا آخر أطلق عليه اسم (خطّ الشهادة)، وهو يتمثّل في التدخّل الربّاني من أجل صيانة الإنسان عن الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة. ويتمثّل دور الشهادة في الركائز العامّة الآتية:

أوّلًا: استيعاب الرسالة السماويّة والحفاظ عليها.

ثانيًا: الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة وتوجيهه في ما يرتبط بهذه الممارسة.

ثالثًا: التدخّل لمقاومة الانحراف وإنقاذ المسيرة من الضلال.

وسجّل الشهيد الصدر بعض التفاصيل المرتبطة بالتمييز بين الأصناف الثلاثة ـ الشهداء، الأئمّة، المرجعيّةـ لا مجال لذكرها حاليًا[66].

انسحاب الصيغة الرباعيّة لعلاقات المجتمع على تقويم العمل:

ويُمكننا ـ تتميمًا للبحث ـ أن نشير إلى موضوعٍ طرحه الشهيد الصدر في أبحاثه ممّا يُمكن عدّه مترتّبًا على تبنّي الصيغة الرباعيّة للعلاقة الحاكمة على عناصر المجتمع؛ حيث تفضي بنا هذه الرؤية إلى الاعتقاد بأنّ الأعمال التي يقوم بها الإنسان تستمدّ قيمتها من دوافعها لا منافعها؛ لأنّ الإسلام يؤمن بأنّ الجانب الموضوعيّ من التعايش الاجتماعيّ وحياة الناس يعتبر صورةً عن حقيقة أعمق وأخطر تعيش في داخل الإنسان، فقبل أن يهتمّ بصناعة علاقات اجتماعيّة بين الناس ذات منافع وفوائد في الحقل الاجتماعيّ، فإنّه يهتمّ بصناعة إنسان نظيف، ويستهدف قبل كلّ شيء تكوين محتواه الداخليّ والروحيّ وفقًا لمفهومه.

وفي هذا الضوء الإسلاميّ قد يكون العمل الضئيل التافه في مظهره الاجتماعيّ أرفع وأسمى من عمل جبّار يدوّي له التاريخ، وبهذا يفتح الإسلام السبيل أمام أيّ فرد ـ مهما كانت إمكاناته وقدرته على النفع الاجتماعيّ والعمل النافع ـ للارتقاء إلى أسمى درجة في سلّم النفس البشريّة ومراحل كمالها الروحيّ، ويفرض على المجتمع أن يُقِيْمَ تقديراته للأشخاص على مقدار ما تكشف عنه الأعمال من أرصدة روحيّة ونفسيّة، لا على المظاهر الخلاّبة الخاوية مهما بدت عظيمة[67].

كلمة حول قناة التربية (الوحي):

لكي نأخذ صورة أكثر وضوحًا حول هذه العلاقة يتوجّب علينا أن نحلّل العناصر الثلاثة للتجربة الإسلاميّة كما يقرّرها الشهيد الصدر، وهي على التوالي: المربّي، التنظيم التي يتكفّل تحقيق التربية، وحقل هذا التنظيم المتمثّل في الأمّة[68].

ونحن لن نتناول بطبيعة الحال الحديث عن المربّي بوصفه مربيًّا، بل سنتحدّث في الواقع عن قناة التربية التي تتيح للدولة الإسلاميّة تربية الإنسان، وهي المتمثّلة في الوحي.

يعتبر الشهيد الصدر أنّ الوحي الذي يتمثّل في اتصالٍ خاصٍّ بين الإنسان وبين الله يعدّ ضرورة من ضرورات تخليد الإنسان على وجه الأرض، وأنّ الله تعالى قد أودع الإنسانَ الاستعداد الكامن والأرضيّة الصالحة لإفاضة هذه الموهبة من الله‏ سبحانه وتعالى ضمن شرائط وظروف موضوعيّة وذاتيّة معيّنة.

وفي هذا الصدد قرّر الشهيد الصدر حقيقةً ترتبط بطبيعة الإنسان؛ حيث اعتبر أنّ الإنسان خُلق حسّيًّا أكثر منه عقليًّا، بمعنى أنّه يتفاعل مع حسّه أكثر ممّا يتفاعل مع عقله، ولهذا حتّى لو آمن بالنظريّات إيمانًا عقليًّا، إلا أنّها لا تنهضه ولا تحرّكه عادةً إلّا في حدود ضيّقة جدًّا. وهذا بخلاف الحسّ الذي يمتلك تأثيرًا أقوى وآكد على تحريك الإنسان. ولهذا ـ يقول الشهيد الصدر ـ كان الإنسان على طول الخطّ في تاريخ المعرفة البشريّة أكثر ارتباطًا بمحسوساته من معقولاته، ومن هنا قرن إثبات أيّ دين بالمعجزة.

إذًا، بحسب طبيعة الإنسان وجهازه المعرفيّ فإنّ الحسّ هو المؤثّر الأوّل فيه والمربّي الأوّل له، ثمّ يأتي العقل من بعده في المرتبة الثانية. ويتفرّع على ذلك أنّه لكي يُرَبّى الإنسان على أهداف السماء، فإنّه لا بدّ من أن يُرَبّى على أساس الحسّ. ولكي يتحقّق ذلك فلا بدّ من أن يمتلك الإنسان حسًّا يدرك به القيم والمثل والمفاهيم والتضحية في سبيلها إدراكًا حسّيًّا لا إدراكًا نظريًّا، وقد عبّر الشهيد الصدر عن هذا الحسّ بـ (الاستعداد الكامن)، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أنّه لا يقصد من الحسِّ الحسَّ الظاهريّ، بل إمّا الباطنيّ وإمّا الأعمّ منهما. وهنا بالتحديد يأتي الحديث عن جانبٍ من جوانب الوحي، علمًا أنّ الشهيد الصدر أشار إلى وجود جوانب أخرى لم يتطرّق إليها.

بعد ذلك يؤكّد الشهيد الصدر على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ هذا الحسّ متوفّر لدى كلّ إنسان بشكله الفعليّ، شأنه في ذلك شأن أيّ قدرة أو قابليّة خاصّة تتفاوت بين شخص وآخر، بل إنّ هذه القدرة والقابليّة تخرج إلى مرحلة الفعليّة عند أشخاص معيّنين ـ هم الأنبياء ـ بحيث يصبحون بدورهم تجسيدًا خارجيًّا لهذه المثل، ويلعبون من خلال ذلك دور المربّي الحسّيّ لسائر الناس.

ومن هنا ننتهي إلى أنّ القابليّة الحسيّة لإدراك المثل والقيم تكون في بعض الأشخاص في أعلى درجاتها بحيث يتّصلون بها ويعيشونها إلى أبعد مدى، وهذا الاتصال هو عبارة أخرى عن تلقّي الوحي، ثمّ يتحوّلون أنفسهم إلى مصدر حسّيٍّ يزوّد الناس الآخرين بهذه القيم والمثل من خلال تجسيدها والتمثّل بها، وهو ما يعبّر عنه الشهيد الصدر باستنزال المثل والقيم إلى مستوى الحسّ[69].

علاقة الإنسان المربّى بالمبدأ والإنسان والطبيعة (أركان الصيغة الرباعيّة)

ذكرنا سابقًا أنّ المجتمع يتكوّن من ثلاثة عناصر: الإنسان، الطبيعة والعلاقة الحاكمة في هذا المجتمع، وذكرنا أيضًا أنّ لهذه العلاقة صيغتين: رباعيّة تتألّف من الإنسان الفرد والفرد الآخر والطبيعة والمبدأ، وثلاثيّة تستبعد العنصر الأخير، وهو المبدأ. ومن الطبيعي أن تتلوّن علاقات الإنسان بلون الصيغة التي يختارها في دائرة الاختيار الممنوح إليه بقتضى طبعه. ومن هنا فإنّنا سنشير ـ وبشكل مقتضب جدًّا ـ إلى علاقة الإنسان ـ أحد الأركان الأربعة للصيغة الرباعيّة ـ بسائر أركان هذه الصيغة.

أ ـ علاقة الإنسان بالمبدأ:

وقد تقدّم معنا ـ أثناء الحديث عن دور الخلافة ـ أنّ الإنسان المؤمن بالمبدأ (الله تعالى) يتعامل معه معاملة الفرع للأصل، ومعاملة المتلقّي للمُلقي، وهو ما لن نتوقّف عنده كثيرًا.

ب ـ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان والحاجة إلى الحكومة:

يعتقد الشهيد الصدر أنّ مدارك النوع الإنسانيّ ـ بوصفه نوعًا ـ لم تعطَ له دفعةً واحدة، وإنّما تنمو وتتكامل خلال التجربة التى تخوضها الإنسانيّة عبر آلاف السنين، فإذا تناولنا الإنسان في بداية شوطه التجريبيّ، فمن الطبيعيّ أن تتحدّد دوافعه وتصوّراته بما تمليه عليه الفطرة المشتملة على قوّة موجّهة له تهديه إلى استخدام الطبيعة لمصالحه والانتفاع بكلّ ما حوله. ومن هنا ينبثق التفكير الاجتماعيّ عند الإنسان باعتبار إمكان انتفاعه بأخيه الإنسان، ولمّا كان هذا الشعور متبادلًا بين أفراد الإنسان، حينئذٍ يتكوّن المجتمع الإنسانيّ على أساس هذا الشعور النابع من الفطرة، وبذلك يكون المجتمع فطريًّا.

لكن بعد أن تستمرّ الإنسانيّة وتواصل تجاربها تصبح نفس القوّة الفطريّة التي كانت توحي إلى الناس بالاجتماع والتعاون (حبّ الذات) سببًا في إثارة النزاع والصراع، فيصرف الإنسان إمكاناته التي يمتاز بها على الأفراد الآخرين في سبيل مصالحه الخاصّة، وفي النهاية تدفعه إلى استخدام الأفراد الآخرين لتحقيق تلك المصالح. ومن هنا تنبع الحاجة إلى قيام حكومة تحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه، وتقف في وجه الاتّجاه الجديد إلى الصراع والنزاع[70].

ولم يعد صعبًا أن نحدّد ـ على ضوء رؤى الشهيد الصدر المتقدّمة ـ أنّ ما يُمكنه أن يتحكّم بهذه العلاقات السلبيّة ويخمد نارها هو ما تقدّم معنا حول نظرة الإنسان إلى الكون ـ وبالتالي إلى أخيه الإنسان ـ نظرة الخليفة الذي يملي عليه موقعه بوصفه خليفةً أن يتصرّف مع كافّة أفراد جنسه الذين يشترك معهم في الخلافة على أساس الأخوّة.

وللشهيد الصدر في هذا المجال كثير من الأفكار المرتبطة بالجانب الاقتصاديّ، وهو خارجٌ عن محلّ الكلام.

ج ـ علاقة الإنسان بالطبيعة (إلباس الأرض إطار السماء):

من الموضوعات المهمّة التي يقرّرها الشهيد الصدر في مقدّمة الطبعة الثانية من كتابه الشهير (اقتصادنا): حديثه عن (نظرة الإنسان المسلم إلى الأرض من منظار السماء)؛ فقد اعتبر أنّه نتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخليّ يقوم على أساس أخلاقيّ لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها، لذلك فإنّه يحسّ بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب إليها وانسجام بينه وبينها بدلًا عن فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر الأوروبيّ الحديث.

وبعد أن يؤكّد على أنّ نظرة إنسان العالم الإسلاميّ إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدّي إلى موقف سلبيّ تجاه الأرض وما في الأرض من ثروات وخيرات يتمثّل في الزهد أو القناعة أو الكسل إذا فصلت الأرض عن السماء، لكنه يرى بأنّه إذا أُلبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة، فسوف تتحوّل تلك النظرة الغيبيّة لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محرّكة وقوّة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصاديّ. خاصّةً إذا أخذنا بعين الاعتبار الدور الإيجابيّ الذي يُمكن أن يلعبه الإحساس بالجماعة والارتباط بها؛ حيث يُمكن أن يساهم في تعبئة طاقات الأمّة الإسلاميّة للمعركة ضدّ التخلّف إذا أعطي للمعركة شعارٌ يلتقي مع ذلك الإحساس، كشعار الجهاد في سبيل الحفاظ على كيان الأمّة وبقائها، فيكون إعداد القوى ـ بما فيها القوى الاقتصاديّة التي يمثّلها مستوى الإنتاج ـ جزءًا من معركة الأمّة وجهادها للاحتفاظ بوجودها وسيادتها.

وفي النهاية يؤكّد الشهيد الصدر على فكرة في غاية الأهميّة، وهي أنّ اتجاه إنسان العالم الإسلاميّ إلى السماء لا يعني بمدلوله الأصيل استسلامه للقدر واتّكاله على الظروف والفرص وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع، بل إنّ هذا الاتجاه لديه يعبّر في الحقيقة عن مبدأ خلافة الإنسان في الأرض، فهو يميل بطبيعته إلى إدراك موقفه في الأرض باعتباره خليفة لله، ولمفهوم الخلافة هذا ـ والذي تناولناه سابقًا ـ عظيمُ دورٍ في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيّد المطلق في الكون، خاصّةً إذا لاحظنا أنّ الأخذ بالإسلام أساسًا للتنظيم العامّ يتيح للإنسان أن يقيم حياته كلّها ـ بجانبيها الروحيّ والاجتماعيّ ـ على أساس واحد؛ لأنّ الإسلام يمتدّ إلى كِلا الجانبين.

وينتهي الشهيد الصدر من هذا إلى أنّ «إلباس الأرض إطار السماء يفجّر في الإنسان المسلم طاقاته ويثير إمكاناته»[71]، وهو ما أعاد التأكيد عليه في (الإسلام يقود الحياة)[72]، ويفرّع رؤيته إلى الاقتصاد الإسلاميّ على هذه الرؤية، وهو ما لا مجال إلى بحثه في هذه العجالة.

خصائص المنهج التربويّ (الرسالة) والمهمّة الرئيسة للاجتهاد الإسلاميّ

لقد خلّف الشهيد الصدر العديد من النصوص التي تناول فيها خصائص الرسالة الإسلاميّة. وتنشأ الحاجة إلى الإشارة إلى هذه الخصائص من أنّ النظر إليها من هذا المنظور ـ الآتي ـ يساهم بدرجة كبيرة في إكمال الصورة التي رسمناها إلى الآن حول ما قدّمه الإسلام في حلّ مشكلات الإنسان. وسنقوم في ما يلي باستعراض أهمّ هذه الخصائص، متحرّرين من التنظيم الذي جاء في كلمات الشهيد الصدر في مواضع متعدّدة وبصيغ متعدّدة، تختلف من حيث الكليّة والجزئيّة ومن حيث اللحاظ، الأمر الذي سيترك تشويشًا لا مفرّ منه.

يعتقد الشهيد الصدر بشكل عام أنّ كلّ دعوة ذات رسالة تحتاج إلى مجموعة من المقوّمات الروحيّة، وقد عدّ من أهمّها:

1 ـ المقوّم العقائديّ التقديسيّ: فبمقدار ما يرسخ هذا الطابع التقديسيّ اليقينيّ في نفوس الدعاة تزداد اندفاعاتهم وتتضاعف طاقاتهم. ومن الواضح أنّ هذا المقوّم متوفّر في الرسالة الإسلاميّة؛ لأنّها ليست نتيجة اجتهاد معيّن بحيث تكون عرضةً للخطأ أو حصيلة تجارب محدودة قد لا تصوّر الواقع تصويرًا كاملًا، وإنّما هي الرسالة الخاتمة التي اصطفاها الله سبحانه للإنسانيّة.

2 ـ الأمل؛ إذ لو فقدت الدعوة أملها في الفوز والنجاح، فقدت وجودها ومعناها الحقيقيّ.

3 ـ الجدليّة بين الدافع الذاتيّ والدافع المثاليّ. ويحلّ الإسلام هذه المشكلة من خلال إقناع المسلم بأنّ الإخلاص لهذه الرسالة والدعوة إليها والتضحية في سبيلها مكسب شخصيّ قبل أن يكون مكسبًا مثاليًّا أو اجتماعيًّا[73].

وفي مقام تحليله لعناصر النظام الإسلاميّ يستعرض الشهيد الصدر العناصر الأربعة الآتية:

1 ـ المحتوى التشريعيّ للنظام الإسلاميّ: وهو أحكام الشريعة الإسلاميّة التي عالجت تنظيم حياة الإنسان.

2 ـ الواضع للنظام: وهو اللَّه تعالى؛ لأنّنا بوصفنا مسلمين نؤمن بأنّ المحتوى التشريعيّ المستمدّ من الكتاب والسنّة كلّه نزل عن طريق الوحي على خاتم النبيّين.

3 ـ الهدف من النظام الإسلاميّ: وهو التربية الشاملة للإنسانيّة في كلّ مجالات حياتها ونشاطها.

4 ـ الصياغة القانونيّة للنظام الإسلاميّ: وهذه الصياغة هي العمليّة التي يتحمّل الفقه الإسلاميّ مسؤوليّتها ويمارسها فقهاء الإسلام عن طريق استنباطهم لأحكام الشريعة الإسلاميّة من الكتاب والسنّة.

وحيث إنّ الهدف هو الذي يحدّد نوعيّة المحتوى التشريعيّ، والواضع هو الذي يحدّد الهدف، فإنّنا حين ندرس خصائص النظام الإسلاميّ ومزاياه بوصفه نظامًا دينيًّا يجب أن ندرسها من خلال هذه العناصر وترابطها ونوعيّة تأثير كلّ واحد منها على الآخر[74].

ونكتفي في ما يلي بالإشارة إلى مجموعة من الخصائص التي وردت في كلمات الشهيد الصدر:

خصائص الرسالة والنظام:

1 ـ استيعاب المشرّع لكلّ الخبرات[75].

2 ـ قدرة النظام الإسلاميّ على إنشاء القيم الخلقيّة: إذ ـ كما رأينا ـ فإنّ النظام الإسلاميّ يربّي الفرد المسلم على النظرة الدينيّة إلى الحياة والكون، ويدرك الإنسان في هذه النظرة الدينيّة أنّه يسير على خطّ طويل لا يحدّده الموت، وأنّ الموت ليس إلّا انتقالًا من مرحلة معيّنة في هذا الخطّ إلى مرحلة أخرى أوسع أفقًا وأرحب مجالًا وأطول بقاءً. وحين يزرع التنظيم الاجتماعيّ البذور الأخلاقيّة في نفوس الأفراد ويجعل من القيم الخلقيّة قوى فعّالة في سلوكهم وحياتهم، يحصل من ناحية على ضمانات ذاتيّة للتنفيذ والإجراء نابعة من شعور الفرد بالمسؤوليّة الأخلاقيّة، ويستطيع من ناحية أخرى أن يتسامى بالفرد تدريجًا ويفجّر كلّ طاقات الخير فيه، ولا يعود النظام مجرّد تحديد خارجيّ صارم لتصرّفات الأفراد، بل يصبح مجالًا يتسامى الأفراد ضمن إطاره وخلال تطبيقه روحيًّا، ويحقّقون المثَل الصالح للإنسانيّة على الأرض[76].

3 ـ ارتفاع النظام الإسلاميّ عن الواقع يتيح له القدرة على تغييره: وهو ما تحدّثنا عنه سابقًا عند اشتراط كون المربّي مثلًا أعلى حقيقيًّا للإنسان[77].

4 ـ عدم ارتباط النظام الإسلاميّ بالعامل الاقتصاديّ: حيث يميّز الإسلام بين علاقة الإنسان بالطبيعة وبين علاقته بأخيه الإنسان، خلافًا للأنظمة التي تربط العلاقات الاجتماعيّة بعامل الإنتاج الاقتصاديّ[78].

5 ـ انسجام الشريعة مع العقيدة وتوافق الجانب الروحيّ مع الجانب الاجتماعيّ: يعتقد الشهيد الصدر بأنّ الإسلام ـ بوصفه المبدأ الوحيد القادر على حلّ مشكلة الإنسان ـ يتمتّع بخصوصيّتين رئيسيّتين وهما:

أوّلًا: القدرة على إيجاد الانسجام بين التشريع والعقيدة.

ثانيًا: القدرة على التوفيق بين الجانب الروحيّ والجانب الاجتماعيّ من حياة الإنسان المسلم، خلافًا للأنظمة الاجتماعيّة الأُخرى التي لا تعالج إلاّ جانب العلاقات الاجتماعيّة من حياة الإنسان، تاركةً ـ على الأغلب ـ الجانب الروحيّ

الذي يشمل علاقة الإنسان بربّه وتنميته لإرادته وأخلاقه ومُثُله[79].

دور القرآن الكريم في جانبَي العقيدة والشريعة: ولكي نوضح دور القرآن الكريم في عمليّة التربية ضمن مجالي العقيدة والشريعة، يُمكننا ـ ضمن هذه العجالة ـ تلخيص وجهة نظر الشهيد الصدر في جملة من النقاط:

أ ـ القرآن الكريم هو الحجّة الأولى والمربّي الأوّل والمرجع الأعلى: يحتلُّ القرآن الكريم في المنظومة الإسلاميّة مساحةً واسعة على مختلف الصعد: التربويّة، النفسيّة، التشريعيّة، وغيرها. وهو «الذي أنزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز وحيًا على أشرف المرسلين-»[80]، وهو نصٌّ سالمٌ عن التحريف، فشكّلت سلامته هذه «الشرطَ الضروري لقدرة هذه الرسالة على مواصلة أهدافها»[81]. وهو حجّة على أصل الدين قبل مرتبة الأولياء؛ فإنّ «ربط الناس بالإمام فرع إقامة الحجّة على أصل الدين، المتوقّفة على فهم القرآن وإدراك مضامينه»[82]. «ولا يزال القرآن الكريم كما كان بالأمس وحده القادر على إعطاء هذه الرسالة وإنشاء الأمّة على أساسها كقوّة رائدة إلى طريق الخلاص للبشريّة كلّها… فهكذا اليوم يجب ـ لكي يؤدّي القرآن الكريم دوره من جديد ـ أن ينشئ القيادة الصالحة ثمّ الأمّة الواعية. فلا بدّ أن يختمر القرآن في عقول المسلمين القادرين منهم على الارتفاع إلى مستوى الرسالة الإسلاميّة والاندماج في إطارها؛ ليحصل القرآن عن هذا الطريق على قيادة واعية تعبّد له الطريق إلى قلوب الناس جميعًا وعقولهم، ليمارس بالتدريج بناء الأمّة وتربيتها»[83].

وهذه الأهميّة الكبرى التي يحتلّها القرآن الكريم ودعوة المسلمين إلى الانصهار به تسير في سياق أنّ التعبّد بالنصّ الإسلاميّ ـ أي النص الصحيح ـ يعبّر عن أرقى درجات الانصهار بالرسالة؛ وذلك على أساس «أنّ الاتّجاه الذي يمثّل التعبّد بالنصّ يمثّل الدرجة العليا من الانصهار بالرسالة والتسليم الكامل لها، وهو لا يرفض الاجتهاد ضمن إطار النصّ وبذل الجهد في استخراج الحكم الشرعيّ منه»[84].

أمّا علاقة القرآن الكريم بسائر مصادر الشريعة، فيكفينا ـ حتّى إذا أهملنا ما ورد بشكل مفصّل جدًّا في بحث التعارض من علم أصول الفقه ـ أن نشير إلى قول الشهيد الصدر في (فدك في التاريخ): «ونعرف ممّا سبق أن صيغة الحديث لو كانت صريحة في ما أراده الخليفة لها من المعاني لناقضت القرآن الكريم، ومصيرها الإهمال حينئذٍ… لأنّ المعارض للقرآن باطل بلا ريب; لأنّه الحقّ، وهل بعد الحقّ إلّا الضلال؟!»[85]؛ إذ «لا يجوز أن يرد من جهتهم ما يضادّ القرآن وينافيه»[86]؛ ولهذا إذا تعارض النصّ القرآنيّ مع خبر الواحد «قُدّم الدليل القرآنيّ القطعيّ ولم يكن خبر الواحد حجّةً في مقابله»[87]، فيسقط في مادة الاجتماع إذا عارضه بالعموم من وجه[88].

ب ـ روح القرآن الكريم هي الحاكمة على نصوص الشريعة: من الأفكار المهمّة جدًّا التي يظهر ميلُ الشهيد الصدر إلى تبنّيها، والتي من شأنها أن تُحدث تغييرًا جوهريًّا في تحديد الموقف من العلاقة التي تحكم القرآن الكريم بالسنّة الشريفة، فكرة حكومة الروح العامّة للقرآن الكريم على النصوص – ولكن لم يتسنَّ له تطبيقها وتسييلها بنحوٍ كافٍ – حيث قال: «قد أشرنا في ما سبق إلى أنّه يمكن تفسير مفاد هذه الأخبار بنحو آخر لا يُحتاج معه إلى جلّ الأبحاث المتقدّمة،  ذلك التفسير هو: أنّه لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم، أو ما ليس عليه شاهد منه: طرح ما يخالف الروح العامّة للقرآن الكريم، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه. ويكون المعنى حينئذٍ: أنّ الدليل الظنّي إذا لم يكن منسجمًا مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجّة، وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونيّة الحدّيّة مع آياته»[89].

ج ـ عدم نفاد القرآن الكريم يؤمّن جانب الشموليّة: إنّ من خصائص القرآن الكريم المهمّة، والتي تشكّل مبرّرًا معرفيًّا لبحث التفسير الموضوعيّ: ديمومته وعدم نفاد كلماته؛ فإنّ «كلمات الله تعالى لا تنفد، والسير نحوه لا ينقطع، والتحرّك في اتّجاه المطلق لا يتوقّف»[90]، و«القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يوفّر للإنسان جانب الشموليّة في فكره.

ومن هنا، فإنّه لا ينبغي أن يحلّ بديلًا عنه أيّ كتاب من الكتب الأخرى؛ فإنّ بعض الدراسات القائمة حول أصول العقائد ومسائلها أو في الفكر الإسلاميّ يحتاج إليها الإنسان في تعلّمه، ولكن من غير الممكن أن يتجاهل الكتاب الكريم بوصفه المصدر الأساس للفكر الإسلاميّ الشامل؛ لأنّ الشموليّة مفقودة في غير كتاب الله عزّ وجلّ»[91].

أمّا ما نزل القرآن الكريم لعلاجه، فلا ينبغي افتراضه مانعًا دون الاستفادة المتجدّدة والمعاصرة منه، وهو ما تشير إليه الروايات المعروفة بـ (أخبار الجري)، والتي معناها «أنّه إذا ورد حكم عامّ أو مطلق، فلا ينبغي فرض تخصيصه وتقييده بخصوص الظروف والملابسات التي اشتمل عليها المصداق الذي كان سبب النزول لذلك الحكم العامّ»[92].

د ـ القرآن الكريم يبني الحياة إلى جانب إعماره القلوب: إنّ «القول بأنّ الشريعة تنظِّم سلوك الفرد لا المجتمع يتناقض مع نفسه، إضافةً الى اصطدامه بتلك النصوص[93]; لأنّه حين يفصل سلوك الفرد وتنظيمه عن تنظيم المجتمع يقع في خطأ كبير؛ من ناحية أنّ النظام الاجتماعيّ لأيِّ جانب من الجوانب العامّة في المجتمع ـ سواء أكان اقتصاديًّا، أم سياسيًّا، أم غير ذلك ـ يتجسّد في سلوك الفرد، فلا يمكن تنظيم سلوك الفرد بصورة منعزلة عن تنظيم المجتمع»[94]، فكان «الإسلام ثورة لا تنفصل فيها الحياة عن العقيدة، ولا ينفصل فيها الوجه الاجتماعيّ عن المحتوى الروحيّ، ومن هنا كان ثورةً فريدةً على مرّ التاريخ»[95].

وعلى هذا الأساس لم يكن القرآن الكريم كتابًا سماويًّا يعمر قلوب الناس فحسب، بل هو كتاب بناءٍ للحياة؛ فإنّ «القرآن لا يحمي العالم الإسلاميّ من النفوذ الكافر ولا يهدّد البلاد الاستعماريّة بالذات لو لم يكن كتاب دين يعمر القلوب، ومبدأ بناء لحياة الأمم»[96]، وذلك من خلال تطبيقه على الأرض؛ فإنّ «هذا القرآن الكريم مجرّد كونه فطريًّا لا يكفي لحلّ مشكلة الاُمّة، بل لا بدّ وأن نقول للمجتمع إنّ هذا القرآن جاهز لأنْ يطبّق، وأن يحلّ مشاكلكم في كلّ لحظة وفي أيّ وقت، ويأخذ طريقه إلى الحياة»[97].

وكيف لا يكون كذلك! وقد «دأب القرآن الكريم على أن يتحدّث الى الاُمّة في قضايا الحكم توعيةً منه للأمّة على دورها في خلافة الله على الأرض»[98]، فقدّم الدين صورًا رائعةً «في نصوص القرآن ليربط بين الدوافع الذاتيّة وسُبُل الخير في الحياة، ويطوّر من مصلحة الفرد تطويرًا يجعله يؤمن بأنّ مصالحه الخاصّة والمصالح الحقيقيّة العامّة للإنسانيّة التي يحدّدها الإسلام مترابطتان»[99]. ومن هنا اعتبر الشهيد الصدر أنّ القرآن الكريم نزل مرّتين: «نزل دفعة ككلّ لإعداد القائد، ونزل تدريجيًّا كأجزاء لإعداد الأمّة»[100].

أمّا الأبعاد التغييريّة التي طالها القرآن الكريم فهي تتلخّص ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ بـ: أ ـ تحرير القرآن للإنسان من الوثنيّة. ب ـ تحرير القرآن للعقول. ج ـ تحرير القرآن للإنسان من عبوديّة الشهوة[101].

6 ـ شموليّة النظام وواقعيّته: ربّما يكون واضحًا لمتتبّعي تراث الشهيد الصدر الفكريّ أنّه كان كثير الاستحضار لثنائيّة (النص ـ الواقع)، وقد تجلّى هذا الثنائيّ في مختلف كتاباته بعدّة مظاهر لا يسعنا التعرّض لها في هذه العجالة.

وبشكل عام، يعتقد الشهيد الصدر أنّ الشريعة قد جاءت شاملةً لجميع مجالات الحياة، مستوعبةً لها؛ فإنّ «شمول الشريعة واستيعابها لجميع مجالات الحياة من الخصائص الثابتة لها.. فنحن نستطيع أن نجد في هذه المصادر نصوصًا تؤكّد بوضوح على استيعاب الشريعة وامتدادها الى جميع الحقول التي يعيشها الإنسان، واعتنائها بالحلول لجميع المشاكل التي تعترضه في شتّى المجالات»[102]؛ فما نتوقّعه من الفكر الإسلاميّ صفة الشمول من ناحية، وصفة الواقعيّة من ناحية أخرى، أي أن يتناول الواقع؛ لأنّ الفكر الإسلاميّ كلّه مرتبط بالواقع الخارجيّ وليس لدينا فيه ما هو غير مرتبط به، ولكنّ هذا الواقع فيه غيب وفيه شهادة، والذي يحرّك الإنسان في الحقيقة عبارة عن أمرين: إيمانه بواقعيّة الفكر أوّلًا، وإيمانه بشموليّته ثانيًا.

وباعتبار أنّ مصدر الفكر الإسلاميّ هو مصدر الواقع نفسه، فهو من ناحيةِ عنصر الواقعيّة مطابقٌ للواقع مئة في المئة، ومن ناحية عنصر الشموليّة هو أقدر من أيّ فكر آخر مطروح على تحريك الإنسان؛ فهو قادرٌ على تحريك الإنسان بأعلى مراتب التحريك ودرجاته[103].

وعلى هذا الأساس ردّ الشهيد الصدر فكرة نقصان الشريعة وعدم كفاية الكتاب والسنّة، واعتبرها فكرةً تطوّرت «وتفاقم خطرها بالتدريج؛ إذ انتقلت الفكرة من اتّهام القرآن والسنّة ـ أي البيان الشرعيّ ـ بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثيرٍ من القضايا إلى اتّهام الشريعة نفسها بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شؤون الحياة، فلم تعد المسألة مسألةَ نقصان في البيان والتوضيح، بل في التشريع الإلهيّ بالذات»[104].

7 ـ قيام النظام على الفكر والعاطفة: يعتقد الشهيد الصدر أنّ الإسلام يُزاوج بين الفكر والعاطفة، ويجمع بين العقيدة وما تتطلّبه من ألوان الانفعال والإحساس حتى تدبّ الحياة في العقيدة وتصبح مصدرَ حركةٍ وقوّةَ دفع، وليست مجرّد فكرة عقليّة لا يخفق ولا يستجيب لها الحسّ ولا تتدفّق بالحياة.

وهذه هي السياسة العامّة للدعوة الإسلاميّة. فهي دعوة فكر وعاطفة، أو بالأحرى دعوة إلى عقيدة بكلّ ما تتطلّبه من مفاهيم وعواطف، وليست دعوةً فكريةً خالصةً تستهدف تطوير العقيدة طبقًا لها وتقف عند هذا الحدّ كالمذاهب الفلسفية المجرّدة، كما أنّها ليست في مستوى الدعوات العاطفية المنخفضة التي تستغلّ العاطفة فحسب وتعني بتربيتها دون أن تقوم على اُسس فكرية خاصّة، بل للدعوة الإسلاميّة طريقتها الخاصّة في مزج الفكرة بالعاطفة، وتفجير العواطف على أساس فكري، وبذلك تبقى محتفظة بالطابع الفكري بالرغم من اهتمامها بالجانب العاطفي وتنميته في الشخصية الإسلاميّة، لأنّها تستوحي كلّ عاطفة من مفهوم معيّن من مفاهيمها عن الحياة، والكون والإنسان. وبهذا تكون العواطف الإسلاميّة دائمًا نتيجة المفاهيم والأفكار الإسلاميّة وانعكاسات انفعاليّة لها، ولا يريد الإسلام أن يعرض المفاهيم والأفكار بمعزل عن العمل والتطبيق، وإنّما يريدها قوىً دافعةً لبناء حياة كاملة في إطارها وضمن حدودها، ولا يُتاح لعب هذا الدور إلاّ حين تتّخذ أشكالًا عاطفّية. وقد خلص الشهيد الصدر من ذلك إلى أمور:

1 ـ أنّ العقيدة يجب أن تكون قاعدةً فكريّةً للشخصيّة الإسلاميّة، كما يجب أن تكون قاعدةً للعواطف التي تنشأ عليها الشخصية الإسلاميّة، لكن لا مطلق العواطف، وإنّما العواطف التي يرتضيها الإسلام للمسلم، وهي ما اصطلح عليه بـ (العواطف الفكريّة) والتي ترتكز على مفاهيم فكريّة معيّنة نابعة من الإسلام نفسه.

2 ـ أنّ بإمكان الدعوة الإسلاميّة أن تمزج الفكرة بالعاطفة في تبشيرها ووسائلها، لكن لا العواطف السطحيّة المائعة، بل العواطف القائمة على مفاهيم فكريّة معيّنة تتّفق ووجهة نظر الإسلام العامّة[105].

وتتميمًا للفكرة يؤكّد الشهيد الصدر في بحثه حول الولاية على أنّ التشيّع يوحّد بين الجانب الروحيّ والجانب الفكريّ، وهو ليس اتّجاهًا روحيًّا خالصًا[106].

8 ـ الإسلام مبدأٌ يحدّد الطريقة والمفهوم: يقرّر الشهيد الصدر أنّ القاعدة التي يرتكز عليها المبدأ ـ الإسلام ـ تحتوي على الطريقة والفكرة؛ فهو يحدّد طريقة التفكير، كما يحدّد مفهومه عن العالم والحياة. ويعتقد الشهيد الصدر أنّ من الضروري تحديد الطريقة قبل تكوين المفاهيم؛ ولهذا نجده قد عمد في كتاب (فلسفتنا) إلى البدء بنظريّة المعرفة التي تحتوي على تحديد معالم التفكير وطريقته وقيمته، ثمّ درس بعد ذلك المفهوم الفلسفي العامّ عن العالم بصورة عامّة.

ومن الأمور المهمّة التي نبّه عليها الشهيد الصدر: أنّ «المستفاد من الإسلام بالصميم إنّما هو الطريقة والمفهوم، أي الطريقة العقليّة في التفكير والمفهوم الإلهيّ للعالم. وأمّا أساليب الاستدلال وألوان البرهنة على هذا وذاك، فلسنا نضيفها جميعًا إلى الإسلام، وإنّما هي حصيلة دراسات فكريّة لكبار المفكّرين من علماء المسلمين وفلاسفتهم»[107].

9 ـ خصائص تفصيليّة للشريعة والنظام: إلى جانب ما تقدّم، ذكر الشهيد الصدر في مواضع من كتبه خصائص تفصيليّة للرسالة والشريعة والنظام:

* أنّ الرسالة جاءت بنمط فريد من الثقافة الإلهيّة عن الله سبحانه وتعالى وصفاته وعلمه وقدرته، ونوع العلاقات بينه وبين الإنسان، ودور الأنبياء في هداية البشريّة ووحدة رسالتهم[108].

* أنّ الرسالة جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة والإنسان والعمل والعلاقات الاجتماعّية، وجسّدت تلك القيم والمفاهيم في تشريعات وأحكام[109].

* أنّ هذه الرسالة ظلّت سليمةً ضمن النصّ القرآنيّ دون أن تتعرّض لأيّ تحريف، وهو ما يمكّنها من مواصلة دورها التربويّ[110]، وهذا يعني أنّ نبوّة الرسول الأكرم- لم تفقد أهمّ وسيلة من وسائل إثباتها[111].

* أنّ مرور الزمن يمنح الدليل على الرسالة الإسلاميّة أبعادًا جديدةً من خلال تطوّر المعرفة البشريّة واتّجاه الإنسان إلى دراسة الكون بأساليب العلم والتجربة ; وليس ذلك لأنّ القرآن الكريم سبق إلى الاتّجاه نفسه وربط الأدلّة على الصانع الحكيم بدراسة الكون والتعمّق في ظواهره، ونبّه الإنسان إلى ما في هذه الدراسة من أسرار ومكاسب فقط؛ بل لأنّ الإنسان الحديث يجد اليوم في ذلك الكتاب ـ الذي بشّر به رجل اُمّيّ في بيئة جاهلة قبل مئات السنين ـ إشارات واضحةً إلى ما كشف عنه العلم الحديث[112].

* أنّ هذه الرسالة هي الرسالة السماويّة الوحيدة التي طُبّقت على يد الرسول الذي جاء بها، وسجّلت في مجال التطبيق نجاحًا باهرًا، واستطاعت أن تحوّل الشعارات التي أعلنتها إلى حقائق في الحياة اليومية للناس[113].

* أنّ هذه الرسالة بنزولها إلى مرحلة التطبيق دخلت التاريخ وساهمت في صنعه؛ إذ كانت هي حجر الزاوية في عملية بناء اُمّة حملت تلك الرسالة واستنارت بهداها. ولمّا كانت هذه الرسالة ربّانيةً وتمثّل عطاءً سماويًّا للأرض فوق منطق العوامل والمؤثّرات المحسوسة نتج عن ذلك ارتباط تاريخ هذه الاُمّة بعامل غيبيّ وأساس غير منظور لا يخضع للحسابات المادّيّة للتاريخ. ومن هنا يعتبر الشهيد الصدر أنّ من الخطأ أن نفهم تاريخنا ضمن إطار العوامل والمؤثّرات الحسّيّة فقط، أو أن نعتبره حصيلة ظروف مادّيّة، أو تطوّر في قوى الإنتاج؛ فإنّ هذا الفهم المادّيّ للتاريخ لا ينطبق على أمّة بُني وجودها على أساس رسالة السماء، وما لم ندخل هذه الرسالة في الحساب كحقيقة ربّانية لا يمكن أن نفهم تاريخها[114].

* أنّ أثر هذه الرسالة لم يقتصر على بناء هذه الأمّة، بل امتدّ من خلالها ليكون قوّةً مؤثّرةً وفاعلةً في العالم كلّه على مسار التاريخ[115].

* أنّ النبيّ محمدًا- الذي جاء بهذه الرسالة تميَّز عن جميع الأنبياء الذين سبقوه بتقديم رسالته بوصفها آخر أطروحة ربانيّة، وبهذا أعلن أنّ نبوّته هي النبوّة الخاتمة. ويعتقد الشهيد الصدر أنّ لفكرة النبوّة الخاتمة مدلولين: أحدهما: سلبيّ، وهو المدلول الذي ينفي ظهور نبوّة اُخرى على المسرح. والآخر: إيجابيّ، وهو المدلول الذي يؤكّد استمرار النبوّة الخاتمة وامتدادها مع العصور[116].

فقه النظريّة ودور الأحكام (القانون) والمفاهيم ومنطقة الفراغ في اكتشاف المذهب

للشهيد الصدر تحليلات مفصّلة حول ما بات يُنسب إليه ويُعرف بـ (فقه النظريّة)، وهي أطروحة قدّمها في كتاب (اقتصادنا) أثناء عرضه للمذهب الاقتصاديّ في الإسلام، وهي أوسع بكثير من أن نستعرضها في هذه العجالة، ولكن بالإمكان تلخيصها بجملة من النقاط:

الأولى: أنّه لا شكّ في أنّ الإسلام ـ بما يملك من عقيدة ومبدأ ـ يمتلك في الجانب التشريعيّ مذهبًا تشريعيًّا عامًّا تقوم على أكتافه الأحكام التشريعيّة الجزئيّة، والتي هي ـ بنظرة أخرى ـ كلّيّة.

ويعتقد الشهيد الصدر أنّ وظيفتنا ـ بوصفنا مسلمين ـ تختلف عن وظيفة أيّ باحث ينتمي إلى مدرسة أخرى غير الإسلام، فبينما يُتاح للأخير تكوين مذهب خاصّ به وتُقام على قواعده أحكام معيّنة، يتوجّب على المسلم أن يقوم بدل ذلك بعمليّة اكتشاف لا تكوين، فينطلق من الأحكام ـ التي يُمكن تسميتها أيضًا بالقانون ـ ليكتشف من خلالها المذهب وخطوطها العريضة[117].

الثانية: أنّ الأحكام لا تنفرد وحدها في تموين عمليّة الاكتشاف، وإنّما تقف إلى جانبها المفاهيم والتصوّرات الإسلاميّة التي يفسّر بها الإسلام واقعًا كونيًّا اجتماعيًّا أو تشريعيًّا[118]. ولهذا اعتبر الشهيد الصدر في موضع آخر أنّ «المفاهيم الإسلاميّة تقوم إذن بدور الإشعاع على النصوص التشريعيّة العامّة، أو بدور تموين الدولة بنوعيّة التشريعات الاقتصاديّة التي يجب أن تُملأ بها منطقة الفراغ»[119].

الثالثة: أنّ عمليّة اكتشاف المذهب يجب أن تتمّ مع الأخذ بعين الاعتبار منطقة الفراغ التي جعلها الإسلام وترك مهمّة ملئها لوليّ الأمر والحاكم الشرعيّ[120]؛ لأنّ منطقة الفراغ تمثّل جانبًا من المذهب الذي يشتمل على جانبين:

أحدهما: قد مُلئ من قِبَل الإسلام بصورة منجزة لا تقبل التغيير والتبديل.

والآخر: يشكّل منطقة الفراغ في المذهب، وقد ترك الإسلام مهمّة مَلئها إلى الدولة أو إلى وليّ الأمر الذي يملؤها وفقًا لمتطلّبات الأهداف العامّة للاقتصاد الإسلاميّ ـ أو النظام عمومًا ـ ومقتضياتها في كلّ زمان.

وقبل أن يسارع الإشكال إلى الشهيد الصدر بادر بنفسه إلى توضيح مراده من الفراغ وتحديد الدائرة التي يتّسع لها هذا الفراغ ـ مسامحةً ـ ؛ فقد أكّد على أنّه عندما يتحدّث عن (منطقة فراغ)، فذلك يكون بالنسبة إلى الشريعة الإسلاميّة ونصوصها التشريعيّة، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقيّ للإسلام الذي عاشته الأمّة في عهد النبوّة؛ لأنّ النبيّ – قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلّبه أهداف الشريعة على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلاميّ يعيشها، وهو لم يملأها بوصفه نبيًّا مبلّغًا للشريعة الإلهيّة الثابتة في كلّ مكان وزمان ليكون هذا المل‏ء الخاصّ من سيرة النبيّ لذلك الفراغ معبّرًا عن صيغ تشريعيّة ثابتة، وإنّما ملأه بوصفه وليّ الأمر المكلّف من قبل الشارع بمل‏ء منطقة الفراغ وفقًا للظروف[121].

وتقوم الفكرة الأساسيّة لمنطقة الفراغ هذه على أساس أنّ الإسلام لا يقدّم مبادئه التشريعيّة للحياة بوصفها علاجًا مؤقتًا أو تنظيمًا مرحليًّا يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، وإنّما يقدّمها باعتبارها الصورة النظريّة الصالحة لجميع العصور. فكان لا بدّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب أن ينعكس تطوّر العصور فيها ضمن عنصر متحرّك يمدّ الصورة بالقدرة على التكيّف وفقًا لظروف مختلفة.

ويقرّر الشهيد الصدر أنّ الحاجات والمشاكل الثابتة في الإنسان يعالجها الإسلام من خلال صورة تشريعيّة قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظريّة؛ لأنّها تعالج مشاكل ثابتة.

وعلى هذا الأساس وضع الإسلام منطقة الفراغ لتعكس العنصر المتحرّك وتواكب تطوّر الحاجات المتجدّدة، وتدرأ الأخطار التي قد تنجم عن هذا التطوّر المتنامي على مرّ الزمن.

وأكّد الشهيد الصدر على أنّ منطقة الفراغ لا تدلّ على نقص في الصورة التشريعيّة أو إهمالٍ من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبّر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة؛ لأنّ الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصًا أو إهمالًا، وإنّما حدّدت للمنطقة أحكامها بمنح كلّ حادثة صفتها التشريعيّة الأصيلة، مع إعطاء وليّ الأمر صلاحيّة منحها صفة تشريعيّة ثانويّة حسب الظروف[122].

النظام الإسلاميّ وجدليّة الثابت والمتغيّر (منطقة الفراغ وصلاحيّات وليّ الأمر)

يقدّم الإسلامُ نظامه الإسلاميّ بوصفه قاعدة صالحة للبناء الاجتماعيّ في كلّ مكان وزمان، لا باعتباره تنظيمًا مرحليًّا وشكلًا اجتماعيًّا مرتبطًا بعصر معيّن أو ظروف خاصّة.

أمّا كيف يُمكن لنظام اجتماعيّ واحد أن يعالج مشاكل الحياة الاجتماعيّة وينظّم شؤونها في عصور متعدّدة تختلف في أسلوب الحياة ونوع الحاجات وطبيعة المشاكل التي تتعرّض لها؟ فهذا ما يتّضح من خلال دراسة الحاجات الإنسانيّة التي نلاحظ أنّ فيها جانبًا رئيسيًّا ثابتًا على مرّ الزمن، كما أنّ فيها جوانب تستجدّ وتتطوّر طبقًا للظروف والأحوال، وتتطوّر وفقًا للخبرة بالحياة وتعقيداتها. وبهذا يجب أن يكون في النظام الاجتماعيّ جانبٌ رئيسيٌّ ثابت وجوانب مفتوحة للتطوّر والتغيّر ما دامت الحاجات الإنسانيّة التي تشكّل أساس الحياة الاجتماعيّة تحتوي على جوانب ثابتة وجوانب متغيّرة، فتنعكس كلّ من جوانبه الثابتة والمتطوّرة في النظام الاجتماعيّ الصالح.

وهذا هو الواقع في النظام الاجتماعيّ للإسلام تمامًا؛ فهو يشتمل على جانب رئيسيّ ثابت يتّصل بمعالجة الحاجات الأساسيّة الثابتة في حياة الإنسان، كما يشتمل على جوانب مفتوحة للتغيّر وفقًا للمصالح والحاجات المستجدّة، وهي الجوانب التي سمح فيها الإسلام لوليّ الأمر أن يجتهد فيها وفقًا للمصلحة والحاجة على ضوء الجانب الثابت من النظام[123].

إذًا، فالحاجات الثابتة يعالجها الجانب الثابت من التشريع الإسلاميّ، والحاجات المتغيّرة يعالجها الجانب المتغيّر. لكن هل يعني هذا أنّ الجانب الثابت لا يتّسم بأيّ مرونة؟

يعتقد الشهيد الصدر أنّ بعض الحاجات ثابتة في الإنسان، ولكنّ طرق إشباعها قد تتغيّر من زمن إلى آخر. وإذا كان الجانب التشريعيّ الذي يتكفّل معالجة الحاجات الثابتة ثابتًا، فهذا يعني أنّ هذا الجانب سيواجه مشكلة عند معالجة الحاجات التي تختلف طرق إشباعها من زمن لآخر. ومن هنا يعتقد الشهيد الصدر أنّ الجانب التشريعيّ الثابت نفسه قد زُوّد بعناصر من الحركة والمرونة تجعله صالحًا للانفتاح على متطلّبات التطوّر والتغيّر في أساليب الإشباع.

ومن هنا يمكننا ـ بعد تلخيص وتنظيم ما جاء في كلمات الشهيد الصدر[124] ـ أن ننتهي إلى أنّه على الرغم من أنّ الجانب الثابت جاء ليعالج حاجات ثابتة، إلاّ أنّ اختلاف طرق إشباع هذه الحاجات عبر العصور يتطلّب شيئًا من المرونة. وهذا ما يُمكن تحقيقه ـ بحسب الشهيد الصدر ـ بأحد أسلوبين:

الأسلوب الأوّل: أن يكتفي الجانب الثابت من التشريع بتحديد الخطوط العريضة تجاه هذه الحاجات الثابتة التي يختلف أسلوب إشباعها من زمن لآخر، ثمّ يترك أمر تحديد التفاصيل إلى وليّ الأمر ليعالجها وفق اجتهاده في الظروف والملابسات.

الأسلوب الثاني: أن يقوم الجانب الثابت من التشريع بتحديد الخطوط التفصيليّة للحاجات الثابتة، وتكون المرونة مستمدّة لا من تدخّل وليّ الأمر ـ كما في الحالة السابقة، بل بإرداف هذه التشريعات الثابتة التفصيليّة بفئة خاصّة من التشريعات تتميّز بخصوصيّتين:

الأولى: أنّها تشريعات ثابتة أيضًا.

الثانية: أنّها تتمتّع بطبيعتها بالمرونة وقابليّة تعديل التشريعات الثابتة من الفئة الأولى، من قبيل قاعدة لا ضرر ولا حرج و(كي لا يكون دُولةً)، وذلك وفقًا ـ كما في كثير من الحالات ـ لقاعدة الحكومة المبحوث عنها في علم الأصول، والتي لا مجال لاستعراضها حاليًّا.

ونستخلص ممّا تقدّم ـ على ضوء كلمات الشهيد الصدر بعد منهجتها ـ أنّ لدينا جانبين من التشريع الإسلاميّ:

الجانب الأوّل: الجانب الثابت من التشريع: وهو يضمّ فئتين من التشريعات:

الفئة الأولى: هي فئة التشريعات الثابتة التي لا تتمتّع بالمرونة وقابليّة تكييف غيرها من التشريعات الثابتة، وهي تصاغ بدورها على مستويين:

المستوى الأوّل: مستوى الخطوط العريضة.

المستوى الثاني: مستوى الخطوط التفصيليّة.

الفئة الثانية: فئة التشريعات الثابتة التي تتمتّع بالمرونة وقابليّة تكييف غيرها من التشريعات الثابتة، وذلك من خلال ممارسة دور الحكومة والهيمنة عليها (على تفصيلٍ خارج عن مهمّة البحث لم يتعرّض له الشهيد الصدر هنا).

الجانب الثاني: الجانب المتحرّك من التشريع: وهو الذي ترك الإسلام أمره لوليّ الأمر. على أن ننبّه إلى أنّ الهدف من هذا (التفويض) هو إمداد الجانب الثابت المصاغ على نحو الخطوط العريضة بالمرونة والتكيّف مع الظروف المتغيّرة. أمّا إذا كان الجانب الثابت مصاغًا على مستوى الخطوط التفصيليّة فالذي يمدّه بالمرونة هو الفئة الثانية من التشريعات لا الجانب الثاني من التشريع.

إلى هنا لا ينتهي كلامنا، لأنّ ما تقدّم يحتاج إلى مزيد تتميم، وهو ما نطرحه في نقاط:

النقطة الأولى: عدم انحصار حاجات الإنسان في الحاجات التي تختلف طرق إشباعها:

إنّ من الممكن أن يُثار بوجهنا السؤال التالي: إذا كان الجانب الثابت من التشريع يشتمل على الفئتين السابقتين من التشريعات فحسب، فهل يعني هذا أنّ التشريعات الثابتة تتمتّع دائمًا بالمرونة؟ سواءٌ أكان من خلال تدخّل وليّ الأمر في منطق الفراغ التشريعيّ أم من خلال التشريعات الثابتة الحاكمة التي تنتمي إلى الفئة الثانية؟

ونجيب عن هذا السؤال ـ نيابةً عن الشهيد الصدر ـ بالنفي؛ حيث إنّ المرونة التي احتاجها الجانب الثابت من التشريع تنحصر في دائرة الحاجات الثابتة التي تختلف طرق إشباعها بحسب الظروف والملابسات، وهذا هو الذي وقع أساسًا للتقسيم.

أمّا إذا كانت الحاجات الثابتة آحاديّة الإشباع، بمعنى أنّ طريقة إشباعها لا تتفاوت من زمن لآخر، فهذا ما بحثه الشهيد الصدر في بحث (نظرة عامّة في العبادات)؛ حيث ذهب إلى أنّ العبادات تعبّر عن حاجة ثابتة في نفس الإنسان غير مرتبطة بالطبيعة بأيّ شكل من الِكال حتّى تتفاوت طرق إشباعها من زمن لآخر، ولهذا فـ«نظام العبادات في الإسلام علاجٌ ثابتٌ لحاجات ثابتة من هذا النوع، ولمشاكل ليست ذات طبيعة مرحليّة»[125].

وهذا الجواب وإن كان يحلّ المشكلة في هذه الدائرة، إلاّ أنّه يثير إشكالًا ربما يكون أكثر إحراجًا؛ إذ لو كانت الحاجات الثابتة التي يعالجها نظام العبادات لا تختلف طرق إشباعها من زمن لآخر، فكيف نفسّر اختلاف نظام العبادات في الإسلام عن أنظمة العبادات التي سبقته في الأديان الأخرى؟

هذا في الحقيقة يجيب عنه الشهيد الصدر في محاضرة له حول التجديد والتغيير في النبوّة؛ حيث يعتقد بأنّ من مبرّرات تجديد النبوّة هو تطوّر الإنسان المدعو. ويعتقد الشهيد الصدر ـ ضمن تحليل لا يسعنا استعراضه ـ أنّ إنسان عصر الإسلام قد بلغ في خطّ وعي التوحيد وتحمّل مسؤوليّات الدعوة الحدّ الأعلى، وإن بقي خطّ السيطرة على الطبيعة مفتوحًا من بعده، وهو خطٌّ لا علاقة له بتفعيل دواعي تجديد النبوّة[126]، فنكمل ـ نيابةً عن الشهيد الصدر ـ بأنّ نظام العبادات في الإسلام جاء ملبّيًا لقمّة الوعي التوحيديّ.

النقطة الثانية: منابع المرونة التي تكيّف الجانب الثابت غير المرن

تقدّم معنا أنّ الشهيد الصدر مثّل ـ عند حديثه عن الفئة الثانية من الأحكام الثابتة التي تتمتّع بمرونة الحكومة والهيمنة على سائر الأحكام الثابتة ـ بقاعدة (لا ضرر) و (لا حرج) و (كي لا تكون دولةً). وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: هل يجب أن تكون هذه الأحكام الكلّيّة المعبّرة عن الجانب الثابت واردة بألفاظها في الشريعة، فتكون ـ على الرغم من مرونتها من هذه الناحية ـ مبتلاة بعدم المرونة من ناحية كونها محدّدة لفظًا؟

لسنا بحاجة إلى كثيرٍ من البحث في تراث الشهيد الصدر حتّى نجيب عن هذا التساؤل بالنفي؛ فقد أكّد الشهيد الصدر في (الإسلام يقود الحياة) على أنّ الشريعة قد أمدّتنا بمجموعة من الخطوط والمؤشّرات العامّة التي بإمكانها أن تساهم إلى حدّ كبير في تكييف العناصر الثابتة وإمدادها بالقدرة على التكيّف مع تطوّر الظروف:

أ ـ اتّجاه التشريع: وهو يعني أن تتواجد في الشريعة وضمن العناصر الثابتة أحكام منصوصة في الكتاب والسنّة تتّجه كلّها نحو هدف مشترك على نحو يبدو اهتمام الشارع بتحقيق ذلك الهدف، فيعتبر هذا الهدف بنفسه مؤشّرًا ثابتًا، وقد يتطلّب الحفاظ عليه وضع عناصر متحرّكة لكي يضمن بقاء الهدف أو السير به إلى ذروته الممكنة[127].

وكان الشهيد الصدر قد نصّ على هذه الفكرة في كتاب (المعالم الجديدة للأصول)؛ حيث اعتبر أنّ من ألوان الدليل الاستقرائيّ أن ندرس عددًا كبيرًا من الأحكام الشرعيّة فنجد أنّها تشترك جميعًا في اتّجاه واحد، فنكتشف قاعدةً عامّةً في التشريع الإسلاميّ عن طريقها[128].

ب ـ الهدف المنصوص لحكم ثابت: ويعني هذا المؤشّر أنّ مصادر الإسلام ـ من الكتاب والسنّة ـ إذا شُرّعت حكمًا ونصّت على الهدف منه كان الهدف علامةً هاديةً لملء الجانب المتحرّك من النظام الإسلاميّ بصيغ تشريعيّة تضمن تحقيقه، على أن تدخل هذه الصيغ ضمن صلاحيّات الحاكم الشرعيّ الذي يجتهد ويقدّر ما يتطلّبه تحقيق ذلك الهدف عمليًّا من صيغ تشريعيّة على ضوء ظروف المجتمع وشروطه الاقتصاديّة والاجتماعيّة[129].

ج ـ القيم الاجتماعيّة التي أكّد الإسلام على الاهتمام بها: وهذا المؤشّر يعني أنّ في النصوص الإسلاميّة من الكتاب والسنّة ما يؤكّد على قيم معيّنة وتبنّيها، كالمساواة والأخوّة والعدالة والقسط ونحو ذلك، وهذه القيم تشكّل أساسًا لاستيحاء صيغ تشريعيّة متطوّرة ومتحرّكة ـ وفقًا للمستجدات والمتغيّرات ـ تكفل تحقيق تلك القيم وفقًا لصلاحيّات الحاكم الشرعيّ في ملء منطقة الفراغ[130]. وهذا يعيدنا إلى ما تقدّم معنا سابقًا لدى حديثنا عن دور القرآن الكريم في العقيدة والشريعة، وهو ما عبّر عنه الشهيد الصدر بروح التشريع[131]، وقد مثّل له بردّ الروايات التي يُفهم منها التمييز بين الأعراق على أساس القيمة المستوحاة من روح القرآن الكريم والمؤكّدة على تساوي الناس أمام الله تعالى من حيث انتماؤهم العرقيّ.

ويبدو أنّ الفارق بين المؤشّر الأوّل وبين هذا المؤشّر ـ على الرغم من اشتراكهما في نوعيّة الدليل المؤدّي إليهما ـ وهو الدليل الاستقرائيّ ـ في أنّ الأوّل يرتبط بجانب الأحكام التقنينيّة، بينما يرتبط هذا المؤشّر بجانب القيم.

د ـ اتّجاه العناصر المتحرّكة على يد النبيّ أو الوصيّ: فبعد أن كان للنبيّ- وأوصيائه  شخصيّتان: الأولى: تبليغيّة يبلّغون من خلالها الأحكام الإلهيّة والأخرى: قياديّة حاكميّة يضعون بموجبها العناصر المتحرّكة التي يستوحونها من المؤشّرات العامّة للإسلام والروح الاجتماعيّة والإنسانيّة للشريعة المقدّسة، بعد ذلك فإنّ من الممكن الاستفادة من هذه العناصر المتحرّكة التي كانوا يضعونها؛ لأنّها تحمل دون شكّ الروح العامّة للتشريع وتعبّر عن تطلّعاته في واقع الحياة. ومن هنا كانت ممارسات القائد المعصوم في هذا المجال ذاتَ دلالة ثابتة، وعلى الحاكم الشرعيّ أن يستفيد منها مؤشّرًا إسلاميًّا ـ بقدر ما لا يكون مشدودًا إلى طبيعة المرحلة التي رافقتها ـ ويحدِّد على أساس هذا المؤشّر العناصر المتحّركة[132].

هـ ـ الأهداف التي حُدِّدت لوليِّ الأمر: فقد وضعت الشريعة في نصوصها العامّة وعناصرها الثابتة أهدافًا لوليّ الأمر وكلّفته بتحقيقها، أو السعي من أجل الاقتراب نحوها بقدر الإمكان. وتشكّل هذه الأهداف أساسًا لصياغة العناصر المتحرّكة بنحوٍ يحقّق تلك الأهداف، أو يجعل المسيرة الاجتماعيّة متّجهةً بأقصى قدر ممكن من السرعة نحو تحقيقها[133].

النقطة الثالثة: علاقة الجانب الثابت بالجانب المتحرّك:

بدايةً يقرّر الشهيد الصدر أنّ النظام الإسلاميّ لا يستكمل صورته الكاملة إلاّ باندماج العناصر المتحرّكة مع العناصر الثابتة في تركيب واحد تسوده روح واحدة وأهداف مشتركة[134]. كما يُفهم منه أنّ إحدى الوظائف الملقاة على عاتق العناصر المتحرّكة هي الحفاظ على الأهداف التي طلبت الشريعة من وليّ الأمر تحقيقها في حال لم تفِ العناصر الثابتة بتحقيق الهدف المذكور[135]. ولهذا اعتبر ـ عند حديثه عن المؤشّر المتمثّل في اتّجاه التشريع ـ أنّ الحفاظ على الهدف الذي تسير نحوه مختلف العناصر الثابتة قد يتطلّب وضع عناصر متحرّكة لضمان بقاء الهدف أو السير به إلى ذروته الممكنة[136].

أمّا كيف يتمّ وضع العناصر المتحرّكة من خلال المؤشّرات الإسلاميّة العامّة، فهذا يتطلّب الآتي:

1 ـ فهمًا إسلاميًّا واعيًا للعناصر الثابتة وإدراكًا معمّقًا لمؤشّراتها ودلالاتها العامّة.

2 ـ استيعابًا شاملًا لطبيعة المرحلة وشروطها ودراسةً دقيقةً للأهداف التي تحدّدها المؤشّرات العامّة وللأساليب التي تتكفّل بتحقيقها.

3 ـ فهمًا فقهيًّا قانونيًّا لحدود صلاحيّات الحاكم الشرعيّ ـ وليّ الأمر ـ والحصول على صيغ تشريعيّة تجسِّد تلك العناصر المتحرّكة في إطار صلاحيّات الحاكم الشرعيّ وحدود ولايته الممنوحة له.

ومن هنا اعتبر الشهيد الصدر أنّ التخطيط للنظام الاقتصاديّ ـ أو الإسلاميّ عامّة ـ مهمّة «يجب أن يتعاون فيها مفكّرون إسلاميّون واعون ـ ويكونون في نفس الوقت فقهاء مبدِعين ـ وعلماء اقتصاديّون محدثون»[137].

النقطة الرابعة: أنّ أيّ حلّ يُقدّم لجزء من نظام الإسلام يبقى جزئيًّا مع غياب الأجزاء الأخرى

يمكن إدراج هذه النقطة ضمن خصائص النظام الإسلاميّ العامّة، ولكنّنا فضّلنا تأجيلها إلى هذا الموضع من البحث لارتباطها بالجانب التشريعيّ التقنينيّ أكثر من ارتباطها بالجانب المفاهيميّ. وتتلخّص هذه النقطة بأنّ أيّ أطروحة كبرى يواجهها الفقيه ويريد وضع حلّ لها فإنّ مهمّته تختلف بين حالةٍ يكون فيها النظام الذي تنتمي إليه المشكلة جزءًا من منظومة كاملة تضمّ أنظمة أخرى متجانسة وتنتمي إلى مكوّن حضاريّ واحد، وبين حالةٍ يكون فيها هذا النظام منعزلًا عن سائر الأجزاء ونستهدف معالجته بطريقة جزئيّة مورديّة، وهذا ما نلمسه بشكل واضح من مقدّمة الشهيد الصدر لكتاب (البنك اللاربويّ في الإسلام)؛ حيث فرّق بين موقف مَن يريد أن يخطّط لبنك لا ربويّ ضمن تخطيط شامل للمجتمع، أي بعد أن يكون قد تسلّم زمام القيادة الشاملة لكلّ مرافق المجتمع، وبين موقف مَن يريد أن يخطّط لإنشاء بنك لا ربويّ بصورة مستقلّة عن سائر جوانب المجتمع، أي مع افتراض استمرار الواقع الفاسد والإطار الاجتماعيّ اللاإسلاميّ للمجتمع، وبقاء المؤسّسات الربويّة الاُخرى من بنوك وغيرها، وتفشّي النظام الرأسماليّ مضمونًا وروحًا في الحياة الاقتصاديّة والحياة الفكريّة والخلقيّة للناس[138].

أزمة الأمّة الإسلاميّة من الانبعاث والتفاقم إلى التبديد

انبعاث الأزمة وتفاقمها:

يؤكّد الشهيد الصدر في محاضراته حول أئمّة أهل البيت( على أنّ انحراف التجربة الإسلاميّة بدأ بعد اختلال أحد أضلاع المثلّث المتقدّم ذكره (المكوَّن من المربّي والنظام التربويّ والأمّة)[139]، وذلك بعد أن فقدت الأمّة القيادة الصالحة لتجسيد النظام التربويّ في الأمّة. علمًا بأنّه يعتقد بأنّ النظام الإسلاميّ قد مرّ بتجربة من أروع تجارب النُّظُم الاجتماعية وأنجحها، ثمّ عصفت به العواصف بعد أن خلا الميدان من القادة المبدئيّين أو كاد، وبقيت التجربة في رحمة أشخاص لم ينضج الإسلام في نفوسهم، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره، فعجزت عن الصمود والبقاء، فتقوَّض الكيان الإسلاميّ، وبقي نظام الإسلام فكرةً في ذهن الأمّة الإسلاميّة، وعقيدةً في قلوب المسلمين، وأملًا يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون[140]. وفي محاضراته حول أئمّة أهل البيت( تحليلات مستفيضة لهذه الجوانب خارجة عن محلّ الكلام فعلًا.

وإذا كان بعض الباحثين المعاصرين يعزو مشكلة الأزمة التي عصفت بالأمّة الإسلاميّة إلى الفصل بين القيادة السياسيّة والفكريّة كما تقدّم معنا سابقًا، فنستطيع أن ندّعي أنّ الشهيد الصدر يبتبنّى وجهة النظر نفسها، ولكنّه بدل أن يطبّقها على قادة المذاهب الأربعة في صراعهم مع الخلفاء العبّاسيّين، يعتبر أنّ سبب شقاء هذه الأمّة بدأ منذ فصلها بين ما اصطلح عليه في (بحث حول الولاية) بالفصل بين «المرجعيّة الفكريّة» وبين «المرجعيّة في العمل القياديّ والاجتماعيّ» اللتين يفترض اجتماعهما حصرًا في أهل البيت([141]، الذين كانوا يحظون دون غيرهم بما عبّر عنه الشهيد الصدر في مقالاته في علوم القرآن بـ«الدرس على المستوى الخاصّ»، وهو الذي ميّزهم عن سائر أفراد الأمّة الذين لم يحظوا سوى بالدرس على المستوى العام[142].

هذا في ما يرتبط بالعامل الداخليّ لولادة الأزمة. أمّا العامل الرئيس في تفاقمها المتمثّل في دور الاستعمار، فلا يسعنا في هذا الاختصار احتواؤه بالكامل، ولكنّ ما سيأتي في طيّات الكلام كفيلٌ بإلقاء الضوء عليه.

الشرط الأساس لنهضة الأمّة:

يعتبر الشهيد الصدر أنّ الشرط الأساس لنهضة – أيّ أمّة – هو أن يتوفّر لديها المبدأ الصالح الذي يحدّد لها أهدافها وغاياتها، ويضع لها مثلها العليا، ويرسم اتّجاهها في الحياة، أي: توفّر المبدأ الصحيح أوّلًا، وفهم الأمّة له ثانيًا، وإيمانها به ثالثًا، فإذا استجمعت الأمّة هذه العناصر الثلاثة، فكان لديها مبدأ صحيح تفهمه وتؤمن به، أصبح بإمكانها أن تحقّق لنفسها نهضةً حقيقيّة، وأن توجد التغيير الشامل الكامل في حياتها على أساس ذلك المبدأ، واعتبر الشهيد الصدر ـ في تحليله لواقع الأمّة المعاصرة ـ أنّ أمّتنا لا تفقد في الحقيقة من عناصر الشرط الأساسيّ لنهضتها البنّاءة إلّا واحدًا منها، وهو فهم المبدأ، فبعد أن نفّذ أعداء الأمّة فيها مخطّطهم الفظيع أضحت لا تعرف من الإسلام شيئًا واضحًا محدّدًا، أو تعرف ما زوّره المستعمِرون من أفكاره وحقائقه. وبهذه الطريقة وجد التناقض العجيب في كيانها، فأصبحت لا تفهم الإسلام فهمًا صحيحًا كاملًا بالرغم من أنّها ظلّت باقيةً على إيمانها به[143].

مرتكزات النهضة في واقع المسلم المعاصر:

تتحدّد درجة نجاح أيّ نظام وقدرته على تعبئة إمكانات المجتمع وتفجير الطاقات الصالحة في أفراده تبعًا لمدى انسجامه إيجابًا أو سلبًا مع التركيب النفسيّ والتأريخيّ لهؤلاء الأفراد. ولا يقصد الشهيد الصدر أنّ النظام الإسلاميّ يجسّد الواقع النفسيّ المهزوم للأمّة ويكرّسه في صيغة نظام، وإنّما يقصد أنّ أيّ بناء حضاريّ جديد للمجتمع يستهدف وضع أطُر سليمة لتنمية الاُمّة يتوجّب عليه أن يُدخِل في الحساب مشاعر الأمّة ونفسيّتها وتركيبها العقائديّ والتاريخيّ، ويبحث ـ على ضوء ذلك ـ عن مركَّب حضاريّ قادر على تحريك الأمّة وتعبئة كلّ قُواها وطاقاتها للمعركة ضدّ التخلّف.

وقد ذكر الشهيد الصدر النقاط التي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند محاولة النهوض بالإنسان المسلم المعاصر الذي يعيش أزمة اليوم ومحنته، ومنها:

أ ـ الإيمان بالإسلام: إذ على الرغم من أنّ الإسلام بات عقيدةً باهتةً في نفوس الناس، إلاّ أنّه يشكّل عاملًا سلبيًا تجاه أيِّ إطار حضاريّ أو نظام اجتماعيّ لا ينبثق فكريًّا وإيديولوجيًّا من الإسلام; لأنّ الأمّة تؤمن ـ ولو نظريًّا ـ على الأقلّ بأنّ كلّ إطار أو نظام لا يستمدّ قواعده من الإسلام فهو غير مشروع[144].

 ب ـ وضوح التجربة والارتباط العاطفيّ بتاريخها: فأيُّ مسلم لا يملك صورةً واضحةً عن الحكم الإسلاميّ في عصور الرسالة ولا تهزّه أمجاد تلك الصورة وروعتها، ولا يشعر بالزهو والاعتزاز إذا أحسّ بعمق أنّه يُعيد إلى الدنيا من جديد تلك الأيّام؟! وهذا يهيّئ الجوَّ النفسيَّ للاستجابة الكاملة لعمليّة البناء الكبير، وتعبئة كلّ فرد لطاقاته في هذا السبيل لا بوصفه آلةً تسير وفقًا للخطّة، بل بوصفه واعيًا على الخطّة، مدرِكًا معالمها ومثلها الأعلى في واقع الحياة. ومن هنا اعتبر الشهيد الصدر أنّ الدعوات التي تَستورد أمثلَتها ومُثُلَها العليا من تجارب عاشت أو تعيش خارج نطاق العالم الإسلاميّ وتأريخ المسلمين تواجه صعوبةً كبيرةً في إعطاء رؤية واضحة للفرد المسلم عن مثلها الأعلى ومثالها الذي تحتذيه وتدعو إلى تجسيده بين المسلمين؛ لأنّه غريب عنهم ولا يملكون عنه إلاّ رؤىً باهتةً ومتهافتة[145].

 ج ـ نظافة التجربة وعدم ارتباطها بالمستعمِرين: فبعد أن عانت الأمّة في العالم الإسلاميّ من الاستعمار معاناةً شديدة منذ أن وطأ المستعمر أرض المسلمين بلورت لديها هذه المعاناة المريرة شعورًا نفسيًّا خاصًّا تعيشه تجاه الاستعمار يتّسم بالشكّ والاتّهام، ويخلق لديها نوعًا من الانكماش عن المعطيات التنظيميّة للإنسان الأوروبيّ[146]، وكان الشهيد الصدر قد أشار لهذه الفكرة في (اقتصادنا)[147] وفي بعض مقالاته[148].

د ـ امتصاص المحافظين لحركة البناء الجديد: يعتقد الشهيد الصدر أنّ أيّ حركة تجديد في العالَم الإسلاميّ تصطدم حتمًا بعدد كبير من الأعراف والسنن الاجتماعيّة والتقاليد السائدة التي اكتسبت على مرّ الزمن درجةً من التقديس الدينيّ. وتواجه حركة التجديد في هذه الحالة أحد خيارين: فإمّا أن تحاول استئصال الجذور النفسيّة لهذا الرفض، وإمّا أن تحاول فصل الدين عن هذه التقاليد وتوعية الجماهير على حقيقة الدين ودوره في الحياة.

ويعتقد الشهيد الصدر أنّ الخيار الأوّل لا يحلّ المشكلة بل يزيدها تعقيدًا؛ لأنّ حركة التجديد سوف تُسفِر عن وجهٍ عدائيٍّ للدين في نظر المعتقدين بهذه التقاليد، بينما يصلح الخيار الثاني حلًا للمشكلة إذا كانت الحركة التجديديّة قائمة على أساس الإسلام وترتبط ارتباطًا وثيقًا بمصادره الحقيقيّة في الأمة، وتجسِّد هذا الإسلام في دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ لأنّ هذه الحركة قادرة على امتصاص الجزء الأعظم من المحافظين لمصلحة البناء والتجديد؛ لأنّها قادرة على تفسير الإسلام والتمييز بينه وبين السنن والأعراف الاجتماعيّة التي خلقتها العادات والتقاليد[149].

ومن هنا نلاحظ أنّ الشهيد الصدر عندما قرأ حركة الإمام الحسين استخلص منها عبرة عامّة تتلخّص في أنّنا «حينما نريد أن ننفذ إلى ضمير الأمّة التي ماعت أخلاقيًّا، لا بدّ لنا أيضًا ـ في الوقت نفسه الذي نفكّر في إنشاء أخلاقيّتها من جديد ـ أن نفكّر في عدم مجابهة الأخلاقيّة القائمة بالشكل الذي يعزل هذا الشخص الذي يريد أن يغيّر أخلاقيّة الأمّة ؛ فلا بدّ له أن يفكّر في انتهاج طريقٍ في التغيير يستطيع به أن ينفذ إلى ضمير الأمّة ، وهو لا يمكنه أن ينفذ إلى ضمير الأمّة إلّا إذا حافظ باستمرارٍ على معقوليّة ومشروعيّة عمله في نظر الأمّة»[150].

هـ ـ التطلّع إلى السماء ودوره في البناء: حيث يقرّر الشهيد الصدر أنّ أخلاقيّة الإنسان الشرقيّ تختلف عن أخلاقيّة الإنسان الأوروبيّ نتيجةً لتاريخه الدينيّ؛ فهو ينظر بطبيعته الى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض، ويأخذ بعالم الغيب قبل أن يأخذ بالمادة والمحسوس. ويُمكن أن تؤدّي نظرة إنسان العالَم الإسلاميّ إلى السماء قبل الأرض إلى موقف سلبيّ من إحياء الأرض إذا فُصلت الأرض عن السماء. أمّا إذا أُلبست الأرض إطار السماء وأُعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة، فسوف تتحوّل تلك النظرة الغيبيّة لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محرِّكة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة. وبالتالي فإنّ الدولة الإسلاميّة لا تنتزع من الإنسان نظرته العميقة إلى السماء، وإنّما تُعطي له المعنى الصحيح للسماء، وتسبغ طابع الشرعيّة والواجب على العمل في الأرض بوصفه مظهرًا من مظاهر خلافة الإنسان لله على الكون، وبهذا تجعل من هذه النظرة طاقة بناء، وفي الوقت نفسه تحتفظ بها كضمان لعدم تحوّل هذه الطاقة من طاقةِ بناء إلى طاقة استغلال[151].

الطابع الذي تتّخذه الدعوة الدينيّة الإصلاحيّة في هذا العصر:

يميّز الشهيد الصدر في بعض كتاباته بين ما اصطلح عليه بـ(الدعوة الإصلاحيّة) وبين ما اصطلح عليه بـ(الدعوة التغييريّة). ويعرّف الدعوة الإصلاحيّة بأنّها الدعوة التي تستهدف إصلاح جانب معيّن من جوانب الواقع القائم، متغاضيةً في حقل نشاطها العمليّ عن سائر جوانبه الأخرى، وعن الركائز الأساسيّة التي يبنى عليها الواقع بصورة عامّة، أي أنّها تسعى إلى إنشاء البنيات الفوقيّة التي تتألّف منها شخصيّة الاُمّة، دون أن تنفذ إلى البنيات والجذور الرئيسة في شخصيّتها.

بينما الدعوة التغييريّة هي الدعوة التي لا تدين بالواقع الذي تعيش فيه الأمة؛ لأنّه يناقض مبدأها جملةً وتفصيلًا، فتبني عملها على تغييره تغييرًا جذريًّا، وذلك بحمل رسالة فكريّة تبشّر بها لإنشاء شخصيّة الأمّة إنشاءً جديدًا بكلّ بنياتها الأساسيّة والفوقيّة، وإنشاء الحياة على قواعد تلك الرسالة وركائزها المحدّدة، سواء أكان ذلك في النظرة الفلسفيّة نحو الكون والحياة، أو المقياس العمليّ العامّ للحياة، أو في طريقة التفكير التي يتكوّن بها الكيان الاجتماعيّ للأمّة.

وفي مقام تحديد وظيفة الإنسان المسلم المعاصر من هذين الأسلوبين وهاتين الطريقتين، قرّر الشهيد الصدر أنّ ذلك متوقّف على النظر إلى الظروف التي يعيشها الإسلام وصدى وجوده في واقع الأمّة، وعلى هذا الأساس ميّز بين حالتين وموردين:

مورد الدعوة الإصلاحيّة: تتّخذ الدعوة الإسلاميّة طريقتها الإصلاحيّة إذا كان الإسلام هو القاعدة الرئيسة التي يبتني عليها نظام الحياة وكيان الأمّة، وإذا كانت العقيدة الإسلاميّة هي القاعدة الفكريّة والدستوريّة للدولة والمنهج العامّ لمختلف ألوان النشاط الفرديّ والاجتماعيّ والسياسيّ؛ فبإمكان الأمّة في هذه الحالة أن تتّخذ طريق الإصلاح للحفاظ على القاعدة الإسلاميّة للدولة وإصلاح الجوانب التي لا تنسجم مع هذه القاعدة.

مورد الدعوة التغييريّة: أمّا إذا فقد الإسلام مركزه من القاعدة الأساسيّة واستبدل بغيره من القواعد الفكريّة، أو استبدل باللاقاعدة، فإنّ الدعوة إلى الإسلام يجب أن تكون دعوة لإعادة الإسلام إلى مركزه من الدولة ومن الأمّة، في عمليّة تغيير شاملة لكلّ الواقع اللاإسلاميّ.

ومن الحقائق المهمّة التي يقرّرها الشهيد الصدر في هذا الصدد أنّ الظروف التي يعيشها الإسلام منذ نهاية الحرب الاُولى تستدعي العمل بحسب الحالة الثانية؛ إذ قوّض المستعمرون الدولة الإسلاميّة ودخلوا بلاد المسلمين وتقاسموها، وقاموا بعمليّة انقلاب شامل في حياة الأمّة، وأقصوا العقيدة الإسلاميّة عن وضعها الرئيس في كيان الأمّة السياسيّ والاجتماعيّ، ووضعوا الأمّة في أطر فكريّة وسياسيّة غريبة عن عقيدتها، من الديمقراطيّة الرأسماليّة والاشتراكيّة وما إليها من الأطر غير الإسلاميّة.

لذلك فإنّ واجب الدعوة في ظروف الإسلام الحاضرة أن تكون دعوة تغييريّة انقلابيّة تهدف استبدال القواعد اللاإسلاميّة التي اُقيم عليها الحكم والحياة الاجتماعيّة للأمّة بالقاعدة الفكريّة للإسلام ونظامه الاجتماعيّ للحياة.

ولا ينسى الشهيد الصدر في الوقت نفسه أن يؤكّد على حقيقة في غاية الأهمّيّة، وهي أنّ اتّخاذ الطابع التغييريّ لا يعني الوقوف من حركات الإصلاح موقف الرفض والعداء؛ وذلك لأنّ الإسلام يوجب علينا تطبيق ما أمكن من أحكامه في أيّ جانب من حياة الأمّة، وإن لم يمكن تطبيق أحكامه من الجوانب الأخرى[152].

حلُّ أزمة المسلم المعاصر: الجمع بين القراءتين أو التفسير الموضوعيّ التوحيديّ:

تقدّم في المباحث التمهيديّة أنّ من أهمّ مكوّنات أطروحة إسلاميّة المعرفة عند أصحاب المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ مسألة الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، وأنّ الحلّ يكمن في الجمع بين هاتين القراءتين.

ونحن إذا رجعنا إلى تراث الشهيد الصدر وجدنا أنّه يتحدّث بوضوح ـ في أطروحة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ـ عن معنيين للتفسير الموضوعي:

أحدهما: التفسير الموضوعي القائم على تجميع الآيات القرآنيّة التي تتمحور حول موضوع واحد وتقدّم موقفًا قرآنيًّا عرضه القرآن الكريم في آياته. وميزة هذا المعنى أنّ حركة التفسير فيه حركة تنطلق من القرآن الكريم وتصل إلى الواقع؛ فهي تقدّم ابتداءً موقف الوحي ومفاهيمه وقيمه التربويّة التي أراد تنشئة المسلمين عليها. ويُمكننا أن نصطلح على هذا المعنى بالتفسير الموضوعيّ النزوليّ؛ لأنّه يبدأ من القرآن الكريم وينتهي إلى الإنسان.

الثاني: التفسير الموضوعيّ القائم على الانطلاق من الواقع من خلال التشبّع بهذا الواقع وما يزخر به من تجارب وحاجات وأطروحات، ثمّ الانطلاق منه إلى القرآن الكريم من أجل عرض الموضوع عليه، ليقوم القرآن الكريم ـ من خلال عمليّة تفسير استنطاقيّة ـ بتقديم موقفه من هذا الموضوع المستجدّ، وهذا ما عبّر عنه الشهيد الصدر بالتوحيد بين الواقع والقرآن الكريم في سياق واحد، ولذا عبّر عنه بـ(التفسير الموضوعيّ التوحيديّ)، والحركة فيه ثنائيّة الاتّجاه؛ فهي صعوديّة من الواقع إلى القرآن بهدف العرض، ونزوليّة من القرآن إلى الواقع بهدف تحديد الموقف.

إذًا فلحركة التفسير اتّجاهان لا اتّجاه واحد، خلافًا لما فهمه بعض الباحثين[153].

وتوجد تفصيلات كثيرة ترتبط بمفاصل الأطروحة التي عرضها الشهيد الصدر في محاضرات التفسير الموضوعيّ لا يتّسع لها المجال، ونحيل ـ بهدف الوقوف عليها ـ إلى البحث الذي تناولنا فيه الموضوع بالتفصيل ومن مختلف الزوايا[154].

إذًا، فالشهيد الصدر يصادق قطعًا على ضرورة القراءتين: قراءة ابتدائيّة للوحي يتمّ من خلالها تربية الإنسان على مفاهيم الوحي. وقراءة كونيّة تستهدف التشبّع بالواقع بهدف عرض تجاربه على القرآن الكريم وتحديد موقفه منها، ولكن يبدو أنّ منظّري إسلاميّة المعرفة أرادوا من قراءة الكون اكتشاف الطبيعة لا أكثر، ولم يطرحوا معنى جدليًّا في علاقته بالقرآن الكريم، وهو معنى يصادق عليه الشهيد الصدر بشكل منفصل عن أطروحة التفسير الموضوعيّ؛ لأنّه يعتبر أنّ علاقة الإنسان الاكتشافيّة بالطبيعة مفتوحة في حدّ ذاتها، غاية الأمر أنّ استغلال هذا الاكتشاف يجب أن يتأطّر بالأطر الموضوعة من قبل المبدأ وفقًا للرؤية الكونيّة التي عرضناها.

كلمة مختصرة حول أزمة الاجتهاد المعاصر:

لا يُمكننا أن نتحدّث عن جوانب الأزمة والإصلاح من وجهة نظر الشهيد الصدر في حياة المسلم المعاصر دون أن نسجّل رؤيته لواقع الاجتهاد في حياتنا المعاصرة، وإذا كان هذا الموضوع بحاجة إلى كثير من التحليل والإشباع، ولكنّنا نكتفي في هذه الخلاصة بالإشارة إلى مشكلتين أساسيّتين لاحظهما الشهيد الصدر في واقع الاجتهاد المعاصر:

المشكلة الأولى: الامتداد العموديّ على حساب الامتداد الفقهيّ:

وهي مشكلة تعرّض لها الشهيد الصدر في محاضرته حول (الاتجاهات المستقبليّة لحركة الاجتهاد)[155] وغيرها من محاضراته[156]. وتتلخّص في أنّ الفقه الإسلاميّ حصر اهتمامه بالامتداد العموديّ المتمثّل في العمق العلميّ، ولكنّه عمقٌ بقي معزولًا عن التوسّع الأفقيّ الذي يجعل الفقه في مواجهة مختلف الموضوعات المستجدّة في حياة الإنسان المعاصر.

المشكلة الثانية: طغيان النزعة الفرديّة على حساب النزعة الاجتماعيّة:

وتتلخّص هذه المشكلة في أنّ الفقه الإسلاميّ قد افترض ـ على الغالب ـ وجود فردٍ يحتاج إلى صيغة تشريعيّة تقنّن له حياته، وراح يعالج له مشكلاته بوصفه كذلك، ولم يتعامل مع الفقه بوصفه صيغةً تقنينيّة وضعت لحلّ مشكلات المجتمع بوصفه مجتمعًا. ومن الطبيعي أنّ موقف الفقيه في طريقة استنباط الأحكام والنظر إلى أدلّتها يختلف بين الموقفين[157].

الموقف الاستنباطيّ للشهيد الصدر من إسلاميّة المعرفة بمعناها الضيّق (أسلمة العلوم)

بعد أن استعرضنا رؤية الشهيد الصدر الكونيّة المرتبطة بالرسالة الإسلاميّة ـ عقيدةً وشريعة ـ نكون قد حدّدنا موقفه من إسلاميّة المعرفة بالمعنى الذي طرحه المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، وذلك في كثير من مفاصلها على أقلّ تقدير، ونكون في الوقت نفسه قد أسّسنا لاكتشاف موقفه من أسلمة العلوم التي تعبّر عن أطروحة أضيق دائرة من أطروحة إسلاميّة المعرفة. وسنقوم في بتقديم مجموعة من الخطوط الرئيسة التي تشكّل الإطار العام لموقف الشهيد الصدر من هذا الموضوع.

أفكار تأسيسيّة:

قبل البدء نودّ استعراض مجموعة من الأفكار العامّة التي تعكس موقف الشهيد الصدر في القضيّة محلّ البحث، وتشكّل مؤشّرًا عامًّا لموقفه في هذا المجال:

الفكرة الأولى: المفهوم الإلهيّ عن العالم مفهوم واقعيّ ولا يعارض العلم تحت مظلّة رؤيته الكونيّة:

ناقش الشهيد الصدر في كتاب (فلسفتنا) ما ورد في كتابات بعض الكتّاب المحدّثين الذي حصروا النزاع الفكريّ بين المثاليّة وبين الماديّة؛ حيث اعتبروا أنّ الصراع بين الإلهيّة والمادّية مظهر من مظاهر التعارض بين المثاليّة والواقعيّة، باعتبار أنّ المبدأ الدينيّ مبدأ مثاليّ، فهو بالتالي غير مادّيّ.

وقد خطّأ الشهيد الصدر هذا التصوّر باعتبار أنّ المبادئ لا تنحصر في هذين المبدأين، بل يُمكن أن يكون المبدأ إلهيًّا، وفي الوقت نفسه يكون مادّيًّا، بمعنى إيمانه بالواقع الموضوعيّ. وقد نبّه الشهيد الصدر إلى خطورة الدور الذي لعبه هذا الاتّهام حين فسّرت فكرة الله بوصفها سببًا معقولًا لما يشاهده الإنسان من ظواهر الطبيعة وحوادثها ومحاولة لتبرير وجودها، وبالتالي تزول الحاجة إلى هذه الفكرة تمامًا حين نستطيع أن نستكشف بالعلم والتجارب العلميّة حقيقة الأسباب والقوانين الكونية التي تتحكّم في العالم، والحال أنّ المفهوم الإلهيّ للعالم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعيّة أو التمرّد على شيء من حقائق العلم الصحيح، وإنّما هو المفهوم الذي يعتبر الله سببًا أعمق ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوّة فوق الطبيعة والمادّة. وبهذا يزول التعارض بينه وبين كلّ حقيقة علميّة تمامًا؛ لأنّه يطلق للعلم أوسع مجال لاستكشاف أسرار الطبيعة ونظامها، ويحتفظ لنفسه بالتفسير الإلهيّ في نهاية المطاف، وهو وضع السبب الأعمق في مبدأ أعلى من الطبيعة والمادّة.

أمّا إذا وصف المبدأ الإلهيّ بأنّه مثاليّ لارتكازه على الروحيّة فهذا خطأ؛ لأنّ الروحيّة في المفهوم الإلهيّ ليست بمعناها عند المثاليّة ـ أي: ما يقابل المجال المادّيّ المحسوس، بل هي طريقة للنظر إلى الواقع بصورة عامّة وليست في مقابل المجال المادّي[158].

ونطالع في كتابات الشهيد الصدر تحليلًا مفصّلًا لهذه الروحيّة وعلاقتها بالواقع المادّيّ والمجال التجريبيّ، وذلك في مقال له في (رسالتنا)، حيث أضاف أنّ هذه النظرة الروحيّة ليست مجرّدة، وإنّما تتّصل بالوجود العمليّ للإنسان كلّ الاتّصال وتحدّد له موقفه من عالمه الذي يعيشه والحياة التي يحياها ويستمدّ الإنسان منها، أو على ضوئها اتّجاهه العامّ الذي ينعكس في نشاطاته وأفعاله.

وهنا بالتحديد تعرّض الشهيد الصدر للطرق الحاكمة في التفكير: الطريقة العقليّة والطريقة التجريبيّة.

والأولى هي التي تعتبر العقل حاكمًا نهائيًّا ومقياسًا أساسيًّا تقاس على ضوئه الأفكار والمعلومات لامتحان مدى صحّتها وموضوعيّتها، بينما تقصي الثانية العقل عن هذا المجال وتسلب منه وظيفته الأساسيّة هذه في الحياة الفكريّة، وتضع موضعه التجربة باعتبارها الأساس الوحيد لكلّ ما يمكن أن يتوصّل إليه الإنسان من حقائق واستنتاجات.

وقد خطّأ الشهيد الصدر كلا الطريقتين؛ فالعقليّون أفرطوا حين حصروا بحوثهم في النطاق العقليّ، وكلّفوا العقل المجرّد أن يزوّدهم بالحقائق والمعلومات حتى في الميادين والمجالات التي ليست من حقّه، كما أخطأ التجريبيّون حين ظنّوا ـ بما توصّلوا إليه من معلومات تجريبيّة ـ أنّهم استغنوا عن خدمات العقل.

وبين هذين الموقفين رسم الإسلام الطريق الصحيح للفكر الإنسانيّ الذي يضمن للإنسان أفضل النتائج في كلّ الميادين، ويحول بينه وبين الألوان العقيمة من الجدل الذي مُنِيَ به العقليّون، كما يحول بينه وبين المادّية التي انتهى التجريبيون إليها. وتلخّص هذا الطريق في أنّ العقل يجب أن يؤخذ كمقياس للأفكار، وكحاكم فصلٍ نُلقي بين يديه المعلومات التي حصل عليها الإنسان عن طريق الملاحظة الحسّيّة أو التجربة العمليّة، لينظّمها ويستنتج منها ما تنتجه من حقائق مادّيّة أو حقائق خارجة عن حدود المادة. ومن هنا اعتبر الشهيد الصدر أنّ الإسلام قد حتّم على الإنسان أن يسير في مجالات التجربة واستكشاف الطبيعة طبقًا لرضى الله سبحانه وتوجيهه[159]، ولهذا نجده متبرّمًا من الدور السلبيّ الذي لعبته الكنيسة في استغلال الدين استغلالًا شنيعًا وجعل اسمه أداة مآربها وأغراضها وخنق الأنفاس العلميّة والاجتماعيّة؛ حتّى ارتكبت جريمة الخنق هذه باسم الدين، مع أنّه بريء من هذا[160].

وثمّة تفصيلات فلسفيّة مرتبطة بما آل إليه موقف الشهيد الصدر في كتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء) طبعًا، ولكنّها لا تؤثّر على جوهر الفكرة هنا.

الفكرة الثانية: حول علاقة الفكر بالقاعدة وكيفيّة تعامل المسلم المعاصر مع الفكر الأجنبيّ الوافد:

يعتقد الشهيد الصدر أنّ للحضارة الغربيّة ـ بأفكارها ومفاهيمها وكيانها الثقافيّ عامّةً ـ قاعدةً فكريةً تستند إليها وهي الديمقراطيّة، أو بالأحرى الحرّيّات الرئيسة في المجالات الفكريّة والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، فإنّ هذه الحرّيّات بمفهومها الحضاريّ الغربيّ هي حجر الزاوية في ثقافة الغرب والإطار الفكريّ الذي تدور في نطاقه الأفكار والمفاهيم الغربيّة عن الإنسان والحياة والكون والمجتمع، وحتّى أنّه لعب دورًا رئيسًا في تحديد الاتّجاه العامّ لمفكّري الغرب فيما يسمّونه بالعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، فلم تستطع البحوث الإنسانيّة لهؤلاء المفكّرين أن تتجرّد عن تأثير الرسالة التي يعتنقها الباحثون كقاعدة عامّة. وكذلك الأمر تمامًا فيما يتّصل بالحضارة الماركسيّة التي تنافس الحضارة الرأسماليّة في كلّ الميادين، فإنّ رسالتها الفكريّة التي تدعو إلى نظرة مادّيّة معيّنة تجاه الكون والحياة والمجتمع والتاريخ هي القطب المركزيّ الذي ينعكس إلى حدٍّ قصير أو طويل في كلّ المفاهيم والأفكار الحضاريّة التي تتبنّاها الماركسيّة ويؤمن بها مفكّروها.

ويحدّد الشهيد الصدر الموقف الذي يجب اتّخاذه من هذا الواقع:

الموقف الأوّل: أن نكون على حظٍّ عظيم من الدقّة والوعي حينما نبحث عن الأفكار الأوروبّيّة، لأجل أن نستطيع تعريتها عن إطارها الرساليّ والتعرّف على مدى صلتها بهذا الإطار وتأثّرها به.

ويعتبر الشهيد الصدر أنّ هذا هو الموقف الوسط الذي يجب أن يقفه المسلم الواعي من كلّ تفكير أوروبّيٍّ يتّصل من قريب أو بعيد بالحقول التي تعالجها الرسالة وتمتّد إليها القاعدة الفكريّة، فليس من الصحيح إغفال هذه الناحية الخطيرة (ناحية الصلة بين الفكرة ودراسة الفكرة) بغضّ النظر عمّا قد يكون لها من إطار خاصٍّ، أو قد يكون فيها من استيحاءات مستمَدّة من القاعدة الفكريّة، كما يفعل كثير من الباحثين المسلمين اليوم مع أفكار كثيرة من علماء الاجتماع والنفس والتاريخ الأوروبيّين، فإنّ أول نقطة يجب التأكّد منها قبل كلّ شيء هي البحث عن مدى صلة الفكرة المبحوث عنها بالقاعدة التي ثبت لدينا خطؤها، وعلى ضوء هذه الصلة يجب أن تتركّز نظرتنا على الفكرة والحكم لها أو عليها بما نستخلصه من البحث والدراسة.

وفي الوقت نفسه يقرّر الشهيد الصدر أنّه ليس من الصحيح أيضًا ما يتّجه إليه بعض الدعاة المسلمين من الحكم على كلّ تفكير أوروبّيٍّ يتّصل بالحياة الإنسانيّة بأنّه خطأ لأنّه مستنبط من القاعدة؛ لأنّ استنباط الفكرة من القاعدة في المجالات النظريّة لا يعني أنّها مستنتجة منها استنتاجًا ومتوقّفة في مصيرها على القاعدة نفسها، وإنّما يعني أنّ الفكرة صيغت بالشكل الذي لا يتناقض مع تلك القاعدة، سواء أكانت مستمَدّةً منها بصورة مباشرة أم لا، والقاعدة وإن كانت خطأً ولكن ليس من الضروريّ في كلّ فكرة لا تتناقض مع الخطأ أن تكون خطأً.

الموقف الثاني: إنّ من واجب المسلمين الواعين أن يجعلوا من الإسلام قاعدةً فكريّةً وإطارًا عامًّا لكلّ ما يتبنَّون من أفكار حضاريّة ومفاهيم عن الكون والحياة والإنسان والمجتمع، ولا شكّ أنّ العقيدة الدينيّة نفسها تعني هذا الشيء وتفرضه موجودًا لدى المتديِّن، غير أنّ العقيدة الدينيّة لمّا كانت تعيش اليوم في نفوس كثير من الناس مجرّدةً عن وعي حقيقيٍّ يسندها نجد أنّ جمهرةً من المسلمين لا يعون المكان الطبيعيّ الذي يجب أن تحتلّه رسالتنا الفكريّة الأصليّة من التفكير العام[161].

الفكرة الثالثة: التمييز بين موقف الإسلام وموقف المسلمين:

وتعبّر هذه الملاحظة عن حقيقة في غاية الأهمّيّة، وهي أنّ ما يُنتجه المسلمون لا يُنسب ـ في حال كانوا إسلاميّين في اجتهادهم واستنباطهم ـ إلى الإسلام نفسه بشكل مباشر، خاصّة فيما يرتبط بالجانب العلميّ الصناعيّ الذي يعبّر عن جهود بشريّة خالصة أكثر من تعبيره عن مواقف إلهيّة يكتشفها البشر باجتهادهم.

ومن هنا نجد تمييز الشهيد الصدر في وقت مبكر بين هذين الأمرين في كتاب (فلسفتنا) حيث يقول: «المستفاد من الإسلام بالصميم إنّما هو الطريقة والمفهوم، أي الطريقة العقليّة في التفكير والمفهوم الإلهيّ للعالم، وأمّا أساليب الاستدلال وألوان البرهنة على هذا وذاك فلسنا نضيفها جميعًا إلى الإسلام، وإنّما هي حصيلة دراسات فكريّة لكبار المفكّرين من علماء المسلمين وفلاسفتهم»[162].

انصباب الوظيفة الحقيقيّة على اكتشاف المذاهب التحتيّة قبل القوانين الفوقيّة:

بعد أن استعرضنا موقف الشهيد الصدر وطريقته في اكتشاف المذهب الإسلاميّ في دائرة من دوائر الحياة ـ وقد طبّقه على المذهب الاقتصاديّ، ووقفنا على تمييزه بين عمليّة التكوين وعمليّة الاكتشاف، وأنّ اكتشاف مذهب الإسلام في مجال ما يتمّ من خلال ملاحظة الأحكام (القانون) والمفاهيم ومنطقة الفراغ.. بعد هذا كلّه بات سهلًا علينا أن نحدّد موقفه من أيّ دعوة لصياغة العلوم الإنسانيّة العصريّة صياغة إسلاميّة:

فإذا بقينا مع المعنى الساذج لأسلمة العلوم، وهو الذي يتمثّل في النظر إلى أحكام الإسلام وما يقابلها من أحكام أجنبيّة عن منظومته، ثمّ إعادة صياغة أحكامه بحيث تحاكي تلك الأحكام الأجنبيّة في صياغتها، فهذا لا يعدو كونه غشاءً سطحيًّا لعمليّة التأصيل.

أمّا إذا أردنا من التأصيل الإسلاميّ للعلوم الاجتماعيّة عرضها على الأصول الإسلاميّة، فتحديد الموقف من هذه العمليّة متوقّف على تحديد مرادنا من الأصول، الأمر الذي بات تفكيكه أمرًا سهلًا على ضوء مباني الشهيد الصدر:

1 ـ فإن كان المراد من الأصول: الأحكام المعبّرة عن لبنات البناء الفوقيّ للمذهب، فهذا غير سليم؛ لأنّ العرض والتأصيل إنّما يكون على الخطوط العامّة للمذهب الذي يعتبر مصدر إمداد وتموين تلك الأحكام المكوِّنة للقانون.

2 ـ وإن كان المراد من الأصول: المفاهيم والتصوّرات الإسلاميّة، فهذا أيضًا غير كافٍ بعد أن كانت المفاهيم مكوّنًا من مكوّنات عمليّة اكتشاف المذهب ولا تعبّر عن عناصر عمليّة الاكتشاف بكلّ مدياتها.

3 ـ وإن كان المراد من الأصول: خطوط المذهب ـ الاقتصاديّ، التربويّ، الاجتماعيّ، النفسيّ، السياسيّ… ـ فالمعنى في نفسه سليم، ولكنّ طريقة اكتشاف هذه الأصول والمذاهب بحاجة إلى ضبط؛ فصحيحٌ أنّ هذه العمليّة تماثل عمليّة التفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم في رؤية الشهيد الصدر باعتبار كونها تشبّعًا من الواقع، ثمّ عرض هذا المعطى الواقعيّ الخارجيّ ـ المتمثّل هنا في النظريّات الغربيّة ـ على الرسالة الإسلاميّة، ثمّ محاولة الخروج بمركّب نظريّ يعبّر عن موقف الإسلام بخطوطه المذهبيّة من الموضوع محلّ البحث، إلاّ أنّ بالإمكان أن تُمنى هذه العمليّة بانحراف عن طابعها الإسلاميّ فيما إذا جَعَلَنا الواقع الخارجيّ الخاضع لهيمنة الإنسان الغربيّ الفكريّة، بحيث نتّجه إلى عمليّة تبرير للواقع مع تلوين هذا التبرير بلون إسلاميّ؛ فالإسلام ـ كما يقرّر الشهيد الصدر ـ «ثورةٌ لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم، وليس تفسيرًا موضوعيًّا للواقع»[163]، ويجب أن نعيشه ـ بخلاف متأوّليه ـ «خالصًا وبعيدًا عن إيحاءات الواقع المعاش وإغرائه»[164].

ولذلك فإنّنا عندما نتحدّث عن علاقة النصّ بالواقع لا نتحدّث عن تبرير الواقع وشرعنته على ضوء النصّ؛ فإنّ «عمليّة تبرير الواقع هي المحاولة التي يندفع فيها الممارس ـ بقصد أو بدون قصد ـ إلى تطوير النصوص وفهمها فهمًا خاصًّا يبرّر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها، نظير ما قام به بعض المفكّرين المسلمين الذين استسلموا للواقع الاجتماعيّ الذي يعيشه، وحاولوا أن يُخضعوا النصّ للواقع بدلًا عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النصّ»[165]. وهذه العمليّة تقود إلى عمليّة دمج النصّ ضمن إطار معيّن، أي «دراسة النصّ في إطار فكريّ غير إسلاميّ، وهذا الإطار قد يكون منبثقًا عن الواقع المعاش وقد لا يكون، فيحاول الممارس أن يفهم النصّ ضمن ذلك الإطار المعيّن، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكريّ أهمله واجتازه إلى نصوص أخرى تواكب إطاره أو لا تصطدم به على أقلّ تقدير»[166].

هل يبقى معنى لأسلمة العلوم بعد التمييز بين المذهب والعلم؟

ميّز الشهيد الصدر في فصول (اقتصادنا) بين المذهب والعلم على أساس أنّ المذهب يعبّر عن الطريقة، بينما يسعى العلم إلى التفسير[167]، وأكّد من خلال الأدبيّات التي لجأ إليها في الكتاب على أنّ الاقتصاد الإسلاميّ ليس علمًا[168]. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الشهيد الصدر، فهل يعني هذا قطع الطريق على أيّ حديث عن أسلمة العلوم طالما أنّ الدور لا يصل إلى العلوم نفسها بعد أن كان اهتمام الإسلام منصبًّا على المذهب الذي يقع ـ من ناحية منطقيّة ـ في رتبة سابقة على رتبة العلم؟

ويتوجّب علينا ونحن نحاول الإجابة عن هذا السؤال على رؤية الشهيد الصدر أن نعي بالتحديد ما قاله. وما ذكره الشهيد الصدر هو أنّ علم الاقتصاد بعد أن كان تفسيرًا للواقع، فمن الطبيعيّ أن لا يكون الاقتصاد الإسلاميّ علمًا؛ لأنّ الإسلام لا يستهدف تفسير الواقع كما مرّ معنا. ولكن دعونا لا ننسى ما ذكره الشهيد الصدر أيضًا في المواضع نفسها تتميمًا لفكرة البحث، وهو أنّ الوظيفة العلميّة التي تحلّ بعد الوظيفة المذهبيّة يُمكن أن ترتكز على أحد أمرين:

أحدهما: جمع الأحداث من التجربة الواقعيّة للحياة ثمّ تفسيرها. وهذا يتوقّف على أن يكون المذهب مجسّدًا في واقع تطبيقيّ معيّن.

الثاني: تفسير الأحداث المستقبليّة على ضوء الاتّجاه الذي تحدّده الخطوط العامّة للمذهب. وهذا يتوقّف على أن يكون المذهب مكتشفًا[169].

وفي كلتا الحالتين يفقد الحديث عن العلم الإسلاميّ معناه في واقعنا المعاصر؛ لأنّ الإسلام اليوم ليس متجسّدًا في الخارج لننحو منحى العلم بمعناه الأوّل. كما إنّه ليس مكتشفًا في خطوطه المذهبيّة لتنصبّ مهمّة العلم على دراسة اتّجاهه المستقبليّ.

لكن على كلّ حال، فهذا لا يعني أنّ الشهيد الصدر لا يصادق على إمكانيّة الحديث عن وجود علوم تفسيريّة للواقع، وإنّما يؤكّد على أنّ هذه العلوم تقع في رتبة طوليّة بالنسبة إلى المذهب.

والخلاصة هي أنّنا إذا أردنا من العلوم الإنسانيّة ـ سياسيّة، اجتماعيّة، نفسيّة، تربويّة.. ـ تلك العلوم التي تقوم بتفسير الواقع الخارجيّ، فهذا لا معنى له على ضوء المعنى الأوّل المتوقّف على تجسّد هذه المذاهب في الواقع الخارجيّ، وكذلك الأمر على ضوء المعنى الثاني المتوقّف على استخراج هذه المذاهب ضمن أطر نظريّة.

ومن هنا، فإنّ الحديث عن أسلمة العلوم بالمعنى التفسير للعلم متوقّف على تجسّد المذهب في الواقع، المتوقّف بدوره على اكتشاف هذا المذهب، ولكنّه ليس حديثًا غير مشروع إذا استطعنا تقديم تبرير واضح لنسبتها إلى الإسلام بهذا اللحاظ.

أمّا إذا كانت أسلمة العلوم بمعنى اكتشاف المذهب نفسه، فهذا هو معقد الفرس الذي صبّ عليه الشهيد الصدر اهتمامه.

المجالات الداخلة في محلّ النزاع هي التي يترقّب من الرسالة إبداء الموقف تجاهها:

قد يبدو من المنطقيّ أن يحتلّ هذا العنوان صدارة هذا البحث؛ لارتباطه بتحرير محلّ النزاع، إلاّ أنّ توقّف التصديق بمفاده على التصوّر الصحيح لجدليّة العلاقة بين المذهب والعلم هو الذي دفعنا إلى تأجيله، ونقصد من هذا العنوان أنّ محلّ النزاع ـ على ما حرّرناه في مقدّمة هذا البحث ـ لم يكن يشمل العلوم الطبيعيّة، وإنّما انصبّ على العلوم الإنسانيّة. ولكنّنا نريد هنا ـ على ضوء رؤية الشهيد الصدر ـ أن نقوم بمزيد من التضييق والتحديد، وذلك بعد ملاحظة جملة أمور يرتبط بعضها بالجانب العملانيّ من المشاريع التي نفّذها الشهيد الصدر:

1 ـ التمييز بين موقف الإسلام وعطاء المسلمين: وهو الأمر الذي سبقت الإشارة منّا إليه في ما سبق في نصّ من (فلسفتنا). وهذا يعني أنّه لا ينبغي التوهّم بأنّ علينا أن نترقّب موقفًا خاصًّا للإسلام في جملة من جزئيّات العلوم، خاصّة بعد أن قرّر الشهيد الصدر ـ في نصوص سابقة ـ أنّ المستفاد من الإسلام في الصميم هو طريقة التفكير.

2 ـ رفض الحديث عن منطق إسلاميّ: حيث نجد أنّ الشهيد الصدر رفض الحديث عن شيء اسمه (المنطق الإسلاميّ) بالمعنىّ الفلسفيّ والمعرفيّ للكلمة، معلّلًا ذلك بأنّ المنطق للأمم[170]، أي أنّه مشترك بين أفراد البشر، وبالتالي فلا يجوز صبغه بصبغة إسلاميّة طالما أنّ الإسلام لم يتّخذ منه موقفًا محدّدًا.

ومن هنا نجد أنّ محاولته تفسيرَ توالد المعرفة البشريّة لم يتّخذ في كتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء) طابعًا إسلاميًّا، فالسيادة في هذا الكتاب كانت للعامل الابستمولوجيّ، ولم يكن للعامل الأنطولوجيّ أيّ حضور سوى في الفصل الأخير من الكتاب بوصفه لبنة عُلْويّة لأطروحته.

3 ـ الاستفادة المرنة من معطيات العلوم الرياضيّة: حيث نلاحظ أنّ الشهيد الصدر لم يقم ـ بحسب ما عوّدنا عليه ـ بالتنظير مسبقًا لشرعيّة الإفادة من العلوم الرياضيّة في ما طرقه من أبحاث مرتبطة بها، كما هو الحال في كتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، بل قام بتفسير اليقين الرياضيّ بعد تأسيس المذهب الذاتيّ في المعرفة. وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على خروجها بالكليّة عن محلّ النزاع. أمّا لماذا هي كذلك؟ فلأنّها ـ بعبارة تبسيطيّة بعيدة عن التفسير المنطقيّ ـ ممّا لا يُختلف فيه وما لا يُترقّب فيه موقفٌ خاصٌّ للإسلام.

4 ـ الاستفادة الحذرة من معطيات العلوم السلوكيّة: إذا كان هذا هو حال الشهيد الصدر مع معطيات العلوم الرياضيّة، فهو ليس كذلك مع معطيات المدرسة السلوكيّة على سبيل المثال. والفارق بين الموقفين أنّ التفسير الذي قدّمته المدرسة السلوكيّة للسلوك البشريّ والإدراك يرتبط بمساحةٍ منه بالمفاهيم التي تنطلق منها هذه المدرسة في تفسيرها.

ولكنّ هذا لا يعني أنّ الشهيد الصدر لم يستفد من ملاحظات هذه المدرسة كما هو الحال في الاستفادة من نظريّة بافلوف في تفسير علاقة اللفظ بالمعنى، سواءٌ أكان بافلوف أوّل القائلين بها كما هو المعروف، أم أنّ غيره سبقه إلى ذلك كما هو الحقّ، وما ذلك إلاّ لأنّ المقدار المستفاد من ملاحظات هذه المدرسة في هذا المجال لا يتصادم مع القاعدة الإسلاميّة.

5 ـ دخول ساحة السنن التاريخيّة ضمن اهتمامات القرآن الكريم: ففي المحاضرة الثالثة من محاضرات التفسير الموضوعيّ وعند اختياره موضوع سنن التاريخ لبحثه على ضوء منهجه القرآنيّ، تعرّض الشهيد الصدر لمبرّرات البحث عن هذا الموضوع في سياق التفسير الموضوعيّ؛ حيث إنّنا نواجه تساؤلًا حول مدى توفّر القرآن الكريم على موقفٍ من بحث السنن التاريخيّة ليبرّر لنا ذلك بحثه بوصفه موضوعًا من موضوعات التفسير الموضوعيّ؛ فالقرآن الكريم هو بالدرجة الأولى كتاب هداية، فلماذا يكون له موقفٌ خاصٌّ من سنن التاريخ؟

على الرغم من موافقة الشهيد الصدر على أنّ القرآن الكريم كتاب هداية وليس كتاب اكتشاف علميّ، إلاّ أنّه مع ذلك يُدخل مجال السنن التاريخيّة بالذات ضمن اهتمامات القرآن الكريم بوصفه حقلًا يُترقّب من القرآن الكريم أن يعبّر عن موقفه منه؛ لأنّها ـ وبتعبير مختصر ـ ترتبط بعمليّة التغيير التي جاء القرآن الكريم ليحقّقها[171].

والخلاصة: أنّ لدينا نوعين من العلوم:

1 ـ بعضها يعبّر عن عمليّة فنيّة صناعيّة فكريّة بحتة غير مرتبطة بأيّ قاعدة سفليّة، وهذه العلوم خارجة عن محلّ الكلام؛ لاشتراك البشر فيها وعدم امتلاك الإسلام موقفًا خاصًّا منها.

2 ـ والبعض الآخر يعبّر عن أفكار نابعة من قواعد فكريّة. ففي هذه الحالة يجب التعامل بحذر مع هذه الأفكار مخافة أن يكون فسادها نابعًا من فساد القاعدة، علمًا بأنّ فساد القاعدة لا يستلزم فساد الفكر نفسها؛ لأنّ خطأ الفكرة قد لا يكون نابعًا من فساد القاعدة، وإنّما تكون قد صيغت بنحوٍ لا يتضارب مع القاعدة.

مساهمة المسلمين في السباق المعرفيّ يُكسب الإسلام صفة حضاريّة:

وأخيرًا، نشير إلى مسألة مهمّة، وهي أنّنا إذا نظرنا إلى سلوك الشهيد الصدر الكاشف عن قناعاته وإلى ما انعكس في رسائله الخطيّة وفي مشاريعه ـ من قبيل مشروع المرجعيّة الرشيدة، فيُمكننا أن نصل إلى انطباع مفاده أنّ مساهمة المسلمين في السباق المعرفيّ العالميّ يُساهم في تعزيز الموقع الحضاريّ للإسلام الذي تنتمي إليه هذه الأمّة حتّى لو لم يكن للإسلام نفسه موقفٌ خاصٌّ من الموضوع المطروح.

ويُمكننا في هذا المجال أن نشير إلى ما قيل في أطروحة الشهيد الصدر الجبّارة: (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، التي نستطيع أن نقول فيها بحقّ ـ وبعد ملاحظة معظم ما أنتجه العرب في هذا المجال ـ إنّه أطروحة يتيمة عربيًّا في عمقها وجدتها، ما جعل السيّد عمّار أبو رغيف يعتبر أنّ هذا الكتاب قد اختزل المسافات الزمنيّة التي تفصلنا عمّا عليه الوضع في غرب القارّة في وجوه أخرى أكثر من قرن[172]، واعتبره الدكتور حسن حنفي «نقد الأنا لثقافة الآخر»[173].

وتتجلّى قدرة الشهيد الصدر في مجال المقارعة والمنافسة بمستوى لا ينافسه فيه أحد؛ لانطباق الشرط الذي قدّمه المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ عليه بنحوٍ يكاد لا ينطبق على غيره من مفكّري المسلمين، وهو شرط التمكّن من التراث. ومن هنا نجد أنّ اطّلاعه الفريد على أصول التراث ـ اطّلاع المفكّر لا المثقّف ـ مكّنه من استخراج مكنونات التراث المخفيّة؛ إذ بعيدًا عن الخطوط المذهبيّة التي برع فيها، فقد برع أيضًا في إعادة تظهير التراث بصيغ حديثة أكثر رُقيًّا تمكّن المسلمين من المشاركة في سباق المعرفة.

ويكفينا في هذا المجال الإشارة إلى إبداعه في تفسير حصول العلم في القضيّة المتواترة على أساس حساب الاحتمالات الرياضيّ بنحوٍ متين ودقيق، وكذلك في باب المراسيل وإمكان الاعتماد عليها.

ومن هذا الباب ما نجده في كتاب (المعالم الجديدة للأصول) بقول: «ومن الطريف أن يكتب اليوم برتراند رسل ـ رائد ذلك الاتّجاه الحديث في العالم المعاصر، محاولًا التفرقة بين جملتين لغويّتين في دراسته التحليليّة للّغة، وهما: (مات قيصر) و( موت قيصر) أو (صدق موت قيصر)، فلا ينتهي إلى نتيجة، وإنّما يعلّق على مشكلة التمييز المنطقيّ بين الجملتين ـ فيقول: «(لست أدري كيف أعالج هذه المشكلة علاجًا مقبولًا؟). أقول: من الطريف أن يعجز باحث في قمّة ذلك الاتّجاه الحديث عن تحليل الفرق بين تلك الجملتين، بينما يكون علم الاُصول قد سبق إلى دراسة هذا الفرق في دراساته الفلسفيّة التحليليّة للّغة ووضع له أكثر من تفسير.

وكذا نجد لدى بعض المفكّرين الاُصوليّين بذور نظريّة الأنماط المنطقيّة؛ فقد حاول المحقّق الشيخ محمد كاظم الخراسانيّ في (الكفاية) أن يميِّز بين الطلب الحقيقيّ والطلب الإنشائيّ بما يتّفق مع الفكرة الرئيسة في تلك النظريّة. وبهذا يكون الفكر الاُصوليّ قد استطاع أن يسبق برتراند رسل صاحب تلك النظرية، بل استطاع بعد ذلك أكثر من هذا، فقام بمناقشتها ودحضها وحلّ التناقضات التي بنى رسل نظريّته على أساسها»[174].

المصادر والمراجع

إبراهیم عبد الرحمن رجب، إسلامیة المعرفة الماضی والحاضر والمستقبل تصور مطروح للحوار، مجلّة المسلم المعاصر، رجب – شعبان – رمضان 1422 – العدد 102.

أحمد إبراهیم خضر، حول ظاهرة أسلمة العلوم، مجلّة البیان، ربیع الأول 1421 – العدد 151.

أحمد عبدالله أبو زيد العاملي، محمّد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، دار العارف للمطبوعات ـ بيروت، 2007م.

أحمد عبدالله أبو زيد، أطروحة التفسير الموضوعي عند السيّد محمّد باقر الصدر، مركز الحضارة ـ بيروت، 2011م.

أحمد فؤاد باشا، نحو إعداد الشباب المسلم لمواجهة التحدیات العلمیة و الحضاریة بالإسهام فی أسلمة العلوم الکونیة، مجلّة المسلم المعاصر، ربیع الثانی – جمادی الأولی – جمادی الآخر 1421 – العدد 97.

إسماعیل راجی فاروقي، أسلمة المعرفة، ترجمة فؤاد حمودة – عبدالوارث سعید، مجلّة المسلم المعاصر، شوال، ذوالقعدة و ذوالحجة 1402 – العدد 32.

جمال الدین عطیة، أسلمة العلوم، مجلة المسلم المعاصر، ربیع الآخر – جمادی الأولی – جمادی الآخر 1418 – العدد 85..

حسن العمري، إسلاميّة المعرفة عند السيّد محمّد باقر الصدر، دار الهادي ـ بيروت، 2003م.

حسن حنفي، مقدّمة في علم الاستغراب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت، 2000م.

ضياء الدين سردار، أسلمة العلوم أم تغریب الإسلام، الفکر العربی، مجلة الفكر العربي، شتاء 1994 – العدد 75.

طه جابر العلواني الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، دار الشروق، 2006م.

طه جابر العلواني، إسلاميّة المعرفة بين الامس و اليوم، المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، 1996م.

طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلاميّ، دار الهادي ـ بيروت، 2001م.

طه جابر العلواني، الأزمة الفكريّة المعاصرة.. تشخيص ومقترحات علاج، الدار العالمية للكتاب الإسلاميّ، 1994م.

طه جابر العلواني، مقدمة في إسلاميّة المعرفة، دار الهادي ـ بيروت، 2001م.

طه جابر العلواني، نحو منهجية معرفية قرانية.. محاولات في بيان قواعد المنهج التوحيدي للمعرفة، دار الهادي ـ بيروت، 2004م.

عبدالحمید أبو سلیمان، إسلامیة المعرفة و إسلامیة العلوم السیاسیة، المسلم المعاصر، رجب، شعبان ورمضان 1402 – العدد 31.

علي سیف النصر، الصحوة الإسلامیة المعاصرة و العلوم الإنسانیة، مجلّة المستقبل العربی، أبریل 1993 – العدد 170.

عمّار أبو رغيف، منطق الاستقراء، دار الفكر الإسلاميّ ـ قم، 1990م.

فهمي جدعان، أسس التقدّم عند مفكّري الإسلام، دار الشروق، 1988م.

مباحث الأصول، محمّد باقر الصدر، تقرير كاظم الحائري، مكتب السيّد الحائري ـ قم، سنوات مختلفة.

محمّد باقر الصدر، اقتصادنا، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، البنك اللاربوي في الإسلام، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية)، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، العمل الصالح في القرآن، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، المدرسة الإسلاميّة،، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت( ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الاولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول، تقرير محمود الهاشمي، دار الغدير ـ بيروت، 1996م.

محمّد باقر الصدر، خصائص الفكر الإسلاميّ، نسخة غير منشورة.

محمّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، رسالتنا، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، علوم القرآن، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، فدك في التاريخ، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، فلسفتنا، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، موجز في أصول الدين، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، نظرة عامّة في العبادات، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد باقر الصدر، ومضات، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر ـ قم، الطبعة الأولى للمجموعة الكاملة، 1432هـ.

محمّد عبد الباقي الهرماسي، الإسلام الاحتجاجيّ في تونس، ضمن كتاب: الحركات الإسلاميّة المعاصرة في الوطن العربيّ ـ مركز دراسات الوحدة العربيّة ـ بيروت.

محمد فاروق النبهان، أسلمة المعرفة، مجلّة التوحید، شماره 80.

محمود غازي، إسلامیّة المعرفة الفکر السیاسيّ والدستوريّ، مجلّة المسلم المعاصر، ربیع الثاني، جمادی الأولی وجمادی الثانیة 1403 – العدد 34.

مسعود پدرام، أسلمة المعرفة في الغرب، مجلّة آفاق الحضارة الإسلامیّة، بهمن 1378، العدد 5.

المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، إسلاميّة المعرفة المبادئ العامّة، خطة العمل، الإنجازات، الطبعة الثانية، 1992م.

منصور محمد حسب النبي، إسلامیّة العلم والمعرفة منهج حضاريّ ثقافيّ لمستقبل البشریّة، مجلّة منبر الإسلام، السنة 56، جمادی الأولی 1418 – العدد 5.

يوسف القرضاوي، أسلمة العلوم، مجلة المسلم المعاصر، ربیع الآخر – جمادی الأولی – جمادی الآخر 1418 – العدد 85.

 

———————————–


[1]*ـ  باحث في الفكر الإسلاميّ وأستاذ في الحوزة العلمية – لبنان.

[2]– عبد الحميد أبو سليمان، إسلامیّة المعرفة و إسلامیّة العلوم السیاسیّة، مجلّة المسلم المعاصر، رجب، شعبان و رمضان 1402 – العدد 31.

[3]– راجع مثلًا: طه جابر العلوانيّ، الأزمة الفكريّة المعاصرة تشخيص ومقترحات علاج: 13.

[4]– فهمي جدعان، أسس التقدّم عند مفكّري الإسلام: 14 ـ 15.

[5]– راجع: طه جابر العلواني، الأزمة الفكريّة المعاصرة.. تشخيص ومقترحات علاج: 19 ـ 21.

[6]– إبراهیم عبدالرحمن رجب، إسلامیّة المعرفة الماضي والحاضر والمستقبل تصوّر مطروح للحوار، مجلّة المسلم المعاصر، رجب – شعبان – رمضان 1422 – العدد 102،: 130.

[7]– راجع مثلًا: محمود غازي، إسلامیّة المعرفة الفکر السیاسيّ والدستوريّ، مجلّة المسلم المعاصر، ربیع الثانی، جمادی الأولی و جمادی الثانیة 1403 – العدد 34.

[8]– مسعود پدرام، أسلمة المعرفة فی الغرب، مجلّة آفاق الحضارة الإسلامیّة، بهمن 1378، العدد 5: 132.

[9]– المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، إسلاميّة المعرفة المبادئ العامّة، خطّة العمل، الانجازات: 15 ـ 17.

[10]– باختصار وتصرّف من: عبدالحمید أبو سلیمان، إسلامیة المعرفة و إسلامیة العلوم السیاسیة، المسلم المعاصر، رجب، شعبان و رمضان 1402 – العدد 31: 32.

[11]– المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، إسلاميّة المعرفة المبادئ العامة، خطة العمل، الانجازات: 75 ـ 117.

[12]– م.ن، 121 ـ 122.

[13]– م.ن، 123 ـ 130.

[14]– ضياء الدين سردار، أسلمة العلوم أم تغریب الإسلام، الفکر العربيّ، مجلّة الفكر العربيّ، شتاء 1994 – العدد 75: 113.

[15]– محمد فاروق النبهان، أسلمة المعرفة، مجلّة التوحید، شماره 80: 141.

[16]– علي سیف النصر، الصحوة الإسلامیّة المعاصرة والعلوم الإنسانیة، مجلّة المستقبل العربيّ، أبریل 1993 – العدد 170: 118 ـ 119.

[17]– أحمد إبراهیم خضر، حول ظاهرة أسلمة العلوم، مجلّة البیان، ربیع الأوّل 1421 – العدد 151: 126 ـ 131.

[18]– باختصار وتصرّف من: عبد الحمید أبو سلیمان، إسلامیّة المعرفة وإسلامیة العلوم السیاسیّة، المسلم المعاصر، رجب، شعبان ورمضان 1402 – العدد 31: 24.

[19]– باختصار وتصرّف من: عبد الحمید أبو سلیمان إسلامیة المعرفة وإسلامیّة العلوم السیاسیّة، المسلم المعاصر، رجب، شعبان ورمضان 1402 – العدد 31: 25.

[20]– انظر: طه جابر العلواني، الأزمة الفكريّة المعاصرة تشخيص ومقترحات علاج: 29 ـ 39.

[21]– طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلاميّ: 116 ـ 121؛ طه جابر العلواني، نحو منهجية معرفية قرانية.. محاولات في بيان قواعد المنهج التوحيدي للمعرفة،: 116 ـ 118؛ طه جابر العلواني، إسلاميّة المعرفة بين الامس و اليوم: 19 ـ 27.

[22]– طه جابر العلواني، مقدمة في إسلاميّة المعرفة: 44 ـ 68.

[23]– سورة العلق: 1 ـ 5.

[24]– انظر: منصور محمد حسب النبي، إسلامیة العلم و المعرفة منهج حضاری ثقافی لمستقبل البشریة، مجلة منبر الإسلام، السنة 56، جمادی الأولی 1418 – العدد 5: 67؛ طه جابر العلواني الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون: 14 ـ 20.

[25]– انظر: منصور محمد حسب النبي، إسلامیة العلم و المعرفة منهج حضاری ثقافی لمستقبل البشریة، مجلة منبر الاسلام، السنة 56، جمادی الأولی 1418 – العدد 5: 67.

[26]– جمال الدین عطیة، أسلمة العلوم، مجلّة المسلم المعاصر، ربیع الآخر – جمادی الأولی – جمادی الآخر 1418 – العدد 85: 182 ـ 183.

[27]– حسن العمري، إسلاميّة المعرفة عند السيّد محمّد باقر الصدر: 48، نقلًا عن: إبراهيم عبد الرحمن رجب، مجلّة المسلم المعاصر، العدد 63: 5.

[28]– إسماعیل راجی فاروقي، أسلمة المعرفة، ترجمة فؤاد حمودة – عبد الوارث سعید، مجلّة المسلم المعاصر، شوال، ذو القعدة و ذو الحجة 1402 – العدد 32: 14.

[29]– أحمد فؤاد باشا، نحو إعداد الشباب المسلم لمواجهة التحدّیات العلمیّة و الحضاریّة بالإسهام فی أسلمة العلوم الکونیّة، مجلّة المسلم المعاصر، ربیع الثاني – جمادی الأولی – جمادی الآخر 1421 – العدد 97: 19.

[30]– راجع باختصار: حسن العمري، إسلاميّة المعرفة عند السيّد محمّد باقر الصدر: 49.

[31]– يوسف القرضاوي، أسلمة العلوم، مجلة المسلم المعاصر، ربیع الآخر – جمادی الأولی – جمادی الآخر 1418 – العدد 85: 182 ـ 183.

[32]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا:ص 61.

[33]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 180، 304، 436 ؛ محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: 35.

[34]– محمّد عبد الباقي الهرماسي، الإسلام الاحتجاجيّ في تونس، ضمن كتاب: الحركات الإسلاميّة المعاصرة في الوطن العربيّ: 258.

[35]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: ص61

[36]– محمّد باقر الصدر، موجز في أصول الدين: ص 69 ـ 71.

[37]– م.ن ص 71.

[38]– محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: ص 357 ـ 360.

[39]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 93 ـ 95.

[40]– محمّد باقر الصدر، موجز في أصول الدين: 71.

[41]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 19.

[42]– م.ن: 27 ـ 28.

[43]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 52، 54.

[44]– م.ن: 55 ـ 58.

[45]– محمّد باقر الصدر، المدرسة الإسلاميّة: 70 وما بعد.

[46]– محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت( ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 130 ـ 135.

[47]– انظر: محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة: 106 ـ 109.

[48]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 89.

[49]– محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة: 121.

[50]– م.ن: 132.

[51]– م.ن: 140.

[52]– محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة: 127 وما بعد.

[53]– م.ن: 144 ـ 145.

[54]– م.ن: 116.

[55]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 51، 52.

[56]– محمّد باقر الصدر، المدرسة الإسلاميّة: 71.

[57]– محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة: 62، 92، 115…

[58]– محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت( ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 134.

[59]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 98، 278.

[60]– محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة: 116.

[61]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 278.

[62]– محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت( ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 135 ـ 137.

[63]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 60.

[64]– محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت،  ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 191 ـ 192.

[65]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 128 ـ 134.

[66]– م.ن: 135 ـ 140.

[67]– محمّد باقر الصدر، العمل الصالح في القرآن: 339 ـ 344.

[68]– محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 138.

[69]– محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت، ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 66 ـ 77.

[70]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 88 ـ 89.

[71]– محمّد باقر الصدر، اقتنصادنا: 31 ـ 34.

[72]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 192.

[73]– محمّد باقر الصدر، رسالتنا: 15 ـ 18.

[74]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 105 ـ 106.

[75]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 106.

[76]– م.ن: 110.

[77]– م.ن: 112.

[78]– م.ن: 114.

[79]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 100 ـ 102.

[80]– محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 48.

[81]– محمّد باقر الصدر، موجز في أصول الدين: 88.

[82]– محمّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 309 ـ 310.

[83]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 217 ـ 218.

[84]– محمّد باقر الصدر، التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية): 55 ـ 56.

[85]– محمّد باقر الصدر، فدك في التاريخ: 157.

[86]– محمّد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى 3: 309.

[87]– محمّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 383.

[88]– محمّد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة: 351؛ محمّد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى 1: 83.

[89]– محمّد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 333 ـ 335. وانظر: محمّد باقر الصدر، مباحث الأصول ق2، 5: 652 ـ 653.

[90]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 23.

[91]– محمّد باقر الصدر، خصائص الفكر: 16.

[92]– محمّد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى 1: 44.

[93]– وهي نصوص سبق للشهيد الصدر أن عرضها في بحثه.

[94]– محمّد باقر الصدر، المدرسة الإسلاميّة: 146.

[95]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 32.

[96]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 290.

[97]– م.ن: 405.

[98]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 153.

[99]– محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: 357.

[100]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 216.

[101]– محمّد باقر الصدر، علوم القرآن: 235 ـ 246.

[102]– محمّد باقر الصدر، المدرسة الإسلاميّة: 144 ـ 145.

[103]– محمّد باقر الصدر، خصائص الفكر الإسلاميّ: 13ـ 14، 17.

[104]– محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 54.

[105]– محمّد باقر الصدر، رسالتنا: 21 ـ 25.

[106]– محمّد باقر الصدر، التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية): 61.

[107]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 62.

[108]– محمّد باقر الصدر، موجز في أصول الدين: 76.

[109]– م.ن: 77.

[110]– م.ن: 88.

[111]– م.ن: 89.

[112]– م.ن: 89.

[113]– م.ن: 90.

[114]– محمّد باقر الصدر، موجز في أصول الدين: 90.

[115]– م.ن: 90.

[116]– م.ن: 91.

[117]– محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: 431.

[118]– م.ن: 439.

[119]– م.ن: 443.

[120]– م.ن: 443.

[121]– م.ن: 443 ـ 444.

[122]– محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: 800 ـ 804.

[123]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 116 ـ 118.

[124]– م.ن: 118 ـ 122.

[125]– محمّد باقر الصدر، نظرة عامّة في العبادات: 751.

[126]– راجع: محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت( ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 92 وما بعد.

[127]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 45.

[128]– محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 203.

[129]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 47 ـ 48.

[130]– م.ن: 49.

[131]– محمّد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 333 ـ 335. وانظر: محمّد باقر الصدر، مباحث الأصول 2، 55: 652 ـ 653.

[132]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 50 ـ 51.

[133]– م.ن: 53 ـ 54.

[134]– م.ن: 43.

[135]– م.ن: 54.

[136]– م.ن: 45.

[137]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 43 ـ 44.

[138]– محمّد باقر الصدر، البنك اللاربويّ في الإسلام: 17 ـ 19.

[139]– محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 138.

[140]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 21.

[141]– محمّد باقر الصدر، التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية): 56.

[142]– انظر: محمّد باقر الصدر، علوم القرآن: 323 ـ 324.

[143]– محمّد باقر الصدر، رسالتنا: 9 ـ 12.

[144]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 181.

[145]– م.ن: 184.

[146]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 186.

[147]– محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: 22.

[148]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 102.

[149]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 187.

[150]– محمّد باقر الصدر، أئمّة أهل البيت، ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة: 539.

[151]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 190.

[152]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 274 ـ 276.

[153]– حسن العمريّ، إسلاميّة المعرفة عند السيّد محمّد باقر الصدر: 121.

[154]– انظر: أحمد عبدالله أبو زيد، أطروحة التفسير الموضوعيّ عند السيّد محمّد باقر الصدر، مركز الحضارة ـ بيروت، 2011م.

[155]– محمّد باقر الصدر، ومضات: 479

[156]– م.ن: 381.

[157]– م.ن: 477.

[158]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 232 ـ 235.

[159]– محمّد باقر الصدر، رسالتنا: 29 ـ 32.

[160]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 27، الهامش.

[161]– محمّد باقر الصدر، رسالتنا: 35 ـ 38.

[162]– محمّد باقر الصدر، فلسفتنا: 62.

[163]– محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: 362.

[164]– م.ن: 449.

[165]– م.ن: 448.

[166]– م.ن: 449.

[167]– محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: 418.

[168]– م.ن: 361.

[169]– م.ن: 363.

[170]– أحمد عبد الله أبو زيد العاملي، محمّد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق 2: 295.

[171]– محمّد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 47 ـ 49.

[172]– عمّار أبو رغيف، منطق الاستقراء: 7.

[173]– حسن حنفي، مقدّمة في علم الاستغراب: 535.

[174]– محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 120 ـ 121.

.

رابط المصدر:

https://iicss.iq/?id=40&sid=505

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M