الرسائل المزدوجة.. خلفيات وأهداف الدوريات الجوية الروسية – الصينية

محمد منصور

 

في ظل المعارك المستمرة منذ أشهر في أوكرانيا والتوتر متعدد الاتجاهات الذي يشهده بحر الصين الجنوبي، جاءت الدوريات الجوية المشتركة التي نفذتها يوم 30 نوفمبر 2022 القاذفات والمقاتلات الروسية والصينية في أجواء بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، والتي تمت مواكبتها في بعض المراحل بمقاتلات تابعة لسلاح الجو الكوري الجنوبي، بعد أن اخترق التشكيل الصيني – الروسي المشترك منطقة الدفاع الجوي التابعة لكوريا الجنوبية.

وعلى الرغم من أن هذه الدوريات المشتركة لا تمثل في حد ذاتها حدثًا جديدًا ولا تمثل كذلك قيمة استراتيجية معتبرة على المستوى العسكري، فإن توقيت حدوثها والتفاصيل التي تضمنتها أحداث هذه الدوريات وكذا ارتباط توقيت هذه الدوريات بوضع إقليمي ودولي متفاقم، يجعل لهذه الدوريات قيمة مضافة يجب العمل على تحديدها وفهم الرسائل المرغوب إيصالها من خلالها.

الدوريات الجوية الصينية – الروسية في الميزان

في تفاصيل الدورية الجوية المشتركة بين روسيا والصين، والتي استمرت لمدة ثماني ساعات متواصلة، في أجواء بحر اليابان وبحر الصين الشرقي نجد أن هذه الدورية تكونت من إحدى عشر طائرة متنوعة، حيث شاركت القوات الجوفضائية الروسية في هذه الدورية بقاذفتين استراتيجيتين من نوع “توبوليف-95 إم إٍس”، وأربعة مقاتلات من نوعي “سوخوي-30 إس إم” و”سوخوي-35 إس”، في حين شاركت القوات الجوية التابعة لجيش التحرير الصيني في هذه الدورية عبر قاذفتين استراتيجيتين من نوع “جيان إتش-6″، وطائرة تزويد بالوقود من نوع “جيان-20″، ومقاتلتين من نوع “شنيانغ جي-16”.

النقطة الأساسية اللافتة في هذه الدورية كانت دخول جزء من التشكيل الجوي المشارك فيها، ويتكون من قاذفتين صينيتين وقاذفتين روسيتين، ومقاتلتين روسيتين ومقاتلتين صينيتين، إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي الخاصة بكوريا الجنوبية، وهو ما استنفر مقاتلات سلاح الجو الكوري الجنوبي، التي أصبحت -عمليًا- مستنفرة بشكل دائم.

وجدير بالذكر هنا أن عدد المرات التي اخترقت فيها الطائرات الحربية الصينية هذه المنطقة خلال العام الماضي كان أكثر من 70 مناسبة، واخترقت المقاتلات الروسية هذه المنطقة العام الماضي أكثر من عشر مرات، وسبق واخترقتها في أغسطس الماضي. وعلى الرغم من أن منطقة تحديد الدفاع الجوي لا تعد عمليًا ضمن الأجواء الإقليمية لكوريا الجنوبية، إلا أن القوانين المحلية لسيول تلزم الطائرات التابعة لدول أخرى تعريف نفسها قبل دخول هذه المنطقة، وهو ما تتجاهله المقاتلات الصينية والروسية بشكل دائم.

النقطة الثانية فيما يتعلق بهذه الدورية أنها تضمنت -للمرة الأولى- هبوط الطائرات الروسية في مطارات صينية، وكذلك هبوط طائرات صينية في مطارات روسية، ناهيك عن استخدام وسائط جوية نوعية من كلا الجانبين، على رأسها قاذفات “توبوليف-95” التي تعد -بجانب قاذفات “توبوليف-160”- عماد الجانب الجوي من القوة النووية الروسية العابرة للقارات، ولطالما أثار تحليق هذا النوع من القاذفات قرب الأجواء الأمريكية والأوروبية حالة استنفار قصوى لدى منظومات القيادة والسيطرة الخاصة بوحدات الدفاع الجوي الأوروبية.

من زاوية أكبر، يمكن أن نعد التطورات التي تم رصدها في الدوريات الجوية المشتركة بين الجانبين بمثابة دليل آخر على تصاعد التعاون في بينهما بشكل عام، وبشكل خاص التعاون في المجال العسكري والاستراتيجي. هذا الجانب من العلاقة بين الجانبين بدأ في التبلور بشكل تدريجي من خلال سلسلة من المناورات والتدريبات والدوريات العسكرية المشتركة، بدأت عمليًا عام 2005، عبر مشاركة كلا البلدين -بجانب كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان – في التدريبات العسكرية السنوية الخاصة بمنظمة شنغهاي للتعاون.

تطور مستوى التعاطي العسكري بين الجانبين بشكل أكبر في أبريل 2012، حين انطلقت اول مناورة بحرية مشتركة بين البحرية الروسية والبحرية الصينية في نطاق السواحل الصينية الشرقية المطلة على البحر الأصفر، وقد تحولت هذه المناورة البحرية المشتركة إلى تقليد يتم تنفيذه مرتين سنويًا منذ عام 2015، تحت اسمي “التعاون العسكري” و”التفاعل البحري”، حيث تم تنفيذ المناورة البحرية الأولى في البحر المتوسط في مايو 2015، في حين تم تنفيذ الثانية في شهر أغسطس 2015 في بحر اليابان.

استمر تنفيذ هاتين المناورتين خلال الأعوام اللاحقة، حيث تم تنفيذهما خلال عامي 2016 و2017 في شهري يوليو وسبتمبر، وكان لافتًا أن مناورة سبتمبر 2017 كانت موسعة بشكل أكبر على مستوى القوة المستخدمة والنطاق الجغرافي الذي تمت فيه، والذي امتد من خليج “بطرس الأكبر” المقابل لميناء “فلاديفوستوك”، في أقصى الشرق الروسي، إلى بحر “أوخوستك”، شمال اليابان، وارتبطت هذه المناورة بشكل وثيق حينها بالتوترات مع حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية سلسلة التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، وكذلك المناورات التي قامت بها البحرية الأمريكية مع كل من البحرية الهندية والبحرية اليابانية خلال نفس الشهر.

انتقلت المناورات المشتركة بين الجانبين عام 2018 إلى مستوى أعلى، حيث أجرى الجانبان في ذلك العام تدريبات برية ضخمة على طول الحدود المشتركة بينهما، وقاما بتوسيع مناوراتهما البحرية لتشمل دولًا أخرى، وكانت البداية مع إيران التي بدأت في المشاركة معهما في مناورات بحرية سنوية في خليج عمان والمحيط الهندي منذ ديسمبر 2019، وكانت آخر نسخة من هذه المناورات قد تمت في يناير الماضي في المحيط الهندي.

الجانب البحري من العلاقة العسكرية بين بكين وموسكو شمل أيضًا تنفيذ دوريات بحرية مشتركة، ومن أمثلة هذه الدوريات دوريتان نفذهما الجانبان في أكتوبر 2021، في الجزء الغربي من المحيط الهادئ، وفي نطاق بحر اليابان، وحينها عبرت نحو عشر قطع بحرية تابعة للبحرية الروسية والصينية مضيق “تسوجارو” الفاصل بين الجزيرة الرئيسة في اليابان وجزيرة “هوكايدو”.

بالعودة إلى الدوريات الجوية المشتركة، أطلق الجانبان عام 2019 الدوريات الجوية الاستراتيجية المشتركة بين قواتهما الجوية، عبر تنفيذ قاذفات كلا الجانبين دورية مشتركة في أجواء المحيط الهادئ، تبعتها دورية أخرى في ديسمبر 2020 في غرب المحيط الهادئ ونطاق بحر الصين الشرقي. وقد شهد شهر مايو من العام الجاري دورية جوية مشتركة بين الجانبين، استمرت لمدة 13 ساعة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، وحينها أشارت بعض التحليلات إلى أن هذه الدورية كانت ردًا على التحالف الرباعي الذي تم إعلانه بين الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان في طوكيو، وكذا التصريحات التي أدلى بها حينها الرئيس الأمريكي جو بايدن حول إمكانية تدخل واشنطن عسكريًا ضد الصين في حال مهاجمتها لتايوان.

توترات عسكرية ملحوظة في النطاق الصيني والروسي

من المنظور العسكري، يمكن اعتبار الأنشطة العسكرية المشتركة الأخيرة لكل من الصين وروسيا، بما في ذلك الدورية الجوية المشتركة الأخيرة، والدورية الجوية المشتركة السابقة في مايو الماضي، والمناورات البحرية التكتيكية التي تمت بين الجانبين في المحيط الهادي في سبتمبر الماضي، والتي شملت تنفيذ مجموعة من القطع البحرية الصينية والروسية دورية مشتركة في نطاق بحر “بيرينغ”، على التخوم الحدودية الأمريكية في ألاسكا؛ بمثابة ردود آنية على تصاعد التحركات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في النطاقات المهمة على المستوى الاستراتيجي لكل من بكين وموسكو، ومن أمثلة هذه التحركات، المناورات الجوية المشتركة لسلاحي الجو الياباني والأمريكي فوق بحر اليابان في مايو الماضي، يضاف إلى هذا تكرر عمليات عبور القطع البحرية الأمريكية في نطاق مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، وآخرها عبور مدمرة صاروخية أمريكية مضيق تايوان والمياه القريبة من جزر “سبراتلي” في بحر الصين الجنوبي في نوفمبر الماضي.

على المستوى العام، تستشعر كل من بكين وموسكو تزايد حجم الضغوط التي يمارسها حلف الناتو والولايات المتحدة عليهما في هذه المرحلة الدقيقة على المستوى الدولي، وهنا يمكن القول إن موسكو تحاول إبداء دعمها لبكين حيال التحركات الغربية المتتالية في محيطها الحيوي هذا العام، بداية من الاتفاقية العسكرية التي وقعتها أستراليا واليابان في يناير الماضي، مرورًا بمحاولات الولايات المتحدة التدخل في العلاقة المتوترة الحالية بين نيودلهي وبكين، وزيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان، وتصريحات نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، خلال زيارتها لجزيرة “بالاوان”، المتنازع عليها بين الفلبين والصين، وصولًا إلى الخطاب التصعيدي من جانب الرئيس الأمريكي جو بايدن ضد الصين، خلال كلمته الشهر الماضي في قمة شرق آسيا التي احتضنتها كمبوديا مؤخرًا.

ينظر كلا البلدين إلى تحركات اليابان في هذا الإطار بنفس النظرة تقريبًا، حيث جددت طوكيو -بالتزامن مع بدء المعارك في أوكرانيا- الحديث عن جزر الكوريل المتنازع عليها مع موسكو، وفي نفس الوقت، دخلت اليابان بمعية كوريا الجنوبية في خطة طموحة للتسلح، ركزت على القدرات الصاروخية الجوالة والباليستية، وكان آخر إرهاصاتها إعلان اليابان نيتها شراء 500 صاروخ جوال من نوع “توماهوك”. وذلك ضمن خطة أكبر تعمل عليها طوكيو لمراجعة استراتيجيتها للأمن القومي، بحيث تقوم بإدخال “الردع بعيد المدى” ضمنها، علمًا بأن صواريخ “توماهوك”، تستطيع ضرب أهداف على مسافة تزيد على ألف كيلومتر، ما يضع أجزاءً من الصين والشرق الأقصى الروسي في مداها المؤثر.

يضاف إلى ذلك، النوايا اليابانية التي تم الإعلان عنها مؤخرًا، لتوقيع اتفاقية للتعاون الدفاعي مع المملكة المتحدة الشهر الجاري، مشابهة للاتفاقية التي وقعتها طوكيو سابقًا مع أستراليا، وهي اتفاقية تتضمن الشراكة في عدة برامج تسليحية، من بينها مشروع مقاتلة متفوقة.

الجانب النووي من الدوريات الجوية الروسية الصينية، والتي شاركت فيها قاذفات استراتيجية روسية لها القدرة على حمل ذخائر نووية، ربما يكون من المهم النظر إليه، خاصة في ظل بدء حلف الناتو في السابع عشر من أكتوبر الماضي مناورات “الظهيرة الثابتة” النووية التكتيكية، والتي ردت عليها موسكو في نفس الشهر عبر مناورات “الرعد” النووية، وهي مناورات تمت في ظل تجارب كورية شمالية صاروخي متتالية، وظهور مفاجئ للغواصة النووية الأمريكية “”يو إس إس وست فيرجينيا” المحملة بصواريخ باليستية في بحر العرب في العشرين من أكتوبر الماضي، وهي فئة من الغواصات تعد بمثابة “جوهرة التاج” للثالوث النووي الأمريكي.

وكذا تنفيذ واشنطن تجربة صاروخية في أغسطس الماضي لإطلاق الصاروخ الباليستي العابر للقارات “LGM-30G Minuteman”، من قاعدة “فاندنبيرغ” الجوية، في اتجاه جزر مارشال، ويعد هذا الصاروخ الضلع الأول في “الثالوث” النووي الأمريكي، الذي يشمل صواريخ “ترايدنت” الباليستية التي يتم إطلاقها من على متن الغواصات، والقنابل النووية التكتيكية التي يتم إطلاقها من القاذفات الاستراتيجية.

على المستوى الاستراتيجي، ورغم أن ما سبق من عرض ربما يوحي بأن الشراكة العسكرية بين بكين وموسكو قد تعززت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بفعل عدة عوامل جيوسياسية أهمها التحركات الأمريكية التي تستهدف نفوذ ومصالح كلا الدولتين، فإنه لا يمكن أن نعد هذه الشراكة بمثابة “تحالف عسكري” كامل بين الصين وروسيا، حيث مازالت كلا الدولتين تحتفظان بهامش معين من استقلالية المصالح، وإن كانت تطورات الملف الأوكراني وملف تايوان في المستقبل القريب ربما تمثل فرصة لتوسع هذه الشراكة لتصبح أشبه بتحالف عسكري مماثل -ربما- لحلف الناتو.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74297/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M