الصراع بين «قسد» والعشائر العربية في دير الزور: العودة إلى الواجهة

  • تجدّد القتال بين “قسد” والعشائر العربية في ريف دير الزور الشرقي، بسبب فشل المفاوضات بين الطرفين في التوصل إلى اتفاق يمنح العشائر في دير الزور حق المشاركة في إدارة مناطقهم، وسوء معاملة “قسد” للعشائر العربية بعد نهاية موجة القتال السابقة.
  • تتبع العشائر العربية استراتيجية قتال جديدة لاستنزاف “قسد” وإضعاف فعاليتها في مناطق شرق الفرات، عبر تنظيم الصفوف وتشكيل غرفة عمليات موحدة تحت مسمى “قوات العشائر العربية”، وتغيير تكتيك القتال من خلال شن هجمات مباغتة على مقرات “قسد” والقيام باشتباكات قصيرة دون الدخول في مواجهة شاملة. 
  • من غير المرجح حسم الصراع العربي-الكردي في دير الزور قريباً، ومع ذلك من غير المحتمل أن تتجه “قسد” والولايات المتحدة إلى تغيير موقفهما تجاه مطالب العشائر العربية بشكل كبير.

 

تجددت الاشتباكات وعمليات الاغتيال والتحركات الأمنية بين الجناح العسكري للإدارة الذاتية الكردية المعروف باسم «قوات سورية الديمقراطية» (قسد)، وبعض العشائر العربية في منطقة شرق الفرات في سورية. يأتي ذلك عقب حسم «قسد» المعارك التي اندلعت في نهاية شهر أغسطس من العام الماضي (2023)، في إثر اعتقال أحمد الخبيل، قائد «مجلس دير الزور العسكري» بتهم تتعلق بالفساد. تحدث هذه المواجهات في ظل مساعي بعض العشائر لنيل مزايا سياسية واقتصادية لم تتحقق بعد، وفي ظل تعهدات من «قسد» بتصحيح الأخطاء التي أدت إلى الأزمة مع العشائر العربية. ويثير استمرار هذه المواجهات أسئلةً حول مستقبل العلاقات بين الكرد والعرب، والدور الذي يمكن أن تؤديه الأطراف الداخلية والخارجية في تخفيف التوتر أو تصعيده.

 

تتناول هذه الورقة خلفيات تجدد الصراع بين “قسد” والعشائر العربية في دير الزور وأسبابه، وكيف غيّرت العشائر استراتيجيتها القتالية، ومواقف كلٍّ من “قسد” والولايات المتحدة والحكومة السورية وإيران وتركيا من قوات العشائر واستراتيجيتها الجديدة، وتعرض أخيراً السيناريوهات المحتملة للصراع.

 

خلفيات الصراع وأسباب تجدُّده 

كان الصراع بين بعض المكونات العربية والكردية حاضراً منذ أول أيام تشكل الإدارة الذاتية و”قسد”، بالرغم من رفع الإدارة شعار المشاركة في الحكم والمساواة في الحقوق بين مكونات مناطق شرق الفرات، “الكرد والعرب والسريان”. أما بخصوص جولة الخلافات الأخيرة، فبدأت تتشكل عوامل الصراع بدرجة أكثر وضوحاً نتيجة الاختلاف حول تفاصيل إدارة شؤون المنطقة، فقد اعترض المكون العربي على ما عدَّهُ تمييزاً في الخدمات وتوزيع الموارد، وكذلك التجنيد الإجباري للشباب لمواجهة حملات تركيا التي تستخدم بدورها عناصر من أبناء العشائر، وكذلك الاعتراض على المناهج الدراسية لما تتضمنه من أفكار وقيم تتنافى مع الطبيعة العشائرية، وكان الاعتراض الأهم على تعيين شخصيات لا تمثل المكون العربي ومُتهمة بالفساد، في المجالس والمدنية والعسكرية، ومنهم أحمد الخبيل قائد مجلس دير الزور العسكري.

 

استطاعت قوات “قسد”، وبعد عدة أيام من الكر والفر، حسم جولة الصراع الأخيرة مع العشائر العربية في دير الزور في 8 سبتمبر الماضي بعد عمليات عسكرية بدأت في 27 أغسطس واستمرت نحو أسبوعين، نتيجة عدم تكافؤ موازين القوى على الأرض وانحياز الموقف الأمريكي لصالح الإدارة الذاتية الكردية، وفرار شيخ قبيلة العقيدات إبراهيم الهفل، الذي قاد التمرد على “قسد”،  إلى مناطق سيطرة النظام، بحسب ادعاءات “قسد“. وقد منح هذا الوضع “قسد” فرصةَ استعادة المبادرة من جديد في دير الزور، وقيامها بشن حملة اعتقالات واسعة بحجج أمنية، خلافاً للوعود التي قدمتها إلى العشائر، وبخاصة عدم ملاحقة خصومها في حال الكف عن مهاجمة قواتها وحواجزها.

 

لكنّ التطورات اللاحقة أثبتت أن الحسم العسكري الذي حققته “قسد” كان نسبياً إلى حد بعيد، وذلك بعد استئناف قوات العشائر هجماتها في نهاية أكتوبر الماضي، ولكنْ وفق نمط جديد، فقد بات الصراع يتخذ طابع الاستمرارية وبوتيرة عالية، ولم يعد مجرد هبّات أو انتفاضات متباعدة كما كان في المرحلة السابقة. وتقف وراء تجدد الصراع مجموعة أسباب، من أهما ما تأتي:

 

 

 

  • تباعُد الرؤى والتصورات: يرى الجانب العشائري أن الأطر التي أوجدتها الإدارة الذاتية، بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، لتسيير شؤون المنطقة وإدارتها، وبخاصة في المستويات العسكرية والإدارية، غير مناسبة للجانب العربي، ولن يفيد إصلاحها أو إجراء تغيرات معينة في عضويتها؛ فالمشكلة في أداء هذه الأطر، إذ أثبتت السنوات الماضية عدم قدرتها على تحقيق نتائج مهمة على صعيد الخدمات والحماية من المخاطر في مواجهة “داعش” والفصائل الإيرانية، كما تكمن المشكلة في انحيازها للجانب الكردي، في حين يرى الأكراد أن هذه الأطر والهياكل مقدسة والمساس بها يعني انهيار مشروع الإدارة الذاتية بكامله، وأن المخرجات السياسية يجب أن تتوافق مع هذه الأطر وآليات عملها، وهو ما اتضح بشكل جلي من خلال إعادة طرح الإدارة الذاتية لما سمته “العقد الاجتماعي الجديد”.

 

تغيُّر استراتيجية العشائر

تختلف جولة الصراع الجديدة التي تخوضها العشائر مع الإدارة الذاتية و”قسد” عن الجولة السابقة، سواء لجهة التنظيم أو الأهداف المراد تحقيقها، وقد ساهم في هذا التغيُّر أن موجات الاحتجاج المتتابعة ضد الإدارة الذاتية في السنوات الأخيرة فتحت المجال أمام فاعلين جدد أصغر سناً أحدثوا تأثيراً في أسلوب تعامل العشائر مع التطورات. وتميزت الاستراتيجية الجديدة بعنصرين جديدين، هما:

 

1. التنظيم؛ وتمثل ذلك بتنظيم الصفوف، وتشكيل غرفة عمليات موحدة تحت اسم “قوات العشائر العربية”، وقد ثبت ذلك عملياً من خلال تنفيذ عمليات كرّ وفرّ نوعية، وتقليل حجم الخسائر بين قوات العشائر إلى حد بعيد، وكذلك تشكيل جهاز استخبارات لجمع المعلومات وتحديد بنك أهداف للعمليات العسكرية.

 

2. تغيير التكتيك؛ فقد استفادت العشائر من تجربتها السابقة التي اعتمدت على طرد “قسد” من المناطق وإعادة احتلالها والتثبت بها، وكانت تجربة مكلّفة وخاسرة بسبب فارق التسلح والخبرة القتالية بين الطرفين، لذا لجأت قوات العشائر إلى اتباع نمط الضربات المباغتة، الذي يبدو أنه مستعارٌ من تجربة “داعش” بعد هزيمتها، ويتضمن شن هجمات مباغتة على مقرات “قسد” والقيام باشتباكات قصيرة دون الدخول في مواجهة شاملة. كما تتهم الإدارة العشائر بالتنسيق مع الميليشيات الإيرانية وقوات الحكومة السورية.

 

يمكن استنتاج الأهداف المراد تحقيقها من هذه الاستراتيجية، وتتمثل بالآتي:

 

  • استنزاف “قسد” وإرباكها إلى أبعد الحدود، وإضعاف فعاليتها في مناطق شرق الفرات، ودفع العناصر العربية إلى الانسحاب منها. وسيؤدي هذا الوضع في حال استمراره إلى إضعاف قوة الإدارة الذاتية وجناحها العسكري “قسد”، مما يضطرها إلى تقليص مساحة نفوذها والتفكير الجدي في الخروج من المناطق التي لا توجد لها بها حاضنة شعبية قوية، وبخاصة في مناطق دير الزور.

 

  • كسر أهداف الإدارة الذاتية وإجبارها على الانتقال إلى مربع التفاوض، بحيث يكون للميدان دور مهم في تشكيل الطاولات التفاوضية، إذ سيجبر ذلك الإدارة الأمريكية، وخوفاً من حصول انفلات وفوضى قد تستغلها ميليشيات إيران، إلى إجبار الإدارة الذاتية على الانخراط بمفاوضات حقيقية مع العشائر.

 

مواقف الفاعلين من تمرد العشائر واستراتيجيتها الجديدة

أولاً، الإدارة الذاتية

تعمل الإدارة الذاتية الكردية في إدارتها للصراع مع العشائر العربية وفق توليفة استراتيجية قديمة جديدة، تهدف إلى إخضاع المكون العربي ونزع ديناميات التمرد بداخله، وتقوم هذه الاستراتيجية على الآتي:

 

 

  • إعادة تشكيل خريطة القوى داخل العشائر: حيث عمدت الإدارة الذاتية الكردية إلى ترقية الشيخ جميل الهفل، الذي يقيم في مناطق سيطرة “قسد” شيخاً لعشيرة العقيدات[1]، وهي سياسة تتبعها الإدارة الذاتية الكردية في تعاملها مع العشائر في مناطق شرق الفرات، في سياق محاولاتها التي تهدف إلى عزل القيادات العشائرية المؤثّرة واستبدالها بشخصيات أقل إثارة للمشاكل. ورغم محدودية تأثير هذه الشخصيات وضعف فعاليتها، فإن الإدارة الذاتية تستثمر في التشظي العشائري الحاصل في مناطق شرق الفرات لإظهار حالة مؤيدة معاكسة للحقائق على الأرض.

 

  • استثمار مخاوف العشائر: إذ تدرك الإدارة الذاتية الكردية أن مكونات شرق الفرات العربية لا ترغب في سيطرة ميليشيات إيران ولا قوات النظام السوري أو عودة سيطرة “داعش” على مناطقهم، رغم احتمال وجود علاقات بين بعض الوجهاء العشائريين وبعض أفراد العشائر مع هذه الأطراف الثلاثة، إلا أن المزاج العام في شرق الفرات يرى في تجربة الإدارة المستقلة أفضل الخيارات المطروحة راهناً، شريطة أن تُحسَّن شروطها وتحقيق قدر أكبر من الاستقلالية. ويتجلى استثمار الإدارة الذاتية في فرض سياسات على المكون العربي لا تحقّق مطالبه، إدراكاً منها لضعف خيارات الطرف العربي، ولأن البدائل عن الإدارة الذاتية ستكون نظام الأسد والميليشيات الإيرانية التي نكّلت بالعشائر في مناطق غرب الفرات.

 

  • احتواء غضب العشائر بالوعود: لم تتضح صورة العلاقة التي تريد الإدارة الذاتية رسمها مع العشائر في المرحلة المقبلة، وقد زادت مقررات المؤتمر الأخير، التي تبلغ أكثر من عشرين قراراً، من تشويش هذه الصورة، ويرتبط أغلبها بوعود مستقبلية في مجال الخدمات وتحسين الواقع الاقتصادي، بالإضافة إلى إعادة هيكلة المجالس المحلية والتشريعية والبلديات، وترتيب قوى الأمن الداخلي والجسم العسكري من جديد، ورغم تحديد مدة زمنية أقصاها ستة أشهر لإعادة الهيكلة. ولكن المشكلة تكمن في غياب الثقة في وعود الإدارة الذاتية، وأنه إذا تحققت هذه الوعود فقد تفرض الإدارة الذاتية الأشخاص الذين سيتولون إدارة هذه الأطر، والذين يُشك في مدى تمثيلتهم لأبناء المنطقة.

 

  • إضعاف الهياكل المحلية العشائرية: تأتي هذه السياسة ضمن رؤية حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذي يشكّل الحزب الحاكم لمناطق شرق سورية، والذي يرى -نتيجة لأيديولوجيته اليسارية- أن العشيرة تمثل شكلاً اجتماعياً رجعياً. في هذا الإطار، أسست الإدارة الذاتية الكردية ثلاثة مجالس عسكرية مستقلة في مناطق سيطرة “قسد”، وحيّدت هياكل القوى ومراكز القوى السابقة، وحُصِرت مرجعية القوى المحلية الحاكمة بالإدارة الذاتية الكردية. ولا تهمش هذه السياسة دور العشيرة في الحياة السياسية فحسب، بل تثبت الانقسام داخل عشيرة “العقيدات” عبر فرض تقسيمات إدارية، بل إخضاعها بذريعة تنفيذ القوانين والقرارات للهياكل التي تشكّلها الإدارة الذاتية الكردية. وبشكل عام، نجحت الإدارة في سياستها الهادفة لإضعاف هياكل القوى المحلية، ولكن في بعض الأحيان جاءت أيضاً بنتائج عكسية تمثلت بنفور القيادات التي لا تزال مؤثّرة، والقيادات الأكثر تعليماً ومهنية، التي شاركت في تأسيس المجالس المدنية.

 

ثانياً، الموقف الأمريكي

تميّز الموقف الأمريكي بالثبات تجاه التطورات الجارية في شرق الفرات، والقائم على أساس عدم التدخل في تركيب الهياكل القائمة، وإنْ كان الطرف الأمريكي قد أبدى خلال المفاوضات، التي أجراها التحالف الدولي مع العشائر في 17 نوفمبر، في قاعدة العمر تفهماً للمطالب الخدمية والاقتصادية للعشائر، إلا أن الأمريكيين يرفضون تقديم أكثر من ذلك.

 

ويتبنى الجانب الأمريكي الموقف الكردي الذي يرى في الأحداث الحاصلة في مناطق شرق الفرات نتيجةَ تحريض فواعل خارجيين، وتحديداً إيران والحكومة السورية، وهي الرواية التي تتبناها الإدارة الكردية للأحداث. وقد دفعت محاولات استغلال النظام وإيران وتركيا للأحداث الأمريكيين إلى إعطاء قسد ضوءاً أخضر لاستكمال عملياتها الأمنية في دير الزور دون تدخل من قبلها، بل قدمت لها مساعدات استخبارية مهمة عبر الأقمار الصناعية عن تجمعات مقاتلي العشائر.

 

وينطلق الموقف الأمريكي من حقيقة أن الأكراد هُم الاستثمار الأكثر نجاحاً لهم في سورية، والقوة الأكثر تدريباً وتنظيماً، ولا يمكن الضغط عليهم من أجل العشائر العربية غير المنظَّمة والتي ليس لديها ولاء واضح للأمريكيين، كما أن مواقفها السياسية غير مستقرة. ورغم صدور بعض الأصوات التي تطالب بتعديل الموقف الأمريكي، خوفاً من انقلاب الأوضاع الأمنية ضد المصالح الأمريكية، في حال استمرار الدعم المطلق للأكراد، إلا أن الأمريكيين يصرون على دعم سياسات الإدارة الذاتية الكردية.

 

ثالثاً، مواقف دمشق وإيران وتركيا 

لكل من إيران والحكومة السورية وتركيا أولوياتها في شمال شرقي سورية، وتختلف مواقفها بحسب القضية. ومع ذلك، تتوافق مصالح الأطراف الثلاثة عندما يتعلق الأمر بدعم التمرد العشائري ضد “قسد”. وخلال المواجهات بين الأخيرة والعشائر العربية في سبتمبر الماضي، صعّدت تركيا من تدخلها ضد الأكراد، في حين قدّم الحكومة السورية وإيران الدعم للتمرد، حيث سمحوا لعناصر من الأجهزة الأمنية السورية والميليشيات الإيرانية، الذين ينتمون لعشائر المنطقة، بالتسلل إلى مناطق سيطرة “قسد” والمشاركة في القتال.

 

ولكل من هذه الأطراف مصلحة مستمرة في زعزعة استقرار المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” عبر دعم الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدتها العشائر العربية، والتي تتضمن تنفيذ هجمات منتظمة على مصالح وعناصر تابعة لقسد. حيث تهدف هذه الاستراتيجية إلى عرقلة تطبيع حكم “قسد”، وتجلب باستمرار الصراع العربي-الكردي إلى الواجهة، كما يوفر هذا الدعم لهم إمكانية الإنكار في حال تصاعد الصراع وتدخل الطرف الأمريكي. وبالتالي، من المحتمل أن تستمر هذه الأطراف الثلاثة في دعم هذا التمرد، وربما تعزيزه في المستقبل القريب.

 

السيناريوهات المحتملة للصراع بين العشائر العربية و”قسد”

السيناريو الأول، حصول تدخل أمريكي حاسم، بذريعة وجود تأثير لتنظيم “داعش” أو الميليشيات الإيرانية، وتصنيف المعركة ضد العشائر الرافضة لحكم الإدارة الذاتية (التي أصبح اسمها في العقد الاجتماعي الجديد “الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سورية”) ضمن جهود القوات الأمريكية لإحلال السلام في مناطق شرق سورية، ووفق ذلك، ستكون المنطقة مُعرضة لعملية تطهير ديمغرافي، عبر دفع الكتلة الأكبر من عشائر دير الزور المتمردة إلى الرحيل نحو مناطق النظام أو مناطق المعارضة. واحتمالية هذا السيناريو تتأتى من أن الولايات المتحدة الأمريكية باتت، بعد حرب غزة، تَعتبر وجودها في سورية له ضرورات استراتيجية تتعلق بحفظ التوازنات في المنطقة، غير أن هذا السيناريو يبقى غير مرجح، نظراً لأنه سيكون محفوفاً بالمخاطر وبخاصة لجهة توفير مبررات وحوافز لتشكيل مقاومة عربية ضد النفوذ الأمريكي، وبالتالي إتاحة الفرصة لإيران لتقوية أوراقها في شرق الفرات، وهو أمر تحاذره الإدارة الأمريكية. كما لا تشكل العشائر تهديداً وجودياً ضد “قسد”، وما زالت الأغلبية العامة من سكان المنطقة تفضل “قسد” على اللاعبين الآخرين.

 

السيناريو الثاني، عودة الصراع إلى درجة منخفضة كما كان قبل موجة الصراع الأخيرة في سبتمبر الماضي، بحيث تستطيع “قسد” التكيف معه، ويمكن للقوات الأمريكية إدارته، وتستطيع العشائر العربية تحسين موقفها التفاوضي بالتدريج وعبر الحصول على تنازلات متواترة من الإدارة الذاتية الكردية. ويبدو هذا السيناريو غير مرجح أيضاً، نظراً لأن علاقات كلٍّ من تركيا وإيران والحكومة السورية متوترة مع الولايات المتحدة المنشغلة في حرب غزة وتداعياتها، ولأن هذه الدول تسعى باستمرار إلى إضعاف الوجود الأمريكي دون الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن.

 

السيناريو الثالث، والأكثر ترجيحاً، هو استمرار الصراع بين العشائر العربية والإدارة الذاتية الكردية، إذ من الواضح أن العشائر العربية انتقلت إلى نمط الصراع المنظم، وتستطيع عبر تكتيكاتها الحالية الاستمرار في القتال لفترة طويلة تستنزف من خلالها “قسد”. ويعتمد تحقيق هذا السيناريو في شكل رئيس على استمرار، أو حتى زيادة، الدعم الخارجي للعشائر بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، ما سيمكّن العشائر من إلحاق الضرر بقوات “قسد” بتكلفة قليلة نسبياً، ولوقت طويل. ومع ذلك، من غير المحتمل أن تُجبر هذه الاستراتيجية “قسد” والولايات المتحدة على تغيير موقفهما، إذ ستستمر “قسد” في الاعتماد بشكل أساسي على الحلول الأمنية وإضعاف المكون العشائري، وستواصل الولايات المتحدة دعم الإدارة الذاتية و”قسد” بوصفها شريكاً محلياً رئيساً دون تكوين علاقات منفصلة مع العشائر. ولكن تفكيك شرعية “قسد” وزعزعة الاستقرار في شرق الفرات هي مكاسب كافية، بكلف قليلة، لكلٍّ من إيران والنظام السوري وتركيا من أجل استمرار الدعم للعشائر العربية.

 

الاستنتاجات

من غير المرجح حسم الصراع بين المكونين الكردي والعربي في دير الزور قريباً، إذ إن جذور هذ الأزمة متعددة الطبقات وتعود إلى سنوات مضت، وسيبقى الصراع في دير الزور موضع تنازع بين الفاعلين على اختلاف دوافعهم. وسيظل اختلاف منطلقات الطرفين وأهدافهما، حاجزاً أمام تطوير العلاقة بين المكونين الكردي والعربي في شمال شرقي سورية، وهذا ينعكس بشكل مباشر على طبيعة المعالجات التي أجرتها وتجريها الإدارة الكردية لحل الإشكاليات مع الطرف العربي، إذ عدا عن تجيير هذه المعالجات لخدمة البُعد القومي الكردي، فهي تخدم بدرجة كبيرة الهدف المتمثل بتأسيس كيانية كردية، أو بنية لدولة مستقبلية، في حين يَعتبر الطرف العربي أنه في مرحلة انتقالية إلى حين التوصل لحل سياسي، وبالتالي تنحصر أولوياته في الحفاظ على هويتهم، وعلى بنية العشيرة، وتحقيق عوائد اقتصادية من الثروات التي تزخر بها المنطقة.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/alsirae-bayn-qasad-walaashayir-alarabia-fi-deir-ez-zor-alawda-ila-alwajiha

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M