الصراع على اعادة تشكيل الهوية العراقية

مسلم عباس

لو سألت عن هوية العراق لن تحصل على اجابة واحدة بل مجموعة اجابات منفصلة متصارعة ضد بعضها البعض، وكل هوية تروج لنفسها على انها الممثل الاول لغالبية ابناء الشعب العراقي، ورغم هذه المزاعم لا تستطع اي هوية فرض نظريتها على شكل واقع مستقر ويؤسس للمستقبل.

الهوية الأولى للعراق هي حاصل مجموع المكونات العراقية التي جمعتها قوات الاحتلال البريطاني في عشرينيات القرن الماضي، بطريقة قسرية لا تتعلق بمصالح العراق بقدر تعلقها بتقاسم النفوذ مع القوى الاستعمارية آنذاك، وما بين صعود مكون على حساب اخر وما بين انقلابات عسكرية وسيطرة للدكتاتوية جاءت الاحزاب المعارضة بعد الغزو الامريكي للعراق وكتبت دستورا جديدا يفترض انه تمثيل للهوية الرسمية للدولة العراقية لكن الثغرات الكبيرة في الدستور نفسه، والانتقائية في تطبيق مواده حولته الى وثبقة قانونية غير محترمة ممن وضعها بنفسه، فكيف بمن لا يعترفون به اصلا ويعدونه وثيقة لتدمير الهوية العراقية، ومن ثم يجب تعديله وتحويله الى دستور يتوافق مع رغبات غالبية الشعب بعيدا عن الطائفية والقومية الضيقة التي تحول البلد الى مجموعة كانتونات منفصلة عن بعضها ولا يربطها سوى الشكل.

الدستور جاء أيضا ليخدم الاجندات الخارجية الامريكية التي ارادت تثبيت وجودها بأي شكل من الاشكال، وركزت على تصنيف الدولة العراقية على انها دولة مكونات وليست دولة يتساوى فيها أبناء الشعب تحت مسمى المواطنة، لان ذلك يخدم مصالح الأمريكي في حفظ الاستقرار لفترة من الزمن، بغض النظر عن التبعات المستقبلية لهكذا هوية مكوناتية، ولان الدستور ملئ بالاخطاء والثغرات، ولاننا امام سياسة الكيل بمكيالين فقد نضجت الهويات الفرعية التي تريد تحقيق الانتصار لذاتها على باقي الهويات العراقية من اجل تحقيق سيادتها وحماية نفسها من واقع لا توجد فيه هوية واحدة تكون مظلة للجميع، وما بين السلاح والدعاية والحرب النفسية زادت التناقضات وتزاحمت القوى بين بعضها البعض، ويشبه الامر الحرب الاهلية الباردة التي تنذر بحرب اهلية مسلحة تحرق الاخضر واليابس.

هوية الدولة دائما يحددها دستور البلاد، لكن ماذا عن الدستور الذي لا يحترمه احد، ولا يوجد التزام بالقوانين المنبثقة منه، او الالتزامات الدولية في اطار العلاقات مع الخارج، والبيئة الفوضية التي تغيب فيها القوانين وتتشوه الهوية يحضر فيها العامل الخارجي بقوة ويجد عمله مبررا لحماية مصالحه او مصالح الفئات المتحالفة معه.

لنعترف ان عراق اليوم فاقد الهوية اصبح اسيرا للخارج في اغلب قراراته السيادية، فكل دولة تريد اعلان حرب على دولة أخرى تاتي لتفتح سجل الحساب من بغداد، وابرز اللاعبين اليوم أمريكا وحلفائها من جهة، وايران وحلفائها من جهة أخرى، تريد واشنطن مضايقة ايران فترسل حلفائها لحرق القنصليات الإيرانية في النجف وكربلاء والبصرة، وترد طهران في حادثة أخرى بضرب السفارة الامريكية في بغداد، هذه السفارة التي تستخدم كمنبر للحرب على ايران، وما بين السفارتين انهارت الهوية واهين العراق، ولم يعد لوجوده سوى الاسم، اما الواقع فهو معسكر للحرب لا اكثر يحترق بين فترة وأخرى حسب منسوب الصراع بين الطرفين.

شعرت ايران بالضيق فهاجم حلفاؤها القواعد العسكرية الامريكية في شمال العراق، لترد الطائرات الامريكية بقصف ذات القوات التي هاجمتها غربي العراق، في ازمة تكشف حجم الضياع العراقي في اتون الصراع الجاري في المنطقة وحملات خنق ايران من قبل الولايات المتحدة الامريكية، وكل ذلك يجري باسم الحفاظ على العراق واستعادة هويته المفقودة، فانصار الولايات المتحدة يتغنون بهوية العراق اثناء السبعينيات التي كانت تسمح بمظاهر العلمانية والتحرر من القيود الدينية والاجتماعية، بينما ترد طهران بتسويق هوية دينية إسلامية تشبه حكومة ولاية الفقيه، لكن لحد الان لم تنتصر هوية على أخرى، فالهوية هنا أداة وليست هدفا نهائيا، بمعنى ان رفع شعار الهوية العلمانية ليس هدفا مركزيا للامريكيين بقدر مها هو أداة للحرب على ايران، والعكس صحيح.

الحقيقة الثابتة الان ان الهوية العراقية غير موجودة، وكل طرف يصعب عليه فرض شروطه على الطرف الاخر، وهذا يفرض على جميع الاطراف العراقية والخارجية ان تعرف حجمها بانها لا يمكنها الاستحواذ على الصفقة كاملة، عليها الاقتناع بان هناك اطرافا لها مصلحة في تقاسم النفوذ السياسي هذا اذا تحدثنا على المستوى الداخلي، وعليها ايضا ان تكون على قناعة تامة بان محاولة الغاء الوجود الاجنبي بطريقة تبسيطية مخلة له تبعات عكسية فلا يمكن حصر ايران في زاوية ضيقة، ولا يمكن حصر أمريكا بزاوية ضيقة واخراجها بهذه السهولة.

الواقع العراقي والهوية العراقية الواحدة السائدة الان هي الفوضى ولا شيء غير ذلك، اننا نسير على أرضية متحركة لا ثابت فيها الا مصالح الدول الكبرى والإقليمية، الدستور الذي يفترض ان يكون الفضاء الذي تسبح فيه الدولة العراقية تحول الى جرم سماوي صغير لا ينظر اليه احد الا بمقدار حاجته اليه، وليس لهذا الدستور سلطة على احد، وهو ذات الامر الذي كان على طول عمر الدولة العراقية، فالنظام القضائي والقانوني اقل مرتبة من الرئيس والحزب، واليوم اصبح اقل مرتبة من السفير الأجنبي.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M