العدالة الانتقالية كنموذج لبناء السلام دراسة حالة : جنوب أفريقيا

اعداد : ثائرة شديد – المركز الديمقراطي العربي

 

المقدمة :

واجه العالم في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية العديد من التحديات، اتسمت أهم ملامحها بحدوث جملة واسعة من الانتهكات الممنهجة لحقوق الإنسان، والذي تمخض عنه، المحاولة إلى تحقيق الاستقرار والعدالة الاجتماعية والتعايش وبناء السلام المستدام، ومن هذه الدول، التي تأثرت بالصراع وعانت ويلات التمييز العنصري، هي جمهورية جنوب أفريقيا.[1] عاشت الجمهورية على مدار سبعة عقود من الفصل العنصري في فصول طويلة من أشكال متعددة لإنتهاكات لحقوق الإنسان سواء وقوع مجموعة من المذابح، التعذيب، التمييز في الأمور كافةً في التعليم والصحة والمشاركة السياسية وغيرها، وليس إنتهاءً، بالسجن لفترات طويلة للنشطاء والسياسيين السود.

وقد مثل المناضل الجنوب أفريقي، أيقونة عالمية لمناهضة سياسات التمييز العنصري على صعيد العالم أجمع، من خلال قيادته للعملية التحررية من الفصل العنصري، وقد أدى إطلاق سراح نيلسون مانديلا في عام 1990، بعد 27 عامًا في السجن، إلى مفاوضات بين حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والمؤتمر الوطني الأفريقي، ساهمت في إحداث انتخابات العام 1994، وأدت إلى حالة من الانتقال السلمي الديمقراطي، ومشاركة المواطنين من ذو البشرة “السوداء” في الانتخابات، بعد عقود من عدم مشاركتهم أو إيلاء أي اهتمام بهم في الشأن العام، كنتاج لنظام العنصري، الذي أنشئ بعد الاستعمار الأوروبي.[2]

وفي العام 1995، كلف برلمان جنوب أفريقيا، بإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة (TRC)، ضمن برنامج من بناء السلام واستدامته في الجمهورية، عبر ما يسمى بأداة “العادالة الانتقالية”، كوسيلة للتعافي من آثار وويلات عمليات انتهاك حقوق الإنسان ما بين عام 1960-1994، شمل تقريبا جميع أنواع العنف الذي ارتكب بحق المدنيين على خلفية عنصرية وجرائم سياسية، تضمن تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة، الذي نُشر في عام 1998، شهادات من أكثر من 21000 ضحية وشاهد، في محاولة جادة لتحقيق العدالة عبر اعتراف الجاني بما اقترفه من جرائم بحق الجناة من المدنيين.[3]

  • الإشكالية

لقيت نظرية العدالة الانتقالية رواجاً وتم استخدامها في العديد من السياقات، الدول والمجتمعات التي عانت صراعات دامية بين مكوناتها الطبقية سواء العرقية، الدينية، الإثنية، الأيديولوجية والسياسية المختلفة، أو بين المجتمع ونظم حكم استبدادية، أو بين شعوب بعض الدول والمستعمرون الذين سكنوا أرضا لم يكونوا أهلها أصلا. ولكن في كثير من الاحيان لم يكن هناك قياساً أو تقديراً لمدى فعالية وتأثير تطبيق العدالة الانتقالية، سيما وأنها ظاهرة حديثة نسبيا. ففي دولة جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، تؤخذ كنموذج لنجاعة العدالة الانتقالية، كأداة لخلق مستقبل تتعايش فيه الجماعة الظالمة والجماعة المظلومة في وئام ونماء وسلام. والواقع أنه ما زال الشعب الي وقع عليه ظلماً تاريخياً يعاني من التهميش في التعليم والتوظيف، وفي المناصب السياسية والعامة، كما أنه لم يرافق العدالة الاجتماعية توزيعاً عادلاً للثروة.

ويتمثل السؤال الذي تطرحه الدراسة في مدى مصداقية، جدوى وفاعلية نظرية العدالة الانتقالية على أرض الواقع في دولة جنوب أفريقيا؟. وهل غياب حالة العنف الرسمي من قبل الدولة في جنوب أفريقيا دليل دامغ بأن العدالة الاجتماعية آتت ثمارها؟

تفترض الورقة البحثية، بأن العدالة الانتقالية لم تلقَ النتائج المرجوة في نموذج جنوب أفريقيا، وأن الديمقراطية ومظاهر السيادة والفصل بين السلطات والتعددية والدستورية القانونية، هي ليست الوحيدة التي يجب دراستها والتركيز عليها، كأمثلة على التعايش السلمي وإزالة آثار ومسببات الفصل العنصري، بل يجب النظر داخل الصندوق الأسود، بحيث لم يتم التحول الديمقراطي بالطريقة التي كانت مفروض أن تحصل اجتماعياً على الأقل، فمظاهر العنف البنيوي والهيكلي داخل النظام السياسي والاجتماعي ما زالت موجودة لكن تم احتواءها تحت غطاء الشرعية الدستورية الوطنية.

أولا العدالة الانتقالية:

 تطور تاريخي، المفهوم، الآليات

لعل من الامكان إرجاع مصطلح العدالة الانتقالية إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، مع إنشاء المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ وبرامج اجتثاث النازية المختلفة في ألمانيا، ومحاكمة الجنود اليابانيين على جرائم ارتكبوها خلال الحرب. واليوم، تشير العدالة الانتقالية عادة إلى مجموعة من المقاربات التي تتخذها المجتمعات لحساب تركة انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع أو منهجي أثناء انتقالها من فترة الصراع العنيف أو القمعي إلى السلام والديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.[4]

ومنحت الموجة الثالثة من الدمقرطة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات العدالة الانتقالية زخماً جديداً ومضافاً، كحلقة وصل بين الانتقال والعدالة في أواخر الأربعينيات، تم تحول المفهوم إلى منظور أوسع يتضمن، إعادة فحص شاملة لمجتمع يمر بمرحلة انتقالية من موقف بأثر رجعي إلى وضع مستقبلي مع ترسيخ الديمقراطية، كواحد من أهدافها الأساسية. [5] وبشكل عام، يهدف برنامج العدالة الانتقالية عادة إلى تحقيق وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان؛ التحقيق في جرائم الماضي؛ تحديد المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان؛ فرض عقوبات على بعض المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؛ تقديم تعويضات للضحايا؛ منع الانتهاكات في المستقبل؛ الحفاظ على السلام المستدام وتعزيزه؛ وتعزيز المصالحة الفردية والوطنية.[6]

ويتم تحقيق هذه الأهداف من خلال المصراحة وإثبات الحقيقة، تزويد ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بمنصة عامة لتوثيق وسجلات الانتهاكات، ومحاسبة الجناة، وتعزيز سيادة القانون، وتعويض الضحايا، وتنفيذ الإصلاح المؤسسي ، وتعزيز المصالحة، وتعزيز المداولات العامة. وتمت تجربة مناهج متنوعة للعدالة الانتقالية. هذه المقاربات قضائية وغير قضائية.[7] ومع ذلك، تم استخدام أربع استراتيجيات رئيسية:

1) المحاكمات والمقاضاة: يمكن تتبع هذا النهج القضائي في محاكمات نورمبرغ ويتضمن محاكمة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان محليًا أو دوليًا أو من قبل هيئة خاصة مثل المحكمة الخاصة في سيراليون.

2) لجنة الحقيقة: وهي في الأساس هيئة غير قضائية تحاول التحقيق في الماضي لتحديد المدى الكامل للانتهاكات الماضية من خلال جلسات الاستماع العلنية لكشف الحقيقة. تمكن هذه الأداة في محاسبة مرتكبي الانتهاكات السابقة، وتعزز المصالحة ، وتقدم توصيات بشأن التعويضات، وإحياء ذكرى الضحايا ، والناجين أو الأحداث التاريخية، وتقدم مقترحات لإصلاحات مؤسسية تهدف إلى منع الانتهاكات في المستقبل.[8]

3) التطهير و/ أو التدقيق: هذه عملية تحاول تعزيز المساءلة والديمقراطية والمصداقية من خلال تطهير الخدمة العامة ، وخاصة الأجهزة الأمنية من المسؤولين الفاسدين والمسيئين وغير الأكفاء.

4) الإصلاح المؤسسي: يستلزم إصلاح المؤسسات التي كانت تعتبر مسؤولة عن الانتهاكات السابقة مثل القضاء والشرطة والجيش والأجهزة الأمنية. غالبًا ما ينطوي على تعديل القوانين التعسفية بالإضافة إلى الإصلاحات الدستورية. مع ذلك، فإن الطريقة الأكثر شيوعًا والأكثر استخدامًا هي لجنة الحقيقة. [9]

بهذا المعنى، يشير مصطلح لجنة الحقيقة إلى تلك الهيئات التي تم إنشاؤها للتحقيق في التاريخ الماضي لانتهاكات حقوق الإنسان في بلد معين وتقديم توصيات للمستقبل. في حين أن العديد من هذه تتوافق مع الإستراتيجية الثانية الموضحة أعلاه، إلا أن هناك عددًا لا بأس به ، حيث سنرى قريبًا استطراداً من هذا.

لقد لقيت العدالة الانتقالية في أفريقيا كما في أماكن أخرى من العالم تحديات عديدة. وهي بحاجة إلى التأكيد، القضية الأولى وهي الرغبة في ضمان “عدالة المنتصر”. وهذا ينطوي على بعض القضايا الأساسية في التعامل مع ارث الفصل العنصري الافريقي كقضايا قول الحقيقة والعدالة والتسامح والشفاء والتعويض والعفو. القضية الثانية، المرتبطة مباشرة أيضًا بالأولى حقيقة وهي ضمان عدم تكرار الانتهاكات السابقة. إذا كان الهدف النهائي هو السلام والديمقراطية المستدامين ، فمن الواضح أن أفريقيا لا تزال تكافح من أجل ذلك.[10]

كانت أهم لجان الحقيقة هذه هي لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، والتي مثلت في كثير من النواحي علامة فارقة بالنسبة للجان الحقيقة بشكل عام. وكما أشرت سابقاً، فإن لجان الحقيقة هذه، التي هي في الأساس هيئات غير قضائية ، سبقت الهيئات القضائية أو عملت جنبًا إلى جنب مع الهيئات القضائية.

مفهوم العدالة الانتقالية

وردت العديد من التعريفات للعدالة الانتقالية، فقد قدم تعريف شامل له في موسوعة ماكس بلانك للقانون الدولي العام، بأنه “تصف العدالة الانتقالية مجالًا من مجالات القانون الدولي يهتم بمسألة كيفية مواجهة حالة انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات الإنسانية على نطاق واسع في الماضي في فترة الانتقال إلى السلام والديمقراطية.[11] كما ورد في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المقدم إلى مجلس الأمن بشأن سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع العدالة الانتقالية للعام 2004، بأنها “النطاق الكامل للعمليات والآليات المرتبطة بها مع محاولات المجتمع للتصالح مع إرث واسع النطاق الانتهاكات الماضية ، من أجل ضمان المساءلة وخدمة العدالة وتحقيق المصالحة”.[12]

ويشير مفهوم العدالة الانتقالية إلى الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان مثل جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، والحرب الاهلية.[13] كما ويرتبط سياسيا بمفاهيم تمثل في 1- بناء السلام الشامل لجميع الإجراءات التي تؤدي الي تحقيق سلام مستدام في المجتمعات المتنازعة، تدعيم هياكل الدولة لترسيخ سلام على أساس من الشرعية الدستورية القانونية العادلة الديمقراطية. 2- المصالحة الوطنية، كإحدى وسائل تحقيق الوحدة الوطنية التي تؤسس الى دولة متينة متعددة. 3- تقوية الديمقراطية من خلال إرساء قواعد الشفافية والمساءلة وبناء الثقة. 4- مواجهة الماضي كواجب أخلاقي تجاه المتضررين والاهتمام بضحايا النزاع وعدم تجاه معاناتهم المادية والمعنوية. [14]

كما أنه ورد نموذج ليبرالي ديمقراطي للعدالة الانتقالية يتكون من الآتي:

  • على الدول المنخرطة في عملية تحقيق العدالة، أن لا تجعل هذا الانتقال سياسياً، بل مقيد في نصوص القانون، وخاصة مبادئ القانون الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث يلعب دوراً هاما في حل النزاعات داخل أطر قانونية كالمحاكمات؛
  • وعلى الدول الالتزام في مبادئ و إطار “العدالة الانتقالية الترميمية”، وذلك عن طريق اعتماد سياسات تأهيل للضحايا وتعويضهم، مهما بلغت تكاليفها المادية؛
  • كما تحتاج الدول في إطار تحولاتها الديمقراطية، إلى الالتزام بسياسة المكاشفة والشفافية، بأن توفر فرصة لإزاحة الستار عن جرائم الماضي، توفر للمستقبل بناء ثقة مستدامة قادرة على أخذ العبرة من الماضي عن طريق فضح جرائم القادة السياسيين وإظهار معاناة الضحايا والمدنيين، بالتالي تأسيس مسؤولية سياسية في إطار نظام حكم ديمقراطي. [15]

قانونية العدالة الانتقالية

يتطلع مواطنو دول العالم، العيش في ظل نظام مستقر عادل، تحت سقف حكومي ديمقراطي، يتأملون منه توفير أدنى مستويات الحرية والمساواة في الشؤون كافةً، لذلك يعطى لمفهوم العدالة الانتقالية، شرعية دولية متزايدة وذلك لضرورته الملحة في ظل العملية الانتقالية لنظام دولي مستقر، وعليه يجب حتى تصبغ على العدالة الانتقالية مفهوم الشرعية القانونية يجب ملاحظة، أن العدالة الانتقالية تتمثل بمجموع الإرادة المتكاملة للنظام الداخلي تشريعياً وقضائياً وسياسياً، بشكل يقوم على احترام وتعزيز لحقوق الإنسان، وأنها ليست فقط بالقدر تصفية للقضايا السابقة قانونيا وسياسيا. [16] كما أن العدالة الانتقالية يتجاوز مفهومها جبر الضرر والتعويض المادي للضحايا، وإنما يمتد أثر نجاحه إلى مشاريع التنمية البشرية، والتي عمادها الإنسان، بأن يكون مركز التنمية والتطوير في المجالات كافة، وهذا ما تم التأكيد عليه في الوثيقة الخاصة بالمفوضية الأممية لحقوق الإنسان، والتي جاء بها “إننا نعلم جميعا أن التنمية المستدامة مستحيلة بدون الأمن، وأن الأمن مستحيل بدون التنمية”.[17]

ولا يمكن إنكار بأن القضايا التي أقرت بها العدالة الانتقالية ذات العلاقة بالعنف السياسي، أصبحت موضوعاً دولياً واسعاً، يتجاوز القوانين الوطنية، ويمتد إلى موضوع يناقش على مستوى المجتمع الدولي بمؤسساته ومنظماته ومؤتمرات رؤساء وزعماء الدول، بشكل يقيد السياسيات الداخلية للدول والتدخل في شؤونها الداخلية، بشكل يحد من سيادة الوطنية لهذه المجتمعات.[18]

تعد حركة العدالة الانتقالية في العالم اليوم معياراً مهماً وشكلاً نضاليا من قبل العديد من المجموعات، بل تعدى ذلك إلى اعتباره أنموذجاً تحرريا للقمع والظلم والاضهاد سواء المجتمعي الداخلي أو من قبل مجموعات استعمارية خارجية، مناهضةً لجميع أشكال الاضطهاد والاستعمار أو أي شكل من أشكال انتهاكات حقوق الإنسان التي نصت عليها بنود الشرعة الدولية في العهد الخاص بحقوق الإنسان (الحقوق المدنية والسياسية)، والمعاهدات والاتفاقيات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان الأخرى كالمعاهدة الدولية لإزالة كافة أشكال التمييز العنصري. وأضحى المفهوم إلى تعميق أن سياسات منع الإفلات من العقوبة، وضروة محاسبة الجناة لا مفر منه، ولو بعد انتهاء الحرب أو النزاع.[19]

وهذا فيما يتعلق، بإدماج مبادئ وأحكام والمعايير التي تقوم عليها العدالة الانتقالية على الصعيد العالمي في جملة من الصكوك والمعاهدات والمواثيق والإعلانات المكتوبة، والتي أقرتها الأمم المتحدة وأجهزتها، أو من خلال الاتفاقيات الإقليمية وعبر الإقليمية. وعلى الصعيد الداخلي الوطني، فقد أقرت مجموعة دساتير دول العالم وأنظمتها القانونية والقضائية كذلك جملة المبادئ التي يقوم عليها العدالة الانتقالية، وسنرى مثاله في تجربة جمهورية جنوب أفريقيا أدناه.

ثانيا النزاع في جنوب أفريقيا

تعتبر تجربة العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا من أبرز التجارب لتطبيق هذا النظام في العالم؛ فبعد إنتهاء نظام التمييز العنصري، وما صاحبها من حرب دامت أكثر من ثلاثين عام (1960 – 1990) قادها المؤتمر الوطني الأفريقي ضد نظام التمييز العنصري، دخلت البلاد مرحلة الإنتقال الديمقراطي في عام 1990 خاصة في  فترة وصول زعيم الأقلية البيضاء “دو كليرك”، إلى السلطة حيث قام برفع الحظر عن نشاطات المؤتمر الوطني الأفريقي وأطلق سراح زعيمه نيلسون مانديلا بعد 27 عاما من السجن.[20] فالانتقال الديمقراطي في جنوب أفريقيا، هو ثمرة مسار قائم على المفاوضات، اعتمد على نهج المصالحة لتجنب كل أشكال الإنتقام، حيث كان الهدف الأساسي ذاك الوقت هو المحافظة على مستوى النمو الإقتصادي للبلاد، خلال العام 1993، وتم تبني دستور انتقالي للدولة وكانت قضية العفو عن مرتكبي الجرائم الخطيرة خلال فترة الصراع من أهم نقاط المفاوضات حول الإنتقال الديمقراطي وقد توصل طرفي الصراع الى تسوية مفادها بأن العفو يمكن أن يتم للجرائم التي تمت بهدف سياسي وكان لها علاقة بنزاعات الماضي.[21]

وفي العام 1994، تمت أول إنتخابات جنوب إفريقية متعددة الأعراق فاز فيها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وأنتخب مانديلا رئيسا لجنوب أفريقيا، وفي منتصف عام 1995، صادق برلمان جنوب أفريقيا على قانون دعم الوحدة الوطنية والمصالحة الذي أسس للجنة الحقيقة والمصالحة وعين الرئيس نلسون منديلا اعضاء تلك اللجنة البالغ عددهم 17 عضو في شهر ديسمبر من ذات العام، وتم اختيار القس “ديزموند توتو”، رئيسا لها، وهنا بدأ عملية المصالحة الحقيقة بين الماضي والحاضر في النظام الجنوب الافريقي لمحو مخلفات الماضي.

عملية الانتقال وترسيخ قواعد العدالة في جنوب أفريقيا بعد الصراع

كان من الموجب على المكونات التي تريد تعديل النظام أن تقوم بسلسلة من العمليات حتى يصلح الحديث عن نظام سياسي انتقالي توافقي بين الأقلية البيضاء التي سيطرت على الحكم لمدة تزيد عن نصف القرن، وأصحاب وأهل الأرض الحقيقيين وهم الأكثرية السوداء. يتناول الباحث في هذا الفصل الاجراءات التي قام بها النظام السياسي الانتقالي، لتجذير مفاهيم العدالة الانتقالية في السياق الجنوب إفريقي. وهنا سيتم تناول أحد العناصر والأركان التي يقوم عليها هذا النظام.

دستورية العدالة الانتقالية

أشار دستور جنوب أفريقيا للعام 1996، إلى جملة عريضة من المبادئ الدستورية، والقيم الديمقراطية والحقوق الأساسية، والتي تمثل في مضمونها، نهج نحو المصالحة،[22] يضمن للأغلبية السوداء القدرة على ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية، والنظر لمواطني الدول على “قدم من المساواة بجميع الحقوق والحريات الأساسية بما فيهم حق العيش بأمان دون أن تسلب حريته بأي طريقة تعسفية أو يحجز دون محاكمة والحق في السلامة الجسدية والنفسية”[23]، و”التوزيع العادل للموارد”[24]، هذا البند الذي جعل مصالح الأقلية البيضاء في خطر بعد عملية الانتقال الديمقراطي، في الحقيقة أن الأقلية البيضاء هي المالكة والمستثمرة والمتحكمة في السوق حقيقة، إلا أن التسوية السياسية الحقيقية وفرت لنظام الأقلية البيضاء المنتهية ولايته نظام حماية قانوني دستوري لحماية مصالحها، قبل المصادقة على نظام عدالة انتقالية واسع. إن دستورية العدالة الانتقالية في التجربة الجنوب افريقية حظيت بمركزية التسوية السياسية ما قبل الانتقالية، التي تساهم في حماية المصالح للأقلية، واعتبار مبادئ التفاوض ما قبل الانتقال أساس المرحلة الانتقالية.[25]

لجنة التحقيق والمصالحة

أنشئت اللجنة في العام 1995، بموجب “قانون الوحدة والمصالحة”، والهادف إلى وضع سجل شامل لجميع انتهاكات حقوق الإنسان على جميع مستويات الدولة من أفراد، أحزاب، ومؤسسات. تكونت لجنة التحقيق من ثلاثة لجان فرعية، هي: 1-  لجنة انتهاكات حقوق الإنسان المختصة في التحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لجنة العفو، لجنة ضبر الضرر واعادة التأهيل، يمتد الأثر الزمني للجان من الأول من مارس 1960، حتى انتهاء مدة عمل اللجنة وفقا للدستور[26]. تمتعت اللجنة بصلاحيات واسعة واستثنائية، مثل[27]:

  • صلاحية الاستدعاء والتحقيق.
  • صلاحيات واسعة بشأن التحقيق في أنماط انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة المرتكبة من قبل الموظفين الرسميين والمعارضة إبان 35 عام من النزاع.
  • صلاحيات اصدار التوصيات بشأن جبر الضرر للضحايا
  • صلاحيات قضائية بشأن إصدار العفو لمرتكبي حقوق الإنسان بظروف استثنائية.[28]

وعلى الرغم من أن “لجنة التحقيق والمصالحة” استطاعت أن تجمع بين العديد من الضحايا وجلاديهم لانتزاع معلومات خاصة بالانتهاكات اللذين قاموا بها، إلا انها لا ترقى لمستوى الهيئات المحاكمية القضائية من حيث الصلاحية المقررة.[29] بمعنى أنها لا تملم صلاحية إصدار أحكام قضائية، تتمتع بخاصية التنفيذ القانوني، والذي يعطي الضحية حقه بالقوة، من خلال التنفيذ الفعلي، سواء بمحاكمة المعتدي أو فرض التعويض عن الضرر بقدر ما لحق الضحية من معاناة وألم.

اعادة الاندماج في الحياة المدنية

وكذلك، فقد واجه المجتمع الافريقي ذو الأغلبية، مشكلة في إعادة الاندماج في الحياة المدنية، بعد ازالة نظام الفصل العنصري الذي انتهج سياسة اقصاء، وهي من أسوأ الممارسات ضد الإنسانية، فقد تم محاصرة السكان الأصليين في “باتستونات”، متقطعة الأواصر، يسمح لحاملي لدفاتر هوية خاصة بالتنقل في فترات معينة، كما وكان الحزب الوطني “الافريكاني”، من أهم الرموز التي تقوم بتجذي نظام الفصل العنصري في النظام الانتخابي، الذي لم يكن يسمح لغير البيض في الانتخاب، إضافة إلى ذلك لعبت الكنيسة الإصلاحية الهولندية الافريكانية بتكريس نظام الفصل العنصري عبر سيادة العرق النقي الأبيض.[30] كما أن ما يميز نظام الفصل العنصري المدني تحديداً هو اللغة والنظام التعليمي الذي أقر بأن لغة الأفريكان أعظم ما عمله الجنس الافريكاني في أفريقيا على الرغم من أنها لغة لا يتحدث بها الا 3 مليون افريكاني من مجموع سكاني يزيد من 42 مليون نسمة، ورفض الأفريكان استخدام أي لغة أخرى سوا الأفريكان وتم استخدامها في التعليم دون سواها، إضافة الى ذلك واجه المجتمع الجنوب افريقي اشكالية اندماج جملة من العساكر في المجتمع من جديد وخاصة في الحياة الاقتصادية والسوق، وذلك بسبب النظرة السابقة عن قيامهم بأعمال مسلحة قد أدت إلى ارتكاب انتهاكات في حقوق الإنسان. [31]

جلسات قول الحقيقة والاستماع

أدلى ضحايا نظام الفصل العنصري بشهاداتهم ضد النظام السابق، وتم توزيع جلسات الاستماع على خمسة جلسات تتمثل في: جلسة استماع خاصة بالضحايا، وتم السماح لبعض الضحايا بإدلاء شهاداتهم أمام العامة، وتم اختيار الشهادات بناء على طبيعة الانتهاك؛ وجلسة استماع خاصة بالأحداث والوقائع، وتم التركيز في هذه الجلسة على انتهاكات في وقائع شهيرة كحادثة حصان طروادة 1965، انتفاضة سويتو 1976، مذبحة بيشو 1992؛ وجلسة استماع خاصة بالفئات المهمشة، محصورة بالفئات الغير قادرة على حماية نفسها كالأطفال والنساء وكبار السن، كما وتم الاستماع الى الشباب اللذين أجبروا على الذهاب للخدمة العسكرية؛ وجلسة استماع خاصة بالمؤسسات، اختصت في دور المؤسسات المناهضة لنظام الفصل العنصري، حيث تم الاستماع الى قطاعات متعددة كالقطاع الصحي والاعلامي والمجموعات الديني وغيرها؛ وجلسة استماع خاصة بالأحزاب السياسية، وتم منح الأحزاب فرصة الحديث حول نظام الفصل العنصري والأسباب التي ادت الى تفاقهم الوضع في جنوب أفريقيا.[32]

النيابة

إن تجربة مقاضاة منتهكي حقوق الإنسان في التجربة الجنوب افريقية لوحظ بأنها انتقائية للغاية، لا سيما وأن معظم الجرائم المرتبكة كان يجب معاقبة الجاني عليها قانونيا، لم يتم التحقيق بشكل جديد في الجرائم الجنائية التي تنتهك بشكل عمد القانون المعمول به داخليا، حتى في الوقت التي أحيلت للمحكمة لم يتم التعامل معها بشكل موضوعي.[33] وركزت تحقيقات النيابة العامة في الجرائم الحقوقية بشكل أساسي على أفعال حركات التحرر، مما أسفر عن ادانة المدعي العام والشرطة للمئات من القضايا المنتهك بها حقوقيا، وغالبا تم تعليق القضايا أمام المحاكم في انتظار لجنة العفو.[34]

التعويضات

أوصت لجنة التحقيق والتقصي بالقيام بتعويضات مالية كلٌ بقدر الانتهاك الذي تعرض له، وهناك أرقام مسجلة لما تم تلقيه من قبل الحكومة الانتقالية تقدر بربع المبلغ الموصى به، مدفوعة مباشرة للضحايا عبر حساباتهم المصرفية ودون شمولية الخدمات الصحية والاجتماعي والتعليمية لهذه المبالغ. كما أن هناك مفارقة كبير، حيث تم تقديم جزء من التعويض بعد 6 سنوات من بدء لجنة التحقيق، لكن عمليات العفو ضد الجاني كانت بشكل آن وهذا الشأن خصيصا سبب للبعض احباط، كما شكل بعد من انعدام الثقة، وحتى الآن لا تزال مطالبات التعويضات تحارب ضد الشركات الدولية التي قدمت المساعدات لحكومة الفصل العنصري، والتي تؤثر بشكل أو بآخر على الاقتصاد في جنوب أفريقيا. [35]

اصلاح المؤسسات

لم يتم الاصلاح المؤسسي في التجربة الجنوب الإفريقية بممارسات تطهير أو عزل بالمعنى الدقيق، من خلال إجراءات مباشرة؛ فالتطهير تم تلقائي مع مرور الزمن فمؤسسات الخدمة العامة تحولت من خلال عمليتي الترشيد والتغيير الديمغرافي والأحزاب السياسية وتأثرت بصورة مباشرة بالتغيير السياسي، أما عن السلطة القضائية فقد نفذت سياسة الدوران الوظيفي وشكلت لجنة الخدمات القضائية ووضع دور محدد للمحاكم المختلفة وتحديد كيفية اختيار أعضاءها.[36] وفي الحقيقة على الرغم من الجهود المبذولة، إلا أن الفصل بين السلطات وخاصة الجهاز القضائي لم يكن بصورته المرجوة. [37]

جبر الضرر

لقد نص قانون المصالحة والحقيقة على جميع الأشخاص اللذين اعترف بهم كضحايا عنف من النزاع السابق لهم الحق في جبر الضرر، ولم تكن المفوضية مختصة بالقرارات التعويضية لكن عملت لجنة جبر الضرر وإعادة التأهيل على صياغة التوصيات والاقتراحات حول إعادة تأهيل الضحايا وعائلاتهم وقد أسس صندوق يمول من ميزانية الدولة والمساهمات الخاصة بهدف تقديم تعويضات مستعجلة للضحايا طبقا لقواعد محددة يحددها رئيس الدولة.[38]

وعلى الرغم من أنه أسس جبر الضرر أصبحت دستورية، إلا أن الحكومات المتعاقبة على الدولة واجهت الكثير من المعيقات، مثل: بطء الانجاز نتيجة التعقيدات اللوجستية في ظل ضخامة العدد الكبير من الضحايا الذي خلق عدم ثقة ويقين بين المدنيين، وذلك لافتقار المنظومة الرسمية قاعدة بيانات حقيقية موثوقة، أضافة الى أن الاجراءات القضائية عادة تأخذ وقتا أطول من الاجراءات الادارية الذي أسس الى تعثر جهود المصالحة والاستقرار المجتمعي بشكل أسرع، وعلى الرغم من أن عملية المصالحة كانت تستوجب مراعاة المصلحة العامة عند تحقيق المصالح الفردية، الا ان الاعتراف بالحقوق الفردية حظي بمساحة أكبر والذي بالتالي أعاق العملية التنموية في الدولة التي لم تستطع الايفاء بالالتزامات تجاه المواطنين والدولة معا. الذي أسس لاحقا الى اعادة استغلال وعنصرية وتهميش بصورة استعمار حديث.[39]

ثالثا جنوب أفريقيا اليوم بعد 27 عام من العدالة الانتقالية ومكوناتها

أدى نظام لفصل العنصري إلى التعامل مع السكان الأصليين في جنوب أفريقيا، على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية خلال فترة أنظمة العبودية والاستعمار والفصل العنصري، وما زاد في تعقيد الأمور، أن هذه الصورة، وملامح فترة الفصل العنصري، والتي تتمثل في الماضي البغيض وفظائعه، مازالت عالقة في أذهان مواطني جنوب أفريقيا، مما عزز لديهم الشعور بالدونية والتهميش. فالصدمة التاريخية، فاقمتها الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي ما تزال سائدة في جميع أنحاء البلاد، ونتج عنها ضغوط يومية بسبب ظروف المعيشة القاسية، بسبب الفقر الذي تعاني منه المجتمعات وانتشار البطالة بشكل كبير ( بنسبة حوالي %27 على المستوى الوطني)، وتدني مستوى الخدمات وظهور مستويات كبيرة من العنف الجنسي والعائلي وتنامي ظاهرة العصابات، وتحكم البيض إلى اليوم في الأرض والموارد فاقم من مستويات المعاناة.

مأزق العدالة الانتقالية

على الرغم من اعتبار البعض، أن عملية العدالة الانتقالية، حلاً سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً في الخلاص ويلات حقبات سابقة؛ إلا أن ضحايا الفصل العنصري لا يزالون عالقين في المأزق الذي كانوا فيه قبل الفترة الانتقالية. فبدليل مؤشرات أن مستويات الفقر هي الأعلى على المستوى الدولي، يعيش أكثر من 55% من سكان الدولة في فقر مطقع، وما يزيد عن 27% بطالة، وهناك تفاوتات كبيرة في مستوى توزيع الأملاك.[40] مما يضعنا أمام مقارنة حقيقة فيما يجب أن يكون من عدالة اجتماعية واقتصادية سياسية، حتى يشعر المواطنون بالاندماج الحقيقي، ونستطيع أن نستنتج من مجموعة الأرقام البسيطة، أن المواطن الأسود، لغاية اليوم يتعرض إلى جملة واسعة من الحقوق المكتوبة في نصوص القوانين والتشريعات والسياسات، والتي لم تؤثر على واقعه العملي المعاش، في حياة كريمة يتساوى فيها الأبيض مع الأسود؛ فالمواطن الأبيض الذي يمتلك الأرض والموارد، وهو صاحب رأس المال وهو المشغل، والذي يقوم فيه بتشغيل الأسود كعامل بسيط، يفرض عليه إرادته وبمبلغ فتات من كم هائل من الأرباح التي يقوم بجنيها على حساب الأسود ومقدراته.

وعند أخذ مقارنة أخرى في معدلات الجريمة، كنتاج للتمييز وسياسات الأمر الواقع في التحكم والسيطرة؛ فلا تزال جنوب أفريقيا تعاني من مستويات مقلقة من العنف بجميع أشكاله، تشير إحصائيات دائرة الشرطة في جنوب أفريقيا عن الفترة من 1 يناير حتى 31 مارس 2021، قتل 24 شرطيا، و أحد عشر منهم قتل أثناء الخدمة في منع جريمة أو مكافحتها، وتعرض بعضهم للهجوم أو الكمين أثناء قيامهم بدوريات وسرقة أسلحتهم النارية الرسمية؛ فقد قُتل 4976 شخصًا في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021، أي 387 قتيلًا إضافيًا مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق. كما تفاقم عدد جرائم القتل إلى 4911 جريمة[41]. كما أن بعض الجرائم هي مخلفات لنظام الفصل العنصري السابق، والقائمة على النوع الاجتماعي، بحيث تعرضت 9518 أنثى للاغتصاب بين يناير ومارس من العام الحالي. [42]

القصور في لجنة التحقيق والمصالحة وما خلفته بعد 27 عام

وهنا أحد الملامح الأخرى للقصور؛ فقد استمعت لجنة التحقيق والمصالحة الى ما يزيد عن 20000 شهادة من ضحايا الفصل العنصري، وهذا يعني ان غالبية سكان جنوب أفريقيا اللذين عانوا من نظام التهميش والفصل لم يستطيعون الإدلاء بشهاداتهم ولم يتاح لهم الوقت والفرصة للتحدث عن معاناتهم. [43] فحقيقة، أن لجنة المصالحة والتحقيق لن تستطيع التعامل والسماع لجميع الشهادات خاصة وان جروح الشعب ذاك الوقت كانت عميقة بقيمة التجذر العنصري في دولتهم، لكن الكثير من مواطني جنوب أفريقيا يعبرون عن فقدان ثقتهم وانعدام آمالهم  حيال ما تم تقديمه من نضال نحو نظام الفصل العنصري، فهم يشعرون بأن تضحياتهم ذهبت سدى، في ظل تجذر الأفريكان داخل النظام الحالي.

  • الخاتمة

من خلال ما تم طرحه من آليات ووسائل الانتقال الديمقراطي السياسية في النظام السياسي الجنوب أفريقي، أن العدالة الانتقالية بالمفهوم الواسع، لاقت نجاحاُ في التجربة الجنوب افريقية من الناحية الشكلية؛ فهي الآن دولة قائمة على التعددية القانونية المرهونة بالدستور والقانون لضمان تحقيقها، إلا أن المشاكل الجوهرية في النظام السياسي لا زالت موجودة في الذهن المجتمعي الجنوب افريقي، فالانتخابات لا تصنع ديمقراطيات حقيقية في مجتمع يعاني من الصراع العرقي المرسخ عبر قواعد اللغة والأفكار والعقل الباطني الذي لا يزال ينظر للجماعات العرقية من اللون الآخر على انها مختلفه عنه وهي سبب ما يحصل له من آلام نفسية وجسدية مستمرة. أيضا لا يمكن إغفال بأن الطبيعة القبلية للمجتمعات الافريقية يجعل ” الاقلية البيضاء- الأفريكان” لديهم الخوف من الذوبان داخل الأغلبية، لذلك سيظل دائما يناهض فكرة الاندماج ديمغرافيا مع الأشخاص من ذوي البشرة السوداء الأغلبية فعلياً.

ونسنتنج هنا كذلك، كمان أن الحديث حول عمليات قول الحقيقة لها من الآثار السبية فهي نفسيا تؤدي الى زيادة الاكتئاب والاضطرابات النفسية المولدة لنزعة الكره والانتقام من الآخر، إضافة الى ذلك ان الصراع في جنوب أفريقيا عمل على تمزيق النسيج الوطني الاجتماعي الذي أوجب على لجنة التحقيق والمصالحة إعادة خلق الشعور بالانتماء الى الوطن الأم والموائمة بين التعايش مع الآخر الذي بالأساس كان سببا بالآلام التي شعر بها مواطنوا جنوب أفريقيا. فالافتراض القائل بأن التحول الديمقراطي بمساعدة لجنة الحقيقة والمصالحة كان من الامكان ان يقلل من العنف البنيوي داخل النظام، هذه المشاهدات أصبحت مطبوعة في العقل الباطني للمواطنين، فنظام الفصل العنصري السابق احتكر العنف والسياسة والاقتصاد بيده.

كما أن الملاحظة العامة للاجراءات التي صاحبت لجنة التحقيق والمصالحة، أن الاجراءات فعليا قامت لكنها لم تجتث مخلفات نظام الفصل العنصري الذي سيطر على المجتمع الجنوب أفريقيا لأكثر من نصف قرن، وهذا ما يستدعي دراسة الأمور التي استدعت لجنة التحقيق والمصالحة عدم متابعة عملها كما يجب أن يكون، في الفصل التالي يتناول الباحث القصور في عمل لجنة التحقيق والمصالحة.

كل هذا، جعل مواطنوا الدولة يفتقدون للثقة الحقيقية في النظام السياسي، مما آثار حفيظة طلاب الجامعات في العام 2015، اللذين خرجو مطالبين بمواجهة العنف الهيكلي المستمر بين الأجيال من فقر وعدم مساواة مطالبين بإنهاء تفوق البيض وسياسة الامتيازات والإقصاء. وأيضا أسباب القتل المتزايدة لها حجج ممبررات، هي في ثناياها حقيقة مخلفات لنظام الفصل العنصري، السرقات، وعمليات السطو السكنية وغير السكنية والسطو في الشوارع، وعدالة الغوغاء (للأبيض الذي يملك)، والحوادث المرتبطة بالعصابات.

  • المراجع والمصادر
  1. African Union Panel of the Wise. “Front Matter.” Peace, Justice, and Reconciliation in Africa: Opportunities and Challenges in the Fight Against Impunity, International Peace Institute, 2013, page 30.
  2. Brianne McGonigle Leyh, “Nuremberg’s Legacy within Transitional Justice: Prosecutions Are Here to Stay,” Washington University Global Studies Law Review 15, no. 4 (2016): 559-574,
  1. JACKLYN, penny mckenzie, from defence to development: redirecting military resources in south Africa, by the International Development Research Centre, PO Box 8500, Ottawa, ON, Canada K1E 3H9,1998, pg197
  2. Hayner, Priscilla B. “Fifteen Truth Commissions–1974 to 1994: A Comparative Study.” Human Rights Quarterly 16, no. 4 (1994): 597–655. https://doi.org/10.2307/762562.
  3. Hugo van der merwe and guy lamb, transitional justice and DDR: the case of south Africa, research unit international center for transitional justice, june 2009
  4. Ian liebenbeng, marlene roefs, economic reinsertion of south africa’s demobilized military personnel, 2001, availabla on https://media.africaportal.org/documents/Mono61.pdf
  5. ICTJ, What is Transitional Justice?, https://www.ictj.org/about/transitional-justice.
  6. Kathreni woody, truth and justice: the role of truth commissions in post conflict socities, law of nationbuilding seminar spring2009, available on https://bit.ly/3GZtJ5a, visited on10dec2021
  7. Kieran Mcevoy, Beyond Legalism: ‘Towards a Thicker Understanding of Transitional Justice’, Journal of Law and society ,vol.34 ,2007
  8. Klaaren, Jonathan. Institutional Transformation and the Choice Against Vetting in South Africa’s Transition.researchgate data base, (2007), p.g149
  1. Laurel E. Fletcher, “What Can International Transitional Justice Offer U.S. Social Justice Movements,” Northern Kentucky Law Review 46, no. 2 (2019): 132-[ix
  1. Oxford public international law,max planck encyclopedias of international law (MPIL), may2009, on the websites of: https://opil.ouplaw.com/view/10.1093/law:epil/9780199231690/law-9780199231690-e419, last visit on 13nov2021
  2. Peter, tendaiwo maregre, the in finished business of transitional justice in south Africa the past is in the present, phd thesis, conventry university, jan 2018
  3. Promotion of national unity and reconciliation amendment act 34 of 1995, chapter 5
  4. Richard Wilson, the politics of truth and reconciliation in south Africa: legitimizing the post apartheid state, Cambridge studies in law and society, Cambridge university press.
  1. Security Council, United Nations, S/1994/435, 14 April 1994.

17.  The General Assembly is mobilized to give an “irresistible” impetus to the synergies between sustainable development and peace, SEVENTY-FIRST SESSION, HIGH-LEVEL DIALOGUE, MORNING & AFTERNOON , jan2017, AG\11884, https://bit.ly/3ExlPz2

  1. The rule of law and transitional justice in conflict and post-conflict societies. Report of the Secretary-General, 23.8.2004, S/2004/616, at para. 8.https://www.un.org/ruleoflaw/files/2004%20report.pdf
  2. Transitional justice and economic social and cultural rights, united nations human rights office of the high commissioner, new York Geneva 2014.
  1. Van Zyl, P. (1999). Dilemmas of Transitional Justice: The Case of South Africa’s Truth and Reconciliation Commission. Journal of International Affairs, 52(2), page 650-651.

المراجع العربية

  1. تخطي عمليات الانتقال نحو التحول: التفاعل بين العدالة الانتقالية وبناء الدستور، ورقة السياسات الرقم 22 الصادرة عن المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، أماندا كاتس باريل
  2. تقرير إضافي من الأمين العام عن مسألة جنوب أفريقيا، مقدم لمجلس الأمن s\1994\435, APRIL 1994, https://bit.ly/2ZYIl4N
  3. تقرير الأمين العام للأم المتحدة على المفوضية العليا لحقوق الإنسان بعنوان في جو من الحرية أفسح صوب تحقيق التنمية والأمن وحقوق الإنسان للجميع، المرجع رقم 59 للعام 2005 على الموقع الخاص بالأمم المتحدة عبر هذا الرابط: https://undocs.org/ar/A/59/2005
  4. الحق في جبر الأضرار: التطبيقات في جنوب أفريقيا وأولويات إعمال الحق في فلسطين، نضال العزة، مركز بديل، https://bit.ly/3EuY1f4
  5. خميس حميد، همسة خلف. العدالة الانتقالية في دولة جنوب افريقيا، مجلة دراسات دولية، العدد61.
  6. دستور جنوب أفريقيا الصادر عام 1996 شاملات تعديلاته لغايه عام 2012، منشور عبر الانترنت.
  7. عبدالعزيز النويضي، اشكالية العدالة الانتقالية: تجربتي المغرب وجنوب أفريقيا، يناير 2013، مركز الجزيرة للدراسات.
  8. عبدالكريم، عبداللاوي، تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة:مصر، 2013،.
  9. فريدريك بوبينسر، العدالة الانتقالية في أفريقيا: تأملات في تجربة جنوب افريقا، الرباط، يناير2019
  10. مسعود البلي، عبدالعزيز عقاقبة. العدالة الانتقالية مقاربة سياسية وحقوقية، المجلة الجزائرية للأمن والتنمية، العدد11، 2017، ص47-58.
  11. مها عبداللطيف، المجتمع والتحول السياسي في جنوب أفريقيا حتى عام 1999، جامعة النهرين
  12. نويل كالهون، معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية الى دول ديمقراطية تجارب من دول أوروبا الشرقية، ترجمة ضفاف شربا، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014.

[1] Brianne McGonigle Leyh, “Nuremberg’s Legacy within Transitional Justice: Prosecutions

Are Here to Stay,” Washington University Global Studies Law Review 15, no. 4 (2016):

559-574, pg 559.

[2] Richard Wilson, the politics of truth and reconciliation in south Africa: legitimizing the post apartheid state, Cambridge studies in law and society, Cambridge university press, p.g64

[3] Richard Wilson, the politics of truth and reconciliation in South Africa: legitimizing the post-apartheid state, Cambridge studies in law and society, Cambridge university press, page. 23.

[4]  ICTJ, What is Transitional Justice?, https://www.ictj.org/about/transitional-justice.

[5] Laurel E. Fletcher, “What Can International Transitional Justice Offer U.S. Social Justice Movements,” Northern Kentucky Law Review 46, no. 2 (2019): 132-[ix], pg134

[6] Ibid.

[7] Transitional justice and economic social and cultural rights, united nations human rights office of the high commissioner, new York Geneva 2014, p.g24

[8] Bell, Jared. (2015). Understanding Transitional Justice and its Two Major Dilemmas. Journal of Interdisciplinary Conflict Science. 7-8.

[9] Hayner, Priscilla B. “Fifteen Truth Commissions–1974 to 1994: A Comparative Study.” Human Rights Quarterly 16, no. 4 (1994): 597–600.

[10] سامية بن يحيى، المضامين المؤسسة للعدالة الانتقالية في افريقيا بين المفهوم والممارسة، الجزائر، ص12.

[11] Oxford public international law,max planck encyclopedias of international law (MPIL), may2009, on the websites of: https://opil.ouplaw.com/view/10.1093/law:epil/9780199231690/law-9780199231690-e419, last visit on 13nov2021

[12] The rule of law and transitional justice in conflict and post-conflict societies. Report of the Secretary-General, 23.8.2004, S/2004/616, at para. 8.https://www.un.org/ruleoflaw/files/2004%20report.pdf

[13] Kieran Mcevoy, Beyond Legalism: ‘Towards a Thicker Understanding of Transitional Justice’, Journal of Law and society ,vol.34 ,2007, p.439.

[14] مسعود البلي، عبدالعزيز عقاقبة. العدالة الانتقالية مقاربة سياسية وحقوقية، المجلة الجزائرية للأمن والتنمية، العدد11، 2017، ص47-58، ص50.

[15] نويل كالهون، معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية الى دول ديمقراطية تجارب من دول أوروبا الشرقية، ترجمة ضفاف شربا، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014، ص-84-85.

[16] عبدالكريم، عبداللاوي، تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، القاهرة:مصر، 2013، ص17-18.

[17] The General Assembly is mobilized to give an “irresistible” impetus to the synergies between sustainable development and peace, 71, session, high level dialogue, jan2017, AG\11884.

[18] عبدالكريم عبداللاوي، ص18

[19] تقرير الأمين العام للأم المتحدة على المفوضية العليا لحقوق الانسان بعنوان في جو من الحرية أفسح صوب تحقيق التنمية والأمن وحقوق الأنسان للجميع، المرجع رقم 59 للعام 2005 على الموقع الخاص بالأمم المتحدة عبر هذا الرابط: https://undocs.org/ar/A/59/2005

[20] خميس حميد، همسة خلف.  العدالة الانتقالية في دولة جنوب افريقيا، مجلة دراسات دولية، العدد61، ص104

[21] مرجع سابق، ص104

[22] تخطي عمليات الانتقال نحو التحول: التفاعل بين العدالة الانتقالية وبناء الدستور، ورقة السياسات الرقم 22 الصادرة عن المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، أماندا كاتس باريل

[23] دستور جنوب افريقيا الصادر عام 1996 شاملات تعديلاته لغايه عام 2012، منشور عبر الانترنت.

[24] دستور جنوب افريقيا، مرجع سابق

[25] تخطي عمليات الانتقال نحو التحول: التفاعل بين العدالة الانتقالية وبناء الدستور، ورقة السياسات الرقم 22 الصادرة عن المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، أماندا كاتس باريل، ص59

[26] Promotion of national unity and reconciliation amendment act 34 of of 1995, chapter 5, pg18

[27] ibid p.g4

[28] Security Council, United Nations, S/1994/435, 14 April 1994.

[29] Kathreni woody, truth and justice: the role of truth commissions in post conflict socities, law of nationbuilding seminar spring2009, available on https://bit.ly/3GZtJ5a, visited on 10dec2021.

[30] مها عبداللطيف، المجتمع والتحول السياسي في جنوب افريقيا حتى عام 1999، جامعة النهرين، ص74.

[31] COCK. JACKLYN, penny mckenzie, from defence to development: redirecting military resources in south Africa, by the International Development Research Centre, PO Box 8500, Ottawa, ON, Canada K1E 3H9,1998, page 197.

[32] عبدالعزيز النويضي، اشكالية العدالة الانتقالية: تجربتي المغرب وجنوب افريقيا، يناير 2013، مركز الجزيرة للدراسات.

[33] Kaminski MM, Nalepa M, O’neill B. Normative and Strategic Aspects of Transitional Justice. Journal of Conflict Resolution. 2006; 50(3), page 298.

[34] Hugo van der merwe and guy lamb, transitional justice and DDR: the case of south Africa, research unit international center for transitional justice, june 2009, p.g20

[35] IBID, page 22

[36] Klaaren, Jonathan. Institutional Transformation and the Choice Against Vetting in South Africa’s Transition.researchgate data base, (2007), page149

[37] Transitional justice and economic social cultural rights, page 48.

[38] Promotion of national unity and reconciliation amendment act 34 of 1995, chapter 5, page18.

[39] Van Zyl, P. (1999). Dilemmas of Transitional Justice: The Case of South Africa’s Truth and Reconciliation Commission. Journal of International Affairs, 52(2), page 650-651.

[40] Peter, tendaiwo maregre, the in finished business of transitional justice in south Africa the past is in the present, phd thesis, conventry university, jan 2018, page 95

[41] دائرة الشرطة في جنوب افريقيا على الموقع الرسمي، https://www.saps.gov.za/newsroom/msspeechdetail.php?nid=32565. تمت الزيارة في 10\11\2021.

[42] Peter, page 106.

[43] African Union Panel of the Wise. “Front Matter.” Peace, Justice, and Reconciliation in Africa: Opportunities and Challenges in the Fight Against Impunity, International Peace Institute, 2013, page 30.

 

.

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=79303

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M