العملية التركية في سوريا: لعبة شطرنج يصاحبها تحول في ميزان القوة

أحمد علي أوغلو

بعد اندحار تنظيم الدولة الإسلامية، وسَّعت قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، بقيادة قوات حماية الشعب (YPG)، من سيطرتها على نحو ثلث مساحة الأراضي السورية الواقعة على الحدود مع تركيا(1). من ناحيته، أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أن بلاده لا يمكنها أن تسمح، ولن تسمح، بقيام أي كيان مستقل لتلك العناصر -قوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية الشعب- على الحدود ينشأ بحكم الأمر الواقع.

لا شك أن ديناميات الميدان كانت معقدة إلى حد ما، لكنها ظلت تميل لصالح تركيا ومكنتها من الشروع في تنفيذ عمليتها العسكرية التي أطلقت عليها اسم “نبع السلام”.

تحاول هذه الورقة سبر أغوار الدوافع التركية خلف عملياتها العسكرية في شمال سوريا على طول الحدود المشتركة بين البلدين، كما تبحث أيضًا في الدور الأميركي، باعتبارها حليف تركيا في حلف شمال الأطلسي، وباعتبارها أيضًا وفي نفس الوقت، الداعم الأساسي لقوات حماية الشعب، عدو تركيا اللدود. وإلى جانب ما تقدم تبحث الورقة كذلك في تحول القوة ومن هي القوى التي باتت الأكثر تأثيرًا في سوريا، لتنتهي إلى تناول مختلف مواقف الدول الإقليمية، بما فيها جامعة الدول العربية وإسرائيل وإيران، وتبحث في بواعث عدم موافقة تلك القوى والدول، بل وانتقاداتها، للعملية التركية في سوريا.

امتدادات حزب العمال الكردستاني

من حيث المبدأ، فإن تركيا تعتبر قوات سوريا الديمقراطية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) المحظور، وكانت قوات سوريا الديمقراطية قد فشلت، مرارًا وتكرارًا، في النأي بنفسها عن الانضواء تحت مظلة حزب العمال الكردستاني-المنظمة الأم. وفي هذا السياق، أكد وزير الدفاع الأميركي الأسبق، آشتن كارتر، تلك “الارتباطات الجوهرية” بين قوات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني(2). وهكذا، فإن حرب تركيا تستهدف حزب العمال الكردستاني، الخارج عن القانون، والذي تأسس في العام 1978 واعتنق كلًّا من القومية الكردية والأيديولوجيا الاشتراكية بهدف إنشاء دولة كردية مستقلة، ومن ثم اختار حزب العمال الكردستاني طريق الكفاح المسلح ضد الجمهورية التركية منذ العام 1984؛ وقد أدت هجمات الحزب المسلحة إلى مقتل حوالي 40 ألف شخص. هذا التاريخ الدموي لحزب العمال الكردستاني أدى إلى تصنيفه منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة و28 دولة أوروبية، بالإضافة إلى اليابان (3).

من المثير للاهتمام هنا ملاحظة أن لحكومة تركيا علاقات صداقة قوية مع حكومة إقليم كردستان العراق (KRG)، وهو إقليم كردي ذو أغلبية سكانية كردية تم إدماجه في دولة العراق وحصل على الاعتراف به في الدستور العراقي باعتباره إقليمًا يتمتع بالحكم الذاتي. وهنا يبرز السؤال التالي: إذا كانت الحرب التركية موجهة ضد الأكراد، مثلما تحاول وسائل الإعلام الدولية تصوير الأمر، فلماذا تحافظ تركيا على علاقات اقتصادية وسياسية متينة مع حكومة إقليم كردستان؟ هذا، بالإضافة إلى أنه إبَّان إجراء الاستفتاء حول استقلال منطقة كردستان العراقية في سبتمبر/أيلول 2017، حظي مسعود بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، باستقبال بروتوكولي رسمي ودي في أنقرة لا يختلف في شيء عن بروتوكول الاستقبال المخصص لرؤساء الدول(4). وهذا، ضمن مؤشرات عديدة أخرى، يؤكد أن العمليات العسكرية التركية على حدودها إنما هي موجهة بالفعل لاحتواء ومواجهة التهديدات التي تمثلها الجماعات الإرهابية، وهي ليست، بأي حال، موجهة ضد الأكراد أو أية أقلية عرقية أخرى. ومع ذلك، فقد لاقت تلك العمليات العسكرية التركية اعتراضًا واسعًا من قبل عدد كبير من الزعماء الإقليميين.

مقترح “المنطقة الآمنة” التركي لإعادة توطين اللاجئين السوريين (معهد دراسات الحرب)

فقد طلبت مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فديريكا موغيريني، من تركيا وقف عملياتها العسكرية في سوريا مشددة على أن “العملية العسكرية التركية من شأنها تقويض أمن الشركاء المحليين للتحالف وتعريض الشمال الشرقي السوري إلى مخاطر عدم الاستقرار، وبالتالي توفير أرضية خصبة لعودة بروز تنظيم الدولة الإسلامية”. أما وزير خارجية بريطانيا، دومينيك راب، فقال: إن “العملية العسكرية التركية تُهدد بمخاطر زعزعة الاستقرار في كامل المنطقة، ومن شأنها أيضًا زيادة المعاناة الإنسانية وتقويض التقدم الذي تحقق ضد تنظيم الدولة الإسلامية”.

أما رئيس الوزراء الإسرائيلي، فكان سريعًا، من ناحيته، في إدانته العملية التركية عبر تغريدة على تويتر جاء فيها: “تدين إسرائيل بشدة الغزو التركي للمناطق الكردية داخل سوريا وتحذر من تطهير عرقي للأكراد من قبل تركيا ووكلائها”. أما في القاهرة، فقد صرَّح مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية، حسام زكي، بأن الحملة التركية “تشكِّل هجومًا غير مقبول على سيادة دولة عربية عضو في جامعة الدول العربية”.

لكن هذه التصريحات، وغيرها، تبدو مجانبة للصواب من وجهة نظر تركيا؛ فلو كُتب لطموحات هذه الجماعات، مثل قوات سوريا الديمقراطية، أن تتحقق، فإن الخطر الأمني على تركيا سيكون أكبر بأضعاف مضاعفة؛ إذ إن ذلك الخطر يمثل، بالأحرى، تهديدًا وجوديًّا لتركيا. إن قيام مثل هذا الكيان الكردي من شأنه أن يمنح زخمًا أكبر للتمرد الذي يقوده حزب العمال الكردستاني داخل مدن وقرى تركيا المحاذية للحدود مع سوريا، وسيقوده بالتالي إلى المطالبة بتقرير مصير المناطق الكردية واستقلالها. ويجدر هنا التذكير بأن أغلب تلك المحافظات الواقعة على الحدود التركية-السورية تقطنها أقلية كردية؛ حيث تشكِّل فيها غالبية سكانية مطلقة، وقد تعرضت لإرهاب حزب العمال الكردستاني من خلال التجنيد القسري لأبنائهم. وفي هذا السياق، اتهم وزير خارجية ألمانيا الأسبق، زيغمار غابرييل، حزب العمال الكردستاني بمحاولة تمويل حرب أهلية محتملة في تركيا، وذلك عبر الأموال التي يجنيها الحزب من عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات في ألمانيا. كما أكد الوزير غابرييل على أن الجماعة الإرهابية -حزب العمال الكردستاني- محظورة قانونًا في ألمانيا لذات الأسباب المبينة سابقًا(5).

أما بالنسبة لتركيا، فإن التضاريس الطبيعية الموجودة على حدودها مع سوريا تمثل عاملًا رئيسيًّا في حساباتها المرتبطة بتقييم التهديد الوشيك الناجم عن احتمال استقرار مثل تلك الجماعات المسلحة في المنطقة. فطبيعة الأراضي، الواقعة على طول الحدود التركية-السورية، تتشكل من سهول منبسطة شديدة الخصوبة، وقد كان الهدف التركي من عملياتها الحدودية السابقة: “درع الفرات” في العام 2016 و”غصن الزيتون” في العام 2018، يتمثل في طرد مقاتلي وحدات حماية الشعب من الحدود وإنشاء منطقة عازلة يمكن أن تستوعب اللاجئين السوريين. هذا في حين تهدف العملية الأخيرة المسماة “نبع السلام” إلى توسيع تلك المنطقة العازلة واستخدام جزء من تلك الأراضي لإعادة توطين نحو مليوني لاجئ سوري، من أصل 3.6 ملايين لاجئ، فرُّوا إلى تركيا منذ بداية الحرب السورية. وعبر قيامها بذلك، فإن تركيا تنشئ منطقة عازلة مأهولة بالسكان تمنع اندماج المدن الحدودية وتحول دون تزايد مطالب مواطنيها الأكراد في تلك المدن بالانفصال. لكن هذا القلق لا يبدو وجيهًا عندما يتعلق الأمر بحكومة إقليم كردستان العراق(KRG) لأن تضاريس المنطقة، الجبلية في معظمها، أوجدت حدودًا جغرافية طبيعية بين حدود تركيا مع المناطق الخاضعة لحكومة إقليم كردستان(6).

الخطة التركية لشمال شرق سوريا (وكالة الأناضول)

عقيدة ترامب القائمة على عدم التدخل 

كان الرئيس التركي، قبل العام 2016، قد طلب من قواته المسلحة التدخل في سوريا لإقامة منطقة آمنة، غير أن خططه تلك لاقت معارضة من قبل حكومة الرئيس الأميركي، أوباما، ومن قبل المؤسسة العسكرية التركية على حدٍّ سواء. لم يكن الرئيس أردوغان يملك، في تلك الفترة، سيطرة كاملة على مؤسسة بلاده العسكرية التي كانت خاضعة لقيادة جنرالات أتراك موالين لحركة فتح الله غولن، وهي المنظمة التي تتهمها الحكومة التركية بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016(7).

لقد اتسمت استراتيجية الإدارة الأميركية السابقة في سوريا بالارتباك، فالرئيس أوباما أحجم عن اعتماد استراتيجية تغيير النظام السوري، خاصة بعد الخطأ الجسيم -كما رآه عدد كبير من الساسة والمحللين- الذي ارتكبته حكومة أوباما في ليبيا بقيادتها عملية الإطاحة بمعمر القذافي. ومن هنا، أعلنت إدارة أوباما على الملأ أنها لا تسعى إلى التدخل في سوريا، كما لم تسمح لتركيا بالتعامل مع تصاعد التهديدات التي تطرحها عليها ميليشيات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية ووقفها، بل وقد كانت إدارة الرئيس أوباما تعتبر وحدات حماية الشعب حليفها وصنفتها على أنها شريكها الأكثر فعالية في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية داخل سوريا. لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد وحسب، بل وعمدت إدارة أوباما، أيضًا، إلى مدِّ وحدات حماية الشعب بالأسلحة والذخائر، بالإضافة إلى الدعم اللوجستي وتقديم خدمات التدريب لعناصر التنظيم(8) .

وبمجرد أن خلف ترامب أوباما في سدة الرئاسة الأميركية، سارع إلى تبني سياسة الانسحاب من سوريا، بعد إعلانه هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. بدأ ترامب بإصدار أوامره القاضية بانسحاب ألفي جندي من سوريا في ديسمبر/كانون الأول من العام 2018. وقد أدى إعلانه المفاجئ ذلك إلى عاصفة من الاحتجاجات داخل الكونغرس، انخرط فيها حتى أقوى حلفائه الجمهوريين مثل السيناتور، ليندسي غراهام، الذي قال إنه “صُدم” من قرار ترامب. أما الديمقراطيون، من جانبهم، فاعتبروا أن ترامب قد تصرف بدافع “أهداف شخصية أو سياسية” بدلًا من التصرف وفقًا لما تمليه عليه المصالح الأمنية الوطنية(9).

ثم بعد مرور حوالي عام عن صدور قرار ترامب بسحب قوات بلاده من سوريا، صدر بيان مفاجئ من البيت الأبيض يشير إلى أنه من المقرر أن تبدأ تركيا تنفيذ عملية عسكرية في شمال شرق سوريا، وأضاف نفس البيان أن القوات الأميركية لن تنخرط في تلك العملية. أثار قرار إدارة ترامب هذا استياءً عميقًا لدى الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، على حدٍّ سواء، حيث اعتبر عدد كبير من ممثلي الحزبين أن سماح ترامب لتركيا بتنفيذ عملية عسكرية في شمال شرق سوريا هو خيانة لأكراد سوريا، الذين يُنظر إليهم على أنهم أفضل شريك أميركي في الحرب ضد تنظيم الدولة(10).

بالنسبة للبعض، لم يكن قرار ترامب بسحب قواته من سوريا سوى مفارقة محزنة، بما أنه قد يشكِّل انتهاكًا جوهريًّا لسياسة النظام الخارجية الداعية إلى تخفيض الوجود العسكري للقوات الأميركية خارج حدود الوطن. ومهما يكن من أمر، فإن هذه الخطوة أسست لنمط من السلوك غير مسبوق في تاريخ أميركا مفاده أن الولايات المتحدة لم تعد تمثل حليفًا يمكن الوثوق به، وأن استراتيجيتها غير المتسقة من شأنها تعريض علاقات استراتيجية أخرى مع قوى إقليمية للخطر، وخاصة في منطقة الخليج. وعليه، فإن النقد يجب ألا يوجَّه إلى سياسة عدم التدخل، بل ينبغي توجيهه إلى مستوى التماسك في صداقات الولايات المتحدة الأميركية. أما ترامب، فقد روَّج لنفسه باعتباره القائد الذي سيوفر حماية فعالة لقوات بلاده العسكرية من خلال منع تعرضها لخطر الوقوع في قلب منطقة تبادل النيران بين القوات التركية والمقاتلين الأكراد. وقضت خطة ترامب بانسحاب القوات الأميركية من ساحة حرب يتصارع فيها صديقان لبلاده خوفًا من تعرض الجنود الأميركيين إلى القتل بنيران أحد الطرفين.

ومع ذلك، فإن قرار ترامب بالانسحاب من سوريا يبقى صادمًا، لكنه مُتوقع. فعلى إثر إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة والسيطرة على معقله الحصين في مدينة الرقة، أخبر ترامب مستشاريه، وفقًا لبعض التقارير، برغبته في الانسحاب من سوريا. وفي هذا السياق، صرح وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، ريكس تيلرسون، قائلًا: “بالنسبة لنا كتحالف، فإننا لسنا بصدد العمل على بناء الدولة أو إعادة إعمار البلاد”(11). وأكد تيلرسون على ضرورة تعبئة كل الإمكانات والقدرات لمنع ولادة جيل جديد من تنظيم الدولة، وحماية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ثم ظهر أن تلك المصالح الاستراتيجية الأميركية تكمن أساسًا في بسط السيطرة على حقول النفط السورية. في المقابل، ستُبقي إدارة ترامب على عدد محدود من قواتها في سوريا لتوفير الحماية على الحدود الجنوبية مع الأردن و”لتأمين النفط” في أي مكان آخر داخل سوريا. كما أعلن ترامب أيضًا عن استمرار بقاء قوات بلاده في جنوب سوريا استجابة لطلب تقدمت به كل من إسرائيل والأردن(12).

إذن، فقرار الانسحاب لم يكن مفاجئًا غير أن الإرباك يتأتى من كون التحالف، الذي تقوده أميركا ضد تنظيم الدولة، كان قد أعلن عن عمله المشترك مع حليفه، قوات سوريا الديمقراطية، من أجل تشكيل وتدريب قوات حدودية قوامها 30 ألف عنصر في يناير/كانون الثاني 2018(13)، ثم إنه انطلاقًا من خارطة الطريق غير المتسقة هذه، نشأت خطط أخرى. فقد عبَّر زعماء قوات سوريا الديمقراطية عن شعورهم بالخيانة والتخلي عنهم من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وهم يرون أن ترامب تجاوز كثيرًا عندما زعم في تغريدة له على تويتر أن قوات سوريا الديمقراطية سمحت بإخراج معتقلي تنظيم الدولة من السجون بهدف حمل أميركا على تمديد بقاء جنودها في سوريا وإجبارهم على الانخراط في القتال ضد تركيا. وأضاف ترامب، في تغريدته تلك، أن عناصر قوات سوريا الديمقراطية ليسوا “ملائكة” وأن بعضهم كانوا، في واقع الأمر، إرهابيين أسوأ حتى من مقاتلي تنظيم الدولة أنفسهم(14).

لكن، وبمجرد أن بدأت تركيا تنفيذ عمليتها العسكرية، هدَّد ترامب بسحق اقتصاد تركيا في حال تجاوزت عمليتها العسكرية “الحدود المسموح بها”(15). ثم كان أن دافع ترامب في سلسلة من التغريدات الغاضبة عن موقفه، وفي وقت لاحق، انتشرت رسالته المسربة إلى أردوغان على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. ففي تلك الرسالة، المؤرخة في التاسع من شهر أكتوبر/تشرين الأول، أي يومًا واحدًا قبل دخول القوات المسلحة التركية الأراضي السورية، نصح ترامب الرجل القوي في تركيا، بـ”ألَّا يكون أحمق” وذلك في إشارة تحذيرية من ترامب لم تخلُ من التعبير عن إحساسٍ بالتفوق. وبحسب ما أفادت به بعض التقارير الصحفية، فإن الرئيس التركي ألقى برسالة ترامب تلك في “سلة المهملات”، وعلَّق عليها قائلًا: إن الرسالة تفتقر إلى المجاملة المتبعة في الأعراف الدبلوماسية والسياسية. كما أكد الرئيس التركي على أنه لن ينسى لترامب عدم احترامه غير أن الوقت لم يكن مناسبًا للرد، فلتركيا أولويات أهم (16).

رسالة ترامب المسربة إلى أردوغان (رويترز)

بعد عشرة أيام من بدء تنفيذ عملية تركيا في الداخل السوري، أرسل ترامب نائبه، مايك بنس، ووزير خارجيته، مايك بومبيو، لعقد هدنة. وبعد مفاوضات عسيرة وشاقة شهدتها أنقرة، توصل الطرفان، الأميركي والتركي، إلى صفقة، تم توسعة مداها لاحقًا عبر دخول الوساطة الروسية على الخط. وبالتزامن مع ذلك، زعم ترامب أن إدارته تمكنت من تحقيق “اختراق” فيما يتعلق بالقضية السورية، وأتبع ذلك مباشرة برفع العقوبات المفروضة على تركيا(17). ومن الجدير بالذكر هنا أن هذه التطورات حدثت عشية إعلان ترامب عن مقتل زعيم تنظيم الدولة، أبوبكر البغدادي، في غارة نفذتها قوات أميركية خاصة. وفي خطوة رمزية، وجَّه ترامب شكره الخاص إلى تركيا مثمنًا تعاونها الاستخباراتي واللوجستي المثاليين (18). ومن المؤكد، في هذا السياق، أنه بقتله زعيم أخطر تنظيم إرهابي في العالم، فإن ترامب سجل نقاطًا ثمينة لصالحه قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في الثالث من شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020.

قرار ترامب “الاستراتيجي الرائع”: مقاربة موسكو

رأى الرئيس ترامب في انسحاب القوات الأميركية من شمال سوريا عملًا “رائعًا من الناحية الاستراتيجية”، كما رحب أيضًا بالإحلال الروسي السريع لقواتها في المواقع الأميركية التي تم إخلاؤها في المنطقة(19). من جهتها، نفذت الطائرات الروسية دوريات فوق الأجواء السورية وقام الجيش الروسي بتوسيع عملياته في القاعدة البحرية السورية في طرطوس، التي تم تأجيرها كمنشأة عسكرية للبحرية الروسية في عام 2017. وعلى الرغم من أن افتقاد قاعدة طرطوس البحرية القدرة على استيعاب السفن الحربية الرئيسية الحالية التابعة للقوات البحرية الروسية، إلا أنها تستطيع دعم عمليات تجديد سفن حربية روسية كبيرة(20). من ناحية أخرى، تمكنت روسيا من إقامة روابط أوثق مع تركيا. ومن المنتظر، بعد الانسحاب الأميركي من المنطقة، أن تتولى القوات الروسية والتركية السيطرة المشتركة على مجموعة واسعة من المناطق التي تم تطهيرها من عناصر وحدات حماية الشعب على طول الحدود السورية التركية.

يمكن للمرء هنا المجادلة بأن خطوة ترامب قد عززت النمو السريع للنفوذ الروسي في سوريا. أما تركيا فقد حصلت على معظم ما سعت إليه: وهو إقامة منطقة آمنة وإبعاد عناصر وحدات حماية الشعب عن حدودها، مع إمكانية إعادة اللاجئين السوريين طواعية إلى بلدهم. غير أن كل تلك المكاسب جاءت على حساب تقاسم السيطرة على المنطقة، ليس فقط مع روسيا ولكن أيضًا مع النظام السوري. وقد كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أوضح، خلال اجتماعه مع أردوغان، أنه “يمكن تحقيق استقرار دائم ووطيد في سوريا فقط في حال احتُرمت سيادة سوريا وسلامة أراضيها”. كما ألمح بوتين أيضًا إلى ضرورة تفعيل اتفاق أضنة المتعلق بأمن الحدود، وأكد على أنه “يقع على الأتراك واجب الدفاع عن السلام والمحافظة على الهدوء على الحدود مع السوريين، غير أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا في أجواء من الاحترام المتبادل والتعاون المشترك”.(21)

من المعلوم أن اتفاق أضنة هو اتفاق أمني مشترك تم توقيعه بين سوريا وتركيا عام 1998. وكان اتفاق أضنة يهدف إلى وضع حد للتوترات الثنائية التركية-السورية بشأن دعم واستضافة سوريا قادة حزب العمال الكردستاني على أراضيها. وكانت دولتا مصر وإيران قد توسطتا في عملية التفاوض، التي تلبي المطالب التركية من خلال ضمان التزام نظام الأسد بطرد زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان. وبعد ترحيل أوجلان من سوريا اعتقلته المخابرات التركية، عام 1999، بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الأميركية. وتضمن نص الاتفاق الثنائي بين تركيا وسوريا عدم انخراط أي منهما في أي نشاط عسكري من شأنه تهديد الأمن القومي للطرف الآخر (22). وعلى الرغم من أن الاتفاقية سليمة نظريًّا، إلا أن وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، أكد على أن النظام السوري الحالي غير قادر على الوفاء بتعهداته والتزاماته الواردة في تلك الاتفاقية. هذا، وتنص بنود الاتفاقية على أن لتركيا الحق في مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني على مسافة تصل إلى عمق خمسة كيلومترات داخل الشريط الحدودي مع سوريا، لكن بنود الاتفاقية لا تُعطي القوات التركية الحق في البقاء داخل المنطقة الحدودية لفترة طويلة.

منذ اليوم الأول لبدء العملية العسكرية التركية تحركت القوات العسكرية السورية بسرعة إلى البلدات والقرى التي كان الجيش التركي يتجه نحوها، ودخلت إلى منبج بعد اتفاقها الغريب مع قيادة وحدات حماية الشعب، التي تعبِّر علنًا عن معارضتها للنظام السوري. من ناحيته، وصف أردوغان هذه الخطوة بأنها “ليست بالغة السوء” بالنسبة لتركيا طالما أنه قد تم فعلًا “تطهير” المنطقة من الإرهابيين وطردهم من الحدود التركية(23). هدفت تصريحات أردوغان تلك إلى دحض المزاعم القائلة بأن لتركيا أطماعًا في ضمِّ أراض سورية وأن هجومها العسكري الأخير لم يكن سوى عملية “غزو”. وقد صرح أردوغان في مؤتمر صحفي، قائلًا: “في نهاية المطاف، هي أرض سورية. لكن من المهم ألا تبقى المنظمات الإرهابية هناك لأن ما يقرب من 90% من مساحة منبج هي أراض تعود للعرب وليس للأكراد(24)“.

من ناحية أخرى، يبدو من الواضح أن هدف موسكو النهائي هو إخراج جميع القوى الأجنبية من سوريا. إذ بمجرد أن تغادر واشنطن سوريا، فإن موسكو ستتمكن من ممارسة أقصى قدر من التأثير على القوى الأخرى. وهنا، يبدو واضحًا أيضًا بروز دور بوتين باعتباره أكبر القوى المهيمنة تأثيرًا في سوريا. وقد سعى بوتين، خلال مؤتمره الأخير بين إفريقيا وروسيا المنعقد في سوتشي، إلى أن يقدم نفسه وسيطًا رئيسًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ففي سوريا، أصبحت موسكو اليوم قادرة على تقرير مصير سوريا وسيكون بإمكانها، بعد رحيل القوات الأميركية، التأثير على تصرفات جميع القوى الإقليمية الأخرى بما فيها تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية وإسرائيل.

الجامعة العربية وإسرائيل: غضب مشترك من العملية التركية

عبَّرت مجموعة من الدول العربية، ضمَّت كلًّا من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت ومصر، فورًا عن معارضتها لما أسمته “العدوان التركي”، واعتبرت تلك الدول العملية التركية “غزوًا لأرض دولة عربية واعتداءً على سيادتها”. ويلاحظ هنا تشابه ردود فعل جامعة الدول العربية وإسرائيل إزاء العمليات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا؛ إذ كما ذُكر أعلاه، فإن إسرائيل شجبت منذ اليوم الأول ما أسمته “الغزو التركي” وأعلنت تعاطفها مع وحدات حماية الشعب(25). ومن المعلوم أن إسرائيل تدعم بقوة إنشاء دولة “كردستان الكبرى”، التي ترى فيها حليفًا مستقبليًّا وأحد عوامل خفض النفوذ التركي في المنطقة.

يجدر في هذا السياق التذكير بأن وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، كان قد صرَّح في العام 2016، بأن “الرياض تدعم عمليات أنقرة في شمال سوريا، وتعتقد أن أهداف كلا البلدين في المنطقة واحدة تقريبًا”(26). لكن، ورغم ذلك، فقد طرأ تحول ملحوظ على موقف الجبير عندما لم يتورع عن إدانة “التوغل التركي” ويطالب بالوقف الفوري للعمليات العسكرية، بل أكثر من ذلك، فقد أعرب أيضًا عن قلقه من أن “الهجوم التركي سيزيد من تعميق معاناة الشعب السوري”(27).

من جانبهم، أنفق الزعماء السعوديون مبالغ كبيرة من المال، منذ منتصف عام 2018، في محاولة لإقناع ترامب بإطالة أمد الوجود العسكري الأميركي في سوريا. وكانت الرياض قد خصصت أيضًا مبلغ 100 مليون دولار لهذا الغرض. كما زُعم، وفقًا لتقارير عديدة، أن المملكة العربية السعودية أنشأت مراكز لتوظيف المجندين في مدينتي الحسكة والقامشلي في الشمال. في يناير/كانون الثاني من عام 2018، أعلن التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية، الذي تقوده الولايات المتحدة، أنه يتعاون مع حلفاء قوات سوريا الديمقراطية لإنشاء وتدريب قوة حدودية جديدة قوامها 30 ألف جندي(28)، وقد خصصت الرياض مبلغ 200 دولار أميركي لكل مجند جديد كحافز للانضمام إلى تلك القوات الحدودية. كما زعمت تلك التقارير أيضًا أن الرياض أرسلت، في وقت لاحق، شاحنات محملة بالمساعدات إلى وحدات حماية الشعب. وقد دأب السعوديون، على غرار الأميركيين، على الترويج لوحدات حماية الشعب باعتبارها القوة الفعالة الوحيدة التي يمكنها إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية. ولكن، وعلى الوجه الآخر من العملة، فإن كلتيهما -المملكة العربية السعودية وأميركا- مهتمَّتان بشكل أساسي بتحقيق التوازن مع كفتي كل من تركيا وإيران(29). وقد كان حليف السعودية، أحمد الجربا، الذي ترأَّس في وقت سابق الائتلاف الوطني السوري -التحالف الرئيس لجماعات المعارضة في سوريا- يقود آلاف المقاتلين الذين تم نشرهم بين دير الزور في الشرق، والرقة في الشمال، والحسكة في شمال شرقي سوريا. وبناء على توسط الجربا، عرض السعوديون إرسال قوات للقيام بدوريات في المنطقة إلى جانب القوات الأميركية وعناصر من قوات حماية الشعب للحيلولة دون عودة تنظيم الدولة الإسلامية للمنطقة(30).

السياسة التركية تجاه الحدود التركية (أسوشيتد برس)

انطلقت العملية التركية أيامًا قليلة بعد تسلم رسالة واضحة مفادها أن سوريا قد تستعيد عضويتها في الجامعة العربية بعد سبع سنوات من الغياب؛ حيث تم تعليق عضوية سوريا في الجامعة في العام 2011 على إثر قمع قوات النظام السوري، بلا رحمة، للمظاهرات السلمية التي خرجت في مختلف مدن البلاد. وقد أظهرت المصافحة الأخيرة الحديثة بين أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ووليد المعلم، وزير الخارجية السوري، على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة، وجود مؤشرات على وجود مصالحة وشيكة محتملة بين النظام في دمشق والتحالف العربي.

أما دولة الإمارات العربية المتحدة، حليف المملكة العربية السعودية، فقد أعادت، بالفعل، علاقاتها مع دمشق في ديسمبر/كانون الأول من عام 2018(31). وأما بالنسبة للجامعة العربية وإسرائيل، فإن التخلي الأميركي عن سوريا عزَّز موقف روسيا كقوة عالمية وحيدة نشطة في سوريا. كما باتت كل من تل أبيب والرياض، اليوم، تتوقعان من طهران تعزيز انخراطها في سوريا. هكذا، فإنه يمكن لهذا التحول، في نهاية المطاف، أن يُترجَم ليس فقط إلى قدرة عسكرية متصاعدة لنقل الأسلحة من إيران عبر العراق وسوريا إلى حزب الله في لبنان، بل أيضًا إلى محور تتوحد داخله الكيانات المعادية لإسرائيل والسعودية. وهذا الوضع الجديد يشكِّل، بالنسبة للإسرائيليين والسعوديين، تهديدًا أمنيًّا مباشرًا وفوريًّا.

الأهم من كل ما سبق في هذا السياق، هو أن هذه الدول شرق الأوسطية -مثلها مثل قوات حماية الشعب- حليفة للإدارة الحالية في واشنطن، غير أن إعلان ترامب الانسحاب من سوريا ترك أولئك الحلفاء جميعًا في مأزق لا يحسدون عليه، فقد أثار هذا التحول في السياسة الأميركية أسئلة جديدة حول شراكاتهم الاستراتيجية البينية مع واشنطن. وقد كان زعماء كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت ومصر وإسرائيل يعتمدون في سياساتهم الخارجية، بشكل يكاد يكون حصريًّا، على الاعتقاد في إمكانية لجوئهم إلى واشنطن، في حال مواجهتهم أي تحديات كبيرة، لإنقاذهم وتقديم الدعم اللازم لهم. من جهتها، تعتبر المملكة العربية السعودية أميركا درعها الدفاعية الرئيسة إزاء الهيمنة الإيرانية المزعومة وسياستها التوسعية في المنطقة. وفي المقابل، فإن علاقات إسرائيل القوية مع الولايات المتحدة كانت سلاح تل أبيب الفعال وسبيل إنقاذها. هذه التطورات الأخيرة داخل سوريا جعلت هذه الدول الحليفة لأميركا تتساءل عما إذا كانت استراتيجيتها طويلة الأمد، المبنية على الثقة في الولايات المتحدة، قائمة على أسس ثابتة ومتينة.

سيكون من السطحية والتبسيط بمكان افتراض أن تضع السياسة الخارجية الأميركية وحدات حماية الشعب وإسرائيل ودول الخليج في سلة واحدة؛ إذ لطالما اعتبرت واشنطن بقاء إسرائيل وأمنها التزامًا لا حياد لها عنه وصنفته كأحد مصالحها القومية. هذا بالإضافة إلى أن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن بات اليوم أكثر تأثيرًا وفعالية من أي وقت مضى. بالنسبة لإسرائيل، فقد أثبت ترامب أنه رئيس وهبته لها السماء، فهو يعطي بلا حدود أو شروط؛ حيث أثبت سخاء سياسته من خلال اتخاذه قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما دعم ترامب إسرائيل في ضمها مرتفعات الجولان المحتلة (32). قد يصف بعض النقاد ترامب بأنه رئيس غريب الأطوار، وأنه يبدو كثير الاستياء من مواقف المؤسسة الرسمية الأميركية ووسائل الإعلام وغيرها من جماعات الضغط أو المؤسسات؛ لكن، ومع ذلك فإن إسرائيل تبقى خطًّا أحمر لسياسته في الشرق الأوسط.

ربما على القادة السعوديين في الرياض، قبل غيرهم من القادة في العواصم الأخرى، أن يروا في تغير خيارات ترامب مدعاة لقلق حقيقي؛ إذ كان ينبغي أن تنبههم أجراس الإنذار مبكرًا وقبل تخلي ترامب عن أي حليف آخر في المنطقة. عندما هاجم المتمردون الحوثيون اليمنيون، المدعومين من قبل إيران، المنشآت النفطية السعودية فإن إدارة ترامب وجَّهت، على وجه السرعة، أصابع الاتهام لإيران بوقوفها خلف التخطيط للهجوم. بل إن ترامب ألمح أيضًا إلى إمكانية تنفيذ عملية عسكرية واسعة وشيكة ضد ثلاثة أهداف داخل طهران، قبل أن يتراجع عن قراره، في النهاية، ويقرر إيقاف خطة التحرك العسكري من داخل البنتاغون(33).

لقد كان بوسع السعوديين التفكير معمقًا في هذه العقلية السياسية “الترامبية”؛ وذلك بقطع النظر عن ارتباطهم التجاري القوي بإدارة ترامب؛ إذ يجب أن يدرك السعوديون أنهم سيجدون أنفسهم بمفردهم في حال قررت الرياض الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع إيران. يجدر التذكير هنا، بأن الرياض قررت، في تلك اللحظة، تليين موقفها من طهران وتبنت مقاربة تصالحية لتخفيف حدة التوتر، وفسحت المجال أمام الوساطة والمحادثات السلمية.

بالتوازي مع ذلك، فقد تزامن قرار ترامب الأخير بسحب قواته من سوريا مع إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى المملكة العربية السعودية ونشر المزيد من الجنود في القواعد العسكرية الأميركية في منطقة الخليج. لكن، ورغم ذلك، فإن هذا التحول اللبق لم يكف لإبعاد الشعور بالذعر في الرياض بما أن واشنطن مضت في تنفيذ قرار سحب قواتها من سوريا خلال العملية التركية ضد وحدات حماية الشعب.

نظرة ترامب إلى سوريا (أسوشيتد برس)

إيران: منافس تركيا الإقليمي أم شريكها؟

أعربت طهران، منذ اليوم الأول لبدء تركيا عمليتها داخل سوريا، عن معارضتها لخطط أنقرة الرامية إلى إقامة “منطقة آمنة” في شمال سوريا (34). غير أن إيران، على ما يبدو، لم تكن في وضع جيد يسمح لها بالانخراط في خلاف جدي مع تركيا أو عزلها. بالنسبة لإيران، فإن تركيا تُعتبر، بلا شك، شريكًا اقتصاديًّا أساسيًّا يساعد في مواجهة العقوبات الأميركية ثقيلة الوطء على الاقتصاد الإيراني. وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن إيران بحاجة أيضًا إلى تركيا كشريك في محادثات أستانا للسلام التي تسعى لإنهاء الصراع في سوريا وتأمين المصالحة السياسية بين فرقائها.

على الجانب الإيراني، تبقى طهران حريصة على رؤية انسحاب كامل للقوات الأميركية من سوريا، ومن ثم استعادة النظام السوري سيطرته على كامل الأراضي السورية. أما وحدات حماية الشعب، وبدافع الشعور بتخلي الأميركيين عنهم أو خيانتهم، فقد اختارت قيادتها إبرام صفقة مع النظام السوري وطالبوا بنشر القوات السورية على الحدود التركية. وتلك خطوة قد تكون رائعة، من الناحية الاستراتيجية، بالنسبة للإيرانيين؛ حيث رحبت إيران بصفقة وقف إطلاق النار التركية-الروسية، كما حافظت أيضًا على القيمة السياسية لاتفاق أضنة باعتباره يمثل أساسًا واعدًا لتعاون مستقبلي سوري-تركي بهدف تأمين الحدود المشتركة ومكافحة الإرهاب. من المنظور الإيراني إذن، فإن أي إحياء لاتفاقية أضنة سيكون بمنزلة اعتراف صريح من أنقرة بشرعية النظام السوري، هذا علاوة على أنه سيؤدي إلى وقف تقدم القوات التركية داخل عمق المحافظات السورية.

على غرار تركيا، تستضيف إيران أقلية كردية كبيرة تتبنى آمالًا في إقامة دولة كردية مستقلة، وهو أمر يمكن أن يعرِّض وحدة الأراضي الإيرانية وأمنها القومي للخطر. لذلك، فإن العمليات التركية قد قضت على إمكانية تحويل ذلك الحلم الكردي إلى حقيقة واقعة. لكن، ومع ذلك، فإن هذه التحولات لا تعني بالضرورة أن الوضع القائم حاليًّا، والناجم عن عملية تركيا العسكرية أو عن الاتفاق الروسي-التركي، قد زاد من تعزيز المصالح الإيرانية. من دون أدنى شك، فإن موسكو خرجت من كل ما جرى الرابح الأكبر، وتمكنت من تعزيز نفوذها وتوجت نفسها ملكًا يفرض رغباته في سوريا. أما إيران فقد باتت اليوم لا تمارس سوى تأثير محدود في سوريا إذا ما قورنت بتركيا وروسيا.

خاتمة

لقد كانت عملية تركيا العسكرية ضرورية لمواجهة التهديدات الأمنية المُحدقة على طول شريطها الحدودي مع سوريا وإقامة منطقة آمنة حيث يمكن استقبال اللاجئين السوريين. وهنا، يجب التذكير بأن العملية العسكرية التركية تمت بموافقة الإدارة الأميركية وروسيا؛ فترامب قد سحب قوات بلاده وقتل زعيم تنظيم الدولة. أما من جانبهم، فقد عزز الروس استراتيجيات نفوذهم القوي في سوريا من خلال توصلهم إلى إبرام اتفاق مع الحكومة التركية، يشمل وقفًا طويل الأجل لإطلاق النار، وهو ما يمكن أن يفسح الطريق أمام النظام السوري لتوسيع مجال سيطرته على الأقاليم الشمالية للبلاد.

لقد كشفت التطورات السورية الأخيرة عن أن أكبر الخاسرين فيها هم حلفاء أميركا الإقليميون، وهم اليوم معنيون بالسؤال المرعب التالي: هل الولايات المتحدة الأميركية حليف موثوق به؟ أما تركيا، فقد أكدت دورها كلاعب مؤثر في منطقة الشرق الأوسط من خلال فرض أجندتها، التي قد لا تُرضي الإدارة الأميركية أو القوى الأوروبية. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر أمام تركيا يبقى متمثلًا في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه اللاجئين السوريين غير المحصنين، والذين بنوا آمالًا كبيرة على تركيا.

لكن، ومهما يكن من أمر، فإنه يتوجب على اللاجئين السوريين التحلي بدرجة أكبر من الصبر وأن ينتظروا ليروا ما إذا كانت العملية التركية ستمكنهم، في نهاية المطاف، من العودة إلى منطقة آمنة وقابلة للعيش فيها داخل بلادهم المدمرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أحمد علي أوغلو / البرعي: أكاديمي ومحلل فلسطيني تركي. وهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة اسطنبول التقنية في التسويق السياسي، وقد درس في العديد من الجامعات الفلسطينية والتركية.

ملاحظة: الورقة أُعدت لمركز الجزيرة للدراسات باللغة الإنجليزية وترجمها إلى العربية د. كريم الماجري.

مراجع

  1. Ulgen, S (2019) ‘The Way Forward in Syria’ The New York Times, 16 October. https://www.nytimes.com/2019/10/16/opinion/syria-turkey.html (accessed 20 October 2019)
  2. Gilani, I (2019) ‘YPG/PKK terrorists seek Israel’s help against Turkey’ Anadolu Agency, 23 October. https://www.aa.com.tr/en/middle-east/ypg-pkk-terrorists-seek-israel-s-help-against-turkey/1623428 (accessed 26 October 2019).
  3. Wikipedia (2015) ‘Kurdistan Workers’ Party’ Wikipedia 26 March. https://en.wikipedia.org/wiki/Kurdistan_Workers’_Party (accessed 15 October 2019)
  4. Daily News (2015) ‘Barzani gets warm welcome in Ankara amid Turkey-Iraq tensions’ Daily News, 9 December http://www.hurriyetdailynews.com/barzani-gets-warm-welcome-in-ankara-amid-turkey-iraq-tensions–92319 (accessed 17 October 2019)
  5. Daily Sabah (2019) ‘PKK finances crimes in Turkey with funds made from illegal activities in Europe, ex-German FM says’ 19 October. https://www.dailysabah.com/war-on-terror/2019/10/19/pkk-finances-crimes-in-turkey-with-funds-made-from-illegal-activities-in-europe-ex-german-fm-says (accessed 20 October 2019)
  6. Wikipedia (2019) ‘Iraqi Kurdistan’ 25 October. https://en.wikipedia.org/wiki/Iraqi_Kurdistan (accessed 27 October 2019)
  7. Danforth, N (2018) ‘The Only Thing Turkey and the U.S. Can Agree On’ 10 January. https://www.nytimes.com/2016/08/03/world/europe/turkey-coup-erdogan-fethullah-gulen-united-states.html (accessed 15 October 2019)
  8. Aljazeera (2017) ‘Trump to send arms to Kurdish YPG in Syria’ Aljazeera, 10 May. https://www.aljazeera.com/news/2017/05/trump-send-arms-kurdish-ypg-syria-170509190404689.html (accessed 15 October 2019)
  9. Landler M, Cooper H, and Schmitt E (2018) ‘Trump to Withdraw U.S. Forces From Syria, Declaring ‘We Have Won Against ISIS’ The New York times 19 December. https://www.nytimes.com/2018/12/19/us/politics/trump-syria-turkey-troop-withdrawal.html (accessed 16 October 2019)
  10. Cook, S (2019) ‘There’s Always a Next Time to Betray the Kurds’ Foreign Policy, 11 October. https://foreignpolicy.com/2019/10/11/kurds-betrayal-syria-erdogan-turkey-trump/ (accessed 15 October 2019)
  11. Goldenberg, I and Heras, N (2018) ‘Obama’s ISIS policy is working for Trump’ the Washington Post, 25 January. https://www.washingtonpost.com/news/posteverything/wp/2018/01/25/obamas-isis-policy-is-working-for-trump/ (accessed 15 October 2019)
  12. Fahim, K and others (2019) ‘Trump says a limited number of troops will remain in Syria after ordering a complete withdrawal’ the Washington Post, 21 October. https://www.washingtonpost.com/world/middle_east/us-discussing-proposal-to-leave-troops-around-syrias-oil-fields-pentagon-says/2019/10/21/0b024d4c-f401-11e9-8cf0-4cc99f74d127_story.html (accessed 25 October 2019)
  13. Perry, T and Coskun, O (2018) ‘U.S.-led coalition helps to build new Syrian force, angering Turkey’ Reuters, 14 January.https://uk.reuters.com/article/uk-mideast-crisis-syria-sdf/u-s-led-coalition-helps-to-build-new-syrian-force-angering-turkey-idUKKBN1F30OE (accessed 15 October 2019)
  14. Borger, J and Safi, M (2019) ‘Trump claims Kurds ‘no angels’ as he boasts of his own ‘brilliant’ strategy’ the Guardian. October, 16. https://www.theguardian.com/us-news/2019/oct/16/trump-claims-kurds-are-much-safer-as-us-troops-leave-syria (accessed 18 October 2019)
  15. Vazquez, M ‘2019) ‘Trump threatens to ‘obliterate’ Turkey’s economy if they do anything ‘off limits’ with ISIS’ CNN, 8 October. https://edition.cnn.com/2019/10/07/politics/donald-trump-syria-obliterate-turkey-isis/index.html (accessed 15 October 2019)
  16. Daragahi, B (2019) ‘Erdogan says Turkey will take necessary steps against Trump’s ‘disrespectful’ letter’ the Independent, 18 October. https://www.independent.co.uk/news/world/europe/erdogan-turkey-trump-letter-syria-ceasefire-latest-response-a9161626.html (accessed 19 October 2019)
  17. Martosko, D (2019) ‘Donald Trump lifts ALL sanctions on Turkey as he claims ceasefire is ‘beyond expectations’ and Kurds are safe – but admits it is not permanent and says U.S. troops ARE staying’ Daily Mail, 23 October. https://www.dailymail.co.uk/news/article-7605009/Donald-Trump-claims-big-success-Turkey-Syria-border-says-ceasefire-holding.html (accessed 26 October 2019)
  18. Relman, E (2019) ‘Trump thanks Russia and other nations for helping with the US mission to kill ISIS leader al-Baghdadi’ Business Insider, 27 October. https://www.businessinsider.com/trump-thanks-russia-help-mission-kill-abu-bakr-al-baghdadi-2019-10?r=US&IR=T (accessed 27 October 2019)
  19. Hennigan, W.J. (2019) ‘Litany of Defeat: Trump Defends Rising Costs of ‘Strategically Brilliant’ Mideast Retreat’ Time, 17 October. https://time.com/5702769/litany-of-defeat-trump-defends-rising-costs-of-strategically-brilliant-mideast-retreat/ (accessed 23 October 2019)
  20. Wikipedia (2019) ‘Russian naval facility in Tartus’ Wikipedia 28 September. https://en.wikipedia.org/wiki/Russian_naval_facility_in_Tartus (accessed 15 October 2019)
  21. Troianovski, A and Kingsley P (2019) ‘Putin and Erdogan Announce Plan for Northeast Syria, Bolstering Russian Influence’ the New York Times, 22 October. https://www.nytimes.com/2019/10/22/world/europe/erdogan-putin-syria-cease-fire.html (accessed 24 October 2019)
  22. Younis, A (2019) ‘What does the Adana deal mean for Turkey and Syria?’ Aljazeera, 23 October. https://www.aljazeera.com/news/2019/10/analysis-adana-deal-turkey-syria-191022194719603.html (accessed 28 October 2019)
  1. TRT World (2019) ‘’YPG/PKK’s freeing Daesh members for money suits them’ – Peace Spring’ TRT World, 28 October. https://www.trtworld.com/turkey/ypg-pkk-s-freeing-daesh-members-for-money-suits-them-peace-spring-30471 (accessed 28 October 2019)
  2. Daily News (2019) ‘Syrian regime entering Manbij not negative if YPG eliminated: Erdo?an’ Daily News, 16 October. http://www.hurriyetdailynews.com/erdogan-says-turkey-not-worried-over-sanctions-147544 (accessed 25 October 2019)
  3. Rasgon, A (2019) ‘Syrian Kurdish military official calls on Israel to take action against Turkey’ Times of Israel, 20 October. https://www.timesofisrael.com/syrian-kurdish-military-official-calls-on-israel-to-take-action-against-turkey/ (accessed 27 October 2019)
  4. Kabalan, M (2019) ‘How Turkey’s ‘Peace Spring’ changed the dynamics of Syria’s war’ Aljzeera, 14 October. https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/turkey-peace-spring-changed-dynamics-syria-war-191014165613108.html (accessed 26 October 2019)
  5. Alarabiya English (2019) ‘Arab foreign ministers condemn Turkish offensive in Syria’ Alarabiya English, 12 October. http://english.alarabiya.net/en/News/gulf/2019/10/12/Al-Jubair-Saudi-Arabia-condemns-Turkish-offensive-in-Syria.html (accessed 20 October 2019)
  6. Perry, T and Coskun, O (2018) ‘U.S.-led coalition helps to build new Syrian force, angering Turkey’ Reuters, 14 January. https://www.reuters.com/article/us-mideast-crisis-syria-sdf/u-s-led-coalition-helps-to-build-new-syrian-force-angering-turkey-idUSKBN1F30OA (accessed 26 October 2019)
  1. Middle East Monitor (2018) ‘Saudi Arabia, UAE send troops to support Kurds in Syria’ MEMO, 22 November. https://www.middleeastmonitor.com/20181122-saudi-arabia-uae-send-troops-to-support-kurds-in-syria/ (accessed 25 October 2019)
  2. Mourad, M (2017) ‘Syrian opposition figure to deploy all-Arab force in Raqqa offensive’ Reuters, 1 February. https://uk.reuters.com/article/uk-mideast-crisis-syria-jarba/syrian-opposition-figure-to-deploy-all-arab-force-in-raqqa-offensive-idUKKBN15G51W (accessed 26 October 2019)
  3. The New Arab (2019) ‘Signs of rapprochement after Syria regime and Arab League officials seen in warm exchange’ the New Arab, 28 September. https://www.alaraby.co.uk/english/news/2019/9/27/syrian-foreign-minister-and-arab-league-head-meet (accessed 26 October 2019)
  4. Borger, J (2019) ‘Trump says US will recognize Israel’s sovereignty over Golan Heights’ the Guardian, 21 March. https://www.theguardian.com/us-news/2019/mar/21/trump-us-golan-heights-israel-sovereignty (accessed 27 October 2019)
  5. The Guardian (2019) ‘Pompeo: Iran behind attack on Saudi oil facilities that will reduce kingdom’s output’ the Guardian, 15 September. https://www.theguardian.com/world/2019/sep/14/pompeo-iran-saudi-arabia-oil-yemen-houthi (accessed 27 October 2019)
  6. Pleasance, C (2019) ‘Turkey fires first shots: Ankara bombs Kurdish supply route’ the Daily Mail, 8 October. https://www.dailymail.co.uk/news/article-7549407/Turkey-says-ready-create-peace-corridor-northern-Syria.html (accessed 27 October 2019)

 

رابط المصدر:

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/11/191117070440891.html

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M