الغربُ في معناه ولا معناه

محمود حيدر

 

ربما لم تظهر حضارةٌ في التاريخ أكثر التباساً وتعقيداً من حضارة الغرب الحديث. وما قولُنا هذا إلّا قصد الوقوف على المعنى المستتر لحياةٍ حَجَبتها غوايات الثورة التقنيّة، فأدخلتها كهف اللَّامعنى. والذين ذهبوا إلى اعتبار الصفة الرئيسيّة للأزمنة الحديثة “نقض المطلق”، إنّما رموا إلى استبيان المعضلة الكبرى التي أمسكت بمعنى الغرب، ولمَّا تُفلِتُه من شِراكها قَطْ. فإذا كان نقضُ المطلقِ هو المبدأ المؤسِّسس لعقيدة الحداثة، فذلك معناه أنّ النسبيّة بنزعاتها ومدارسها المختلفة -من الاسميّة والوجوديّة، والذاتيّة، إلى النّفعيّة، والوضعانيّة واللَّا أدريّة- صارت أدنى إلى وثنٍ صلدٍ يهيمن على عقل الحضارة الحديثة وروحها. لهذا جاز القول إنّ التشاؤم المنغرس في معنى الحياة الحديثة هو الحاصل الكارثي لـ “نسبويات” أمسكت بكلّ شيء، حين أُريدَ لها أن تصير بديلاً من المطلق والمتعالي. والنتيجة أنّ الإنسانيّة سَتُحرَمُ من تفاؤلها بالرجاء المأمول، ثم لتلج ظلمات العدميّة والّلاجدوى. فعندما تكون حياة الإنسان محدّدةً حصراً بإشباع الرّغبات النّفسيّة والبيولوجيّة، فالحصيلة المنطقيّة لهذه الحصرية المُنْخَنِقة، هو تناهي الحياة عند أسوار الأهواء العارضة.

ما يحملُ على النّظر إلى عمق المعضلة الغربيّة، أنّ الآثار الكارثيّة المترتّبة على إقصاء المطلق من فضاء المعنى تجد ما يسوغها في النظام الأنطولوجي للحداثة برمّته. يُستظهرُ الأمرُ على نحوٍ جليٍّ لو نحن نظرنا في عمق البنية الميتافيزيقيّة لهذا النظام. ولسوف يتبيَّن لنا كيف انحكمت بنيتُه إلى خارطةٍ معرفيّةٍ يستحيل التفكير خارج خطوطها المرسومة بإتقان. ففي رحلة البحث عن المعنى، انبرى العقل الحديث ليحيل كلَّ شأنٍ من شؤون الإنسان والوجود إلى سلطان العلم وذكائه. كان ذلك هو الإنجاز الانعطافيّ الذي حقّقته طوباويات الحداثة ابتداءً من القرن السادس عشر، واستتباعاً إلى القرون التالية، ثم إلى زمن الحداثة الفائضة. الذي حصل، أنّ هذه “الطوباويات” قيَّدت مجتمعاتها بـأغلال العقل الحسابي، ثم راحت تعيد إنتاجه كنصٍّ مستباح، ثم لتحكمه بأنظمةٍ صارمةٍ، وتُقصي كلّ ما لا يمت إلى قِيَمِها بصِلة. وهكذا بدا أن الخارطة المعرفيّة نفسها، هي التي سترسم معنى الإنسان وقيمته في الحياة المعاصرة.

*   *   *

ماذا كانت النتيجة؟..

تبتدئ السيرة الغربية في تعيين ماهيّة المعنى الذي هي فيه من المبدأ المؤسِّس للعقل الحديث. وهو ما نعني به على الأخص ذاك الذي قام على توسُّلِ المحدودِ والنسبِّي والذاتِّي والانتفاعِّي دربةً له. ثم جعل من هذه التوسُّلات معايير كليّة وثابتة لتحديد معنى الحياة وغايتها.

ربما غاب عن أهل الحداثة وفلاسفتها أنّ التأسيس المنبني على نفي المطلق هو في الأصل مبنيٌّ على نفي وجوده الواقعي نفسه. ذلك بأنّ من ينفي حقيقة الوجود الكلي، فإنّه إذ يفعل ذلك، ينفي الأصل الذي تتفرّع منه الموجودات الجزئيّة وهو منها. الأمر الذي سيفضي منطقياً إلى نفي وإقصاء الحقيقة الوجوديّة لكلّ محدَّد ونسبي، ويتحوّل كلّ شيء بما في ذلك الإنسان إلى كائن بلا غاية ولا آخرة. فلو كان لنا أن نستقرئ هذه الجدليّة المعاكسة، لوجدناها ساريةً في بنات الأفكار والنظريات التي جاء بها رواد الحداثة الأولى، وسائر المدارس والتيّارات التي أطلقتها حقبة ما بعد الحداثة. كانت مجاوزة المطلق والركون التام إلى الملاحظة والتجربة أوّل معثرة تكوينيّة ستصيب العقل الحديث في صميم بنيته المنطقيّة. فإذا كانت كلّ بنية منطقيّة ضاربة بجذورها في البنية الأنطولوجيّة ومتّصلة بها، فإنّ كلّ ما هو متناهٍ ونسبيّ ينتهي بالضرورة إلى اللّاوجود أي إلى اللّاشيء. وطبقاً لهذه الدربة يصير كلّ شيء آيلاً إلى الفناء والعدم. وهذه الحقيقة لا تنسحب على الإنسان فحسب، وإنما أيضاً على سائر الموجودات. ولكي لا تنقفل الآفاق أمام حياةٍ، هذا مصيرها المحتوم، انبرت الفلسفة الحديثة إلى اختراع مخرجات تقيها الانسداد وانعدام التعاقب. وربما كانت “التكراريّة” هي إحدى تلك المخرجات النيتشويّة في ما عُرف بنظرية “العود الأبدي لذات النفس”. غير أنّ عقل الحداثة لم يدرك – وهو يمضي في التنظير الابستمولوجي لمعنى الحياة، أنّ الإنسان كائنٌ ميتافيزيقيٌّ بالفطرة، وهو الموجود الوحيد الذي يحدّد معناه عندما يعي حقيقة تميُّزه الوجودي. ثم إنّ الإنسان الذي أنزل العقل الوضعي من معناه، وحدُه الذي يستطيع أن ينظر بفطرته إلى ما وراء حدود وجوده الماديِّ وحدودِ أي موجود آخر في الكون. فالإنسان حين يمضي إلى تحقيق معناه يدرك أنّه لن يكون له ما يريد إلا بردم فجوة العدم التي هو فيها. ولأنّ الإنسان هو في أصل خلقته  مزيج من الوجود واللّاوجود. فإنّه على وعيٍ بحقيقة الحياة والموت. وهي الحقيقة الواقعيّة العظمى التي لا يشوبها ريب ولا شائبة. عند هذه النقطة القلقة التي وصل إليها التفكير الحديث بدت الحياة الحديثة أمام مفترقٍ خطيرٍ بين الوجود والعدم. ولأنّ التفكير الحداثي أعرض عن اللاّمتناهي، وأخلد إلى الأرض الصمَّاء، فقد وقع لجَّة العدمية، ثم مضى بعيداً في الّلامعنى.

*   *   *

لم يكن القلق الذي طغا على حضارة الحداثة، سوى أحد العناوين الكبرى التي وَسَمت مجمل معارف الغرب وعلومه الإنسانيّة. فالقلق الذي بات صفة أنطولوجيّة يحدّد معنى الحياة الحديثة لم يكن حالاً عارضاً. فهو في حقيقته ناتجُ الانفصال المريع الذي اقترفته ميتافيزيقا الحداثة بين الله والعالم. وليس من الغرابة في شيءٍ أن تجيء المباني الكبرى للحضارة الحديثة كمنتج بديهيٍ ومنطقيٍ لهذا الانفصال. ولذا فمن البداهة أن يؤدّي القلق المتمادي بالحياة الإنسانيّة إلى الخواء واللّامعنى.

الفلاسفة الغربيون الذين تاخموا هذه الحصيلة المؤلمة في الحياة الحديثة، سعوا إلى البحث عن سبيل نحو تفاؤل بنَّاءٍ يستعيد المعنى. وهو ما استدل عليه كثيرون منهم لمَّا ذهبوا وجهة أفقٍ معرفيّ يجاوز طور العقل الوضعي وتناهيه، إلى طور يطلق الفكر والنفس نحو الرخاء والسكينة.

تلقاء ذلك، دَارَ كلّ الذين نقدوا معنى الحياة في أزمنة الحداثة، مدار الاحتجاج على قهريات قيم رأس المال التي اجتاحت كلّ شيء مع بداية العصر الصناعي. وفي حقبة ما سمي “ما بعد الحداثة” مثَّلث المدارس والتيارات النقديّة نماذج من هذا الصنف من التدافع الحجاجي. سوى أنّها لم تفلح وبحكم تكوينها الانطولوجيّ وحصريَّتِها المعرفيّة من استحداث ضربٍ من “جيولوجيا ثقافية” تنقد المعاثر الجوهريّة لمعنى الحياة الحديثة.

لقد وقعت ما بعد الحداثة مثلما وقعت الحداثة الأولى في المعضلة نفسها وهي تبحثُ عن معنى الإنسان. كان “الإنسان الحديث” في عصر الأنوار يرى الدنيا لوناً واحداً تماماً بلحاظ الحسن والقبح. و “الإمكان” فقط هو الذي يجعلها جميلة أو بلا قيمة، في حين أنّ الدنيا بالنسبة للنمط المثالي لما بعد الحداثة، مليئة بالحسن والقبح وأنّ لكلّ شيء حسابه، ويجب الكشف عنه، وأنّ على الإنسان معرفة وظيفته ومسؤوليته الأساسية في أية حالة يكون فيها. وهكذا يكون الشخص “الناجح” في منطق ما بعد الحداثة هو ذاك الذي يخضع لوظيفته سواء أبَلغَ الوضع المنشود أم لم يبلغه!

إلى ذلك كلّه، سنرى أنّ أهمّ عنصر مقوّم لفكر ما بعد الحداثة هي الجنبة الذاتانيّة منه. وعلى هذا الأساس ظلّت عناصر التفكير الحداثوي وأجزاءه محفوظةً في ما بعد الحداثة، فيما بقي بعضه الآخر والأساسي كما هو على نشأته الأولى. ذاك يعني أنّ الذين نقدوا الحداثة من المعاصرين لم يستطيعوا النفاذ إلى معنًى للحياة يجاوز مرجعيّة المؤسّسين الأوائل ومناهجهم.

هكذا يبدو الغرب في معناه ولا معناه. فالنّظام المعنويّ الغربيّ الذي قام على نقض معنى الألوهيّة الراعية للإنسان والكون، هو نفسه النظام الذي سينتج لا معناه وخواءه المستدام.

 

.

رابط المصدر:

https://www.iicss.iq/?id=40&sid=461

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M