جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى مصر يوم 5 مارس 2023 في إطار حالة الازدهار التي طغت على العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة، وهي الحالة التي عبرت عن تدشين حقبة جديدة من الشراكة الاستراتيجية والتعاون الوثيق بين الدولتين، وامتدت لتشمل دعم أطر العمل العربي المشترك، عبر ما تصفه بعض الدوائر بـ “مشروع الشام الجديد” أو “المشرق الجديد”، وهو المشروع الذي يرتكز على بعض المسارات الرئيسة ومنها: المسار التنموي القائم على “النهج التكاملي” بين الدول العربية بما يدعم تحقيق الاستفادة المثلى من موارد وقدرات كل دولة، ومسار التحرك الفعال إزاء قضايا المنطقة مع الالتزام بمفهوم الدولة الوطنية ووحدة وسيادة الدول خصوصًا في ظل تنامي نشاط الفاعلين المسلحين من غير الدول، وزيادة التدخلات الإقليمية في شؤون الدول العربية لا سيما الدول التي تعاني من أزمات بنيوية وحروب واقتتال.
ملفات مهمة
ارتبطت أهمية زيارة “السوداني” إلى مصر بجملة من الدلالات الرئيسة، وعلى رأسها إدراك القيادة السياسية لكلا البلدين بضرورة وحتمية عودة العراق إلى محيطه العربي، وعدم تركه لتجاذبات وحسابات القوى الإقليمية غير العربية، وصولًا إلى القناعة بضرورة التأسيس لواقع عربي جديد يراعي أولويات الدول العربية ومحددات أمنها القومي، ويرتكز على الميزات النسبية لكل دولة. وفي هذا السياق ومن أجل الدفع قدمًا باتجاه تحقيق هذه الرؤية، هناك جملة من الملفات المهمة التي تقع على رأس أولويات ومستهدفات زيارة لـ “السوداني” إلى القاهرة، وذلك على النحو التالي:
1- تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين: كان العامل الاقتصادي على رأس المحددات الحاكمة دائمًا للعلاقات المصرية العراقية، ويمكن القول إن العامل الاقتصادي كان منفصلًا حتى عن بعض التجاذبات السياسية التي اعترت العلاقات الثنائية في بعض الفترات، وخصوصًا في مرحلة ما بعد ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، وفي أعقاب توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978.
وفي هذا السياق شهدت العلاقات الاقتصادية المصرية العراقية طفرة كبيرة في السنوات الأخيرة، حيث اقتربت قيمة التبادل التجاري بين البلدين في عام 2022 من النصف مليار دولار (سجلت نحو 491.59 مليون دولار وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء). وجرى خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي التأكيد خلال لقائه مع نظيره المصري د. مصطفى مدبولي على أهمية تفعيل مذكرات التفاهم الموقعة بين البلدين مؤخرًا خلال الشهرين المقبلين.
ويعد مشروع خط الأنابيب النفطي الذي سيمتد من ميناء البصرة جنوب العراق إلى ميناء العقبة في الأردن ثم إلى مصر، فضلًا عن مشروع الربط الكهربائي بين البلدين، والسعي لتطوير المناطق والقطاعات الصناعية في كلا البلدين، على رأس الأولويات الاقتصادية المشتركة في الفترة الراهنة؛ لما لهذه المشاريع من عائد اقتصادي كبير، وما تضمنه من تعزيز أواصر الشراكة الاستراتيجية. وفي هذا السياق، يوجد حاجة للاتفاق على آليات تنفيذية ومعادلة تسعيرية خاصة بهذه المشروعات، وتُشير المعطيات الراهنة إلى أن مصر وكذا الأردن سوف يتحملان جزءًا من كلفة النفط – ليس نقدًا وإنما عبر تنفيذ مشاريع في قطاعات مثل البنية التحتية، والكهرباء، والصحة، والإسكان، والزراعة-، وهي المعادلة التي توصف ب “النفط مقابل الإعمار”.
2- زيادة التنسيق إزاء القضايا العربية: تجاوز التنسيق المصري العراقي، المنبثق عن حالة النشاط الدبلوماسي التي شهدتها العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة، حدود دعم العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، ليشمل السعي لتقريب وجهات النظر والتنسيق بخصوص القضايا الإقليمية والعربية الراهنة والملحة. فمن جانب، سعت دوائر صنع القرار العراقية في السنوات الأخيرة إلى تبني سياسة خارجية متوازنة، تضمن عودتها وانفتاحها على حاضنتها العربية، وتحييد العراق ولو تدريجيًا عن سياسات المحاور والتكتلات، فضلًا عن سعي العراق لعب دور “الوسيط” بين الدول العربية وإيران، ومن جانب آخر، توجد إرادة مصرية جادة وواضحة على مستوى دعم مساعي العراق في العودة إلى حاضنته العربية، وتوظيف الثقل الجيوسياسي لكلا البلدين بما يدعم أولويات الشعوب العربية في المرحلة الراهنة.
ومن هنا يمكن فهم تركيز المباحثات السابقة التي عُقدت بين زعماء البلدين بدايةً من عام 2019 وحتى اليوم، على بحث قضايا ليبيا وسوريا واليمن وفلسطين، وقضايا الأمن القومي العربي بما في ذلك الأمن المائي، والتأكيد في هذا الصدد على ثوابت الدولتين بخصوص هذه القضايا، وكان من الأهمية بمكان وضع هذه الثوابت، لتكون منطلقًا لأي تحركات جادة على المستوى العربي لحلحة هذه الأزمات والتعاطي معها.
3- مهددات الأمن القومي العربي الراهنة: توجد جملة من المهددات التي تواجه الأمن القومي العربي في المرحلة الراهنة، وهي المهددات التي تبدأ بتحدي الإرهاب العابر للحدود، مرورًا بالتدخلات الإقليمية والدولية في شؤون الدول العربية، استغلالًا لحالة التأزم التي تشهدها العديد من الدول، وصولًا إلى تهديدات الأمن غير التقليدي كتغيرات المناخ والأمن المائي.
وفي هذا السياق ومع الثقل الجيوسياسي لمصر والعراق، تلعب الدولتان دورًا محوريًا على مستوى التعاطي مع هذه المهددات، خصوصًا وأن العراق كان من الدول الرئيسة التي عانت من وطأة هذه المهددات، خصوصًا ما يتعلق بالإرهاب والتدخلات الإقليمية والدولية، ومع التجربة المتميزة للدولة المصرية فيما يتعلق بمواجهة التهديدات الإرهابية، والمقاربة الشاملة التي تبنتها مصر في هذا الصدد، تتعاظم الحاجة إلى تعزيز أطر التعاون الأمني والاستخباراتي في هذا الملف، فضلًا عن أن الرؤية المصرية على مستوى السياسة الخارجية والثوابت المصرية في هذا الخصوص، تتفق إلى حد كبير مع تقديرات دوائر صنع القرار العراقية، خصوصًا فيما يتعلق برفض التدخلات الخارجية في شؤون الدول العربية، وما يترتب عليها من تداعيات سلبية، تهدد مصالح الدول العربية ووحدة أراضيها، وهي عوامل محفزة تزيد من حجم ومساحة التعاون والتنسيق الثنائي.
4- دعم مسار مشروع “المشرق الجديد”: أسفرت المباحثات الثلاثية بين قادة مصر والأردن والعراق في السنوات الأخيرة، عن بروز مشروع عُرف باسم المشرق الجديد الذي يستهدف تحقيق التكامل بين كل من مصر والأردن والعراق. ويشمل هذا المشروع العديد من الأبعاد، وعلى رأسها البعد الاقتصادي، إذ إنه يمثل نواة لتحالف اقتصادي عربي، من خلال التكريس لشراكات اقتصادية واستثمارية ضخمة بين الأطراف الثلاثة، اعتمادًا على الربط بين مصر التي تملك وفرة في العنصر البشري، وخبرات وتجارب كبيرة في العديد من المجالات، والعراق بما لديه من موارد نفطية ضخمة، والأردن بموقعه الجيوسياسي المميز وقدراته الاقتصادية الواعدة.
في هذا السياق، من المقرر مد خط أنبوب نفطى من ميناء البصرة إلى العقبة فى الأردن ثم مصر؛ للاستفادة من خبرات تكرير النفط وتصنيعه فى مصر، وبالتالي فبينما سيحصل الأردن على النفط العراقى بسعر أقل من سعر السوق الدولية، فضلًا عن رسوم العبور، وستستفيد مصر من عملية تكرير جزء من النفط العراقى على أراضيها.
في الوقت ذاته، سيستورد العراق الكهرباء من مصر، ويمكنه الاستفادة من الخبرات المصرية فى عملية إعادة الإعمار، إلى جانب الاستفادة من إمكانيات الأردن في مجال النقل، نظرًا لامتلاكه قدرات كبيرة فى هذا المجال، إضافة إلى تصدير السلع من الأردن ومصر إلى العراق، ويعزز من أهمية هذا التعاون في في مجال الطاقة أن مصر والأردن يعاني كل منهما من ارتفاع فاتورة الطاقة التي تستهلك جزءًا من القدرة الشرائية للمواطنين وترفع الكُلف التشغيلية للمصانع والمؤسسات، وبالتالي سيزيد هذا التحالف من أمن الطاقة بالنسبة للبلدين.
وبجانب التعاون الاقتصادي الكبير الذي سيترتب على مشروع “المشرق الجديد”، يحمل هذا المشروع خريطة جيوسياسية جديدة لمنقطة الشام ككل، بعد أن وسع المشروع رقعة مساحة الشام الجغرافية كي تشمل دولة بحجم مصر، وبالتالي فالمشروع يربط مصر بدول الشام جغرافيًا قبل أن يكون ربطًا اقتصاديًا عبر شبه جزيرة سيناء، التي تشهد حاليًا تنمية شاملة، وهو ما يعكس تأثير ذلك المشروع على خرائط القوى والنفوذ بمنطقة الشرق الأوسط.
وهذه النقلة النوعية في مستوى وحجم التعاون بين الدول الثلاثة، قد تكون بداية لتحالف عربي جديد، خصوصًا مع رغبة مصر والأردن في عدم ترك الدول العربية كفريسة للقوى الإقليمية، وهو ما يعني إمكانية انضمام فاعلين آخرين لهذا الإطار التعاوني، مثل: سوريا، ويعزز من هذه الفرضية وجود مؤشرات متنامية على التوجه العربي نحو تطبيع العلاقات المتوازن مع سوريا.
وفي الختام، يمكن القول إن زيارة رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني إلى مصر جاءت في إطار تنامي مؤشرات ومظاهر الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، على المستويات التنموية والسياسية والأمنية والعسكرية. ومع التسليم بالتعاظم التدريجي لمخرجات هذا الحراك الكبير، إلا أنه يواجه جملة من التحديات المرتبطة بشكل كبير بالسياق الإقليمي الراهن، ما يقتضي التعامل بواقعية مع هذه التحديات، وجعل البعد التنموي والاقتصادي مدخلًا لإحداث انفراجة على مستوى هذه التحديات.
.
رابط المصدر: