القرم مجددًا في عين العاصفة الروسية الأوكرانية

د. خالد عكاشة

 

بعد ساعات من وقوع سلسلة انفجارات “غامضة” لم يكشف عن طبيعتها بعد بقاعدة جوية روسية في شبه جزيرة القرم، خرج الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي مساء الثلاثاء في رسائله المتلفزة، ليلقي بكلمة تناول فيها مستجدات الوضع الميداني كالمعتاد، لكنه ورغم عدم الإشارة إلى تلك الانفجارات ذكر رمزية مهمة لها دلالتها، معتبرًا أن الحرب الدائرة في بلاده بدأت في شبه جزيرة القرم ولذلك يجب أن تنتهي بتحريرها.

الغموض يبدو سيمتد لفترة حول تفسير مسببات الانفجارات، فهناك روايتان متضادتان: إحداهما روسية تؤكد أن التفجيرات كانت بسبب مخزون من الذخيرة لم تراعِ إجراءات الأمان اللازمة فانفجرت في أحد المخازن العسكرية، وأخرى أوكرانية غير رسمية تذكر أن هناك هجومًا صاروخيًا متوسط المدى استهدف طائرات روسية موجودة بالقاعدة وأن الانفجارات وقعت جراء النجاح في إصابتها وتدميرها.

الغموض الذي يرجح أنه لن ينقشع قريبًا عن تلك الواقعة الخطيرة التي شهدتها “قاعدة ساكي” العسكرية بالقرب من نوفوفيدوريفكا غرب شبه الجزيرة، وبالقرب من المنتجعات الساحلية التي يرتادها السياح الروس، كما أن للقرم حدودًا مع منطقة “خيرسون” جنوب أوكرانيا التي تسيطر روسيا عليها الآن، امتدادًا حتى الوصول إلى منطقة “زابوريجيا” جنوب شرق أوكرانيا التي يوليها الجيش الروسي أهمية عملياتية فائقة، هي الأخرى تقع على مسافة قريبة من هذا الوقع؛ بدا من اللحظة الأولى التي رفض فيها المسؤولون الأوكرانيون التعليق ونسبة الأمر إليهم.

وهو ما يفسر أيضًا تجاهل الرئيس الأوكراني الكشف عن حقيقة ما جرى رغم علمه بالتأكيد، في حين فضل إشاراته الدالة والاستثنائية لشبه الجزيرة التي تعد بالفعل صانعة إلى حد كبير لجزء من الأزمة الراهنة الكلية المستحكمة؛ فقد قامت روسيا بضمها إليها عام 2014 بعد تنظيم استفتاء مثير للجدل، ويعدّه المجتمع الدولي منذ هذا التاريخ إجراءً غير شرعي لم يعترف به، في المقابل مثّل الحصول على هذا الاعتراف من قبل أوكرانيا والعالم أحد اشتراطات روسيا لانهاء أو تفكيك الأزمة، هذا ذكرته بوضوح في بداية الحرب كبند رئيس في مقدمة متطلباتها بأن يكون هناك “اعتراف” شامل بأن شبه جزيرة القرم جزء من أراضي دولة روسيا الاتحادية.

القاعدتان العسكريتان الروسيتان “نوفوفيدوريفكا” و”ساكي” تقعان على بعد حوالي 50 كيلومتر شمال ميناء “سيفاستوبول” مقر أسطول البحر الأسود الروسي الشهير، فهو الذي يقود منذ مارس 2022 حصارًا بحريًا على الساحل الأوكراني. شهود العيان في المنطقة من المصطافين وغيرهم قاموا بتصوير الانفجارات وبدأوا بثها على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما أظهرت مقاطع فيديو أخرى السياح وهم يهربون من أحد الشواطئ مع ارتفاع سحب الدخان في الخلفية.

الشهود المحليون قدّروا عدد الانفجارات ما بين 11 و13 انفجارًا، وهو رقم كبير دفع القوات الروسية إلى فرض طوق محكم بنطاق يصل إلى 5 كيلومتر حول موقع الانفجار. فيما كان هناك في نفس الوقت تصريح بدا متناقضًا مع الموقف التكتيكي الذي انتهجته أوكرانيا، فقد ذكرت رسالة نصية نشرت بوسائل التواصل الاجتماعي “تليجرام” على حساب “إيرينا فيرشتشوك” نائبة رئيس الوزراء الأوكراني، أن “انفجارات اليوم في نوفوفيدوريفكا هي رسالة تذكير أخرى بمن تعود ملكية القرم له. لأن من تعود إليه هو أوكرانيا”. وقد حظيت هذه الرسالة بانتشار كثيف داخل أوكرانيا بالطبع، خاصة وهي تحمل ذات المعنى الضمني لحديث الرئيس الأوكراني، مع الإشارة إلى واقعة الانفجارات.

إن صحت فرضية تعرض شبه جزيرة القرم إلى قصف أوكراني، سينتقل المشهد برمته إلى مستوى غير محسوب من التصعيد المتبادل، خاصة من الجانب الروسي بالطبع؛ بالنظر إلى فارق الإمكانات العسكرية والعددية، في الوقت الذي تعاني فيه الحرب من حالة انسداد في أفق تحقيق تغيرات فارقة على أرض مسارح العمليات المتناثرة. لذلك ذهبت موسكو مؤخرًا إلى استحداث تشكيلات جديدة متطورة لقواتها البرية، استجابة لما فرضته تطورات الحرب ومناطق التماس التي اختبرتها القوات الروسية خلال الأشهر المنصرمة من عمر العمليات.

فقد كشفت وزارة الدفاع البريطانية في نشرتها الاستخباراتية اليومية أن إحدى تلك الوحدات بدأ تشكيلها بالفعل وأطلق عليها اسم “الفيلق الثالث” وسيكون مقرها مدينة “مولينو” شرقي العاصمة موسكو. رغم أن القيادة الروسية لم تحسم أمر “أولويات” العمليات بعد، إلا أن هذا الفيلق على الأغلب سيكلف بإحدى مهمتين تمثلان للجيش الروسي إلحاحًا عاجلًا، إما تعزيز الجهد الهجومي في منطقة الدونباس الشرقية من أجل تغيير معطيات السيطرة على الأرض، أو تكليف الفيلق الجديد بتعزيز الدفاعات للتصدي للهجمات المضادة الأوكرانية في الجنوب.

يبقى التطور الأخير اللافت والذي يتجاوز في خطورته ما يجري في جزيرة القرم هو المتمثل في تبادل الاتهامات حول محطة “زابوريجيا” النووية، فقد أصاب مؤخرًا قصف مجهول المصدر خطوط كهرباء عالية القدرة أكبر مفاعل نووي أوكراني سيطرت عليه روسيا. في وقت تؤكد السلطات الأوكرانية فيه أن المفاعل لا يزال يعمل، ولم يتم رصد أي تسرب إشعاعي منه، رغم أن شركة “إنيرجواتوم” الأوكرانية للطاقة النووية التابعة للدولة ألقت بمسؤولية الأضرار التي لحقت بالمحطة الأكبر في أوروبا على القصف الروسي، وهو تضارب لم يستطع أي من الطرفين حتى الآن تأكيد مساره الفعلي.

لكن في النهاية تظل هناك أضرار نقلتها وكالة إنترفاكس للأنباء عن إدارة المدينة بقولها إن حريقًا اندلع في مجمع المفاعل، وأن الكهرباء الضرورية لإبقاء عمل المفاعل آمنًا انقطعت جراء هذا الحريق. المحطة تضم (6 مفاعلات) سوفيتية الصنع والتصميم، تقوم منذ عقود بتشغيل أكثر من 5 ملايين منزل ومنشأة، مما دفع “رافايل جروسي” المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى بذل جهد وضغوط استثنائية من أجل إرسال بعثة إلى المكان الذي وصفه بأن الوضع أقل ما يمكن تقديره بـ”المضطرب” في محطة زابوريجيا للطاقة النووية.

قصف محطة زابوريجيا للطاقة النووية في جنوب أوكرانيا أعاد إلى الأذهان تلقائيًا كارثة تشيرنوبل عام 1986، وكانت روسيا قد استولت على المحطة في مارس الماضي لكنها أبقت على الموظفين الأوكرانيين القائمين على تشغيله، واليوم ينقل هؤلاء للعالم الخارجي ولوكالة الطاقة الذرية أنه لا يزال هناك خطر حدوث تسرب إشعاعي أو على أقل تقدير خطر تسرب الهيدروجين وتشتت جسيمات مشعة، وهذا لا يقل كثيرًا عن جسامة ما وقع في تشيرنوبل ومدى تأثيره المدمر الواسع.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72166/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M