المحكمة الجنائية الدولية والكيل بمكيالين

بقلم : التجاني صلاح عبد الله المبارك – المركز الديمقراطي العربي

 

تعقيبا على مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية يوم الجمعة الماضي 17مارس 2023، بحق الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لـ”مسؤوليته في جرائم حرب” ارتكبت في أوكرانيا، والتي انتهت المحكمة في بيانها إلى إن “بوتين” متهم بأنه مسؤول عن جريمة الحرب المتمثلة في الترحيل غير القانوني للأطفال، والمدنيين من المناطق المحتلة في أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي، واستندت المحكمة في حيثياتها إلى تحقيق فريق تابع للأمم المتحدة، جاء فيه أن نقل أطفال أوكرانيين إلى المناطق الخاضعة لسيطرة موسكو في أوكرانيا وإلى روسيا، يشكل “جريمة حرب”، مشيرا أيضا إلى احتمال ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”.

إضافة فقد أصدرت المحكمة مذكرة توقيف أخرى ضد المفوضة العليا الرئاسية لحقوق الطفل في روسيا “ماريا أليكسييفنا لفوفا-بيلوفا”، وقال المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إن القضية تتعلق بأخذ القوات الروسية مئات الأطفال الأوكرانيين من دور الأيتام في أوكرانيا، قبل أن يجري عرض الكثير منهم للتبني لاحقا في روسيا.

وقبل أن نعقب على سطور قرار المحكمة الجنائية الدولية، فأنه من المفيد هنا أن نقف على القرار السابق والذي كانت قد أصدرته بخصوص الرئيس السوداني الأسبق “عمر البشير”، ففي يوم 4 مارس 2009م أصدرت المحكمة الجنائية قرارا باعتقال الرئيس ” عمر البشير”، وذلك بتهمة ارتكاب “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية”، كما ذكرت، وقالت المحكمة وقتذاك أن “البشير” مسؤولا جنائيًا، باعتباره مرتكبا غير مباشر أو شريكا غير مباشر، عن تعمد توجيه هجمات ضد عدد كبير من السكان المدنيين في إقليم دارفور.

رغم كل ذلك فانه عندما ذهب “البشير” إلى دولة جنوب إفريقيا، بما في ذلك من تحد سافر وقوي للجنائية الدولية وقرارتها، وعندما قامت مجموعة صغيرة بتقديم طلب لمحكمة نائية في جنوب إفريقيا لإيقاف “البشير” من مغادرة الأراضي الجنوب أفريقية واعتقاله، إلا أن وزير الدولة بالخارجية السودانية أكد على سلامة موقف” البشير” وعدم وجود أية خطورة عليه.

وقتها كانت الرؤية العامة أن هذا الأمر لن يتم كما تتوقع المحكمة الجنائية، لأن قرار المحكمة لن يتم تنفيذه من قبل الحكومة الجنوب أفريقية، التي هي ملتزمة بقرارات الاتحاد الأفريقي الخاصة بعدم التعاون مع محكمة الجنايات الدولية، ليس ذلك وحسب بل أن جنوب أفريقيا قد أبلغت السودان مسبقًا بأنها ستوفر كافة الإجراءات اللوجستية والأمنية ل-“البشير “وذلك ضمن التزامها التام بقرارات الاتحاد الأفريقي.

إضافة فإن حزب المؤتمر الحاكم في جنوب أفريقيا قام بالتصريح يوم 14 يونيو، بأن المحكمة الجنائية الدولية لم تعد تصلح للغرض الذي أقيمت من أجله، ودعا المحكمة الدولية لإعادة مراجعة قوانينها ليتم تطبيقها على جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، لضمان وجود محاكمة عادلة ومستقلة من أجل تحقيق العدالة الشاملة والمنصفة.

صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظامها الأساسي، الذي تم إقراره في مؤتمر روما الدبلوماسي بتاريخ 17 يوليو 1998، والذي دخل حيز التنفيذ في 1 يوليو 2002، تعتبر هيئة دولية لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة  في موضع الاهتمام الدولي، مثل جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الإنسانية، وجرائم الحرب، إلا أن القرار الصادر من المحكمة في حق “بوتين” هو قرار هزيل يشابه القرار الذي اصدر بحق “البشير”، وليس سليم من الناحية القانونية، ولا يخدم إلا الغرض الدعائي والعدائي فقط فيما أتصور، ومحاولة من محاولات هزيمته قانونيا، مع أن القرار لا يملك سندا قانونيا لأن روسيا لا تعتبر من الدول المنضمة لمعاهدة روما بالأساس.

مع هذا فإن روسيا كانت قد وقعت على الاتفاقية الخاصة بمحكمة الجنايات الدولية في العام 2000، لكنها عادت وانسحبت منها في العام 2016، بعد أن رفض مجلس الدوما الروسي المصادقة على ميثاق روما الخاص بتأسيس هذه المحكمة، وبدلا من أن تلجا المحكمة الجنائية لوسائل قانونية أخرى من شأنها المساهمة في حل الصراع الروسي_ الأوكراني بالوسائل الدبلوماسية والحوار، شأنها في ذلك أن تهتدي بالحكمة الصينية، التي تمكنت من تسهيل الاتفاق بين المملكة السعودية وإيران، فإنها على العكس من ذلك كانت تصب الزيت في النار!

وفي الوقت الذي ذكرت فيه المتحدثة باسم الخارجية الروسية” ماريا زاخاروفا” في ردها على قرار المحكمة الجنائية الدولية: إن قرار إصدار مذكرة باعتقال الرئيس “بوتين” لا أهمية له على الإطلاق.. وروسيا ليست طرفا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولا تتحمل أي التزامات بموجبه.. لا تتعاون روسيا مع هذه الهيئة، وستكون المذكرات المحتملة للاعتقال الصادرة عن محكمة العدل الدولية باطلة من الناحية القانونية بالنسبة لنا.. فإن الرئيس الأميركي ” بايدن” كان يؤكد إن نظيره الروسي “فلاديمير بوتين”، ارتكب جرائم حرب في أوكرانيا بالفعل، وأن قرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحقه له ما يبرره، وهذا في حد ذاته يؤكد أن مسار الولايات المتحدة هو تأييد المزيد من التصعيد العسكري، وابتعادا من الحلول السياسية والدبلوماسية لحلحلة النزاع الروسي _الأوكراني.

ولأن المحكمة الجنائية الدولية هي مؤسسة قائمة على معاهدة واتفاقية ملزمة فقط للدول الأعضاء فيها، فهي ليست كيانا فوق الدول بل هي كيان مماثل لغيره من الكيانات القائمة،  إلا انه ليست روسيا وحدها التي لم توقع على اتفاقية روما، لكن لم توقع الولايات المتحدة وإسرائيل أيضا على الاتفاقية! وإذا كان لنا أن نسأل عن الحق القانوني الذي تستند إليه المحكمة في حيثياتها ومنطوق قرارها، فأين قراراتها التي لا تجافي روح العدل والإنصاف، ضد ما تقوم به دولة الاحتلال إسرائيل، من بطش وقتل عنيفين، وجرائم الحرب ضد الأبرياء في فلسطين، بل أين هو القرار الذي ينص على اعتقال “نتنياهو” و “بتسلئيل سموتريتش” الذي ينكر وجود شعب فلسطين ويقول إنه اختراع وهمي لم يتجاوز عمره مائة سنة. الحقيقة الفادحة هي أن الجنائية الدولية تتبع نظام الفاعلين الأمريكي والإسرائيلي وتكيل بمكيالين مختلفين.

 

.

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=88882

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M