المسألة الإسرائيلية «5»

كان لنشر «الكتاب الأبيض» من قبل الحكومة البريطانية، واستعراض بعض مما جاء فيه من مستخلصات لجان التحقيق فى مجلس العموم، أول اضاءة حقيقية، خاصة مع اشتباك رئيس الحكومة البريطانية مع ما أوردته تلك اللجان وما طرحته من أسئلة، لها علاقة بمستقبل الوضع على الأرض الخاضعة للانتداب، حيث بات من المؤكد أنها تتعرض، لتنازع بين «قوميتين» بحسب ما كانت بريطانيا تؤكد هذا المعنى طوال الوقت. بالرغم من ذلك تعرض الكتاب لانتقاد صهيونى شرس، تسبب فى التراجع عنه فى فبراير 1931، لمجرد أنه أوصى بإيلاء شكاوى الفلسطينيين المزيد من الاهتمام.

لتبدأ حقبة الثلاثينيات؛ التى تمثل النقلة النوعية الأهم، على طريق تحقيق المشروع الصهيونى لحلم إنشاء «دولة إسرائيل». هذه الحقبة شهدت تصاعدا كبيرا لمعاداة السامية فى العديد من البلدان الأوروبية، مما أتاح للوكالة اليهودية مناخا مثاليا لتوجيه اليهود الفارين من القمع الرسمى وغير الرسمى لتلك البلدان باتجاه فلسطين. من هنا بدأ المشروع فى إحراز عديد من المكاسب، أبرزها أن الفترة بين 1931 و1936 وحدها شهدت إنشاء (64 مستعمرة) صهيونية جديدة، لترتفع نسبة ملكية اليهود للأراضى فى فلسطين إلى 5.4% من مساحتها الإجمالية. كما جاءت موجات الهجرة المكثفة لتمثل حالة انتعاش كبير للمؤسسات اليهودية، التى ظلت لسنوات ما قبل تلك الحقبة تعانى مشكلة الديموجرافيا التى كادت تجهض حلم الدولة طوال فترة العشرينيات، أمام تفوق كاسح للسكان الفلسطينيين الأصليين بالمقارنة بالطائفة اليهودية.

لهذا ينظر إلى ما اصطلح على تسميته بـ«الموجة الخامسة» للهجرة اليهودية (1929 ـ 1939)، من واقع سجلات الانتداب البريطانى وأرشيف الوكالة اليهودية، أنها كانت سببا رئيسيا ليصبح اليهود فى تلك الفترة الحاسمة، ما يقارب 30% من سكان فلسطين. شهد 1933 تظاهرات فلسطينية واسعة شملت جميع انحاء المدن الفلسطينية، على خلفية الإحباط الكبير من حكم الانتداب البريطانى الذى بدا للسكان فى مختلف المناطق، معنيا بشكل رئيسى بتمكين اليهود من إقامة دولتهم بمختلف السبل، بالرغم من أنه كان يحاول أن يبدو متوازنا من وجهة نظر البريطانيين بين الحقوق العربية الأصيلة والمشروع الصهيوني، إلا أن انحيازات الانتداب الحاسمة ظلت طوال تلك الفترة فى خدمة المشروع.

حتى بعد أن انفجرت قضية اكتشاف شحنة ضخمة من الأسلحة المهربة لصالح «الهاجاناه»، والتعامل البريطانى البارد مع تلك الفضيحة التى تسببت فى تشكيل يقين فلسطينى للمرة الأولي، أن الحركة الصهيونية ستسعى للاستيلاء على الأرض بالوسائل العسكرية تحت الحماية البريطانية، فضلا عن سيطرة الاقتصاد والتغيير الديموغرافي.

الرد الفلسطينى جاء متمثلا فى تنامى النشاط السياسى فقد تشكلت عدة أحزاب إضافية، وصدرت صحف جديدة. وفى ذات الوقت بدأت منظمات سرية شبه عسكرية بالتشكل فى مناطق مختلفة من فلسطين، أشهرها جماعة «اليد السوداء» التى قادها الشيخ عز الدين القسام، السورى الذى التجأ إلى حيفا هربا من الفرنسيين، وهناك عمل خطيبا فى أحد المساجد قبل أن يتوفى 1935 أثناء اشتباكه ومجموعة من أنصاره مع عناصر من الشرطة البريطانية، لتتحول جنازته فى حيفا لتظاهرة حاشدة هزت فلسطين بأكملها.

تجربة الشيخ القسام زرعت بذرة الثورة الفلسطينية الكبرى التى اندلعت 1936 واستمرت لثلاث سنوات، أسهمت إلى حد كبير فى تشكل رؤية فلسطينية وطنية قرأت ونبهت أن ما يجرى من استفحال للخطر الصهيوني، سببه الرئيسى السياسة البريطانية الداعمة لمشروع «الوطن القومى اليهودي»، ووصلت إلى قناعة بأن بريطانيا لا سبيل إلى ردعها عن هذا النهج سوى بالكفاح المسلح المباشر. انقسمت الثورة الفلسطينية إلى ثلاث مراحل؛ امتدت المرحلة الأولى من ربيع 1936 إلى يوليو 1937 وهى مرحلة اشتعال الثورة، عندما هاجم الفلسطينيون قافلة من الشاحنات بين نابلس وطولكرم وقتل مجموعة من اليهود، لترد فى الأيام التالية منظمة «الأرجون» بقتل عمال فلسطينيين بالقرب من مستوطنة «بتاح تكفا».

أعقب ذلك فى الأيام التالية اضطرابات دامية فى تل أبيب ويافا، إثر ذلك شكلت فى نابلس «لجنة وطنية» اتفق فيها على إعلان الإضراب الشامل. جرى الالتزام بالإضراب على نطاق واسع، الأمر الذى شل جميع الانشطة التجارية والاقتصادية، وفى تلك الأثناء كان الفلسطينيون فى أنحاء المدن كافة يشكلون مجموعات مسلحة لمهاجمة أهداف بريطانية وصهيونية. كان عملهم فى البداية عفويا ومتقطعا، ثم انتظم بعد ذلك بشكل متزايد، مما دفع البريطانيين لاستخدام أساليب وتكتيكات مختلفة لوقف الإضرابات وقمع العصيان المسلح.

ازداد أعداد رجال الشرطة البريطانيين واليهود، وتعرض الفلسطينيون لتفتيش المنازل والمداهمات الليلية والضرب والسجن والتعذيب والترحيل، ووصل القمع البريطانى إلى حد هدم أحياء واسعة فى مدينة يافا القديمة. ومن ثم أعادت بريطانيا الكرة فى اللجوء للجان التحقيق، فقامت بإرسال «لجنة اللورد بيل» للتحقيق فى أسباب التمرد، وتحت وطأة ضغوط السياسات القمعية البريطانية، والتداعيات الاقتصادية للإضراب، قامت «اللجنة العربية العليا» التى تشكلت داخل فلسطين لإدارة الثورة بوقف الإضراب، ووافقت بشكل مؤقت على التعاون مع «لجنة بيل».

انخفضت وتيرة الاضطرابات أثناء قيام «لجنة بيل» بعملها، انتظارا لإصدارها نتائج تحقيقها، الذى صدر فى يونيو 1937 بنتائج مخيبة للفلسطينيين. حيث أوصت اللجنة للمرة الأولى بـ«تقسيم فلسطين» لدولتين يهودية وعربية، فهناك استحالة للعيش المشترك بسلام بين القوميتين المتنازعتين، ولجوء كل منهما لاستخدام السلاح يعوق عمل الانتداب البريطانى لصالح «سكان» فلسطين. بدا التحقيق وكأنه يحاول استغلال الأحداث لاختصار الزمن، وإنفاذ مشروع إقامة «دولة إسرائيل»، لتخرج للنور على نحو مفاجئ ما أسمته فى وثائقها بحتمية «التقسيم»!

المصدر : https://ecss.com.eg/39428/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M